[center]في ماهية التأثر والتأثيـر /أدونيس نموذجاً/
د.فاروق مغربي
مقدمة عامة:
ما سنأتي به ليس إلا خطوطاً عامة جداً، وهي أشبه ما تكون بإشارات وعلامات على الطريق. ولابد أن تتبعها مرحلة تنقيب، وإطلاع على المصادر في ضوء الفرضيات المحددة التي يقوم عليها موضوعنا، ونجد أنفسنا مضطرين للبدء ببضع ملاحظات نراها مهمة جداً، حول مسألة المؤثرات الثقافية، ومفهوم التأثر، ذلك أن هذه القضية تشهد من الفوضى، وسوء الفهم أو التقدير، شيئاً كثيراً، فهناك علل شائعة تظهر لدى الكلام على التأثر والتأثير، إلى درجة أنها تحجب طبيعة النص المدروس، وتضلّل الدارس، وتجعل البحث عقيماً، علماً أننا سنجعل إشارتنا مقتصرة على أكثر العلل شيوعاً:
1 ــ جرت العادة أن نبحث لكل شاعر، أو كاتب، أو مفكر عربي، عن أساتذة ومفكرين من الغرب. دائماً يبدو لنا الكاتب أو المبدع متأثراً بالغرب، حتى لو لم يقرأ النتاج الغربي يبدو هذا جلياً، إذا نظرنا نظرة موضوعية للبرامج التي تحدد الأدب المقارن في مؤسساتنا الجامعية. إن الغرب يبدو منبعاً للأفكار، ومصدراً للإلهام، كلما قرأنا شعراً غامضاً تبرعنا له بصفة السريالية، فإذا طالعنا شعر يبحث عن لغة كلية تتجاوز حدود الكلمات، لتدخل إشارات جديدة على الإشارات الدالة، أو قرأنا نصاً يهز الأشكال الجامدة، هيأنا له صفة الشكلانية، هذا فضلاً عن التساهل في استخدام المصطلحات، والتسميات، دون اعتبار لمضامينها، وللحركات الفكرية، والكشوف العلمية التي أحاطت بظهورها، والظروف التاريخية التي أفضت إليها، وعلاقتها بــ "الإيديولوجيا" السائدة نقضاً أو توكيداً، وموقعها في ثقافتها (كما هي الحال في السريالية مثلاً)، ويجري نقل هذه التسميات، وزرعها خارج ذلك كله، بقسر لا يراعي شروطاً ثقافية، ولا يتنبه على خصوصيات الثقافة التي تزرع في أرضها، وفيما يتصل بنسبة كل ظاهرة إلى الغرب، نجد أنفسنا أمام فصام عجيب حقاً!. فمن الناحية السياسية نعلن الوقوف ضد الغرب، ولكننا لا نتوانى بأن نتبرع له بدور الأستاذ ثقافياً وأدبياً.
2 ــ هناك خطأ في فهم التأثر؛ فأن يتناول شاعران موضوعاً واحداً لا يعني التأثر بالضرورة. ثمة موضوعات كالموت، والحب، والحنين، والأرض والطبيعة، تتكرر في الشعر منذ آلاف السنين ولا يعني ذلك تأثر هذا بذاك، بل يمكن أن يصادف وجود عدد كبير من الأشياء المشتركة لدى شاعرين أو باحثين، ولا يكون ذلك من قبيل التأثر: العبرة في موقف الأديب من الأشياء، وموقع هذه الأشياء في عالمه، والعلاقات التي يقيمها فيما بينها. إننا للأسف، مازلنا نقرأ في الصحف والمجلات حول التأثر والتأثير كلاماً يفتقر إلى أدنى حد من الدقة والتبصر في معنى هذه الظاهرة.
3 ــ ينبغي التمييز بين التأثر والتقليد. التأثر ظاهرة نمو حضاري، بل إنه عنصر مهم جداً في آلية النمو الحضاري، أما التقليد، فهو الآفة التي تجب محاربتها، والقضاء عليها، فهي مخربة للحس العام، ومشوهة للمادة الأدبية الأصلية.
4 ــ للتأثر بمعنى النمو الحضاري، شروط صعبة، فلابد أن يكون المتأثر في مستوى المؤثر، أو على الأقل في مستوى القدرة على التمثل. ومن ثم الإبداع. التأثر المبدع الناتج عن تمثل المؤثر يفترض القدرة على تفكيك العمل المؤثر أو تحليله. وإدراج بعض عناصره في منظومة المتأثر بمقتضى رؤية المتأثر نفسه، وبموجب صيغة علائقية جديدة، هذا يفترض بدئياً، أن يكون للمتأثر موقف، ونظر، وبنية أو منظومة متميزة. متكاملة قادرة على امتصاص العناصر الجديدة، وإدراجها في تكوين هذه المنظومة، وفي أضعف الحالات يكون التأثر نوعاً من المقابسة أو أخذ شرارة من نار المؤثر، لكن لإشعال نار جديدة، وبوقود مختلف. (1)
إن التأثر الإبداعي يتعدى عملية الانطباع، والرسم أو التقليد، ولاشك أبداً، في أن كل مبدع يتكون حكماً في إطار ثقافة، والتأثر بهذه الثقافة، وسياقها التاريخي، ومشكلاتها، مسألة مفروغ منها، وخلاف ذلك مستحيل وإذا ما جاء عمل الأديب حصيلة مباشرة لهذه الثقافة، أو إعادة إنتاج لنماذجها. وأشكالها، سقطت صفته الإبداعية، ودخل في مستوى ثقافي آخر هو مستوى "الحرفية" والإبداعية تقوم في الحركة التي يحدثها المبدع إجمالاً داخل ثقافته، ومن هنا كانت الآلية التي بموجبها يتأثر المبدع بثقافته، قائمة على التوتر، والجدل أو على الأقل قائمة على فتح نوافذ هذه الثقافة، على معطيات ثقافية أخرى.
5 ــ التأثر لا يعني بالضرورة التحرك في اتجاه المؤثر، إذ يمكن أن تكون العلاقة بين المؤثر والمتأثر علاقة معارضة.
6 ــ بصورة عامة. إن تأثر المبدع بأعمال واتجاهات، من خارج ثقافته لا يكون اعتباطاً ولا انتقاء فردياً يمليه مزاج الشاعر وحده، إذ يتأثر الشاعر ــ أو هكذا يفترض ــ بما يساعده في صياغة جواب على الأسئلة التي يطرحها على ثقافته، أو على بعض جوانبها. هذا التأثر يفترض أولاً موقفاً، وعلاقة جذرية مع الثقافة الأصلية، ويفترض ثانياً إمكانية إقامة حوار أو علاقة مع المصادر الثقافية الأخرى.
