أبعاد المثلث الغامض..( الثورة .. أدونيس .. التراث..)
يبرز في الشعر العربي الحديث ونقده مفردات، مثل: الرفض، الاحتجاج، التمرد، الثورة. وكلها تنطلق من بُعد واحد: البُعد الرافض المصطدم بالأشياء في شتى مستوياتها, ومن أبرز هؤلاء الشعراء:"أدونيس"
(1).ويرى "أدونيس"أن الحداثة هي:"رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن، واحتجاج على السائد
(2) ومن هنا فإن الشاعر ـ كما يرى ـ "ثائر بالطبيعة؛ فليس شاعراً من ليس ثائراً"(3).
لقد بلغ "أدونيس" مبلغاً كبيراً من التصحر الروحي، وجفاف منابع الرشد في كل شيء، وتضخم نزعة الثورة الهدامة؛ فهو يريد ثورة عارمة شاملة لا تستثني شيئاً، حتى على الدين وثوابته وتعاليم الشريعة.. يقول: "إن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور العربي ليست تلك التي تسليه أو تقدم له مادة استهلاكية، ليست تلك التي تسايره في حياته الجارية، وإنما هي التي تعارض هذه الحياة؛ أي تصدمه، تخرجه من سباته، تفرغه من موروثه وتقذفه خارج نفسه، إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها، الدين ومؤسساته، العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته، وبنية المجتمع القائم، كلها بجميع مظاهرها ومؤسساتها، وذلك من أجل تهديمها كلها، أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد" (4).
ويصر "أدونيس" على ولعه وتعلقه بكل ما يخالف الدين الصحيح: انتهاك المحرَّم، ومعانقته، والبحث عنه، تحت شعار الحقيقة يقول: "ومن ضمن اختيار الحقيقة، لن نكتفي ـ كمفكرين وشعراء ـ بنقد ما أعطاه الذهن العربي، وبنقد موقفه من العالم، بل سنبحث أيضاً عما رفضه هذا الذهن، وعما نفاه من مجال فاعليته وعما تجاهله، وعما يستمر في رفضه ونفيه وتجاهله. إن المنفي المحرم هو ما يجب علينا الآن أيضاً أن نكتشفه ونعانقه ونحبه" (5).
والثورة عنده ثورة سرمدية مستمرة لا هدف لها سوى الثورة: "الشاعر ثائر بالطبيعة؛ فليس شاعراً من ليس ثائراً، لا الثورة النظام التي تأسر الواقع وتحكمه، بل الثورة الرؤيا التي تحرك الواقع وتغيره، ثم تعود فتحرك ما حركته، وتغير ما غيرته أبدياً، بحيث يصبح الشعر عملاً آخر والعمل شعراً آخر"(6). وحين نأتي إلى اختيارات "أدونيس" التراثية، ونظرته للشعر العربي القديم، سنجد ما يتقاطع وينسجم مع هذه النظرة الثائرة. فبمن أُعجب "أدونيس" من شعراء التراث؟ إنه في تعامله مع التراث الشعري يركز على إبراز جانب التمرد والثورة فيه؛ وذلك في جانب الخروج الديني، والتمرد على التعاليم بصفته نموذج التحول والتمرد، لا الثبات والقبول. ومن هذا: حديثه عن تمرد "أبي نواس"، ويمثل هذا التمرد إصراره على الخطيئة (الخطيئة بالنسبة إليه في إطار الحياة التي كان يحياها، ضرورة كيانية؛ لأنها رمز الحرية، رمز التمرد والخلاص) (7).
ويضيف "أدونيس" - في تجاوز سافر- إن أبا نواس يتمرد في سبيل الخمر على الله نفسه ـ تعالى الله عما يقول ـ وذلك في إشارة إلى قول "أبي نواس": لو أطعنا ذا عتاب *** لأطعنا الله فيـها إنني عند ملام الـ *** ناس فيها أشتهيها ويعلق على قول "أبي نواس": وإن قالوا حرام؟ قل حرام **** ولكن اللذاذة في الحرام إذ يقول: "الإصرار على فعل الذنوب ـ كما يعبر أبو نواس ـ يعني انتهاكاً للمحرم ورفضاً لمفهومه. لكن انتهاك ما حرمه الله إنما هو خروج على الله نفسه، فكل خروج على شريعة الله خروج على الله. هذا الخروج يجعل الإنسان مساوياً لله وشبيهاً له؛ فلا يعود يخضع للشريعة؛ لأنه يصبح هو نفسه مصدر الشريعة، فتنعدم الممنوعات وتسود الحرية والمشيئة" (9).
وفي المقابل يعترض "أدونيس" على الحكمة (التي هي قيمة من القيم الشعرية القديمة) ويرى أن الشعر العربي يتجاوزها، فالشاعر العربي الجديد ـ كما يرى ـ يستبدل الحكمة بالتساؤل. ويتجاوز الشعر العربي الحديث ـ تبعاً لهذا - أخلاقية الحكمة: القناعة، الصبر، الخضوع للقضاء والقدر بأخلاقية التساؤل والبحث: القلق، الخوف، اليأس، الرجاء، التأمل، التمرد (10).
بل إن "أدونيس" يهاجم الدين (مصدر الطمأنينة) ويصر على التمرد عليه، ويحارب ثبات أطره في نفس المؤمن، عن طريق إثارة هذه القضية التي ألبسها ثوب التأمل والفكر؛ فيدعي أن الدين سبب لجمود العقل! فهو يصف الثقافة الدينية بأنها تعلم الإنسان الجواب الذي أتيح له، ولا تتيح له السؤال أو الجواب؛ فهي ثقافة الإيمان لا التساؤل، ويرى أن المؤمن لا يمضي حياته في التفكير، بل في التقوى، وأن عقله قابل وليس ناقدا (11).
