المتن المثلث للنقد العربي الحداثي
نبيل سليمان
وسم أحمد المديني نقد ستيفن نورد أبل لاند لنقد رولان بارت بـ (المتن المثلث). ومن المديني استعرت الوسم عنوانا لكتاب لي(1) حيث تذهب الإشارة إلى المتن الأول: النص الأدبي المنقود، فالمتن الثاني: نقد المتن الأول، فالمتن الثالث: نقد المتن الثاني، أي نقد النقد.
لكن لنقد النقد نقده أيضا - كما سيحاول هذا البحث أن يكون - فهل نقول بمتن رابع ينقد المتن الثالث، ونكون إذن أمام (المتن المربّع)؟ وماذا لو أن الأمر اطرد إلى أس أعلى فأعلى؟ أيكون الأولى أن يعاد تنضيد المتون - وهذا ما أخذت به هنا - فيكون نقد النص الأدبي هو المتن الأول، ونقده هو المتن الثاني، ونقد نقده هو المتن الثالث؟
ما هو أولى، أيّا يكن الاختيار، هو أن حضور المناهج الحديثة في المشهد النقدي العربي، قد اطرد منذ سبعينيات القرن العشرين، فيما أخذ نقد النقد يتلامح، ولكن بدرجة أدنى من الحاجة إليه بكثير (2). وقد ظلت بدرجة أكبر، الحاجة إلى (المتن المثلث) الذي ينقد نقد النقد. وهنا يقوم الدافع إلى هذا البحث، أما اختيار كتاب محمد عزام (تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحديثة: دراسة في نقد النقد) (3) ليكون مدار هذا البحث، فقد جاء لأن الكتاب - كما سنرى - يوفر فرصة ثمينة للنظر في المشهد النقدي العربي الحداثي - وأحيانا في نقده - خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وإن يكن الكتاب قد ركز همه على البنيوية وعلى البنيوية التكوينية.
ü ü ü
أصدر محمد عزام خلال حياته القصيرة (1940 - 2005) سبعة وعشرين كتابا في النقد الأدبي، كان آخرها (تحليل الخطاب الأدبي...). وقد كان للمناهج الحديثة النصيب الأوفى في إنتاج عزام، ومن ذلك كتبه: الأسلوبية منهجا نقديا 1989 - التحليل الألسني للأدب 1994 - النقد الأدبي والدلالة: نحو تحليل سيميائي للأدب 1996 - فضاء النص الروائي: مقاربة تكوينية في أدب نبيل سليمان 1996 - المنهج الموضوعي في النقد الأدبي 1999.
وعزام يفتتح كتابه (تحليل الخطاب الأدبي..) ويختتمه بالإشارة إلى ما أشاعه تدفق المناهج النقدية الحداثية من اضطراب منهجي، وإلى مجابهة تلك المناهج بداية بالعداء لأنها زعزعت الثوابت النقدية المطمئنة التي كنا نستند إليها، مما أصاب كثيرين بعسر هضم مفاهيم ومصطلحات تلك المناهج. لكن آخرين تمثلوها ودرسوا على غرارها. على أن عزام يذهب إلى أن النقد الروائي العربي المعاصر في الربع الأخير من القرن العشرين لا يخرج في منهجيته الحداثية عن منهجين هما: النقد البنيوي الشكلي، والنقد البنيوي التكويني. لذلك صنف النقود المنقودة بحسبهما في كتابه موضع البحث، ولئن كان هذا القول يستقيم في سبعينيات القرن العشرين، وبدرجة أدنى في ثمانينياته، فهو لا يستقيم من بعد، وفيما يفترض أنه زمن كتابة عزام لكتابه، قبل النشر، إذ تواتر من أخذ بالمنهج السيميائي - عزام نفسه أو سامي سويدان مثلا - والمنهج الأسطوري - ريتا عوض وحنا عبود مثلا - والملفوظية - قاسم مقداد والمويقن مصطفى مثلا - والتفكيكية - عبدالمالك مرتاض الذي يؤثر أن نقول: التقويضية، مثلا.
يتأخر إعلان محمد عزام منهجه في نقد النقد حتى قرابة منتصف كتابه المعني، حيث يعلن أنه آثر درس نقد كل ناقد على حدة، بالعرض وبالمناقشة ضمن العرض. كما يعلن أن اهتمامه انصب على منهجية كل ناقد، وعلى مدى تمثله للنقد الحداثي بعامة، وللمنهج البنيوي بفرعيه الشكلي والتكويني، بخاصة. وقد كان سؤال عزام هو: هل فهم أولاء النقاد المناهج الحداثية كما هي في بلدانها الأم؟ أم )اجتهدوا من أجل أن يتفوقوا على أساتذتهم الغربيين؟ وهل هذا (الاجتهاد) خصوصية؟ أم هو عجز وقصور عن متابعة مستجدات هذه المناهج التي تُبنى في بلدانها يوما بعد يوم؟(.
قد يكون من المفيد هنا أن يمضي القول إلى صنيع مُضاهٍ لصنيع محمد عزام، هو كتاب (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي) لحميد لحميداني(4) الذي يذهب إلى أن الاشتغال في نقد النقد لا يعفي من ضرورة تحصيل ناقد النقد لمعرفة يفترض القارئ دائما أنها ينبغي أن تكون أكثر من معرفة ناقد الإبداع. ولئن كان في هذا القول - فيما أرى - من الجزافية أن بلغ حد الادعاء باسم (القارئ)، فالناقد يمضي إلى أن الجانب التطبيقي في نقد النقد يطرح سؤال المنهج الذي على ناقد النقد أن يتبعه وهو يحلل أعمالا نقدية حول الإبداع. ولحميداني أن يقدر خطورة اختيار ناقد النقد لأحد مناهج نقد الإبداع لأن ذلك يجعل الدراسة (نقد نقد النقد أو المتن المثلث) منذ البداية مصادرة على المطلوب.
ها هنا أحسب الجزافية تتوالى، لأن المناهج المعنية تتعلق فقط بالنص المنقود وليس بنقده. وتتوالى الجزافية في إيثار الناقد لـ (الطابع الوصفي) لدراسته، فهل الطابع الوصفي منهج؟
ينوه حميد لحميداني بإفادته من بعض الدراسات المنجزة في نقد النقد - بينما - أغفل عزام ذلك(5) - وخاصة من جوهانا ناتالي، حيث لاحظ إهمالها )عنصرا مهما هو التقويم الجمالي الذي يتضمن أحكام القيمة(. ويتكئ الناقد على ذلك ليعلل تحول الناقد الذي يلتزم التحليل البنيوي، ودون وعي منه، إلى ممارسة نقد له خلفيات أخرى، وهذا ما كان من لحميداني في دراسته لمكونات الفضاء.
سبق كتاب لحميداني كتاب عزام باثني عشر عاما. بيد أن أسئلة المتن للنقد العربي الحداثي تبدو هي هي، في الفترة نفسها وقبلها وبعدها. فإذا كان لحميداني يتساءل: عن )مدى قدرة الناقد العربي على هضم وتمثل مناهج جديدة تولدت في سياق تطور البحث اللساني، والمنطقي والفلسفي؟) فعزام يتساءل (ما مدى تمثل النقاد العرب للنقد الحداثي بعامة؟(. ولسوف تختلف الصياغات، بالطبع، لكن الهجس هو هو، لذلك نكتفي بتساؤل لحميداني - مثلا - عما إن كانت المقاربة النقدية ذات الرؤية من الداخل في العالم العربي، تظهر خصوصياتها المميزة وهي تتعامل مع النص السردي العربي؟ ومثل ذلك تساؤله عن الأخطاء التي ينبغي تجاوزها في تلك الممارسة، أو تساؤله عن تمكن المقاربة البنائية(6) من تجاوز التعريف بالمنهج إلى تقديم معرفة جديدة بالنص الروائي العربي. وقد أرسل محمد عزام ما لعله إجابات عن تلك التساولات حين ذهب إلى أن النقاد العرب المعاصرين راوحوا في تحليل الشعر بين الالتزام بمبادئ البنيوية والخروج عليها، في محاولة توفيقية بين مناهج عديدة. وكذلك حين ذهب بجدة المنهج وعدم استساغته من قبل أصحاب الذوق التقليدي ومن مُؤْثري النقد الذي يعتمد على العلوم المساعدة.
ü ü ü
في مقدمة كتابه، أعلن محمد عزام مرامه: رَصْدُ تلقينا للمنهج البنيوي بتياريه الشكلي والتكويني، على مستوى التنظير الغربي، وعلى مستوى التنظير العربي، وعلى مستوى التطبيق العربي، ومن أجل ذلك خص الكتاب كل تيار - منهج بباب، وتوزع كل باب على ثلاثة فصول، لكل مستوى من المستويات المذكورة واحد منها.
في المستوى التنظيري الغربي للبنيوية الشكلية عرض عزام لمصادر البنيوية (الشكلانيون الروس، والنقد الجديد الأمريكي، والألسنية)، كما عرض لما عدَّه كتبا تأسيسية وأساسية في البنيوية، وهي: كتاب جان ماري أوزياس (البنيوية) وكتاب جان لوي كابانس (النقد الأدبي والعلوم الإنسانية) وكتاب روبرت شولز (البنيوية في الأدب) وكتاب إديث كيرزويل (عصر البنيوية من شتراوس إلى فوكو) وفصل من كتاب تيري إيغلتون (نظرية الأدب) خصصه للبنيوية والسيميائية، وإلى ذلك قدم عزام صورة إجمالية وخاطفة لمساهمات ريفاتير ولكتاب غارودي (البنيوية فلسفة موت الإنسان).
على نحو مقارب جاء المستوى التنظيري الغربي للبنيوية التكوينية، حيث عرض عزام لمساهمات لوكاش وجاك لينهارت وإيف تادييه وباختين وآن جيفرسون. أما النصيب الأوفى فكان للوسيان غولدمان. وفي سائر العروض بدا عزام يقدم ملخصا تاريخيا مدرسيا، مذكرا بما سبق لحميد لحميداني أن قام به في القسم التنظيري من كتابه (بنية النص السردي...) وقد حدد لحميداني غايته من ذلك بتقديم معرفة منتظمة بالجهود الغربية التي )ليس لها نظير في ثقافتنا النقدية(. ولاحظ لحميداني أن أغلب المقاربات البنائية العربية فيها مقدمات ومداخل تعكس كيفية تمثل النقاد للجهود السابقة، وهذا هو محرك كتاب عزام عينه، بل هو غالبا محرك المساهمة النظرية والتنظيرية العربية. ويبدو لحميداني كأنما يتعلل لكل من حذا حذوه، من قبل ومن بعد، وذلك في قوله: إن (الإسهاب) في تقديم الجهود النظرية (الغربية بالطبع) أملته ضرورة تمثل النظرية البنائية - وأضيف: غير البنائية - قبل الانتقال إلى دراسة الأعمال العربية التي وظفتها.
بيد أن محمد عزام أضاف المجادلة والمؤاخذة إلى التلخيص المدرسي التاريخي، عندما انتقل إلى المستوى التنظيري العربي. وهذا ما سيواليه عندما ينتقل إلى المستوى التطبيقي العربي، لكأنه يتابع خطى من سبقوه، ومنهم حميد لحميداني في كتابه المذكور.
في المستوى التنظيري ابتدأ عزام بكتاب زكريا ابراهيم (مشكلة البنية - 1976) فرآه يصلح كمقدمة عامة للمنهج البنيوي، وقال: )كتاب شمولي حاول فيه التعريف بالبنيوية، وبأعلامها في شتى الحقول العلمية، ولكن هذه الشمولية اضطرته إلى التبسيط، وأبعدته عن حقلين أساسيين هما: الأدب، والنقد الأدبي(. وقد خص عزام كتاب صلاح فضل (نظرية البنائية في النقد الأدبي 19777) بوقفة أطول ناهزت فيه (ملاحظاته) العرض. وأول ذلك كان ما عده تهافت تعليل فضل لقوله بالبنائية، لا بالبنيوية، متعللا بتجريح النسيج الصوتي في (البنيوية)، وهو تعليل نافل حقا.
يسجل عزام أن فضل تناسى في تكوين البنيوية مدرسة النقد الجديد في أمريكا وبريطانيا، وأن معالجته لمصادر البنيوية تشكو من قصور واضح، إذ خلطت بين المصادر والمنجزات، ويضرب عزام مثلا باعتبار فضل لشومسكي مصدرا من مصادر البنيوية، فيما هو ليس كذلك. وبحسب عزام فإن أهم ما في كتاب فضل هو قسمه الثاني المخصص للنقد الأدبي البنيوي. لكن ذلك لم ينجه من المؤاخذات، ومنها:
1 - أنه على الرغم من الإحاطة التي حققها الكتاب، ظلت حاجته إلى التعمق الكبير، وبخاصة في اتجاهات النقد البنيوي التي أغفلها (النقد البنيوي الشكلي، والتكويني، والسيميائي).
2 - وبالتالي، ظلت معالجة فضل مشتتة وناقصة )إذ جاء بجذاذات من التحليل البنيوي ودمج بها لغة الشعر وتشريح القصة(.
3 - استعان فضل بمقولات ريتشاردز وفراي وغيرهما ممن لا علاقة لهم بالبنيوية، وإن كانوا قد بشروا بالشكلانية.
4 - ناقش فضل مضمون العمل الأدبي، على الرغم من أن المنهج البنيوي لا يلتفت البتة إلى المضمون.
5 - غالط فضل نفسه عندما رأى أن هدف التحليل البنيوي هو اكتشاف تعدد معاني الآثار الأدبية. فالمعنى كان هدف نقاد المرحلة السابقة، وليس مرحلة النقد البنيوي الذي أدار ظهره للمعاني كليا من أجل إعطاء البنيات والعلامات حقها المهضوم.