لو أردنا الدخول إلى الأسئلة الإبداعية التي يطرحها أدونيس، في إبداعه كله: الشعري منه والنقدي، لرأينا سؤالين رئيسين يفرضان نفسيهما بوضوح. الأول: معارضة القسمة الثنائية للعالم. الثاني: معارضة الماضوية، أو عَدّ الكمال قائماً في الماضي. لذلك سوف يتبيّن لنا أن أهم المؤثرات الثقافية تجيء مساندة للإجابة عن هذين السؤالين ومن ثَمّ ستكون أوضح المؤثرات الثقافية هي المؤثرات الصوفية، ثم يتبين أثر "هيراقليطس" و"نيتشه" ولا يغيب ما يقوم بين هذه المنابع الثقافية من تقارب، ولاسيما من حيث أبدية الحركة، حتى الصوفي في السعي المتجدد لالتماس الحلول، والتجلي، وهما يضمران نظراً مستقبلياً، باعتبار أن التجلي والحلول، يرتقبان، ويطلبان في زمن آت، ويغدو التاريخ من ثم سلسلة من التجليات. وفي الصوفية، كما في فكر "نيتشه" جواب للقسمة الثنائية للعالم. الصوفي سعي دائم نحو لحظة يلتقي فيها عالمان. و"نيتشه" في رفضه للغيب، والألوهة، أو في إزاحتهما نحو الأفق الإنساني، يبطل هذه الثنائية.
إن النظر في إبداع أدونيس، مع أخذنا ما مرّ بنا بالاعتبار، يسمح برسم هيكلية. أو مخطط إجمالي تظهر فيه المؤثرات الثقافية. وقد تمّ انتظامها، وتمثلها ضمن نظرته العامة. فالمسألة ليست فسيفساء تأثرية، ولا سعياً وراء أحدث النزعات في العالم، ولا سباقاً في التجريد.
المؤثرات الثقافية في فكر أدونيس:
1 ــ مؤثرات المحيط الثقافي:
يمكننا أن نجد عدداً من العوامل المتضافرة التي أسهمت مباشرة، وغير مباشرة في بلورة فكره:
آ ــ هناك أولاً البيئة المباشرة: فالبيئة الريفية الساحلية التي نشأ فيها أدونيس ذات خصائص متميزة على بعض المستويات، ففي هذه البيئة ظاهرة غير معروفة في الريف السوري بكامله. وفي الأرياف العربية، وهي ظاهرة امتزاج الصلاة بالحياة الزراعية، وبالشعر امتزاجاً عملياً وحرفياً، إذ ليس هناك مكان محدد للصلاة كالمسجد، ويمكن أن تتم الصلاة في أي مكان. وأحياناً بشكل غير منفصل عن العمل الزراعي. والشعر يدخل في لغة الصلاة، بل يشكل كثيراً من إيقاع الصلوات لأن الأدعية قد صيغت شعراً في الغالب. وكل شيخ أو رجل دين يحس بضرورة قول الشعر تقليداً لقداس المتصوفة الذين تنتسب إليهم الجماعة التي يطلق عليها اليوم اسم "العلويين" كما أن أشعار القدامى من جاهليين وأمويين وعباسيين تحتل (والأصح أنها كانت تحتل في طفولة أدونيس) جانباً أساسياً من السهرات.
هذه البيئة قد هيأت له التشبع بنسغ ثقافي أساسي قوامه:
1 ــ النص القرآني، لأن أدونيس ــ ككل أبناء الريف (المحظوظين يومذاك) ــ قد تلقى العلم في المدرسة القرآنية (الكتاب) بإشراف ما يسمى محلياً بــ "الخطيب" (2) فضلاً عن الآيات الواردة في الصلاة.
2 ــ الشعر العربي في عصوره الذهبية، ولاسيما شعر المتنبي، والشريف الرضي، وأبي العلاء المعري.
3 ــ نتاج المتصوفة الشعري.
ب ــ يستوقفنا في هذا الموروث، ومن حيث العلاقة بشعر أدونيس تحديداً، سمة أساسية هي ثنائية العالم. هذه الثنائية عقيدة أساسية في الإسلام (وفي غيره من الديانات السماوية وغير السماوية): الدنيا/الآخرة، الروح/الجسد، الظاهر (الكائنات)/الخفي (الملائكة، الجن، الأرواح، الشيطان..) هذه الثنائية قائمة كذلك في الخرافات الشعبية، واللاوعي الشعبي (الكنوز، السحر، الجن، العفاريت..).
وفي المذاهب الإسلامية المتفرعة من المذهب الشيعي اتخذت هذه القسمة إلى ظاهر وخفي حجماً ضخماً نجم عن عاملين: عامل مباشر هو القمع والضغط، وعامل غير مباشر، ثقافي، يرتبط بمرحلة تاريخية شهدت انتشار الفلسفة اليونانية. وتأثير أفلاطون، ولاسيما في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين (الثالث والرابع الهجريين) ولا داعي هنا للإيضاح بأن "أفلاطون" نظَر لقسمة العالم، وأعطاها صيغة فلسفية، ولكنها كانت قائمة في معتقدات المنطقة، وأساطيرها منذ السومريين، حتى الآراميين، فضلاً عن انتشارها في الثقافات المجاورة من الهند إلى فارس.
هذه القسمة، حيثما وجدت، تضمنت بدئياً، حكم قيمة: كل باطن هو أهم من الظاهر. كما أنه أبقى وأقوى. الباطن يقابل عالم الروح الإسلامي، وعالم المثل الأفلاطوني. أما الظاهر، فعالم العرضيات المتغيرة التي لا تكتسب قيمتها، إلا بمقدار قربها من المثال أو "المعنى" أي بمقدار غيابها عن ذاته، والتحاقها بمثالها أو بمعناها. هذه الظواهر والعرضيات متضمنة في مثالها أو معناها، يستوعبها ولا تستوعبه قائمة فيه، وليس قائماً فيها، هي ظل له، وإشارة إليه.
هنا في هذا المفصل، يقوم اللقاء بين المذاهب الباطنية، وبين التصوف. الفارق قائم في الممارسة، والدرجة، وفي التأويل الصوفي الذي تمذهب وحمل اسماً شائعاً هو "المذهب العلوي" تبقى الثنائية قائمة، وتبقى المسافة متجسدة بشوق متجدد. فبينما ينطلق المتوصف من هذه القسمة الثنائية، ويقوم بحركة في اتجاه إلغاء المسافة، والاتحاد بمطلقه، ومن ثم السعي للتوحيد بين الظاهر والمثال بتحويل الظاهر محلاً لتجلي المثال. نجد التصوف في التأويل الصوفي "العلوي" يلح على المسافة بين الباطن والظاهر، وبين المعنى والصورة، أو بين المطلق والتاريخي، ولا يقوم بالقرب إلا بحركة الشوق. ولقد عرف التاريخ الفكري للطائفة التي ينتمي إليها أدونيس، عدداً كبيراً من المتصوفين في القديم، ولكن لم يبق من هذا التصوف، إلا حياة الزهد لدى بعض المتأخرين.
انقطعت سلالة المتصوفين منذ عهد بعيد، وسلالة الزّهاد توارت منذ أكثر من أربعين عاماً، غير أن النتاج الثقافي المحلي المكون من شروح وأدعية وتأملات، يستمر كتقليد محض للقديم، ولم يعد الآن يرتبط بتجربة صوفية. غير أن كل رجل دين يحس بإلزام معني يفترض فيه قول الشعر، وشعر رجال الدين يقلد دائماً لغة المتصوفين. ومن البديهي، أن هذا الشعر ليس فيه أية قيمة فنية أو تاريخية، غير أنه يُشيع لغة رمزية إشارية، لغة لا تسمّي، بل تكني. لغة تحوم حول المسمى أو المعنى، لغة تقوم على مسافة من المسمى، ومن هذا المعنى. وفي رأينا أن هذا الميل إلى الترميز، والإشارة هو أهم المؤثرات البيئية الفاعلة في شعر أدونيس إضافة إلى ما كونته من ميل تلقائي نحو الصوفية، ومن ارتباط بالأرض يجعلها في أحيان كثيرة، وجداً صوفياً.