وهكذا نرى كيف تتخذ قضية الثورة عند "أدونيس" ثورة على الدين ومسلماته وثوابته، ثورة على القيم، ثورة على العائلة، ثورة على المجتمع؛ ولعاً بالمحرم. وهي ثورة سرمدية مستمرة بلا حدود.. لا تهدف للبناء والإصلاح بل للهدم. و"أدونيس" في علاقته بالتراث يركز على نماذج التمرد والزندقة والإلحاد، ويعدها نماذج مبدعة. كما أنه ثائر على كل ما يبعث الطمأنينة في النفوس، إذ يسعى بكل قوته إلى إثارة القلق في روح المتلقي، لا القلق الإيجابي الذي يدفع إلى الفعل السليم والتفكير السليم لإزالة التوتر، بل القلق السلبي الذي يفضي إلى المزيد من التوتر والشكوك القاتلة. إننا لا ننفي أهمية الثورة في حياة المبدعين، وهي ثورة إيجابية ضد الباطل والضعف والانهزامية، ثورة ضد الأوضاع الفاسدة في مجتمعهم. ولكنها ثورة محافظة على الثوابت اليقينية، ثورة تحمل البديل الصالح، وتعتمد القرآن الكريم والسنة النبوية منهجاً. وهي ثورة تعتمد الحكمة والتعقل والهدوء. والسؤال الأكبر: لماذا إقصاء الدين عن المعالجة الشعرية؟ لقد أقام الإسلام البناء الحي الثابت للمجتمع، وانبثقت منه الأمة، إذ غذى أفرادها بالعناصر الفعالة، فانطلقت مجاهدة فاتحة، وهزت الأمة الإسلامية ـ بقوتها ـ الشرق والغرب: قوة مادية وعقلية ورواسخ وجدانية تنفي عن النفوس الاضطراب وتشد من العزيمة. وثار الإسلام على الفساد، والجهل، والظلم، والعنصرية، والعصبية، واحتقار الناس، والإساءة إليهم، وعلى كل قيمة فاسدة. إن الإسلام لم يكن أبداً دين قمع أو كبت أو إجبار أو فرض أو إكراه، ومما يدل على حرية الرأي التي كان يتمتع بها المسلمون، مناقشتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسؤالهم إياه فيما يشغل أذهانهم من أفكار، وكان عليه الصلاة والسلام يجيبهم، ويعتمد أسلوب الحوار والإقناع لا الترهيب والتخويف. والسؤال الآخر: لِمَ هذا الحرص على محاربة الطمأنينة والهدوء داخل النفس، والعمل على إذكاء القلق والشكوك فيها؟ وكيف يستمر الإنسان في تساؤلاته دون مرفأ يرسو به عند شاطئ الأمان؟ وما الجدوى من التساؤل إذا لم يؤد إلى نتيجة؟ أليس التساؤل هو بداية العقلية الناضجة الباحثة عن إجابة؟ ثم ما المغزى من الثورة إذا استمرت، وبعد اكتمال معالمها، تقوم ثورة أخرى مضادة! فهذه الثورة إذن خبط عشواء بلا هدف أو غاية إلا غاية التمرد وشهوة التخريب؛ إذ يدور الإنسان فيها وكأنه في حلقة مفرغة، يخسر فيها أعصابه وتفكيره واطمئنانه بلا طائل. ولماذا التعلق بالخطيئة؟ وما علاقة الخطيئة بالفكر؟ إن العقل والمنطق يلحان بالسؤال: ماذا سيجني الإنسان من الخطيئة وماذا سيخسر إذا تركها؟ وهذا التمرد من آثار الفلسفة الوجودية، إذ يتمرد الوجوديون على الواقع، دون أن يحددوا له أشكالاً أو طرقاً متعينة. (12) ولأختم حديثي هذا بنموذج شعري لـ"أدونيس" من مجموعته " أغاني مهيار الدمشقي" الذي يزعم أنه يدعو إلى الهدم الجميل الكامل لإعادة البناء وتخطي التشاؤم الظاهر وحب الهدم (13): من أنت من تختار يا مهيار؟ أنى اتجهت، الله أو هاوية الشيطان هاوية تذهب أو هاوية تجيء والعالم اختبار لا الله أختار ولا الشيطان كلاهما جدار كلاهما يغلق لي عيني هل أبدل الجدار بالجدار وحيرتي حيرة من يضيء حيرة من يعرف كل شيء (14) هذا هو منهج "أدونيس" الحقيقي فأين البناء؟ وهل أدركنا الآن أبعاد هذا المثلث الغامض؟ وهل آن لإعلامنا أن يثوب إلى رشده ويكف عن تلميع مثل هذه النماذج؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1- أدونيس: علي أحمد سعيد، شاعر سوري، نصيري الأصل. 2- فاتحة لنهايات القرن ـ أدونيس – ص 221 3- مجلة الآداب ـ ع 7-8 يوليو أغسطس 1967م 4- زمن الشعر ـ أدونيس ـ ص 76 5- السابق ص 230 6- مجلة الآداب ـ العدد السابق ص 12 7- مقدمة للشعر العربي ـ أدونيس ـ ص 52 8- السابق ـ ص 51 - 52 9- الثابت والمتحول ـ أدونيس ـ 2/112-113 10- مقدمة للشعر العربي ـ أدونيس ص 128 11- فاتحة لنهايات القرن ـ أدونيس ص 160- 162 12- الإبداع ومصادره الثقافية عند أدونيس ـ ص 89 13- رأيهم في الإسلام ـ لوك باربولسكو 33 14- الأعمال الشعرية الكاملة ـ أدونيس 1/288