6 - عندما تحدث فضل عن المحاولات التطبيقية البنيوية في النقد العربي، اكتفى بثماني صفحات مما يربو على خمسمائة )وحتى هذه الصفحات الثماني جاءت مغلوطة، إذ مثّل لها بنازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)(. ونازك الملائكة لم تهتم بالبنيوية، بل بهيكل القصيدة، مقابل مضمونها. فلعل فضل انساق مع بعض من يعنون بـ (الهيكلية) المنهج البنيوي. لقد أصاب فضل في إشارته إلى كتاب الطاهر لبيب (سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا) وإلى كتاب حسين الواد (البنية القصصية في رسالة الغفران)، إلا أنه لم يف الدراستين حقهما من الشرح والتفصيل والتقييم، بل مر عليهما سريعا. وباختصار، فقد كان على فضل أن يعنى بالدراسات العربية البنيوية، على الرغم من أن كتابه جاء في مرحلة مبكرة لاستقبالنا البنيوية.
وينتهي عزام إلى أن كتاب فضل، على الرغم من السلبيات والنواقص، يظل أفضل مرجع في مرحلته عن النقد البنيوي.
باهتمام أدنى بكثير عرض محمد عزام لمن تلوا في كتابه، فعبد الفتاح كليطو في كتابه (الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي) قدم ملاحظات مهمة لو أنها تعدت مجرد الإشارة إلى التفصيل والتمثيل. وصدوق نور الدين في كتابه (حدود النص الأدبي: دراسة في التنظير والإبداع) اقترح المنهج التوفيقي، لكنه لم يطبقه، واكتفى بالأدب المغربي المعاصر. وعُني بالسرد مقابل مقاطع من قصائد التي طبق عليها المنهج البنيوي، لكن من دون أن يخرج بوصف لبنية القصيدة ولا لعلاقات وحداتها.
أما كتاب فؤاد أبو منصور (النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوروبا - 1985) فهو (خلطة عجيبة) أدخلت إلى البنيوية كثيرا مما ليس منها، كالموضوعاتية والتحليل النفسي الجذري. والكتاب عام، يفيد القارئ، إلا أنه دون منهج واضح، فمعلوماته مجرد انطباعات شخصية حول الموضوع الذي يعالجه، وهو يفتقر إلى (التأني والتعمق واللغة النقدية المحددة، بالإضافة إلى افتقاده المنهجية والتصنيف(. وقد كان الاضطراب في القسم الثاني من الكتاب، والمخصص للنقد البنيوي العربي، أكبر وأخطر، إذ جاءت فيه أمثلة بعيدة عن موضوعه، وإذا بمي زيادة وعمر فاخوري وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأحمد فارس الشديان ورئيف خوري... بنيويون. ولعله كان على عزام أن يبحث في صنيع أبومنصور عن عقدة تجذير كل أمر في الماضي (التراث) القريب أو البعيد.
ويبقى شكري عزيز ماضي في كتابه (في نظرية الأدب - 1986) وسعيد الغانمي في فصل البنيوية الذي كتبه، وجاء في كتاب (معرفة الآخر: مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة - 1990) الذي اشترك فيه مع الغانمي عبدالله إبراهيم في فصل عن التفكيكية، وعواد علي في فصل عن السيميائية. وقد اشترك فيه مع الغانمي عبدالله إبراهيم في فصل عن التفكيكية، وعواد علي في فصل عن السيميائية. وقد خالف عزام الغانمي في وصفه لإنجاز مجلة (شعر) بالبنيوي، ورأى أن الغانمي حصر همه في جذور البنيوية، من دون أن يتعمق في صلبها. أما ماضي، فقد أشار عزام إلى استفادته في كتابه من (نظرية الأدب) لرينيه ويليك وأوستن وارين، وكذلك من (مقدمة في نظرية الأدب) لعبدالمنعم تليمة. ولاحظ عزام أن ماضي، في معالجته للبنيوية، قلب منهجيته في الفصول الأخرى، فبدأ بتعريف التحليل البنيوي، ثم ثنى بأصول البنيوية.
ربما كان على محمد عزام ألا يتوقف عند عام 1990 في متابعته للمستوى التنظيري العربي، وهو الذي جاء كتابه عام 2003. فلعل سمات أخرى كانت ستنجلي لهذا المستوى في الجهود التالية، وبالتالي، لعل الأمر لا يبدو بمثل الصورة المرتبكة أو القاتمة التي بدا عليها هذا المستوى، ولا يبقى السؤال عن مؤشر التطور والإضافة، سلبا أو إيجابا، بلا جواب.
ü ü ü
في المستوى التطبيقي العربي، أو في التحليل البنيوي الشكلي على يد النقاد العرب، فرق محمد عزام بين ما تعلق منه بالشعر، وما تعلق بالسرد.
هكذا كانت البداية مع كمال أبو ديب في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في الشعر - 1979)، حيث خلا العرض المطوَّل للكتاب إلا من ملاحظة وحيدة تنفي أن يكون لمذهب أبو ديب في الصورة الشعرية من البنيوية شيء، لأن المنهج البنيوي لا يعنى بالصورة، بل بالبنيات وبعلاقاتها مع بعضها(7). لكن عزام سيتوسع في نقده لكتاب خالد سعيد (حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث - 1979) ليذهب إلى أن الناقدة في دراستها لقصيدتي أدونيس (هذا هو اسمي) وبدر شاكر السياب (النهر والموت) على ضوء المنهج البنيوي، حاولت أن تجمع بين المنهج البنيوي الشكلي والدلالية (السيميائية)، بينما لا يقول المنهج البنيوي الشكلي بدلالة أو مضمون، وهنا تأخذ اعتراضات عزام صيغة التساؤل: أليس الجمع في محاولة الناقدة (خروجا) على المنهج البنيوي الشكلي؟ وإن لم يكن خروجا، فهل يمكن اعتباره اجتهادا في المنهج؟ أم هو عدم فهم لمقولات المنهج؟ لكن عزام سيعجل بالإجابة، فمحاولة الناقدة (التوفيقية) تدل على عدم استيعاب مقولات النقد البنيوي، ومن ذلك أنها حكمت منذ البداية على قصيدة أدونيس حكم قيمة، على الرغم من أن المنهج البنيوي لا يأخذ بحكم القيمة، بل يكتفي بالوصف وحده. وهكذا فقد اضطربت الناقدة في تحقيق ممارسة نقدية في ضوء المنهج البنيوي، حيث اعتمدت بعض مقولات المنهج ونبذت الباقي. وقد علل عزام (توفيقية) الناقدة بالتلقي المبكر للمنهج المعني، حيث لم تكن مقولاته قد توضحت تماما، كما لم تكن الترجمات شاملة لجميع أبعاده. ولئن كان عزام لا يأخذ في الاعتبار هنا أن من النقاد من ليس بحاجة للترجمات، ولا ينتظرها، فهو سيكرر آراءه السابقة بصدد آخرين، بعد خالدة سعيد (.
بالوصول إلى عبدالكريم حسن يرى عزام أن الناقد يحاول أن يجمع في كتابه - رسالته الجامعية - مآخذ أساتذته، ويعدد منها قول أندريه ميكيل: )مغامرة مآلها الإخفاق( وقول غريماس: )قراءتها مخيبة للآمال( وقول كوهين باستحالة محاولة حسن المصالحة بين التزمّن والتزامن، وغموض مفهوم البنية لديه )فهذه البنيوية ليست بنيوية غريماس، وإما هي بنيوية عبدالكريم حسن(. وقد أضاف عزام إلى ذلك أن حسن خلط في منهجه النقدي بين (الموضوعية) و(الموضوعاتية)، وكان عليه أن يسمى منهجه (موضوعاتيا) لا (موضوعيا)، لأنه اعتمد المنهج (الجذري) أو (الثيمي) لجان بيير ريتشارد.
بمثل هذه المنافحة الحارة يتابع عزام مع عبدالله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير - 1985). فقد رأى في تعريف الغذامي للبنيوية والسيميائية والتشريحية، دفعة واحدة، تسويغا لمنهج جامع لها، أو )لعله لم يميز بينها كمناهج نقدية مستقلة بعضها عن بعض، في ذلك الوقت المبكر من مثاقفته، وتلقيه لها، حيث كانت الحدود بينها غائمة(. لكن الغذامي في القسم الثاني التطبيقي من كتابه وظف المفهومات النظرية للمنهجين البنيوي والتشريحي (التفكيكي) في تحليل الشاعر السعودي حمزة شحاتة، حيث لم تكن التشريحية التي تغياها الغذامي تشريحية دريدا، ولا تشريحية بارت، كما يلاحظ عزام، مسجلا حيرة الغذامي في تعريب deconstruction بين التحليلية، والنقيضة، والتفكيكية، ثم إيثاره للتشريحية، وهذا شأن حيرته التي صرح بها في تبني مصطلح للسيمولوجيا بعد ما رأى اضطراب المصطلح عند المترجمين العرب.
يمكن القول إن نقد محمد عزام لنقود عبدالله الغذامي، ومن قبله: كمال أبو ديب، خالدة سعيد، عبدالكريم حسن، ومن بعده: محمد مفتاح وعبدالمالك مرتاض، يتمحور حول ما يسميه بـ (المنهج التلفيقي)، الذي يترادف في قول عزام بالتلفيقية وبالتوفقية. فالغذامي لم يتقيد بمنهج واحد، بل حاول أن يأخذ ما يناسبه من المناهج الثلاثة التي عرض لها، وأن يدع ما لا يناسبه. وبالتالي، فكتاب (الخطيئة والتكفير) بدأ يفقد بريقه بعد عقدين من عمره، بسبب الدراسات التي عُرِّبَتْ وكُتِبتْ فتجاوزته، فضلا عن أن المناهج الثلاثة التي استقاها كانت غائمة عنده لأنها كانت في بداياتها، وهذا ما يجعل (تلفيقية) الغذامي في حينها، مرفوضة من بعد.
أما محمد مفتاح في كتابه (تحليل الخطاب الشعري 1985) فقد اعتذر عن جمع أكثر من منهج. وهذا ما لا يسوغه، بحسب محمد عزام، سوى ضعف الإحاطة بمفاهيم المنهج الواحد ومقولاته، والرغبة في التوفيق بين أكثر من منهج، إن لم يكن التلفيق. فالسمة الغالبة على منهج مفتاح هي التوفيق بين ثلاثة مناهج على الأقل )وغالبا ما يخرج على مقولاتها ليعود إلى التراث البلاغي العربي، فيشبعه وخزا أو استنباطا، ثم يميل إلى التقعيد المنطقي والتبسيطي. وقد سجل عزام بحق أن مفتاح، في القسم الثاني التطبيقي من كتابه، استبعد من التناص الأدب المقارن والمثاقفة والسرقات الشعرية - وهي لدى عزام تدخل في باب التناص - ثم عاد فأدخل ما استبعده.
مع عبدالمالك مرتاض يجنح محمد عزام نحو الشخصي، وهذا ما يتلامح أحيانا في كتابه بصدد آخرين، سلبا أو إيجابا، فبحسب عزام، يغري مرتاض القارئ بعناوين كتبه التي تخيب أمل القارئ، لأنه لا يجد فيها ما كان يؤمله من نقد حداثي منهجي، إضافة إلى أن معظم كتبه يحمل عناوين فرعية تجمع بين منهجين نقديين، هما على الأغلب السيميائي والتفكيكي. وفي كتابه (بنية الخطاب الشعري - 1986) خالف المضمون العنوان، بل هو بعيد حتى عن (التوفيق والتلفيق) بين منهجين أو أكثر، فالكتاب - وهو معالجة لقصيدة لعبدالعزيز المقالح - شغل عناصر فنية من النقد التقليدي، لا الحداثي.
على عجل يذكّر بما كان مع صدوق نور الدين وعبدالفتاح كيليطو، يعبر محمد عزام بكتاب يمنى العيد (في القول الشعري - 1987)، فلا يرى في قسمه التطبيقي غير انطباعات شخصية سريعة، لم تنس فيها أن تطعم نظراتها الذاتية بمفاهيم سوسيرية وبانطباعات بلاغية، وعلة ذلك أن الناقدة، عندما ظهرت البنيوية، رغبت في تطعيم منهجها الاجتماعي بالمنهج البنيوي، فلم يثمر التطعيم منهجا بنيويا تكوينيا، بل انفصالا حادا بين المنهجين، وبين النظرية والتطبيق. على أن وقفة عزام ستطول مع الإنجاز النقدي التالي للناقدة، عندما ينتقل إلى تطبيق العربي للمنهج البنيوي التكويني.
يختم عزام قوله في المستوى التطبيقي العربي للمنهج البنيوي الشكلي بالنظر في كتاب حسن البنا عز الدين (الكلمات والأشياء: التحليل البنيوي لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي 1989)، فيأخذ على الناقد أنه لم يحلل قصيدة أو مطلعا طلليا تحليليا بنيويا، واكتفى بعرض آراء المستشرقين والنقاد المعاصرين للشعر الجاهلي وقضاياه، وإذ ناقش بعضها لم يشر إلى المنهج البنيوي الذي ادعى تبنيه. وإذ يصحح عزام مغالطة القول بقصيدة الأطلال، فالصحيح هو المقدمة الطللية، يرى أن الناقد قد جاء بالعنوان الفرعي لكتابه كطعم للقارئ بسبب شيوع البنيوية، بينما كان عنوان الكتاب في طبعته الأولى (الكلمات والأشياء: بحث في التقاليد الفنية للقصيدة العربية 1988)!
بعد ثمانية من نقاد الشعر في المستوى التطبيقي العربي للمنهج البنيوي الشكلي، ينقد محمد عزام نقد أربعة من نقاد السرد، من دون أن يشير إلى سبب لذلك: هل هو في محدودية عدد نقاد السرد؟ هل هو في استئثار نقد الشعر بالنقاد؟ كما لم يشر عزام إلى سبب وقوفه في نقد السرد عند عام 1990، كما فعل نقد الشعر، ومع المستوى التنظيري العربي للمنهج البنيوي الشكلي، مما يعيد السؤال عما فوّت ناقد نقد النقد على نفسه، وبالتالي على النقد ونقده.