ج ــ إذا ذكرنا هذا الإرث فإنما لنشير إلى المنطلق أو الخلفية الأساسية لأدونيس، غير أن أدونيس، وارث هذا البناء، لن يتحرك معه بانسجام، بل يتحرك ضمنه حركة صراع وجدل. وعلاقته بهذا الموروث علاقة توتر ومعارضة. يتجلى ذلك في ملامح ثلاثة:
1 ــ سوف يسقط المضمون الديني للتصوف، ويحتفظ بالحركة التي تتجدد باستمرار، بالشوق الدائم إلى الكشف المتجدد، لأن الكشف لا يكون نهائياً، وما أن يتحقق حتى يستلزم تجاوزه، كما يحتفظ بحركة الحوار المتجدد بين العرضي والمطلق، المحسوس والمجرد، وبعلاقة التداخل بين الإنسان والكون.
2 ــ من الإرث الصوفي أو "المذهبي" سوف يحتفظ بلغة الإشارة والرمز، بل سيبني لغة كاملة من الإشارات والرموز، كما أنه سيعيد تصور الشخصيات التاريخية، ويمنحها أبعاداً معاصرة، ويحملها القضايا التي تشغله.
3 ــ الصوفية عند أدونيس، في ضوء هذا، لا تخرج من الماضي، وإنما تنبثق من الحاضر والمستقبل أيضاً، ولذلك هي رؤيا ثورية، وبخاصة أن اللغة الصوفية توليف صدامي للمحسوس والمعقول، والتزام الشعراء بها، يشكل رفضاً لنهائية الحركة.
إن أدونيس يفضل مدرسة "الصوفية" على مدرسة "السريالية" (3) ونستغرب كيف يصرح أنه تأثر بالسريالية كنظرة، وأنها هي التي قادته إلى الصوفية إذ يقول: "تأثرت بها أولاً (أي السوريالية) ولكنني اكتشفت أنها موجودة بشكل طبيعي في التصوف العربي، فعدت إلى التصوف (4). "إننا نميل إلى أن الصوفية هي الأساس الأول في تكوين أدونيس، وعندما اطلع على السريالية لاحقاً، وجد أنه ينطبق عليها عبارة "هذه بضاعتا ردت إلينا". أما من حيث التأثر بشاعر معين، فإننا نتفق معه بأنه لم يتأثر بشاعر واحد، بل باتجاهات ومواقف ورؤى عامة، وأنه تأثر بالماركسية ونيتشه من حيث مقولة التخطي، وتأثر بأبي تمام وأبي نواس من حيث فهم اللغة الشعرية، وتأثر أيضاً بفكرة البحث والتجريب في الشعر العالمي خ(5). وإن كانت مقولة التخطي صوفية أيضاً. والواقع أن ثمة أموراً قديمة موجودة في الحركة الشعرية الجديدة يرى أدونيس أنها نابعة من نصوص التصوف لأنه حدس شعري، ومعظم نصوصه، نصوص شعرية صافية، وهذه الأمور يمكن إيجازها فيما يأتي: (6)
1 ــ تجاوز الواقع.
2 ــ الحدس الصوفي (الشعري) طريقة حياة، وطريقة معرفة في آن؛ ففيه نتصل بالحقائق الجوهرية، وبه نستطيع أن نتخطى الزمن وقيوده.
3 ــ الحرية، كما يراها أدونيس، أكثر أهمية من التراث، فهي تعطي للإنسان أهميته في هذه الحياة. والحرية في الصوفية، تصاعد مستمر نحو لا نهائية المطلق.
4 ــ التخيل أعمق من الخيال، لأنه رؤية الغيبة، وهو "القوة الرؤياوية" التي تستشف ما وراء الواقع، فيما تحتضن الواقع. (7)
5 ــ اللانهائية، التي يؤمن بها الحدس الصوفي.
6 ــ معنى الحياة والموت: في الحدس الصوفي تغير معنى الحياة والموت عما كان سائداً. لم يعد الموت نهاية، وإنما صار باب الحياة الحقيقية، وأهمّ من أن يعمر الإنسان طويلاً، أن يعرف.
7 ــ يطرح التصوف فكرة الإنسان الكامل.
والذي يلفت انتباهنا في تصوف أدونيس، أنه لا يتعلق، كما أسلفنا، بالموروث الديني، إنه تصوف حضاري إن جازت لنا التسمية، يتعلق بإمكانات الإنسان الخارقة، وثقته العالية به، وبقدراته. ونرى أنه متعلق بشكل مباشرة بالخافية أو اللاشعور، ولكن اللاشعور عند الصوفي مدرب بحيث يطغى أحياناً على ساحة الشعور، ويعطي المرء المتصوف إمكانات لا يمتلكها الإنسان العادي.
2 ــ انتماؤه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي:
تأثر أدونيس بنظرة أنطون سعادة، مؤسس الحزب، إلى الفنان عامة، والشعر خاصة؛ فقد عدَّ سعادة في كتابه "الصراع الفكري في الأدب السوري" الشاعر "منارة" لا "مرآة". وهذا يعطي الشاعر مهمة الكشف، بدلاً من مهمة الوصف والتقرير لذلك نرى أدونيس يصرح حول هذا الكتاب قائلاً: إنه "كان صاحب الأثر الأول في أفكاري، وفي توجهي الشعري، ولأنه بالإضافة إلى ذلك، أثر تأثيراً كبيراً في جيل كامل من الشعراء، بدءاً من "سعيد عقل" و"صلاح لبكي" و"يوسف الخال" و"فؤاد سليمان" وانتهاء بــ "خليل حاوي"... وكان إلى ذلك ملهماً لكثير من الأفكار والآراء الشعرية والنقدية في النقاش الذي دار حول مجلة "شعر" والمشكلات التي أثارتها ( والواقع أن هذا الأثر كان مضاعفاً عند أدونيس بالذات. ففي النصف الأول من الخمسينيات، كان يعيش في عزلة تامة عن التجمعات الشعرية فقد كانت الأوساط الأدبية ذات النزعة العربية المتزمتة، وذات النزعة الماركسية، تنظر إليه بنوع من العداء، وتفرض عليه نوعاً من الحصار والمقاطعة، وفي هذا المناخ، قرأ الكتاب الذي كان بلسماً له بشوق، ووجد فيه الصديق، في وقت عز فيه الأصدقاء (9) الأثر الآخر الذي تركه الحزب السوري في أدونيس نفسه، منفرداً، أو بالتعاون مع بعض أصدقائه ورفاقه الحزبيين، بترجمة بعض الملاحم الفينيقية، والكنعانية، والبابلية، وسوف يفيد من أسطورتين، أو بنيتين أسطورتين من أساطير الموت والانبعاث لصياغة رؤاه، وقد حمل اسم الأسطورة الأشهر بينهما. البنية الأسطورية الأولى تتمثل في عدد من الأساطير منها أسطورة "تموز" (أدونيس) وأسطورة "الفينيق"، وأسطورة "البعل". أما الأسطورة الثانية، فهي أسطورة "أورفيوس". وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة يونانية، إلا أن بعض عناصرها، ولاسيما النزول إلى الجحيم (عالم الموتى) قائم في الأساطير السومرية والبابلية.