أما نقاد السرد الأربعة فهم على التوالي:
1- موريس أبو ناضر في كتابه (الألسنية والنقد الأدبي - 1979). وقد رأى عزام أن هذا الناقد تفادى مسألة الشكل والمضمون في كتابه لأنها (محلولة) في النقد البنيوي، ليعوضها بمصطلحات بنيوية اقتبسها من جماعة (مو Mu) معتمدا على عوامل غريماس في دراسة الأشخاص والعوامل، ومفيدا من الشكليين ومن يقاربهم. كما أسقط أبو ناضر قراءة المستويات المتعددة للمدونة التي عمل عليها، مكتفيا بمستوى واحد على ضوء مقياس واحد هو (الوظيفة). وفي تحليل أبو ناضر لألف ليلة وليلة من مدونته، لم يرفض من سبقوه واعتمدوا تاريخية النص، كما لم يقبل تحديد ماهيته، وإنما اختار موقفا وسطا لا يتخلى عن علاقة النص بعالمه وتاريخه، ولا يفصله عن الأفكار السابقة التي حددت بيئته وذاته الظاهرية والباطنية، وعلى الرغم من ذلك ينتهي عزام إلى أن كتاب أبو ناضر تطبيق سليم للمقولات البنيوية المعروفة، وإن كان قد أخذ عليه عدم ضبطه لمصطلحات بروب، وتحريفه لمصطلحات جماعة مو Mu. وقد عاد عزام إلى كتاب أبو ناضر فيما ساق في نهاية كتابه في كتاب حميد لحميداني (النص السردي من منظور النقد الأدبي - 1991)، حيث تتقاطع ملاحظات الرجلين على كتاب أبو ناضر - هل تقفى اللاحق من سبقه؟ - ثم كرر عزام ما سبق وما سيلي بصدد نقاد آخرين، أن استفادة أبو ناضر من النقد الغربي المعاصر (مشروعة)، بل ضرورية ومطلوبة لتحديث نقدنا في تلك المرحلة المبكرة من استقبالنا للمناهج الحديثة (1979).
2 - سيزا قاسم في كتابها (بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ - 1984)، وهو في الأصل رسالتها الجامعية. وقد ذهب عزام إلى أن محاولة قاسم كمحاولة أبو ناضر، تأتيان في عمق المنهج البنيوي الشكلي، على الرغم مما سبق له مع كتاب أبي ناضر، ومما تلاه من أن سيزا قاسم صنفت تنظيرات المنهج البنيوي في تقنيات السرد الروائي، لكنها لم تحلل المدونة (ثلاثية نجيب محفوظ)، بل اكتفت بإيراد أمثلة منها، فكان لها فضل (الريادة) في استقدام مصطلحات السرد البنيوي في مرحلتها، وتجاوز المصطلحات التقليدية. وربما كان ولع عزام بـ (الريادة) هو ما جعله لم يعلق على تعليل سيزا قاسم لاختيارها ثلاثية نجيب محفوظ باعتبارها )من أفضل الأعمال الروائية التي كتبت في أدبنا الحديث وأكملها بناء). أما لماذا كانت كذلك، فهو ما تجاهلته الناقدة وناقدها(.
3 - سعيد يقطين في كتابيه (تحليل الخطاب الروائي - 1989) و(انفتاح الخطاب الروائي - 1989)، اللذين ليسا غير كتاب بجزأين كما يرجح عزام الذي يعرضهما بإسهاب، هو مثل عرضهما للجديد النقدي الحداثي الذي سبق أن توارد فيما خص به عزام في بداية كتابه المستوى النظري الغربي للمنهج البنيوي الشكلي، كما توارد في عروض عزام المسهبة لبعض الكتب النقدية مما سبق أن رأينا. ومثل هذا التكرار سيظل يطبع كتاب عزام إلى منتهاه.
لقد ثمّن عزام محاولة يقطين تجاوز حدود تحليل زمن الخطاب من خلال السرديات البنيوية إلى معالجة سوسيولوجية للنص، يتحدث فيها عن زمن النص من خلال العلاقة بين زمن الكتابة وزمن القراءة بوضعها في إطار بنية سوسيو - لغوية شاملة. ويبدو أن إعجاب ناقد النقد بالنقد هو ما جعله يرى الكتاب المعني )بجزأيه أكمل وأحدث عرض لمكونات الخطاب الروائي المعاصر، وهو جهد ضخم، واطلاع واسع على السرديات الغربية، يشكر الباحث عليه(. فهل يكون ذلك ما أسكت عزام عما قد يكون في محاولة يقطين من خروج على (نقاء) المنهج البنيوي الشكلي أو اجتهاد فيه، على العكس مما كان لعزام مع آخرين كما رأينا؟.
4 - حسن بحراوي في كتابه (بنية الشكل الروائي - 1990):
ينوّه عزام بقراءة الناقد لمدونة كتابه، التي ابتغت الانتقال بالمعرفة النظرية إلى أفق التحليل البنيوي الشكلي، بوصفها أسلوبا في العمل، ومنهجا لبناء النماذج والتصورات، وليس كمعتقد أو دوغما. كما ينوه عزام بحرص بحراوي على تلافي أحكام القيمة، وبنائه لمقاربته الفضاء في الرواية المغربية على مفهوم (التقاطب) الذي أدرجته الشعرية في بنائها النظري. لكن عزام يأخذ على هذا البحث الذي يعده معمقا، أن صاحبه آثر السلامة، بإغفالة التصوير الروائي لشخصية المناضل السياسي في العهد الوطني، واكتفائه بالبغي من تعدد صور شخصية المرأة. ولا يبدو عزام في ذلك مقنعا، كما لم يبد بحراوي نفسه مقنعا بانشغاله بإحصاء أسماء الشخصيات في مدونته الروائية.
ü ü ü
مقابل ثمانية نقاد في المستوى التنظيري العربي للمنهج البنيوي الشكلي، يكتفي عزام باثنين للمستوى التنظيري العربي للمنهج البنيوي التكويني، هما جمال شحيد ومحمد ساري. وإذا كان عزام قد نوه بأن كتاب جمال شحيد (البنيوية التركيبية: دراسة في منهج لوسيان غولدمان - 1982) هو أول تنظير عربي لذلك المنهج، فهو لم يكلف نفسه عناء بيان استحقاق الكتاب لدعوى التنظير، فالأولى أن يقال إن الكتاب أول عرض عربي للمستوى النظري الغربي للبنيوية التكوينية (التركيبية)، ذلك أن كتاب جمال شحيد لم يزد على عرض المنهج في قسم، وعرض تطبيقاته الغربية في قسم، وعرض مختارات للوسيان غولدمان في قسم. ولعل هذا الاعتراض على وصف عزام لكتاب شحيّد يصح أيضا على أغلب الكتب السابقة واللاحقة التي عرضها عزام للنقاد العرب، ووصفها بأنها تنظيرية. وفي هذا ما يشير إلى تواضع الجهد النظري والتنظيري للنقد العربي حتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين، حيث تتوقف متابعة محمد عزام. فهذا محمد ساري يقسم كتابه (البحث عن النقد الأدبي الجديد 1984) إلى قسم (نظري) يعرض اللوكاشية والغولدمانية، وقسم تطبيقي فيه من نقد النقد من دون أن يشير عزام إلى ذلك - أعني نقد ساري المساهمة النقدية لمحمد مصايف - وفيه نقد لقصص، يصفه عزام بالمعالجة التقليدية التي تكتفي بتلخيص المضمون، وليس فيه من البنيوية التكوينية شيء. ويقدر عزام أن نقد القصص قد يكون مقاربات كتبها محمد ساري )قبل ان يهتم بالمنهج البنيوي الذي نظر له جيدا(. فأين هذا (التنظير الجيد)؟ وهل المنهج البنيوي هو عينه المنهج البنيوي التكويني؟
بعدما سبق لعزام مع كتب يمنى العيد وعبدالفتاح كيليطو وصدوق نور الدين من مثل هذا العبور السريع والافتقار إلى التدقيق مما تلا مع كتابي جمال شحيد ومحمد ساري، يصل عزام إلى المستوى التطبيقي العربي للمنهج البنيوي التكويني، حيث يقع الاختيار على خمسة نقاد هم: الطاهر لبيب ومحمد بنيس ونجيب العوفي ويمنى العيد وحميد لحميداني. وإذا كان عزام سيعود مع هؤلاء إلى ما كان له من وقفة متأنية ومدققة مع آخرين، فهو سيخرج على عهده بالاكتفاء بكتاب واحد للناقد، كما سيتبدى له وجه منافح جديد ربما وسمه بعضهم بالمحافظة، وذلك في نقده لكتاب الطاهر لبيب (سوسيولوجية الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا - 1981) حيث ألح على ما قدر من اضطراب الناقد في حديثه عن اللغة العربية والجنس، واعتماده على أقوال بعض المستشرقين المناوئين للإسلام مثل بوسكي في كتابه (الأخلاق الجنسية في الإسلام) وسنوك هور غرونجه الذي كان يرى أن ليس من قانون في الإسلام، أو تور أندريه الذي كان يرى أن ليس من عبادة في الإسلام. وباعتماد الطاهر لبيب على أولاء، وقع في مغالطات تاريخية، فرأى أن قصة يوسف الحقيقية التاريخية - كما يشدد عزام - هي أسطورة. ويرصد عزام ما يعده مواطن الضعف والخطأ في كتاب الطاهر لبيب، على هذا النحو:
) قول لبيب بإنتاج الحرمان الاقتصادي للحرمان الجنسي، مما يرفضه علماء التحليل النفسي.
) مجابهة لبيب لاستحالة وصال الحبيبة لدى العذريين باستحالة الزواج، فكان أن اكتفى الشاعر العذري بمداعبات النصف الأعلى من جسد المرأة، فأين هي العفة إذن - يتساءل عزام - التي ينكرها لبيب، على الرغم من تواتر الأخبار والأشعار المؤكدة لها؟
) يعد عزام تفسير لبيب للعذرية بالشروط الاجتماعية الاقتصادية إنكارا لأثر التعاليم الإسلامية في العذريين.
) أغفل لبيب المصادر العربية القديمة والحديثة التي جمعت أخبار العذريين وأشعارهم، التي عالجت ظاهرة الشعر العذري، واكتفى بالمصادر الفرنسية، فكان في بحثه نقص كبير. لكن عزام يفتقد هنا الدقة. فقد اعتمد لبيب على المصادر العربية القديمة، أما ما عده مصادر عربية حديثة، ومصادر فرنسية، فهي مراجع وحسب.
بعد كتاب الطاهر لبيب، جاء سابقه (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية - 1979) لمحمد بنيس، والعهد بعزام أن يراعي تسلسل تاريخ صدور النقود التي ينقدها. ويبدو أن ما استوقفه في كتاب بنيس هو فقط أسئلة الأخير التي تتصادى بقوة مع أسئلة ناقد النقد، ومنها السؤال عما إن كان ممكنا )تطبيق منهج نقدي حضاري توافرت له الدراسات الألسنية والاجتماعية في بلد المنشأ، على شعرنا المنتج في واقع متخلف لم تكد هذه الدراسات تبدأ فيه؟(. وكذلك هو السؤال عن ضرورة تطبيق المنهج حرفيا على شعرنا، أم أن هنالك هامشا من (الحرية) يمكن أن يناور الباحث فيه تحت اسم (التطوير) أو (الاجتهاد)؟
سوى ذلك ما كان لكتاب بنيس غير العرض، بخلاف ما تلاه مع كتابي نجيب العوفي (درجة الوعي في الكتابة - 1980) و(مقاربة الواقع في القصة المغربية - 1987).
بصدد الكتاب الأول، ذهب عزام إلى أن العوفي اعتمد (المنهج الجدلي الواقعي)، لكنه لم يخلص له بسبب مزاحمة المنهج البنيوي للمناهج التي كانت سائدة، واعتبار الناقد الذي لا يأخذ بالمناهج الحديثة متخلفا. لذلك حاول العوفي - بتقدير عزام - المزاوجة بين (المنهج الجدلي) والمنهج البنيوي، مقتربا من المنهج البنيوي التكويني. والأمر نفسه كان في الكتاب الثاني للعوفي الذي ظل مخلصا لمنهجه الواقعي بعدما تجاوزه العصر والنقاد، لكنه - بقراءة عزام - أخذ بالمعطيات المتعلقة بنظرية السرد، مما يقدمه التحليل البنيوي. وبهذه المزاوجة اقترب من البنيوية التكوينية، لكأنه انتقل من (المنهج الواقعي الجدلي) إلى البنيوية التكوينية، لكن على طريقته، مما جعله يمسك العصا من وسطها، فلا يوغل في الحداثة النقدية، رغبة في كسب الجيل التقليدي، ولا يتخلف عن ركب الجديد خوفا من أن يقال عنه إنه )متجاوز(. وهكذا صار ناقد النقد عليما بما بطن، وليس فقط بما ظهر! لكنه سيخفف من ذلك في نقده لكتب يمنى العيد الثلاثة: (في معرفة النص - 1983) و(الراوي: الموقع والشكل: بحث في السرد الروائي - 1986) و(تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي - 1990).
عرضت يمنى العيد في القسم النظري - عزام يؤثر: التنظيري - من كتابها الأول منهجيها الأثيرين: الواقعية والبنيوية التكوينية. ويبدو أن ما سماه عزام لدى نجيب العوفي بـ (المنهج الجدلي الواقعي) أو (المنهج الجدلي) أو المنهج الواقعي الجدلي) هو ما يسميه لدى يمنى العيد بـ (المنهج الاجتماعي)، بكل ما تعنيه تسمية كهذه من قلقلة اصطلاحية و/أو استخفاف لدى ناقد النقد الذي يتابع أن يمنى العيد لم تنس في كتابها الأول (المنهج الاجتماعي) الذي اعتمدته في مطلع حياتها النقدية، وتراه جديرا بالزواج مع البنيوية التي عزلت النص. ويرصد عزام ما يعده مثالب كتاب (في معرفة النص) على هذا النحو.
في دراستها لقصيدة سعدي يوسف (تحت جدارية فائق حسن) في القسم التطبيقي من كتابها، تجاهلت لغة القصيدة، ولم تكشف بنياتها )ولم تفسرها على ضوء المنهج البنيوي التكويني (أو المنهج الاجتماعي الماركسي البنيوي على حدّ زعمها) ونسيت جميع تنظيراتها في القسم الأول من كتابها(.
ü لكنها عوضت عن هذا التقصير بتحليل مفصل لرواية غالب علسا (السؤال). ولست أدري عن أي تعويض يتحدث عزام، ما دام يقول )لكن التنظير الذي بدأت به تحليلها للرواية ظل وعدا، فاكتفت بتلخيص أحداث الرواية وشخصياتها. وهذا ليس من التحليل البنيوي بشيء، إضافة إلى أنها أهملت أيضا تحليل (المرجع) الذي أنبت الرواية، وهي مهمة النقد البنيوي التكويني(. ويتابع عزام في نقد الناقدة لرواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) أنها وضعت مخططا لهيكل الرواية في سطرين، بعدما لخصتها، وهذا لا يكفي وحده )كدليل على تطبيق المنهج البنيوي(، بل كان عليها أن تملأ المخطط بأمثلة من الرواية. لكن ألم يكن على ناقد النقد أن يتحرى ما إن كان الحديث يتعلق بالمنهج البنيوي أم بالمنهج البنيوي التكويني؟
من كل ما تقدم يخلص عزام إلى أن كتاب العيد شكا من الانفصال بين التنظير المنهجي والتطبيق العملي. كما شكل من أن التنظير فيه يعاني قصورا. إذ كانت الناقدة تقفز بين المنهجين الاجتماعي والبنيوي، وتحاول أحيانا الجمع بينهما على الطريقة الغولدمانية، ثم يقول: )ولعلها في كتبها التالية أكثر التزاما بالمنهجية، بعدما توضحت معالم البنيوية أكثر(.
مرة أخرى يفترض ناقد النقد أن النقد العربي الحداثي كان لا يزال ينتظر وضوح البنيوية عربيا حتى عام 1984، لكأنه ليس من ناقد يتقن لغة المصادر والمراجع البنيوية، أو لم يدرس في مواطنها، وهذا مهما يكن فيه من الحق، فإن تعميمه ظالم ومتعالٍ، أو جاهل. أما ما انتهى إليه عزام من الوعد المرتجى في كتب يمنى العيد التالية، فقد كذبه ناقد النقد، إذ أخذ على كتابها الثاني (الراوي: الموقع والشكل: بحث في السرد الروائي):
ü أنه تخلى في تحليل مسرحية (أوديب ملكا) عن البنيوي من أجل الاجتماعي برفض الترابط المنطقي الذي يتحكم في البنية ويسقط الموقع الذي ينهض منه القول.
ü لم تعرض الناقدة ولم تناقش الظروف التاريخية الاجتماعية للأسطورة، كما تقتضي الخطوة الثانية في المنهج التكويني الذي تتبناه.
ü يشكو الكتاب الثاني، كما شكا الأول، من الانفصال بين التنظير والتطبيق، فضلا عن أن التطبيق فيه ليس غير نتف من المنهجين البنيويين الشكلي والتكويني.
وليس حظ الكتاب الثالث بأوفى (تقنيات السرد في ضوء المنهج البنيوي). فناقد النقد يصنف الكتاب كمعرض انتقائي لعدد من نظريات السرد الغربية المعاصرة، إذ استوحى لوحة تودوروف للحوافز وأنواع الرواية، ولوحة غريماس للعوامل، ومقولات جينيت في الصياغة والتواتر وأنواع الرواية، وباختين في أنماط القص. والخلاصة أن الناقدة أرادت أن تكون بنيوية، فكانت (بنيوية شكلية) متخلية بذلك عن (بنيويتها التكوينية)، وهكذا راوحت في كتبها النقدية الثلاثة بين المنهج الاجتماعي والبنيوية التكوينية، فالبنيوية الشكلية، مؤكدة عدم استقرارها على منهج واحد، تجده جديرا بتحليل النص الأدبي). فهل هذه سبة أم مدحة؟
بذا يصل محمد عزام إلى نهاية المطاف، وهي نقده لنقود حميد لحميداني في كتبه التالية: (من أجل تحليل سوسيوبنائي للرواية - 1984) و(الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي - 1985) و(النقد الروائي والأيديولوجيا - 1990) وأخيرا: (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي 1991).
تبنى حميد لحميداني منذ كتابه الأول المنهج البنيوي التكويني، إلا أنه لم يلتزم به، بل اكتفى بضفر الروايات ذات المضمون الواحد تجاه الواقع بعضها إلى بعض، بحسب ناقد النقد الذي عاد إلى ما كان له مع نجيب العوفي من العلم بالبواطن، حين رأى أن لحميداني اتخذ في كتابه الثاني (مصطلح) الانتقاد بدلا من (موقف) المعارضة التي تنتقد السلطة وليس المجتمع، فميَّع القضية حين حولها من معارضة الى انتقاد، ومن مواجهة السلطة إلى مواجهة المجتمع. وقد علل عزام ذلك بالحذر البالغ وبالتحفظ اللذين أراد ألا يدخل الناقد يده في النار، فآثر السلامة عن طريق ليّ عنق الحقيقة، محققا نصرا شخصيا له، وليس للحقيقة التاريخية! ويحكم عزام بأن لحميداني لم يكن بنيويا، بل كان تقليديا، لأنه لم يوظف مصطلحا واحدا من مصطلحات البنيوية أو مقولاتها، بل إنه ختم كتابه بفصل عن قضية الشكل الفني في الرواية المغربية، فصنفها وفق المنهج النقدي التقليدي، لا البنيوي. ولم يكن حظ الكتاب الثالث للحميداني مع ناقده بأفضل، إذ رآه في قسمه الأول عرضا بانوراميا لتطور المنهج الاجتماعي منذ بليخانوف. والعرض يقوم على مقتطفات من كل ناقد، من دون التعمق في موقف الناقد ورؤيته، غير أن عزام يجد شفيعا لحميداني هو تقديم صورة منهجية لأعلام المنهجية.
لم يشر عزام إلى أن الكتاب الثالث للحميداني هو في نقد النقد، ولم ير فيه غير تعويض عن تقصير الكتابين السابقين للتنظير للمنهج البنيوي التكويني. وبالتالي فقد كان لنقد عزام له أن يكون من المتن المثلث. لكن الرجل اكتفى بالملاحظة السابقة عبر عرض الكتاب الذي درس في القسم الثاني (النقد الروائي الاجتماعي العربي) ودرس في القسم الثالث أنموذجين هما كتابا محمد كامل الخطيب (المغامرة المعقدة - 1976) ومحمود شريف (أثر التطور الاجتماعي في الرواية المصرية - 1976).
انطوى القسم الثاني من كتاب لحميداني على تصنيف نقدي مهم للنقود الاجتماعية العربية في سبعينيات القرن الماضي، عبر ثلاثة أنماط:
ü النمط الأول: ذو طابع سياسي أيديولوجي مباشر، مثل كتاب الخطيب المذكور، ومثل كتابي أحمد محمد عطية (البطل الثوري في الرواية العربية - 1977) وشكري عزيز ماضي في (انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية - 1978).
ü النمط الثاني: ذو طابع اجتماعي يتخذ شكلا موضوعيا، ويتخلص من المنطلق الأيديولوجي المباشر، محتفظا بالرؤية المنهجية ذات الأصول المادية مثل كتاب شريف المذكور، ومثل كتابي السيد يسن (التحليل الاجتماعي للأدب - 1979) وأحمد إبراهيم الهواري (البطل المعاصر في الرواية المصرية - 1979).
ü النمط الثالث: الذي يتبنى مفهوم الرؤية، كما في كتب عبدالمحسن بدر (الروائي والأرض - 1971) وطه وادي (صورة المرأة في الرواية المعاصرة 1973) وإلياس خوري (تجربة البحث عن أفق - 1974) وقاسم عبده قاسم وأحمد إبراهيم الهواري (الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث - 1969) وسعيد علوش (الرواية والأيديولوجيا في المغرب العربي - 1981).
إزاء وفرة النماذج المعنية في هذا التصنيف، جاءت وقفات لحميداني معها تلخيصا عجولا، وهذا ما سيتكرر في كتابه الرابع (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي) في قسمه الثالث، وهو في نقد النقد أيضا، حيث عرض لحميداني لستة من النقاد العرب السرديين، ثلاثة منهم سبق أن رأينا عرض محمد عزام لكتبهم (موريس أبو ناضر - سعيد يقطين - سيزا قاسم)، والآخرون هم: نبيل راغب (قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ - 1967) ومحمود أمين العالم (تأملات في عالم نجيب محفوظ) ونبيلة إبراهيم (نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة - 1980).
قبل ذلك، وفي القسمين الأول (تحليل بنية الخطاب السردي) والثاني (مكونات الخطاب السردي) حاول لحميداني التعريف بمساهمات وإنجازات النقد الروائي الغربي، مما رأى عزام فيه، ومن بعد في القسم الثالث، تعويضا (آخر) عما قصّرت فيه كتبه السابقة. وقد أخذ عزام على لحميداني أنه في القسم الثالث من كتابه >وضع كل البيض في سلة واحدة) إذ جمع النقاد التقليديين والحداثيين العرب معا، فظلم الجميع. كما انتصر عزام لسعيد يقطين فيما أخذه عليه لحميداني من عدم توظيفه في نقد الرواية مصطلح الانزياح في الشعر، وكذلك في إغفال لحميداني لأهمية كتاب يقطين المعني (القراءة والتجربة - 1985) في التطبيق العملي للمنهج البنيوي في حقل السرديات، فلعل زامر الحي عند لحميداني لا يطرب، كما ختم عزام مجلجلا أن الكتاب الرابع للحميداني هو من أفضل ما كتب في ميدان التنظير الروائي!
ü ü ü
يرى محمد عزام أن الناقد الحداثي حين ينقد نصا، فإنه يعيد كتابته بطريقة أخرى. وبمعزل عما يمكن للمرء من مماحكة هذا الرأي، فإن عزام بالغ في الأخذ به في نقده للنقد. ومن هنا طغا في كتابه التلخيص، كما طغا التكرار، كلما تعلق الأمر بأعلام ونصوص ومقولات ونظريات واتجاهات المستوى النظري الغربي للبنيوية الشكلية والتكوينية، سواء فيما خص به هذا المستوى، أو فيما خصّ به المستويين النظري والتطبيقي العربيين، حيث عمد كثيرون إلى مثل ما فعل عزام من المبالغة في تلخيص الأصل ا لغربي الواحد.
ولئن كنت قد أشرت إلى ذلك، وإلى سواه، على نحوٍ ما، فيما تقدم، فلعلني أنتهي أخيرا إلى ما يلي:
ü يذكر محمد عزام في خاتمة كتابه أنه تبنى المنهج البنيوي التكويني في البداية، مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وأن ذلك التبني كان لقرابة ذلك المنهج من المنهج الاجتماعي السائد، حيث أفاد الرجل من مفهوم رؤية العالم، وصنف على أساسه الرواية المغربية في كتابه (وعي العالم الروائي... دراسات في الرواية المغربية - 1990). ويذكر عزام أنه بعد تمكنه من المنهج البنيوي، وضع كتابه (فضاء النص الروائي: مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان - 1996). ولأن الأمر في هذا الكتاب يتعلق بما صدر من رواياتي حتى اكتمال رباعية (مدارات الشرق) عام 1993ـ، فسأدع نقد النقد لسواي، لأشير إلى أن مدونة محمد عزام النقدية كانت مهجوسة دائما بالمناهج النقدية الحديثة، وإن يكن خياره قد مال بقوة إلى البنيوية الشكلية، كما يجلو كتابه الأخير (تحليل الخطاب الأدبي...).
ü كان الكثير من النقود التي نقدها هذا الكتاب رسائل جامعية (سعيد يقطين - سيزا قاسم - محمد بنيس - حميد لحميداني - نجيب العوفي - عبدالكريم حسن - الطاهر لبيب...)، وبالتدقيق يبدو أن نصيب بلدان المغرب العربي من تلك الرسائل أكبر من نصيب بلدان المشرق. وإنما أذكر ذلك لأن محمد عزام كرر أن المنهج البنيوي - عربيا - قد بدأ في المغرب بسبب اطلاع مثقفيه على الثقافة الأوروبية وشيوع اللغة الفرنسية بينهم.
وعلى الرغم من أنني لا أجد في المماحكة في ذلك غير صخب يعتوره التعصب أو المباهاة، فقد يكون من المفيد أن أتابع توكيد محمد عزام أن رواد التنظير البنيوي العرب هم كمال أبو ديب وصلاح فضل ومحمد بنيس وعبدالله الغذامي، فإن صح ذلك، فليس بين أولاء غير مغربي واحد هو محمد بنيس. وبالعودة إلى مدونة عزام نفسه، سيظهر أن الريادة التي لا يفتأ ينوه بما كان منها في التأليف في البنيوية خلال سبعينيات القرن الماضي، قد توزعت بين ناقدين مغربيين وخمسة مشارقة. أما الريادة في الترجمة فقد كانت مشرقية. إلا أن المضي إلى منتصف العقد التالي (1985) يبين أن ثمانية مؤلفات تتعلق بالبنيوية - بشقيها - قد صدرت في بلدان المغرب ومثلها في بلدان المشرق، وهذا عدا ما قد يكون فات ناقد النقد أو تجاهله.