يفيد أدونيس من أساطير الموت والانبعاث، ليصوغ نزعة الحركية والتجدد، وجدل الحياة والموت، صياغة يتداخل فيها الموقف الفكري بالموقف السياسي، أما النزعة الأورفية، أو الصورة الأورفية عند أدونيس، فإنها صياغة لمنحاه الصوفي، فأورفيوس الأدونيسي هو السعي الدائم لاقتحام العالم الخفي، الحركة الدائمة بين العالمين، ومن ثم السعي المتجدد لنقض الازدواج، وثنائية العالم. وإذا كان أورفيوس فناناً (موسيقياً) فقد بات من السهل إعارته صفة الشعر. وبذلك تصبح مهمة الشعر، التحرك الدائم بين العوالم بغية الكشف والتحرير، المحاولة الدائمة لاستعادة "أوريديس" الغائبة، أو استعادة المعنى إلى العالم عبر الاستبطان.
3 ــ تأثره بــ "هيراقليطس" و"نيتشه":
في ضوء ما تقدم يغدو ميل أدونيس إلى "هيراقليطس" و"نيتشه" مسألة طبيعية، ومتفقة مع منحاه الفكري العام، كانت ملامحه تتكون عندما كان يدرس الفلسفة، فوجد في هذين الفيلسوفين الشاعرين توكيداً وإضاءة لنزعته الجدلية، المتعالية على نفسها. كما أن "نيتشه" قد عزز نزعة أدونيس الرامية إلى أنسنة المقدس، ونقل المعنى إلى الإنسان والتاريخ. أين السريالية؟. لا سريالية عند أدونيس إلا بقدر ما نلتقي مع الصوفية. هناك تشابه لغوي، بلاغي، نتيجة للاستبطان، ولا شراكة في المنطلقات الفكرية. فأول ما تقول به السريالية هو ثنائية العالم، إضافة إلى ازدرائها عالم الواقع التاريخي. وهذا مختلف تماماً عن منحى أدونيس الفكري.
أما الشكلانية، فلا علاقة نهائياً لأدونيس بها، ونستغرب فعلاً: في أن بعض النقاد يضعونه ضمن الشكلانيين، أو تنويعاتهم (10)، وهم، أولاً وأخيراً، لم يفهموا التأثر والتأثير إلا على عكس ما نبهنا عليه في مدخل هذا الفصل.
4 ــ تأثره بالشعراء الفرنسيين:
نستطيع أن نضيف إلى ما تقدم معنا تأثر أدونيس بالشعراء الفرنسيين، ولعل أهمهم شاعران هما: "سان جون بيرس"، و"ايف بونفوا". فقد كانت علاقة أدونيس مع هذين الشاعرين وطيدة، إذ إنه ترجم الأعمال الكاملة لهما، إضافة إلى قيام صداقة روحية معهما جعلت من شعرهما دافعاً نحو بلورة رؤية خاصة لا هي غربية، ولا هي عربية. وتأثر أدونيس بالشعراء الفرنسيين هو تأثر إبداعي، زاد في إبراز الطابع الشخصي له.
إن كل ما مر بنا سابقاً. فضلاً عن القراءات الكثيرة، والمتنوعة، والجادة، قد صقل أدونيس، بحيث أضحى شخصية لها ملامحها الثابتة، ومن الصعب إغفال اسمه، إذا ما دار حديث فكري عن التراث، أو الحداثة، أو الشعر، أو الهوية العربية. وعلى الرغم من أن خصومة أكثر من أنصاره، في الدول العربية. إلا أننا نجد أكثر ما يوجه إليه من نقد، قائماً على حقد شخصي مبيت، وهو يفتقد الصفات العلمية التي تقتضي الاحترام الشخصي للأطراف جميعاً. ناهيك عن التهم التي توجه من دون أدنى شعور بالمسؤولية. ومن دون أية أدلة دامغة وللأسف، أصبح أدونيس شجرة، وكثر حوله هواة تسلق الأشجار، لا لشيء، إلا لقرن اسمهم باسمه، وما كنا لنثبت هذا الرأي لو وجدنا في الهجوم عليه، التعليل والإقناع ولاشك أبداً في أننا لا نعمم هذا الرأي على الجميع، فثمة نقاد يختلفون مع أدونيس، بعلمانية ستظهر جلياً من خلال بحثنا، فأدونيس رجل يخطئ ويصيب، لأنه إنسان، وإنسان شاعر، أي إن إمكانية الخطأ عنده أكبر من غيره.
الهوامش
1 ــ نأتي بمثالين لكي لا يبقى كلامنا في حيز التجريد، فقد كتب السياب قصيدة "المسيح بعد الصلب"، وقد اتهم نتيجة لسوء فهم قضية التأثر والتأثير، ومن غير ما ناقد، بأنه انقاد بتأثير يوسف الخال، وأنه متأثر بالمسيحية (بالمعنى الخاطئ للتأثر)، أي إنه صار مسيحياً من الناحية الفكرية على الأقل، والواقع أن السياب متأثر بقص المسيح إبداعياً، لأنه لم ينقل قصة المسيح ولم يحافظ على مقومات شخصيته كما تقدمها الديانة المسيحية، بل ولا الديانة الإسلامية، فقد أحال شخصيته الدينية إلى شخصية رمزية إنسانية. وأسقط عنها البعد "المسيحي" من حيث هو تجسيد الإله، وقد أغفل مسألة "الولادة" التي يقر بها الإسلام أيضاً، وأسقط مسألة الصعود إلى السماء، ومن المعروف أنه من دون هذه الجوانب، تنتفي الصفة الدينية، ولاسيما المسيحية عن المسيح. ماذا أبقى الشاعر من المسيح أبقى منه الآلام، وجعل هذا الموت في الألم شرطاً لانبعاثه، كما جعله مرقى للمسيح فوق الشروط الإنسانية. وبذلك، يكون السياب قد عكس تماماً حركة المسيح، من تجسد الإلهي إلى صعود الإنسان باتجاه الألوهة، ولكن، بموجب معطيات اجتماعية نضالية معاصرة. ويمكن أن نجد تقارباً كبيراً جداً بين مسيح السياب، وتموز السياب، ومعنى ذلك أن الشاعر يمتلك رؤية وتصوراً، قادرين على امتصاص الرموز، والمؤثرات وإعادة النظر في تكوينها والاعتناء بها. إن المقارنة تبين لنا أنه لا علاقة إطلاقاً بين مسيح السياب ومسيح يوسف الخال، من حيث جوهر الشخصية واتجاه حركتها بين الأرض والسماء.
كذلك، نرى أحد الباحثين يصل إلى أن أدونيس قد تأثر بالشاعر الألماني "ريلكه" لمحض وجود أورفيوس عند الاثنين، والنزول به إلى الجحيم، وهذا خطأ كبير ما زال يتكرر عند الباحثين. انظر: علي أحمد الشرع "فصول" المجلد السابع، العددان الأول والثاني، أكتوبر 1986 ــ مارس 1987، ص 106 ــ 120. والمقال بعنوان: ملامح الأورفية ومصادرها في شعر أدونيس".