ü أما الأوْلى فهو إلحاح محمد عزام على ما سماه بالتوفيق أو التلفيق على يد النقاد العرب في التنظير وفي التطبيق، ليجزم أنه من المستحيل )خلط المناهج المتباينة للخروج بفرية منهج تكاملي((9). على أن عزام يقدم على من يأخذ بالمنهج التوفيقي (التكاملي) )ذلك الناقد الذي يحاول تأصيل المنهج الجديد وتوظيفه في نقدنا، وذلك عندما يبحث عن أصول له وجذور في تراثنا النقدي، ثم يحاول تطبيقه على نصوص عربية لإثبات فاعليته وجدواه(. ولعل لناقد عزام أن يتساءل: لِمَ إذن كانت حملتك على فؤاد أبو منصور. أما الإلماعة هنا إلى التأصيل في التراث النقدي، فستتلفع بالنزوع القومي العتيد عندما نصل إلى خاتمة كتاب عزام، وقوله إن من تلفقوا البنيوية من نقادنا، قد تجاوزوا مرحلة الأخذ
نبيل سليمان
وسم أحمد المديني نقد ستيفن نورد أبل لاند لنقد رولان بارت بـ (المتن المثلث). ومن المديني استعرت الوسم عنوانا لكتاب لي(1) حيث تذهب الإشارة إلى المتن الأول: النص الأدبي المنقود، فالمتن الثاني: نقد المتن الأول، فالمتن الثالث: نقد المتن الثاني، أي نقد النقد.
لكن لنقد النقد نقده أيضا - كما سيحاول هذا البحث أن يكون - فهل نقول بمتن رابع ينقد المتن الثالث، ونكون إذن أمام (المتن المربّع)؟ وماذا لو أن الأمر اطرد إلى أس أعلى فأعلى؟ أيكون الأولى أن يعاد تنضيد المتون - وهذا ما أخذت به هنا - فيكون نقد النص الأدبي هو المتن الأول، ونقده هو المتن الثاني، ونقد نقده هو المتن الثالث؟
ما هو أولى، أيّا يكن الاختيار، هو أن حضور المناهج الحديثة في المشهد النقدي العربي، قد اطرد منذ سبعينيات القرن العشرين، فيما أخذ نقد النقد يتلامح، ولكن بدرجة أدنى من الحاجة إليه بكثير (2). وقد ظلت بدرجة أكبر، الحاجة إلى (المتن المثلث) الذي ينقد نقد النقد. وهنا يقوم الدافع إلى هذا البحث، أما اختيار كتاب محمد عزام (تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحديثة: دراسة في نقد النقد) (3) ليكون مدار هذا البحث، فقد جاء لأن الكتاب - كما سنرى - يوفر فرصة ثمينة للنظر في المشهد النقدي العربي الحداثي - وأحيانا في نقده - خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وإن يكن الكتاب قد ركز همه على البنيوية وعلى البنيوية التكوينية.
ü ü ü
أصدر محمد عزام خلال حياته القصيرة (1940 - 2005) سبعة وعشرين كتابا في النقد الأدبي، كان آخرها (تحليل الخطاب الأدبي...). وقد كان للمناهج الحديثة النصيب الأوفى في إنتاج عزام، ومن ذلك كتبه: الأسلوبية منهجا نقديا 1989 - التحليل الألسني للأدب 1994 - النقد الأدبي والدلالة: نحو تحليل سيميائي للأدب 1996 - فضاء النص الروائي: مقاربة تكوينية في أدب نبيل سليمان 1996 - المنهج الموضوعي في النقد الأدبي 1999.
وعزام يفتتح كتابه (تحليل الخطاب الأدبي..) ويختتمه بالإشارة إلى ما أشاعه تدفق المناهج النقدية الحداثية من اضطراب منهجي، وإلى مجابهة تلك المناهج بداية بالعداء لأنها زعزعت الثوابت النقدية المطمئنة التي كنا نستند إليها، مما أصاب كثيرين بعسر هضم مفاهيم ومصطلحات تلك المناهج. لكن آخرين تمثلوها ودرسوا على غرارها. على أن عزام يذهب إلى أن النقد الروائي العربي المعاصر في الربع الأخير من القرن العشرين لا يخرج في منهجيته الحداثية عن منهجين هما: النقد البنيوي الشكلي، والنقد البنيوي التكويني. لذلك صنف النقود المنقودة بحسبهما في كتابه موضع البحث، ولئن كان هذا القول يستقيم في سبعينيات القرن العشرين، وبدرجة أدنى في ثمانينياته، فهو لا يستقيم من بعد، وفيما يفترض أنه زمن كتابة عزام لكتابه، قبل النشر، إذ تواتر من أخذ بالمنهج السيميائي - عزام نفسه أو سامي سويدان مثلا - والمنهج الأسطوري - ريتا عوض وحنا عبود مثلا - والملفوظية - قاسم مقداد والمويقن مصطفى مثلا - والتفكيكية - عبدالمالك مرتاض الذي يؤثر أن نقول: التقويضية، مثلا.
يتأخر إعلان محمد عزام منهجه في نقد النقد حتى قرابة منتصف كتابه المعني، حيث يعلن أنه آثر درس نقد كل ناقد على حدة، بالعرض وبالمناقشة ضمن العرض. كما يعلن أن اهتمامه انصب على منهجية كل ناقد، وعلى مدى تمثله للنقد الحداثي بعامة، وللمنهج البنيوي بفرعيه الشكلي والتكويني، بخاصة. وقد كان سؤال عزام هو: هل فهم أولاء النقاد المناهج الحداثية كما هي في بلدانها الأم؟ أم )اجتهدوا من أجل أن يتفوقوا على أساتذتهم الغربيين؟ وهل هذا (الاجتهاد) خصوصية؟ أم هو عجز وقصور عن متابعة مستجدات هذه المناهج التي تُبنى في بلدانها يوما بعد يوم؟(.
قد يكون من المفيد هنا أن يمضي القول إلى صنيع مُضاهٍ لصنيع محمد عزام، هو كتاب (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي) لحميد لحميداني(4) الذي يذهب إلى أن الاشتغال في نقد النقد لا يعفي من ضرورة تحصيل ناقد النقد لمعرفة يفترض القارئ دائما أنها ينبغي أن تكون أكثر من معرفة ناقد الإبداع. ولئن كان في هذا القول - فيما أرى - من الجزافية أن بلغ حد الادعاء باسم (القارئ)، فالناقد يمضي إلى أن الجانب التطبيقي في نقد النقد يطرح سؤال المنهج الذي على ناقد النقد أن يتبعه وهو يحلل أعمالا نقدية حول الإبداع. ولحميداني أن يقدر خطورة اختيار ناقد النقد لأحد مناهج نقد الإبداع لأن ذلك يجعل الدراسة (نقد نقد النقد أو المتن المثلث) منذ البداية مصادرة على المطلوب.
ها هنا أحسب الجزافية تتوالى، لأن المناهج المعنية تتعلق فقط بالنص المنقود وليس بنقده. وتتوالى الجزافية في إيثار الناقد لـ (الطابع الوصفي) لدراسته، فهل الطابع الوصفي منهج؟
ينوه حميد لحميداني بإفادته من بعض الدراسات المنجزة في نقد النقد - بينما - أغفل عزام ذلك(5) - وخاصة من جوهانا ناتالي، حيث لاحظ إهمالها )عنصرا مهما هو التقويم الجمالي الذي يتضمن أحكام القيمة(. ويتكئ الناقد على ذلك ليعلل تحول الناقد الذي يلتزم التحليل البنيوي، ودون وعي منه، إلى ممارسة نقد له خلفيات أخرى، وهذا ما كان من لحميداني في دراسته لمكونات الفضاء.
سبق كتاب لحميداني كتاب عزام باثني عشر عاما. بيد أن أسئلة المتن للنقد العربي الحداثي تبدو هي هي، في الفترة نفسها وقبلها وبعدها. فإذا كان لحميداني يتساءل: عن )مدى قدرة الناقد العربي على هضم وتمثل مناهج جديدة تولدت في سياق تطور البحث اللساني، والمنطقي والفلسفي؟) فعزام يتساءل (ما مدى تمثل النقاد العرب للنقد الحداثي بعامة؟(. ولسوف تختلف الصياغات، بالطبع، لكن الهجس هو هو، لذلك نكتفي بتساؤل لحميداني - مثلا - عما إن كانت المقاربة النقدية ذات الرؤية من الداخل في العالم العربي، تظهر خصوصياتها المميزة وهي تتعامل مع النص السردي العربي؟ ومثل ذلك تساؤله عن الأخطاء التي ينبغي تجاوزها في تلك الممارسة، أو تساؤله عن تمكن المقاربة البنائية(6) من تجاوز التعريف بالمنهج إلى تقديم معرفة جديدة بالنص الروائي العربي. وقد أرسل محمد عزام ما لعله إجابات عن تلك التساولات حين ذهب إلى أن النقاد العرب المعاصرين راوحوا في تحليل الشعر بين الالتزام بمبادئ البنيوية والخروج عليها، في محاولة توفيقية بين مناهج عديدة. وكذلك حين ذهب بجدة المنهج وعدم استساغته من قبل أصحاب الذوق التقليدي ومن مُؤْثري النقد الذي يعتمد على العلوم المساعدة.
ü ü ü
في مقدمة كتابه، أعلن محمد عزام مرامه: رَصْدُ تلقينا للمنهج البنيوي بتياريه الشكلي والتكويني، على مستوى التنظير الغربي، وعلى مستوى التنظير العربي، وعلى مستوى التطبيق العربي، ومن أجل ذلك خص الكتاب كل تيار - منهج بباب، وتوزع كل باب على ثلاثة فصول، لكل مستوى من المستويات المذكورة واحد منها.
في المستوى التنظيري الغربي للبنيوية الشكلية عرض عزام لمصادر البنيوية (الشكلانيون الروس، والنقد الجديد الأمريكي، والألسنية)، كما عرض لما عدَّه كتبا تأسيسية وأساسية في البنيوية، وهي: كتاب جان ماري أوزياس (البنيوية) وكتاب جان لوي كابانس (النقد الأدبي والعلوم الإنسانية) وكتاب روبرت شولز (البنيوية في الأدب) وكتاب إديث كيرزويل (عصر البنيوية من شتراوس إلى فوكو) وفصل من كتاب تيري إيغلتون (نظرية الأدب) خصصه للبنيوية والسيميائية، وإلى ذلك قدم عزام صورة إجمالية وخاطفة لمساهمات ريفاتير ولكتاب غارودي (البنيوية فلسفة موت الإنسان).
على نحو مقارب جاء المستوى التنظيري الغربي للبنيوية التكوينية، حيث عرض عزام لمساهمات لوكاش وجاك لينهارت وإيف تادييه وباختين وآن جيفرسون. أما النصيب الأوفى فكان للوسيان غولدمان. وفي سائر العروض بدا عزام يقدم ملخصا تاريخيا مدرسيا، مذكرا بما سبق لحميد لحميداني أن قام به في القسم التنظيري من كتابه (بنية النص السردي...) وقد حدد لحميداني غايته من ذلك بتقديم معرفة منتظمة بالجهود الغربية التي )ليس لها نظير في ثقافتنا النقدية(. ولاحظ لحميداني أن أغلب المقاربات البنائية العربية فيها مقدمات ومداخل تعكس كيفية تمثل النقاد للجهود السابقة، وهذا هو محرك كتاب عزام عينه، بل هو غالبا محرك المساهمة النظرية والتنظيرية العربية. ويبدو لحميداني كأنما يتعلل لكل من حذا حذوه، من قبل ومن بعد، وذلك في قوله: إن (الإسهاب) في تقديم الجهود النظرية (الغربية بالطبع) أملته ضرورة تمثل النظرية البنائية - وأضيف: غير البنائية - قبل الانتقال إلى دراسة الأعمال العربية التي وظفتها.
بيد أن محمد عزام أضاف المجادلة والمؤاخذة إلى التلخيص المدرسي التاريخي، عندما انتقل إلى المستوى التنظيري العربي. وهذا ما سيواليه عندما ينتقل إلى المستوى التطبيقي العربي، لكأنه يتابع خطى من سبقوه، ومنهم حميد لحميداني في كتابه المذكور.
في المستوى التنظيري ابتدأ عزام بكتاب زكريا ابراهيم (مشكلة البنية - 1976) فرآه يصلح كمقدمة عامة للمنهج البنيوي، وقال: )كتاب شمولي حاول فيه التعريف بالبنيوية، وبأعلامها في شتى الحقول العلمية، ولكن هذه الشمولية اضطرته إلى التبسيط، وأبعدته عن حقلين أساسيين هما: الأدب، والنقد الأدبي(. وقد خص عزام كتاب صلاح فضل (نظرية البنائية في النقد الأدبي 19777) بوقفة أطول ناهزت فيه (ملاحظاته) العرض. وأول ذلك كان ما عده تهافت تعليل فضل لقوله بالبنائية، لا بالبنيوية، متعللا بتجريح النسيج الصوتي في (البنيوية)، وهو تعليل نافل حقا.
يسجل عزام أن فضل تناسى في تكوين البنيوية مدرسة النقد الجديد في أمريكا وبريطانيا، وأن معالجته لمصادر البنيوية تشكو من قصور واضح، إذ خلطت بين المصادر والمنجزات، ويضرب عزام مثلا باعتبار فضل لشومسكي مصدرا من مصادر البنيوية، فيما هو ليس كذلك. وبحسب عزام فإن أهم ما في كتاب فضل هو قسمه الثاني المخصص للنقد الأدبي البنيوي. لكن ذلك لم ينجه من المؤاخذات، ومنها:
1 - أنه على الرغم من الإحاطة التي حققها الكتاب، ظلت حاجته إلى التعمق الكبير، وبخاصة في اتجاهات النقد البنيوي التي أغفلها (النقد البنيوي الشكلي، والتكويني، والسيميائي).
2 - وبالتالي، ظلت معالجة فضل مشتتة وناقصة )إذ جاء بجذاذات من التحليل البنيوي ودمج بها لغة الشعر وتشريح القصة(.
3 - استعان فضل بمقولات ريتشاردز وفراي وغيرهما ممن لا علاقة لهم بالبنيوية، وإن كانوا قد بشروا بالشكلانية.
4 - ناقش فضل مضمون العمل الأدبي، على الرغم من أن المنهج البنيوي لا يلتفت البتة إلى المضمون.
5 - غالط فضل نفسه عندما رأى أن هدف التحليل البنيوي هو اكتشاف تعدد معاني الآثار الأدبية. فالمعنى كان هدف نقاد المرحلة السابقة، وليس مرحلة النقد البنيوي الذي أدار ظهره للمعاني كليا من أجل إعطاء البنيات والعلامات حقها المهضوم.
6 - عندما تحدث فضل عن المحاولات التطبيقية البنيوية في النقد العربي، اكتفى بثماني صفحات مما يربو على خمسمائة )وحتى هذه الصفحات الثماني جاءت مغلوطة، إذ مثّل لها بنازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)(. ونازك الملائكة لم تهتم بالبنيوية، بل بهيكل القصيدة، مقابل مضمونها. فلعل فضل انساق مع بعض من يعنون بـ (الهيكلية) المنهج البنيوي. لقد أصاب فضل في إشارته إلى كتاب الطاهر لبيب (سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا) وإلى كتاب حسين الواد (البنية القصصية في رسالة الغفران)، إلا أنه لم يف الدراستين حقهما من الشرح والتفصيل والتقييم، بل مر عليهما سريعا. وباختصار، فقد كان على فضل أن يعنى بالدراسات العربية البنيوية، على الرغم من أن كتابه جاء في مرحلة مبكرة لاستقبالنا البنيوية.
وينتهي عزام إلى أن كتاب فضل، على الرغم من السلبيات والنواقص، يظل أفضل مرجع في مرحلته عن النقد البنيوي.
باهتمام أدنى بكثير عرض محمد عزام لمن تلوا في كتابه، فعبد الفتاح كليطو في كتابه (الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي) قدم ملاحظات مهمة لو أنها تعدت مجرد الإشارة إلى التفصيل والتمثيل. وصدوق نور الدين في كتابه (حدود النص الأدبي: دراسة في التنظير والإبداع) اقترح المنهج التوفيقي، لكنه لم يطبقه، واكتفى بالأدب المغربي المعاصر. وعُني بالسرد مقابل مقاطع من قصائد التي طبق عليها المنهج البنيوي، لكن من دون أن يخرج بوصف لبنية القصيدة ولا لعلاقات وحداتها.
أما كتاب فؤاد أبو منصور (النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوروبا - 1985) فهو (خلطة عجيبة) أدخلت إلى البنيوية كثيرا مما ليس منها، كالموضوعاتية والتحليل النفسي الجذري. والكتاب عام، يفيد القارئ، إلا أنه دون منهج واضح، فمعلوماته مجرد انطباعات شخصية حول الموضوع الذي يعالجه، وهو يفتقر إلى (التأني والتعمق واللغة النقدية المحددة، بالإضافة إلى افتقاده المنهجية والتصنيف(. وقد كان الاضطراب في القسم الثاني من الكتاب، والمخصص للنقد البنيوي العربي، أكبر وأخطر، إذ جاءت فيه أمثلة بعيدة عن موضوعه، وإذا بمي زيادة وعمر فاخوري وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأحمد فارس الشديان ورئيف خوري... بنيويون. ولعله كان على عزام أن يبحث في صنيع أبومنصور عن عقدة تجذير كل أمر في الماضي (التراث) القريب أو البعيد.
ويبقى شكري عزيز ماضي في كتابه (في نظرية الأدب - 1986) وسعيد الغانمي في فصل البنيوية الذي كتبه، وجاء في كتاب (معرفة الآخر: مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة - 1990) الذي اشترك فيه مع الغانمي عبدالله إبراهيم في فصل عن التفكيكية، وعواد علي في فصل عن السيميائية. وقد اشترك فيه مع الغانمي عبدالله إبراهيم في فصل عن التفكيكية، وعواد علي في فصل عن السيميائية. وقد خالف عزام الغانمي في وصفه لإنجاز مجلة (شعر) بالبنيوي، ورأى أن الغانمي حصر همه في جذور البنيوية، من دون أن يتعمق في صلبها. أما ماضي، فقد أشار عزام إلى استفادته في كتابه من (نظرية الأدب) لرينيه ويليك وأوستن وارين، وكذلك من (مقدمة في نظرية الأدب) لعبدالمنعم تليمة. ولاحظ عزام أن ماضي، في معالجته للبنيوية، قلب منهجيته في الفصول الأخرى، فبدأ بتعريف التحليل البنيوي، ثم ثنى بأصول البنيوية.
ربما كان على محمد عزام ألا يتوقف عند عام 1990 في متابعته للمستوى التنظيري العربي، وهو الذي جاء كتابه عام 2003. فلعل سمات أخرى كانت ستنجلي لهذا المستوى في الجهود التالية، وبالتالي، لعل الأمر لا يبدو بمثل الصورة المرتبكة أو القاتمة التي بدا عليها هذا المستوى، ولا يبقى السؤال عن مؤشر التطور والإضافة، سلبا أو إيجابا، بلا جواب.
ü ü ü
في المستوى التطبيقي العربي، أو في التحليل البنيوي الشكلي على يد النقاد العرب، فرق محمد عزام بين ما تعلق منه بالشعر، وما تعلق بالسرد.
هكذا كانت البداية مع كمال أبو ديب في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في الشعر - 1979)، حيث خلا العرض المطوَّل للكتاب إلا من ملاحظة وحيدة تنفي أن يكون لمذهب أبو ديب في الصورة الشعرية من البنيوية شيء، لأن المنهج البنيوي لا يعنى بالصورة، بل بالبنيات وبعلاقاتها مع بعضها(7). لكن عزام سيتوسع في نقده لكتاب خالد سعيد (حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث - 1979) ليذهب إلى أن الناقدة في دراستها لقصيدتي أدونيس (هذا هو اسمي) وبدر شاكر السياب (النهر والموت) على ضوء المنهج البنيوي، حاولت أن تجمع بين المنهج البنيوي الشكلي والدلالية (السيميائية)، بينما لا يقول المنهج البنيوي الشكلي بدلالة أو مضمون، وهنا تأخذ اعتراضات عزام صيغة التساؤل: أليس الجمع في محاولة الناقدة (خروجا) على المنهج البنيوي الشكلي؟ وإن لم يكن خروجا، فهل يمكن اعتباره اجتهادا في المنهج؟ أم هو عدم فهم لمقولات المنهج؟ لكن عزام سيعجل بالإجابة، فمحاولة الناقدة (التوفيقية) تدل على عدم استيعاب مقولات النقد البنيوي، ومن ذلك أنها حكمت منذ البداية على قصيدة أدونيس حكم قيمة، على الرغم من أن المنهج البنيوي لا يأخذ بحكم القيمة، بل يكتفي بالوصف وحده. وهكذا فقد اضطربت الناقدة في تحقيق ممارسة نقدية في ضوء المنهج البنيوي، حيث اعتمدت بعض مقولات المنهج ونبذت الباقي. وقد علل عزام (توفيقية) الناقدة بالتلقي المبكر للمنهج المعني، حيث لم تكن مقولاته قد توضحت تماما، كما لم تكن الترجمات شاملة لجميع أبعاده. ولئن كان عزام لا يأخذ في الاعتبار هنا أن من النقاد من ليس بحاجة للترجمات، ولا ينتظرها، فهو سيكرر آراءه السابقة بصدد آخرين، بعد خالدة سعيد (.
بالوصول إلى عبدالكريم حسن يرى عزام أن الناقد يحاول أن يجمع في كتابه - رسالته الجامعية - مآخذ أساتذته، ويعدد منها قول أندريه ميكيل: )مغامرة مآلها الإخفاق( وقول غريماس: )قراءتها مخيبة للآمال( وقول كوهين باستحالة محاولة حسن المصالحة بين التزمّن والتزامن، وغموض مفهوم البنية لديه )فهذه البنيوية ليست بنيوية غريماس، وإما هي بنيوية عبدالكريم حسن(. وقد أضاف عزام إلى ذلك أن حسن خلط في منهجه النقدي بين (الموضوعية) و(الموضوعاتية)، وكان عليه أن يسمى منهجه (موضوعاتيا) لا (موضوعيا)، لأنه اعتمد المنهج (الجذري) أو (الثيمي) لجان بيير ريتشارد.
بمثل هذه المنافحة الحارة يتابع عزام مع عبدالله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير - 1985). فقد رأى في تعريف الغذامي للبنيوية والسيميائية والتشريحية، دفعة واحدة، تسويغا لمنهج جامع لها، أو )لعله لم يميز بينها كمناهج نقدية مستقلة بعضها عن بعض، في ذلك الوقت المبكر من مثاقفته، وتلقيه لها، حيث كانت الحدود بينها غائمة(. لكن الغذامي في القسم الثاني التطبيقي من كتابه وظف المفهومات النظرية للمنهجين البنيوي والتشريحي (التفكيكي) في تحليل الشاعر السعودي حمزة شحاتة، حيث لم تكن التشريحية التي تغياها الغذامي تشريحية دريدا، ولا تشريحية بارت، كما يلاحظ عزام، مسجلا حيرة الغذامي في تعريب deconstruction بين التحليلية، والنقيضة، والتفكيكية، ثم إيثاره للتشريحية، وهذا شأن حيرته التي صرح بها في تبني مصطلح للسيمولوجيا بعد ما رأى اضطراب المصطلح عند المترجمين العرب.
يمكن القول إن نقد محمد عزام لنقود عبدالله الغذامي، ومن قبله: كمال أبو ديب، خالدة سعيد، عبدالكريم حسن، ومن بعده: محمد مفتاح وعبدالمالك مرتاض، يتمحور حول ما يسميه بـ (المنهج التلفيقي)، الذي يترادف في قول عزام بالتلفيقية وبالتوفقية. فالغذامي لم يتقيد بمنهج واحد، بل حاول أن يأخذ ما يناسبه من المناهج الثلاثة التي عرض لها، وأن يدع ما لا يناسبه. وبالتالي، فكتاب (الخطيئة والتكفير) بدأ يفقد بريقه بعد عقدين من عمره، بسبب الدراسات التي عُرِّبَتْ وكُتِبتْ فتجاوزته، فضلا عن أن المناهج الثلاثة التي استقاها كانت غائمة عنده لأنها كانت في بداياتها، وهذا ما يجعل (تلفيقية) الغذامي في حينها، مرفوضة من بعد.
أما محمد مفتاح في كتابه (تحليل الخطاب الشعري 1985) فقد اعتذر عن جمع أكثر من منهج. وهذا ما لا يسوغه، بحسب محمد عزام، سوى ضعف الإحاطة بمفاهيم المنهج الواحد ومقولاته، والرغبة في التوفيق بين أكثر من منهج، إن لم يكن التلفيق. فالسمة الغالبة على منهج مفتاح هي التوفيق بين ثلاثة مناهج على الأقل )وغالبا ما يخرج على مقولاتها ليعود إلى التراث البلاغي العربي، فيشبعه وخزا أو استنباطا، ثم يميل إلى التقعيد المنطقي والتبسيطي. وقد سجل عزام بحق أن مفتاح، في القسم الثاني التطبيقي من كتابه، استبعد من التناص الأدب المقارن والمثاقفة والسرقات الشعرية - وهي لدى عزام تدخل في باب التناص - ثم عاد فأدخل ما استبعده.
مع عبدالمالك مرتاض يجنح محمد عزام نحو الشخصي، وهذا ما يتلامح أحيانا في كتابه بصدد آخرين، سلبا أو إيجابا، فبحسب عزام، يغري مرتاض القارئ بعناوين كتبه التي تخيب أمل القارئ، لأنه لا يجد فيها ما كان يؤمله من نقد حداثي منهجي، إضافة إلى أن معظم كتبه يحمل عناوين فرعية تجمع بين منهجين نقديين، هما على الأغلب السيميائي والتفكيكي. وفي كتابه (بنية الخطاب الشعري - 1986) خالف المضمون العنوان، بل هو بعيد حتى عن (التوفيق والتلفيق) بين منهجين أو أكثر، فالكتاب - وهو معالجة لقصيدة لعبدالعزيز المقالح - شغل عناصر فنية من النقد التقليدي، لا الحداثي.
على عجل يذكّر بما كان مع صدوق نور الدين وعبدالفتاح كيليطو، يعبر محمد عزام بكتاب يمنى العيد (في القول الشعري - 1987)، فلا يرى في قسمه التطبيقي غير انطباعات شخصية سريعة، لم تنس فيها أن تطعم نظراتها الذاتية بمفاهيم سوسيرية وبانطباعات بلاغية، وعلة ذلك أن الناقدة، عندما ظهرت البنيوية، رغبت في تطعيم منهجها الاجتماعي بالمنهج البنيوي، فلم يثمر التطعيم منهجا بنيويا تكوينيا، بل انفصالا حادا بين المنهجين، وبين النظرية والتطبيق. على أن وقفة عزام ستطول مع الإنجاز النقدي التالي للناقدة، عندما ينتقل إلى تطبيق العربي للمنهج البنيوي التكويني.
يختم عزام قوله في المستوى التطبيقي العربي للمنهج البنيوي الشكلي بالنظر في كتاب حسن البنا عز الدين (الكلمات والأشياء: التحليل البنيوي لقصيدة الأطلال في الشعر الجاهلي 1989)، فيأخذ على الناقد أنه لم يحلل قصيدة أو مطلعا طلليا تحليليا بنيويا، واكتفى بعرض آراء المستشرقين والنقاد المعاصرين للشعر الجاهلي وقضاياه، وإذ ناقش بعضها لم يشر إلى المنهج البنيوي الذي ادعى تبنيه. وإذ يصحح عزام مغالطة القول بقصيدة الأطلال، فالصحيح هو المقدمة الطللية، يرى أن الناقد قد جاء بالعنوان الفرعي لكتابه كطعم للقارئ بسبب شيوع البنيوية، بينما كان عنوان الكتاب في طبعته الأولى (الكلمات والأشياء: بحث في التقاليد الفنية للقصيدة العربية 1988)!
بعد ثمانية من نقاد الشعر في المستوى التطبيقي العربي للمنهج البنيوي الشكلي، ينقد محمد عزام نقد أربعة من نقاد السرد، من دون أن يشير إلى سبب لذلك: هل هو في محدودية عدد نقاد السرد؟ هل هو في استئثار نقد الشعر بالنقاد؟ كما لم يشر عزام إلى سبب وقوفه في نقد السرد عند عام 1990، كما فعل نقد الشعر، ومع المستوى التنظيري العربي للمنهج البنيوي الشكلي، مما يعيد السؤال عما فوّت ناقد نقد النقد على نفسه، وبالتالي على النقد ونقده.