* أرسل رسالة خاصة للعضو
* مشاركات العضو بهدا الموضوع
* بيانات العضو
good
16:11:13 -
قراءة المزيد : http://www.oleeee.com/forum/t112821.html#ixzz4R3Cw2syO
د.فاروق مغربي
مقدمة عامة:
ما سنأتي به ليس إلا خطوطاً عامة جداً، وهي أشبه ما تكون بإشارات وعلامات على الطريق. ولابد أن تتبعها مرحلة تنقيب، وإطلاع على المصادر في ضوء الفرضيات المحددة التي يقوم عليها موضوعنا، ونجد أنفسنا مضطرين للبدء ببضع ملاحظات نراها مهمة جداً، حول مسألة المؤثرات الثقافية، ومفهوم التأثر، ذلك أن هذه القضية تشهد من الفوضى، وسوء الفهم أو التقدير، شيئاً كثيراً، فهناك علل شائعة تظهر لدى الكلام على التأثر والتأثير، إلى درجة أنها تحجب طبيعة النص المدروس، وتضلّل الدارس، وتجعل البحث عقيماً، علماً أننا سنجعل إشارتنا مقتصرة على أكثر العلل شيوعاً:
1 ــ جرت العادة أن نبحث لكل شاعر، أو كاتب، أو مفكر عربي، عن أساتذة ومفكرين من الغرب. دائماً يبدو لنا الكاتب أو المبدع متأثراً بالغرب، حتى لو لم يقرأ النتاج الغربي يبدو هذا جلياً، إذا نظرنا نظرة موضوعية للبرامج التي تحدد الأدب المقارن في مؤسساتنا الجامعية. إن الغرب يبدو منبعاً للأفكار، ومصدراً للإلهام، كلما قرأنا شعراً غامضاً تبرعنا له بصفة السريالية، فإذا طالعنا شعر يبحث عن لغة كلية تتجاوز حدود الكلمات، لتدخل إشارات جديدة على الإشارات الدالة، أو قرأنا نصاً يهز الأشكال الجامدة، هيأنا له صفة الشكلانية، هذا فضلاً عن التساهل في استخدام المصطلحات، والتسميات، دون اعتبار لمضامينها، وللحركات الفكرية، والكشوف العلمية التي أحاطت بظهورها، والظروف التاريخية التي أفضت إليها، وعلاقتها بــ "الإيديولوجيا" السائدة نقضاً أو توكيداً، وموقعها في ثقافتها (كما هي الحال في السريالية مثلاً)، ويجري نقل هذه التسميات، وزرعها خارج ذلك كله، بقسر لا يراعي شروطاً ثقافية، ولا يتنبه على خصوصيات الثقافة التي تزرع في أرضها، وفيما يتصل بنسبة كل ظاهرة إلى الغرب، نجد أنفسنا أمام فصام عجيب حقاً!. فمن الناحية السياسية نعلن الوقوف ضد الغرب، ولكننا لا نتوانى بأن نتبرع له بدور الأستاذ ثقافياً وأدبياً.
2 ــ هناك خطأ في فهم التأثر؛ فأن يتناول شاعران موضوعاً واحداً لا يعني التأثر بالضرورة. ثمة موضوعات كالموت، والحب، والحنين، والأرض والطبيعة، تتكرر في الشعر منذ آلاف السنين ولا يعني ذلك تأثر هذا بذاك، بل يمكن أن يصادف وجود عدد كبير من الأشياء المشتركة لدى شاعرين أو باحثين، ولا يكون ذلك من قبيل التأثر: العبرة في موقف الأديب من الأشياء، وموقع هذه الأشياء في عالمه، والعلاقات التي يقيمها فيما بينها. إننا للأسف، مازلنا نقرأ في الصحف والمجلات حول التأثر والتأثير كلاماً يفتقر إلى أدنى حد من الدقة والتبصر في معنى هذه الظاهرة.
3 ــ ينبغي التمييز بين التأثر والتقليد. التأثر ظاهرة نمو حضاري، بل إنه عنصر مهم جداً في آلية النمو الحضاري، أما التقليد، فهو الآفة التي تجب محاربتها، والقضاء عليها، فهي مخربة للحس العام، ومشوهة للمادة الأدبية الأصلية.
4 ــ للتأثر بمعنى النمو الحضاري، شروط صعبة، فلابد أن يكون المتأثر في مستوى المؤثر، أو على الأقل في مستوى القدرة على التمثل. ومن ثم الإبداع. التأثر المبدع الناتج عن تمثل المؤثر يفترض القدرة على تفكيك العمل المؤثر أو تحليله. وإدراج بعض عناصره في منظومة المتأثر بمقتضى رؤية المتأثر نفسه، وبموجب صيغة علائقية جديدة، هذا يفترض بدئياً، أن يكون للمتأثر موقف، ونظر، وبنية أو منظومة متميزة. متكاملة قادرة على امتصاص العناصر الجديدة، وإدراجها في تكوين هذه المنظومة، وفي أضعف الحالات يكون التأثر نوعاً من المقابسة أو أخذ شرارة من نار المؤثر، لكن لإشعال نار جديدة، وبوقود مختلف. (1)
إن التأثر الإبداعي يتعدى عملية الانطباع، والرسم أو التقليد، ولاشك أبداً، في أن كل مبدع يتكون حكماً في إطار ثقافة، والتأثر بهذه الثقافة، وسياقها التاريخي، ومشكلاتها، مسألة مفروغ منها، وخلاف ذلك مستحيل وإذا ما جاء عمل الأديب حصيلة مباشرة لهذه الثقافة، أو إعادة إنتاج لنماذجها. وأشكالها، سقطت صفته الإبداعية، ودخل في مستوى ثقافي آخر هو مستوى "الحرفية" والإبداعية تقوم في الحركة التي يحدثها المبدع إجمالاً داخل ثقافته، ومن هنا كانت الآلية التي بموجبها يتأثر المبدع بثقافته، قائمة على التوتر، والجدل أو على الأقل قائمة على فتح نوافذ هذه الثقافة، على معطيات ثقافية أخرى.
5 ــ التأثر لا يعني بالضرورة التحرك في اتجاه المؤثر، إذ يمكن أن تكون العلاقة بين المؤثر والمتأثر علاقة معارضة.
6 ــ بصورة عامة. إن تأثر المبدع بأعمال واتجاهات، من خارج ثقافته لا يكون اعتباطاً ولا انتقاء فردياً يمليه مزاج الشاعر وحده، إذ يتأثر الشاعر ــ أو هكذا يفترض ــ بما يساعده في صياغة جواب على الأسئلة التي يطرحها على ثقافته، أو على بعض جوانبها. هذا التأثر يفترض أولاً موقفاً، وعلاقة جذرية مع الثقافة الأصلية، ويفترض ثانياً إمكانية إقامة حوار أو علاقة مع المصادر الثقافية الأخرى.