أما نقاد السرد الأربعة فهم على التوالي:
1- موريس أبو ناضر في كتابه (الألسنية والنقد الأدبي - 1979). وقد رأى عزام أن هذا الناقد تفادى مسألة الشكل والمضمون في كتابه لأنها (محلولة) في النقد البنيوي، ليعوضها بمصطلحات بنيوية اقتبسها من جماعة (مو Mu) معتمدا على عوامل غريماس في دراسة الأشخاص والعوامل، ومفيدا من الشكليين ومن يقاربهم. كما أسقط أبو ناضر قراءة المستويات المتعددة للمدونة التي عمل عليها، مكتفيا بمستوى واحد على ضوء مقياس واحد هو (الوظيفة). وفي تحليل أبو ناضر لألف ليلة وليلة من مدونته، لم يرفض من سبقوه واعتمدوا تاريخية النص، كما لم يقبل تحديد ماهيته، وإنما اختار موقفا وسطا لا يتخلى عن علاقة النص بعالمه وتاريخه، ولا يفصله عن الأفكار السابقة التي حددت بيئته وذاته الظاهرية والباطنية، وعلى الرغم من ذلك ينتهي عزام إلى أن كتاب أبو ناضر تطبيق سليم للمقولات البنيوية المعروفة، وإن كان قد أخذ عليه عدم ضبطه لمصطلحات بروب، وتحريفه لمصطلحات جماعة مو Mu. وقد عاد عزام إلى كتاب أبو ناضر فيما ساق في نهاية كتابه في كتاب حميد لحميداني (النص السردي من منظور النقد الأدبي - 1991)، حيث تتقاطع ملاحظات الرجلين على كتاب أبو ناضر - هل تقفى اللاحق من سبقه؟ - ثم كرر عزام ما سبق وما سيلي بصدد نقاد آخرين، أن استفادة أبو ناضر من النقد الغربي المعاصر (مشروعة)، بل ضرورية ومطلوبة لتحديث نقدنا في تلك المرحلة المبكرة من استقبالنا للمناهج الحديثة (1979).
2 - سيزا قاسم في كتابها (بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ - 1984)، وهو في الأصل رسالتها الجامعية. وقد ذهب عزام إلى أن محاولة قاسم كمحاولة أبو ناضر، تأتيان في عمق المنهج البنيوي الشكلي، على الرغم مما سبق له مع كتاب أبي ناضر، ومما تلاه من أن سيزا قاسم صنفت تنظيرات المنهج البنيوي في تقنيات السرد الروائي، لكنها لم تحلل المدونة (ثلاثية نجيب محفوظ)، بل اكتفت بإيراد أمثلة منها، فكان لها فضل (الريادة) في استقدام مصطلحات السرد البنيوي في مرحلتها، وتجاوز المصطلحات التقليدية. وربما كان ولع عزام بـ (الريادة) هو ما جعله لم يعلق على تعليل سيزا قاسم لاختيارها ثلاثية نجيب محفوظ باعتبارها )من أفضل الأعمال الروائية التي كتبت في أدبنا الحديث وأكملها بناء). أما لماذا كانت كذلك، فهو ما تجاهلته الناقدة وناقدها(.
3 - سعيد يقطين في كتابيه (تحليل الخطاب الروائي - 1989) و(انفتاح الخطاب الروائي - 1989)، اللذين ليسا غير كتاب بجزأين كما يرجح عزام الذي يعرضهما بإسهاب، هو مثل عرضهما للجديد النقدي الحداثي الذي سبق أن توارد فيما خص به عزام في بداية كتابه المستوى النظري الغربي للمنهج البنيوي الشكلي، كما توارد في عروض عزام المسهبة لبعض الكتب النقدية مما سبق أن رأينا. ومثل هذا التكرار سيظل يطبع كتاب عزام إلى منتهاه.
لقد ثمّن عزام محاولة يقطين تجاوز حدود تحليل زمن الخطاب من خلال السرديات البنيوية إلى معالجة سوسيولوجية للنص، يتحدث فيها عن زمن النص من خلال العلاقة بين زمن الكتابة وزمن القراءة بوضعها في إطار بنية سوسيو - لغوية شاملة. ويبدو أن إعجاب ناقد النقد بالنقد هو ما جعله يرى الكتاب المعني )بجزأيه أكمل وأحدث عرض لمكونات الخطاب الروائي المعاصر، وهو جهد ضخم، واطلاع واسع على السرديات الغربية، يشكر الباحث عليه(. فهل يكون ذلك ما أسكت عزام عما قد يكون في محاولة يقطين من خروج على (نقاء) المنهج البنيوي الشكلي أو اجتهاد فيه، على العكس مما كان لعزام مع آخرين كما رأينا؟.
4 - حسن بحراوي في كتابه (بنية الشكل الروائي - 1990):
ينوّه عزام بقراءة الناقد لمدونة كتابه، التي ابتغت الانتقال بالمعرفة النظرية إلى أفق التحليل البنيوي الشكلي، بوصفها أسلوبا في العمل، ومنهجا لبناء النماذج والتصورات، وليس كمعتقد أو دوغما. كما ينوه عزام بحرص بحراوي على تلافي أحكام القيمة، وبنائه لمقاربته الفضاء في الرواية المغربية على مفهوم (التقاطب) الذي أدرجته الشعرية في بنائها النظري. لكن عزام يأخذ على هذا البحث الذي يعده معمقا، أن صاحبه آثر السلامة، بإغفالة التصوير الروائي لشخصية المناضل السياسي في العهد الوطني، واكتفائه بالبغي من تعدد صور شخصية المرأة. ولا يبدو عزام في ذلك مقنعا، كما لم يبد بحراوي نفسه مقنعا بانشغاله بإحصاء أسماء الشخصيات في مدونته الروائية.
ü ü ü
مقابل ثمانية نقاد في المستوى التنظيري العربي للمنهج البنيوي الشكلي، يكتفي عزام باثنين للمستوى التنظيري العربي للمنهج البنيوي التكويني، هما جمال شحيد ومحمد ساري. وإذا كان عزام قد نوه بأن كتاب جمال شحيد (البنيوية التركيبية: دراسة في منهج لوسيان غولدمان - 1982) هو أول تنظير عربي لذلك المنهج، فهو لم يكلف نفسه عناء بيان استحقاق الكتاب لدعوى التنظير، فالأولى أن يقال إن الكتاب أول عرض عربي للمستوى النظري الغربي للبنيوية التكوينية (التركيبية)، ذلك أن كتاب جمال شحيد لم يزد على عرض المنهج في قسم، وعرض تطبيقاته الغربية في قسم، وعرض مختارات للوسيان غولدمان في قسم. ولعل هذا الاعتراض على وصف عزام لكتاب شحيّد يصح أيضا على أغلب الكتب السابقة واللاحقة التي عرضها عزام للنقاد العرب، ووصفها بأنها تنظيرية. وفي هذا ما يشير إلى تواضع الجهد النظري والتنظيري للنقد العربي حتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين، حيث تتوقف متابعة محمد عزام. فهذا محمد ساري يقسم كتابه (البحث عن النقد الأدبي الجديد 1984) إلى قسم (نظري) يعرض اللوكاشية والغولدمانية، وقسم تطبيقي فيه من نقد النقد من دون أن يشير عزام إلى ذلك - أعني نقد ساري المساهمة النقدية لمحمد مصايف - وفيه نقد لقصص، يصفه عزام بالمعالجة التقليدية التي تكتفي بتلخيص المضمون، وليس فيه من البنيوية التكوينية شيء. ويقدر عزام أن نقد القصص قد يكون مقاربات كتبها محمد ساري )قبل ان يهتم بالمنهج البنيوي الذي نظر له جيدا(. فأين هذا (التنظير الجيد)؟ وهل المنهج البنيوي هو عينه المنهج البنيوي التكويني؟
بعدما سبق لعزام مع كتب يمنى العيد وعبدالفتاح كيليطو وصدوق نور الدين من مثل هذا العبور السريع والافتقار إلى التدقيق مما تلا مع كتابي جمال شحيد ومحمد ساري، يصل عزام إلى المستوى التطبيقي العربي للمنهج البنيوي التكويني، حيث يقع الاختيار على خمسة نقاد هم: الطاهر لبيب ومحمد بنيس ونجيب العوفي ويمنى العيد وحميد لحميداني. وإذا كان عزام سيعود مع هؤلاء إلى ما كان له من وقفة متأنية ومدققة مع آخرين، فهو سيخرج على عهده بالاكتفاء بكتاب واحد للناقد، كما سيتبدى له وجه منافح جديد ربما وسمه بعضهم بالمحافظة، وذلك في نقده لكتاب الطاهر لبيب (سوسيولوجية الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا - 1981) حيث ألح على ما قدر من اضطراب الناقد في حديثه عن اللغة العربية والجنس، واعتماده على أقوال بعض المستشرقين المناوئين للإسلام مثل بوسكي في كتابه (الأخلاق الجنسية في الإسلام) وسنوك هور غرونجه الذي كان يرى أن ليس من قانون في الإسلام، أو تور أندريه الذي كان يرى أن ليس من عبادة في الإسلام. وباعتماد الطاهر لبيب على أولاء، وقع في مغالطات تاريخية، فرأى أن قصة يوسف الحقيقية التاريخية - كما يشدد عزام - هي أسطورة. ويرصد عزام ما يعده مواطن الضعف والخطأ في كتاب الطاهر لبيب، على هذا النحو:
) قول لبيب بإنتاج الحرمان الاقتصادي للحرمان الجنسي، مما يرفضه علماء التحليل النفسي.
) مجابهة لبيب لاستحالة وصال الحبيبة لدى العذريين باستحالة الزواج، فكان أن اكتفى الشاعر العذري بمداعبات النصف الأعلى من جسد المرأة، فأين هي العفة إذن - يتساءل عزام - التي ينكرها لبيب، على الرغم من تواتر الأخبار والأشعار المؤكدة لها؟
) يعد عزام تفسير لبيب للعذرية بالشروط الاجتماعية الاقتصادية إنكارا لأثر التعاليم الإسلامية في العذريين.
) أغفل لبيب المصادر العربية القديمة والحديثة التي جمعت أخبار العذريين وأشعارهم، التي عالجت ظاهرة الشعر العذري، واكتفى بالمصادر الفرنسية، فكان في بحثه نقص كبير. لكن عزام يفتقد هنا الدقة. فقد اعتمد لبيب على المصادر العربية القديمة، أما ما عده مصادر عربية حديثة، ومصادر فرنسية، فهي مراجع وحسب.
بعد كتاب الطاهر لبيب، جاء سابقه (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية - 1979) لمحمد بنيس، والعهد بعزام أن يراعي تسلسل تاريخ صدور النقود التي ينقدها. ويبدو أن ما استوقفه في كتاب بنيس هو فقط أسئلة الأخير التي تتصادى بقوة مع أسئلة ناقد النقد، ومنها السؤال عما إن كان ممكنا )تطبيق منهج نقدي حضاري توافرت له الدراسات الألسنية والاجتماعية في بلد المنشأ، على شعرنا المنتج في واقع متخلف لم تكد هذه الدراسات تبدأ فيه؟(. وكذلك هو السؤال عن ضرورة تطبيق المنهج حرفيا على شعرنا، أم أن هنالك هامشا من (الحرية) يمكن أن يناور الباحث فيه تحت اسم (التطوير) أو (الاجتهاد)؟
سوى ذلك ما كان لكتاب بنيس غير العرض، بخلاف ما تلاه مع كتابي نجيب العوفي (درجة الوعي في الكتابة - 1980) و(مقاربة الواقع في القصة المغربية - 1987).
بصدد الكتاب الأول، ذهب عزام إلى أن العوفي اعتمد (المنهج الجدلي الواقعي)، لكنه لم يخلص له بسبب مزاحمة المنهج البنيوي للمناهج التي كانت سائدة، واعتبار الناقد الذي لا يأخذ بالمناهج الحديثة متخلفا. لذلك حاول العوفي - بتقدير عزام - المزاوجة بين (المنهج الجدلي) والمنهج البنيوي، مقتربا من المنهج البنيوي التكويني. والأمر نفسه كان في الكتاب الثاني للعوفي الذي ظل مخلصا لمنهجه الواقعي بعدما تجاوزه العصر والنقاد، لكنه - بقراءة عزام - أخذ بالمعطيات المتعلقة بنظرية السرد، مما يقدمه التحليل البنيوي. وبهذه المزاوجة اقترب من البنيوية التكوينية، لكأنه انتقل من (المنهج الواقعي الجدلي) إلى البنيوية التكوينية، لكن على طريقته، مما جعله يمسك العصا من وسطها، فلا يوغل في الحداثة النقدية، رغبة في كسب الجيل التقليدي، ولا يتخلف عن ركب الجديد خوفا من أن يقال عنه إنه )متجاوز(. وهكذا صار ناقد النقد عليما بما بطن، وليس فقط بما ظهر! لكنه سيخفف من ذلك في نقده لكتب يمنى العيد الثلاثة: (في معرفة النص - 1983) و(الراوي: الموقع والشكل: بحث في السرد الروائي - 1986) و(تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي - 1990).
عرضت يمنى العيد في القسم النظري - عزام يؤثر: التنظيري - من كتابها الأول منهجيها الأثيرين: الواقعية والبنيوية التكوينية. ويبدو أن ما سماه عزام لدى نجيب العوفي بـ (المنهج الجدلي الواقعي) أو (المنهج الجدلي) أو المنهج الواقعي الجدلي) هو ما يسميه لدى يمنى العيد بـ (المنهج الاجتماعي)، بكل ما تعنيه تسمية كهذه من قلقلة اصطلاحية و/أو استخفاف لدى ناقد النقد الذي يتابع أن يمنى العيد لم تنس في كتابها الأول (المنهج الاجتماعي) الذي اعتمدته في مطلع حياتها النقدية، وتراه جديرا بالزواج مع البنيوية التي عزلت النص. ويرصد عزام ما يعده مثالب كتاب (في معرفة النص) على هذا النحو.