لو أردنا الدخول إلى الأسئلة الإبداعية التي يطرحها أدونيس، في إبداعه كله: الشعري منه والنقدي، لرأينا سؤالين رئيسين يفرضان نفسيهما بوضوح. الأول: معارضة القسمة الثنائية للعالم. الثاني: معارضة الماضوية، أو عَدّ الكمال قائماً في الماضي. لذلك سوف يتبيّن لنا أن أهم المؤثرات الثقافية تجيء مساندة للإجابة عن هذين السؤالين ومن ثَمّ ستكون أوضح المؤثرات الثقافية هي المؤثرات الصوفية، ثم يتبين أثر "هيراقليطس" و"نيتشه" ولا يغيب ما يقوم بين هذه المنابع الثقافية من تقارب، ولاسيما من حيث أبدية الحركة، حتى الصوفي في السعي المتجدد لالتماس الحلول، والتجلي، وهما يضمران نظراً مستقبلياً، باعتبار أن التجلي والحلول، يرتقبان، ويطلبان في زمن آت، ويغدو التاريخ من ثم سلسلة من التجليات. وفي الصوفية، كما في فكر "نيتشه" جواب للقسمة الثنائية للعالم. الصوفي سعي دائم نحو لحظة يلتقي فيها عالمان. و"نيتشه" في رفضه للغيب، والألوهة، أو في إزاحتهما نحو الأفق الإنساني، يبطل هذه الثنائية.
إن النظر في إبداع أدونيس، مع أخذنا ما مرّ بنا بالاعتبار، يسمح برسم هيكلية. أو مخطط إجمالي تظهر فيه المؤثرات الثقافية. وقد تمّ انتظامها، وتمثلها ضمن نظرته العامة. فالمسألة ليست فسيفساء تأثرية، ولا سعياً وراء أحدث النزعات في العالم، ولا سباقاً في التجريد.
المؤثرات الثقافية في فكر أدونيس:
1 ــ مؤثرات المحيط الثقافي:
يمكننا أن نجد عدداً من العوامل المتضافرة التي أسهمت مباشرة، وغير مباشرة في بلورة فكره:
آ ــ هناك أولاً البيئة المباشرة: فالبيئة الريفية الساحلية التي نشأ فيها أدونيس ذات خصائص متميزة على بعض المستويات، ففي هذه البيئة ظاهرة غير معروفة في الريف السوري بكامله. وفي الأرياف العربية، وهي ظاهرة امتزاج الصلاة بالحياة الزراعية، وبالشعر امتزاجاً عملياً وحرفياً، إذ ليس هناك مكان محدد للصلاة كالمسجد، ويمكن أن تتم الصلاة في أي مكان. وأحياناً بشكل غير منفصل عن العمل الزراعي. والشعر يدخل في لغة الصلاة، بل يشكل كثيراً من إيقاع الصلوات لأن الأدعية قد صيغت شعراً في الغالب. وكل شيخ أو رجل دين يحس بضرورة قول الشعر تقليداً لقداس المتصوفة الذين تنتسب إليهم الجماعة التي يطلق عليها اليوم اسم "العلويين" كما أن أشعار القدامى من جاهليين وأمويين وعباسيين تحتل (والأصح أنها كانت تحتل في طفولة أدونيس) جانباً أساسياً من السهرات.
هذه البيئة قد هيأت له التشبع بنسغ ثقافي أساسي قوامه:
1 ــ النص القرآني، لأن أدونيس ــ ككل أبناء الريف (المحظوظين يومذاك) ــ قد تلقى العلم في المدرسة القرآنية (الكتاب) بإشراف ما يسمى محلياً بــ "الخطيب" (2) فضلاً عن الآيات الواردة في الصلاة.
2 ــ الشعر العربي في عصوره الذهبية، ولاسيما شعر المتنبي، والشريف الرضي، وأبي العلاء المعري.
3 ــ نتاج المتصوفة الشعري.
ب ــ يستوقفنا في هذا الموروث، ومن حيث العلاقة بشعر أدونيس تحديداً، سمة أساسية هي ثنائية العالم. هذه الثنائية عقيدة أساسية في الإسلام (وفي غيره من الديانات السماوية وغير السماوية): الدنيا/الآخرة، الروح/الجسد، الظاهر (الكائنات)/الخفي (الملائكة، الجن، الأرواح، الشيطان..) هذه الثنائية قائمة كذلك في الخرافات الشعبية، واللاوعي الشعبي (الكنوز، السحر، الجن، العفاريت..).
وفي المذاهب الإسلامية المتفرعة من المذهب الشيعي اتخذت هذه القسمة إلى ظاهر وخفي حجماً ضخماً نجم عن عاملين: عامل مباشر هو القمع والضغط، وعامل غير مباشر، ثقافي، يرتبط بمرحلة تاريخية شهدت انتشار الفلسفة اليونانية. وتأثير أفلاطون، ولاسيما في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين (الثالث والرابع الهجريين) ولا داعي هنا للإيضاح بأن "أفلاطون" نظَر لقسمة العالم، وأعطاها صيغة فلسفية، ولكنها كانت قائمة في معتقدات المنطقة، وأساطيرها منذ السومريين، حتى الآراميين، فضلاً عن انتشارها في الثقافات المجاورة من الهند إلى فارس.
هذه القسمة، حيثما وجدت، تضمنت بدئياً، حكم قيمة: كل باطن هو أهم من الظاهر. كما أنه أبقى وأقوى. الباطن يقابل عالم الروح الإسلامي، وعالم المثل الأفلاطوني. أما الظاهر، فعالم العرضيات المتغيرة التي لا تكتسب قيمتها، إلا بمقدار قربها من المثال أو "المعنى" أي بمقدار غيابها عن ذاته، والتحاقها بمثالها أو بمعناها. هذه الظواهر والعرضيات متضمنة في مثالها أو معناها، يستوعبها ولا تستوعبه قائمة فيه، وليس قائماً فيها، هي ظل له، وإشارة إليه.
هنا في هذا المفصل، يقوم اللقاء بين المذاهب الباطنية، وبين التصوف. الفارق قائم في الممارسة، والدرجة، وفي التأويل الصوفي الذي تمذهب وحمل اسماً شائعاً هو "المذهب العلوي" تبقى الثنائية قائمة، وتبقى المسافة متجسدة بشوق متجدد. فبينما ينطلق المتوصف من هذه القسمة الثنائية، ويقوم بحركة في اتجاه إلغاء المسافة، والاتحاد بمطلقه، ومن ثم السعي للتوحيد بين الظاهر والمثال بتحويل الظاهر محلاً لتجلي المثال. نجد التصوف في التأويل الصوفي "العلوي" يلح على المسافة بين الباطن والظاهر، وبين المعنى والصورة، أو بين المطلق والتاريخي، ولا يقوم بالقرب إلا بحركة الشوق. ولقد عرف التاريخ الفكري للطائفة التي ينتمي إليها أدونيس، عدداً كبيراً من المتصوفين في القديم، ولكن لم يبق من هذا التصوف، إلا حياة الزهد لدى بعض المتأخرين.
انقطعت سلالة المتصوفين منذ عهد بعيد، وسلالة الزّهاد توارت منذ أكثر من أربعين عاماً، غير أن النتاج الثقافي المحلي المكون من شروح وأدعية وتأملات، يستمر كتقليد محض للقديم، ولم يعد الآن يرتبط بتجربة صوفية. غير أن كل رجل دين يحس بإلزام معني يفترض فيه قول الشعر، وشعر رجال الدين يقلد دائماً لغة المتصوفين. ومن البديهي، أن هذا الشعر ليس فيه أية قيمة فنية أو تاريخية، غير أنه يُشيع لغة رمزية إشارية، لغة لا تسمّي، بل تكني. لغة تحوم حول المسمى أو المعنى، لغة تقوم على مسافة من المسمى، ومن هذا المعنى. وفي رأينا أن هذا الميل إلى الترميز، والإشارة هو أهم المؤثرات البيئية الفاعلة في شعر أدونيس إضافة إلى ما كونته من ميل تلقائي نحو الصوفية، ومن ارتباط بالأرض يجعلها في أحيان كثيرة، وجداً صوفياً.
ج ــ إذا ذكرنا هذا الإرث فإنما لنشير إلى المنطلق أو الخلفية الأساسية لأدونيس، غير أن أدونيس، وارث هذا البناء، لن يتحرك معه بانسجام، بل يتحرك ضمنه حركة صراع وجدل. وعلاقته بهذا الموروث علاقة توتر ومعارضة. يتجلى ذلك في ملامح ثلاثة:
1 ــ سوف يسقط المضمون الديني للتصوف، ويحتفظ بالحركة التي تتجدد باستمرار، بالشوق الدائم إلى الكشف المتجدد، لأن الكشف لا يكون نهائياً، وما أن يتحقق حتى يستلزم تجاوزه، كما يحتفظ بحركة الحوار المتجدد بين العرضي والمطلق، المحسوس والمجرد، وبعلاقة التداخل بين الإنسان والكون.
2 ــ من الإرث الصوفي أو "المذهبي" سوف يحتفظ بلغة الإشارة والرمز، بل سيبني لغة كاملة من الإشارات والرموز، كما أنه سيعيد تصور الشخصيات التاريخية، ويمنحها أبعاداً معاصرة، ويحملها القضايا التي تشغله.
3 ــ الصوفية عند أدونيس، في ضوء هذا، لا تخرج من الماضي، وإنما تنبثق من الحاضر والمستقبل أيضاً، ولذلك هي رؤيا ثورية، وبخاصة أن اللغة الصوفية توليف صدامي للمحسوس والمعقول، والتزام الشعراء بها، يشكل رفضاً لنهائية الحركة.
إن أدونيس يفضل مدرسة "الصوفية" على مدرسة "السريالية" (3) ونستغرب كيف يصرح أنه تأثر بالسريالية كنظرة، وأنها هي التي قادته إلى الصوفية إذ يقول: "تأثرت بها أولاً (أي السوريالية) ولكنني اكتشفت أنها موجودة بشكل طبيعي في التصوف العربي، فعدت إلى التصوف (4). "إننا نميل إلى أن الصوفية هي الأساس الأول في تكوين أدونيس، وعندما اطلع على السريالية لاحقاً، وجد أنه ينطبق عليها عبارة "هذه بضاعتا ردت إلينا". أما من حيث التأثر بشاعر معين، فإننا نتفق معه بأنه لم يتأثر بشاعر واحد، بل باتجاهات ومواقف ورؤى عامة، وأنه تأثر بالماركسية ونيتشه من حيث مقولة التخطي، وتأثر بأبي تمام وأبي نواس من حيث فهم اللغة الشعرية، وتأثر أيضاً بفكرة البحث والتجريب في الشعر العالمي خ(5). وإن كانت مقولة التخطي صوفية أيضاً. والواقع أن ثمة أموراً قديمة موجودة في الحركة الشعرية الجديدة يرى أدونيس أنها نابعة من نصوص التصوف لأنه حدس شعري، ومعظم نصوصه، نصوص شعرية صافية، وهذه الأمور يمكن إيجازها فيما يأتي: (6)
1 ــ تجاوز الواقع.
2 ــ الحدس الصوفي (الشعري) طريقة حياة، وطريقة معرفة في آن؛ ففيه نتصل بالحقائق الجوهرية، وبه نستطيع أن نتخطى الزمن وقيوده.
3 ــ الحرية، كما يراها أدونيس، أكثر أهمية من التراث، فهي تعطي للإنسان أهميته في هذه الحياة. والحرية في الصوفية، تصاعد مستمر نحو لا نهائية المطلق.
4 ــ التخيل أعمق من الخيال، لأنه رؤية الغيبة، وهو "القوة الرؤياوية" التي تستشف ما وراء الواقع، فيما تحتضن الواقع. (7)
5 ــ اللانهائية، التي يؤمن بها الحدس الصوفي.
6 ــ معنى الحياة والموت: في الحدس الصوفي تغير معنى الحياة والموت عما كان سائداً. لم يعد الموت نهاية، وإنما صار باب الحياة الحقيقية، وأهمّ من أن يعمر الإنسان طويلاً، أن يعرف.
7 ــ يطرح التصوف فكرة الإنسان الكامل.
والذي يلفت انتباهنا في تصوف أدونيس، أنه لا يتعلق، كما أسلفنا، بالموروث الديني، إنه تصوف حضاري إن جازت لنا التسمية، يتعلق بإمكانات الإنسان الخارقة، وثقته العالية به، وبقدراته. ونرى أنه متعلق بشكل مباشرة بالخافية أو اللاشعور، ولكن اللاشعور عند الصوفي مدرب بحيث يطغى أحياناً على ساحة الشعور، ويعطي المرء المتصوف إمكانات لا يمتلكها الإنسان العادي.
2 ــ انتماؤه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي:
تأثر أدونيس بنظرة أنطون سعادة، مؤسس الحزب، إلى الفنان عامة، والشعر خاصة؛ فقد عدَّ سعادة في كتابه "الصراع الفكري في الأدب السوري" الشاعر "منارة" لا "مرآة". وهذا يعطي الشاعر مهمة الكشف، بدلاً من مهمة الوصف والتقرير لذلك نرى أدونيس يصرح حول هذا الكتاب قائلاً: إنه "كان صاحب الأثر الأول في أفكاري، وفي توجهي الشعري، ولأنه بالإضافة إلى ذلك، أثر تأثيراً كبيراً في جيل كامل من الشعراء، بدءاً من "سعيد عقل" و"صلاح لبكي" و"يوسف الخال" و"فؤاد سليمان" وانتهاء بــ "خليل حاوي"... وكان إلى ذلك ملهماً لكثير من الأفكار والآراء الشعرية والنقدية في النقاش الذي دار حول مجلة "شعر" والمشكلات التي أثارتها ( والواقع أن هذا الأثر كان مضاعفاً عند أدونيس بالذات. ففي النصف الأول من الخمسينيات، كان يعيش في عزلة تامة عن التجمعات الشعرية فقد كانت الأوساط الأدبية ذات النزعة العربية المتزمتة، وذات النزعة الماركسية، تنظر إليه بنوع من العداء، وتفرض عليه نوعاً من الحصار والمقاطعة، وفي هذا المناخ، قرأ الكتاب الذي كان بلسماً له بشوق، ووجد فيه الصديق، في وقت عز فيه الأصدقاء (9) الأثر الآخر الذي تركه الحزب السوري في أدونيس نفسه، منفرداً، أو بالتعاون مع بعض أصدقائه ورفاقه الحزبيين، بترجمة بعض الملاحم الفينيقية، والكنعانية، والبابلية، وسوف يفيد من أسطورتين، أو بنيتين أسطورتين من أساطير الموت والانبعاث لصياغة رؤاه، وقد حمل اسم الأسطورة الأشهر بينهما. البنية الأسطورية الأولى تتمثل في عدد من الأساطير منها أسطورة "تموز" (أدونيس) وأسطورة "الفينيق"، وأسطورة "البعل". أما الأسطورة الثانية، فهي أسطورة "أورفيوس". وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة يونانية، إلا أن بعض عناصرها، ولاسيما النزول إلى الجحيم (عالم الموتى) قائم في الأساطير السومرية والبابلية.
يفيد أدونيس من أساطير الموت والانبعاث، ليصوغ نزعة الحركية والتجدد، وجدل الحياة والموت، صياغة يتداخل فيها الموقف الفكري بالموقف السياسي، أما النزعة الأورفية، أو الصورة الأورفية عند أدونيس، فإنها صياغة لمنحاه الصوفي، فأورفيوس الأدونيسي هو السعي الدائم لاقتحام العالم الخفي، الحركة الدائمة بين العالمين، ومن ثم السعي المتجدد لنقض الازدواج، وثنائية العالم. وإذا كان أورفيوس فناناً (موسيقياً) فقد بات من السهل إعارته صفة الشعر. وبذلك تصبح مهمة الشعر، التحرك الدائم بين العوالم بغية الكشف والتحرير، المحاولة الدائمة لاستعادة "أوريديس" الغائبة، أو استعادة المعنى إلى العالم عبر الاستبطان.
3 ــ تأثره بــ "هيراقليطس" و"نيتشه":
في ضوء ما تقدم يغدو ميل أدونيس إلى "هيراقليطس" و"نيتشه" مسألة طبيعية، ومتفقة مع منحاه الفكري العام، كانت ملامحه تتكون عندما كان يدرس الفلسفة، فوجد في هذين الفيلسوفين الشاعرين توكيداً وإضاءة لنزعته الجدلية، المتعالية على نفسها. كما أن "نيتشه" قد عزز نزعة أدونيس الرامية إلى أنسنة المقدس، ونقل المعنى إلى الإنسان والتاريخ. أين السريالية؟. لا سريالية عند أدونيس إلا بقدر ما نلتقي مع الصوفية. هناك تشابه لغوي، بلاغي، نتيجة للاستبطان، ولا شراكة في المنطلقات الفكرية. فأول ما تقول به السريالية هو ثنائية العالم، إضافة إلى ازدرائها عالم الواقع التاريخي. وهذا مختلف تماماً عن منحى أدونيس الفكري.
أما الشكلانية، فلا علاقة نهائياً لأدونيس بها، ونستغرب فعلاً: في أن بعض النقاد يضعونه ضمن الشكلانيين، أو تنويعاتهم (10)، وهم، أولاً وأخيراً، لم يفهموا التأثر والتأثير إلا على عكس ما نبهنا عليه في مدخل هذا الفصل.
4 ــ تأثره بالشعراء الفرنسيين:
نستطيع أن نضيف إلى ما تقدم معنا تأثر أدونيس بالشعراء الفرنسيين، ولعل أهمهم شاعران هما: "سان جون بيرس"، و"ايف بونفوا". فقد كانت علاقة أدونيس مع هذين الشاعرين وطيدة، إذ إنه ترجم الأعمال الكاملة لهما، إضافة إلى قيام صداقة روحية معهما جعلت من شعرهما دافعاً نحو بلورة رؤية خاصة لا هي غربية، ولا هي عربية. وتأثر أدونيس بالشعراء الفرنسيين هو تأثر إبداعي، زاد في إبراز الطابع الشخصي له.
إن كل ما مر بنا سابقاً. فضلاً عن القراءات الكثيرة، والمتنوعة، والجادة، قد صقل أدونيس، بحيث أضحى شخصية لها ملامحها الثابتة، ومن الصعب إغفال اسمه، إذا ما دار حديث فكري عن التراث، أو الحداثة، أو الشعر، أو الهوية العربية. وعلى الرغم من أن خصومة أكثر من أنصاره، في الدول العربية. إلا أننا نجد أكثر ما يوجه إليه من نقد، قائماً على حقد شخصي مبيت، وهو يفتقد الصفات العلمية التي تقتضي الاحترام الشخصي للأطراف جميعاً. ناهيك عن التهم التي توجه من دون أدنى شعور بالمسؤولية. ومن دون أية أدلة دامغة وللأسف، أصبح أدونيس شجرة، وكثر حوله هواة تسلق الأشجار، لا لشيء، إلا لقرن اسمهم باسمه، وما كنا لنثبت هذا الرأي لو وجدنا في الهجوم عليه، التعليل والإقناع ولاشك أبداً في أننا لا نعمم هذا الرأي على الجميع، فثمة نقاد يختلفون مع أدونيس، بعلمانية ستظهر جلياً من خلال بحثنا، فأدونيس رجل يخطئ ويصيب، لأنه إنسان، وإنسان شاعر، أي إن إمكانية الخطأ عنده أكبر من غيره.
الهوامش
1 ــ نأتي بمثالين لكي لا يبقى كلامنا في حيز التجريد، فقد كتب السياب قصيدة "المسيح بعد الصلب"، وقد اتهم نتيجة لسوء فهم قضية التأثر والتأثير، ومن غير ما ناقد، بأنه انقاد بتأثير يوسف الخال، وأنه متأثر بالمسيحية (بالمعنى الخاطئ للتأثر)، أي إنه صار مسيحياً من الناحية الفكرية على الأقل، والواقع أن السياب متأثر بقص المسيح إبداعياً، لأنه لم ينقل قصة المسيح ولم يحافظ على مقومات شخصيته كما تقدمها الديانة المسيحية، بل ولا الديانة الإسلامية، فقد أحال شخصيته الدينية إلى شخصية رمزية إنسانية. وأسقط عنها البعد "المسيحي" من حيث هو تجسيد الإله، وقد أغفل مسألة "الولادة" التي يقر بها الإسلام أيضاً، وأسقط مسألة الصعود إلى السماء، ومن المعروف أنه من دون هذه الجوانب، تنتفي الصفة الدينية، ولاسيما المسيحية عن المسيح. ماذا أبقى الشاعر من المسيح أبقى منه الآلام، وجعل هذا الموت في الألم شرطاً لانبعاثه، كما جعله مرقى للمسيح فوق الشروط الإنسانية. وبذلك، يكون السياب قد عكس تماماً حركة المسيح، من تجسد الإلهي إلى صعود الإنسان باتجاه الألوهة، ولكن، بموجب معطيات اجتماعية نضالية معاصرة. ويمكن أن نجد تقارباً كبيراً جداً بين مسيح السياب، وتموز السياب، ومعنى ذلك أن الشاعر يمتلك رؤية وتصوراً، قادرين على امتصاص الرموز، والمؤثرات وإعادة النظر في تكوينها والاعتناء بها. إن المقارنة تبين لنا أنه لا علاقة إطلاقاً بين مسيح السياب ومسيح يوسف الخال، من حيث جوهر الشخصية واتجاه حركتها بين الأرض والسماء.
كذلك، نرى أحد الباحثين يصل إلى أن أدونيس قد تأثر بالشاعر الألماني "ريلكه" لمحض وجود أورفيوس عند الاثنين، والنزول به إلى الجحيم، وهذا خطأ كبير ما زال يتكرر عند الباحثين. انظر: علي أحمد الشرع "فصول" المجلد السابع، العددان الأول والثاني، أكتوبر 1986 ــ مارس 1987، ص 106 ــ 120. والمقال بعنوان: ملامح الأورفية ومصادرها في شعر أدونيس".
* أرسل رسالة خاصة للعضو
* مشاركات العضو بهدا الموضوع
* بيانات العضو
good
16:11:13 -
قراءة المزيد : http://www.oleeee.com/forum/t112821.html#ixzz4R3Cw2syO