في دراستها لقصيدة سعدي يوسف (تحت جدارية فائق حسن) في القسم التطبيقي من كتابها، تجاهلت لغة القصيدة، ولم تكشف بنياتها )ولم تفسرها على ضوء المنهج البنيوي التكويني (أو المنهج الاجتماعي الماركسي البنيوي على حدّ زعمها) ونسيت جميع تنظيراتها في القسم الأول من كتابها(.
ü لكنها عوضت عن هذا التقصير بتحليل مفصل لرواية غالب علسا (السؤال). ولست أدري عن أي تعويض يتحدث عزام، ما دام يقول )لكن التنظير الذي بدأت به تحليلها للرواية ظل وعدا، فاكتفت بتلخيص أحداث الرواية وشخصياتها. وهذا ليس من التحليل البنيوي بشيء، إضافة إلى أنها أهملت أيضا تحليل (المرجع) الذي أنبت الرواية، وهي مهمة النقد البنيوي التكويني(. ويتابع عزام في نقد الناقدة لرواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) أنها وضعت مخططا لهيكل الرواية في سطرين، بعدما لخصتها، وهذا لا يكفي وحده )كدليل على تطبيق المنهج البنيوي(، بل كان عليها أن تملأ المخطط بأمثلة من الرواية. لكن ألم يكن على ناقد النقد أن يتحرى ما إن كان الحديث يتعلق بالمنهج البنيوي أم بالمنهج البنيوي التكويني؟
من كل ما تقدم يخلص عزام إلى أن كتاب العيد شكا من الانفصال بين التنظير المنهجي والتطبيق العملي. كما شكل من أن التنظير فيه يعاني قصورا. إذ كانت الناقدة تقفز بين المنهجين الاجتماعي والبنيوي، وتحاول أحيانا الجمع بينهما على الطريقة الغولدمانية، ثم يقول: )ولعلها في كتبها التالية أكثر التزاما بالمنهجية، بعدما توضحت معالم البنيوية أكثر(.
مرة أخرى يفترض ناقد النقد أن النقد العربي الحداثي كان لا يزال ينتظر وضوح البنيوية عربيا حتى عام 1984، لكأنه ليس من ناقد يتقن لغة المصادر والمراجع البنيوية، أو لم يدرس في مواطنها، وهذا مهما يكن فيه من الحق، فإن تعميمه ظالم ومتعالٍ، أو جاهل. أما ما انتهى إليه عزام من الوعد المرتجى في كتب يمنى العيد التالية، فقد كذبه ناقد النقد، إذ أخذ على كتابها الثاني (الراوي: الموقع والشكل: بحث في السرد الروائي):
ü أنه تخلى في تحليل مسرحية (أوديب ملكا) عن البنيوي من أجل الاجتماعي برفض الترابط المنطقي الذي يتحكم في البنية ويسقط الموقع الذي ينهض منه القول.
ü لم تعرض الناقدة ولم تناقش الظروف التاريخية الاجتماعية للأسطورة، كما تقتضي الخطوة الثانية في المنهج التكويني الذي تتبناه.
ü يشكو الكتاب الثاني، كما شكا الأول، من الانفصال بين التنظير والتطبيق، فضلا عن أن التطبيق فيه ليس غير نتف من المنهجين البنيويين الشكلي والتكويني.
وليس حظ الكتاب الثالث بأوفى (تقنيات السرد في ضوء المنهج البنيوي). فناقد النقد يصنف الكتاب كمعرض انتقائي لعدد من نظريات السرد الغربية المعاصرة، إذ استوحى لوحة تودوروف للحوافز وأنواع الرواية، ولوحة غريماس للعوامل، ومقولات جينيت في الصياغة والتواتر وأنواع الرواية، وباختين في أنماط القص. والخلاصة أن الناقدة أرادت أن تكون بنيوية، فكانت (بنيوية شكلية) متخلية بذلك عن (بنيويتها التكوينية)، وهكذا راوحت في كتبها النقدية الثلاثة بين المنهج الاجتماعي والبنيوية التكوينية، فالبنيوية الشكلية، مؤكدة عدم استقرارها على منهج واحد، تجده جديرا بتحليل النص الأدبي). فهل هذه سبة أم مدحة؟
بذا يصل محمد عزام إلى نهاية المطاف، وهي نقده لنقود حميد لحميداني في كتبه التالية: (من أجل تحليل سوسيوبنائي للرواية - 1984) و(الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي - 1985) و(النقد الروائي والأيديولوجيا - 1990) وأخيرا: (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي 1991).
تبنى حميد لحميداني منذ كتابه الأول المنهج البنيوي التكويني، إلا أنه لم يلتزم به، بل اكتفى بضفر الروايات ذات المضمون الواحد تجاه الواقع بعضها إلى بعض، بحسب ناقد النقد الذي عاد إلى ما كان له مع نجيب العوفي من العلم بالبواطن، حين رأى أن لحميداني اتخذ في كتابه الثاني (مصطلح) الانتقاد بدلا من (موقف) المعارضة التي تنتقد السلطة وليس المجتمع، فميَّع القضية حين حولها من معارضة الى انتقاد، ومن مواجهة السلطة إلى مواجهة المجتمع. وقد علل عزام ذلك بالحذر البالغ وبالتحفظ اللذين أراد ألا يدخل الناقد يده في النار، فآثر السلامة عن طريق ليّ عنق الحقيقة، محققا نصرا شخصيا له، وليس للحقيقة التاريخية! ويحكم عزام بأن لحميداني لم يكن بنيويا، بل كان تقليديا، لأنه لم يوظف مصطلحا واحدا من مصطلحات البنيوية أو مقولاتها، بل إنه ختم كتابه بفصل عن قضية الشكل الفني في الرواية المغربية، فصنفها وفق المنهج النقدي التقليدي، لا البنيوي. ولم يكن حظ الكتاب الثالث للحميداني مع ناقده بأفضل، إذ رآه في قسمه الأول عرضا بانوراميا لتطور المنهج الاجتماعي منذ بليخانوف. والعرض يقوم على مقتطفات من كل ناقد، من دون التعمق في موقف الناقد ورؤيته، غير أن عزام يجد شفيعا لحميداني هو تقديم صورة منهجية لأعلام المنهجية.
لم يشر عزام إلى أن الكتاب الثالث للحميداني هو في نقد النقد، ولم ير فيه غير تعويض عن تقصير الكتابين السابقين للتنظير للمنهج البنيوي التكويني. وبالتالي فقد كان لنقد عزام له أن يكون من المتن المثلث. لكن الرجل اكتفى بالملاحظة السابقة عبر عرض الكتاب الذي درس في القسم الثاني (النقد الروائي الاجتماعي العربي) ودرس في القسم الثالث أنموذجين هما كتابا محمد كامل الخطيب (المغامرة المعقدة - 1976) ومحمود شريف (أثر التطور الاجتماعي في الرواية المصرية - 1976).
انطوى القسم الثاني من كتاب لحميداني على تصنيف نقدي مهم للنقود الاجتماعية العربية في سبعينيات القرن الماضي، عبر ثلاثة أنماط:
ü النمط الأول: ذو طابع سياسي أيديولوجي مباشر، مثل كتاب الخطيب المذكور، ومثل كتابي أحمد محمد عطية (البطل الثوري في الرواية العربية - 1977) وشكري عزيز ماضي في (انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية - 1978).
ü النمط الثاني: ذو طابع اجتماعي يتخذ شكلا موضوعيا، ويتخلص من المنطلق الأيديولوجي المباشر، محتفظا بالرؤية المنهجية ذات الأصول المادية مثل كتاب شريف المذكور، ومثل كتابي السيد يسن (التحليل الاجتماعي للأدب - 1979) وأحمد إبراهيم الهواري (البطل المعاصر في الرواية المصرية - 1979).
ü النمط الثالث: الذي يتبنى مفهوم الرؤية، كما في كتب عبدالمحسن بدر (الروائي والأرض - 1971) وطه وادي (صورة المرأة في الرواية المعاصرة 1973) وإلياس خوري (تجربة البحث عن أفق - 1974) وقاسم عبده قاسم وأحمد إبراهيم الهواري (الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث - 1969) وسعيد علوش (الرواية والأيديولوجيا في المغرب العربي - 1981).
إزاء وفرة النماذج المعنية في هذا التصنيف، جاءت وقفات لحميداني معها تلخيصا عجولا، وهذا ما سيتكرر في كتابه الرابع (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي) في قسمه الثالث، وهو في نقد النقد أيضا، حيث عرض لحميداني لستة من النقاد العرب السرديين، ثلاثة منهم سبق أن رأينا عرض محمد عزام لكتبهم (موريس أبو ناضر - سعيد يقطين - سيزا قاسم)، والآخرون هم: نبيل راغب (قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ - 1967) ومحمود أمين العالم (تأملات في عالم نجيب محفوظ) ونبيلة إبراهيم (نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة - 1980).
قبل ذلك، وفي القسمين الأول (تحليل بنية الخطاب السردي) والثاني (مكونات الخطاب السردي) حاول لحميداني التعريف بمساهمات وإنجازات النقد الروائي الغربي، مما رأى عزام فيه، ومن بعد في القسم الثالث، تعويضا (آخر) عما قصّرت فيه كتبه السابقة. وقد أخذ عزام على لحميداني أنه في القسم الثالث من كتابه >وضع كل البيض في سلة واحدة) إذ جمع النقاد التقليديين والحداثيين العرب معا، فظلم الجميع. كما انتصر عزام لسعيد يقطين فيما أخذه عليه لحميداني من عدم توظيفه في نقد الرواية مصطلح الانزياح في الشعر، وكذلك في إغفال لحميداني لأهمية كتاب يقطين المعني (القراءة والتجربة - 1985) في التطبيق العملي للمنهج البنيوي في حقل السرديات، فلعل زامر الحي عند لحميداني لا يطرب، كما ختم عزام مجلجلا أن الكتاب الرابع للحميداني هو من أفضل ما كتب في ميدان التنظير الروائي!
ü ü ü
يرى محمد عزام أن الناقد الحداثي حين ينقد نصا، فإنه يعيد كتابته بطريقة أخرى. وبمعزل عما يمكن للمرء من مماحكة هذا الرأي، فإن عزام بالغ في الأخذ به في نقده للنقد. ومن هنا طغا في كتابه التلخيص، كما طغا التكرار، كلما تعلق الأمر بأعلام ونصوص ومقولات ونظريات واتجاهات المستوى النظري الغربي للبنيوية الشكلية والتكوينية، سواء فيما خص به هذا المستوى، أو فيما خصّ به المستويين النظري والتطبيقي العربيين، حيث عمد كثيرون إلى مثل ما فعل عزام من المبالغة في تلخيص الأصل ا لغربي الواحد.
ولئن كنت قد أشرت إلى ذلك، وإلى سواه، على نحوٍ ما، فيما تقدم، فلعلني أنتهي أخيرا إلى ما يلي:
ü يذكر محمد عزام في خاتمة كتابه أنه تبنى المنهج البنيوي التكويني في البداية، مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وأن ذلك التبني كان لقرابة ذلك المنهج من المنهج الاجتماعي السائد، حيث أفاد الرجل من مفهوم رؤية العالم، وصنف على أساسه الرواية المغربية في كتابه (وعي العالم الروائي... دراسات في الرواية المغربية - 1990). ويذكر عزام أنه بعد تمكنه من المنهج البنيوي، وضع كتابه (فضاء النص الروائي: مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان - 1996). ولأن الأمر في هذا الكتاب يتعلق بما صدر من رواياتي حتى اكتمال رباعية (مدارات الشرق) عام 1993ـ، فسأدع نقد النقد لسواي، لأشير إلى أن مدونة محمد عزام النقدية كانت مهجوسة دائما بالمناهج النقدية الحديثة، وإن يكن خياره قد مال بقوة إلى البنيوية الشكلية، كما يجلو كتابه الأخير (تحليل الخطاب الأدبي...).
ü كان الكثير من النقود التي نقدها هذا الكتاب رسائل جامعية (سعيد يقطين - سيزا قاسم - محمد بنيس - حميد لحميداني - نجيب العوفي - عبدالكريم حسن - الطاهر لبيب...)، وبالتدقيق يبدو أن نصيب بلدان المغرب العربي من تلك الرسائل أكبر من نصيب بلدان المشرق. وإنما أذكر ذلك لأن محمد عزام كرر أن المنهج البنيوي - عربيا - قد بدأ في المغرب بسبب اطلاع مثقفيه على الثقافة الأوروبية وشيوع اللغة الفرنسية بينهم.
وعلى الرغم من أنني لا أجد في المماحكة في ذلك غير صخب يعتوره التعصب أو المباهاة، فقد يكون من المفيد أن أتابع توكيد محمد عزام أن رواد التنظير البنيوي العرب هم كمال أبو ديب وصلاح فضل ومحمد بنيس وعبدالله الغذامي، فإن صح ذلك، فليس بين أولاء غير مغربي واحد هو محمد بنيس. وبالعودة إلى مدونة عزام نفسه، سيظهر أن الريادة التي لا يفتأ ينوه بما كان منها في التأليف في البنيوية خلال سبعينيات القرن الماضي، قد توزعت بين ناقدين مغربيين وخمسة مشارقة. أما الريادة في الترجمة فقد كانت مشرقية. إلا أن المضي إلى منتصف العقد التالي (1985) يبين أن ثمانية مؤلفات تتعلق بالبنيوية - بشقيها - قد صدرت في بلدان المغرب ومثلها في بلدان المشرق، وهذا عدا ما قد يكون فات ناقد النقد أو تجاهله.
ü أما الأوْلى فهو إلحاح محمد عزام على ما سماه بالتوفيق أو التلفيق على يد النقاد العرب في التنظير وفي التطبيق، ليجزم أنه من المستحيل )خلط المناهج المتباينة للخروج بفرية منهج تكاملي((9). على أن عزام يقدم على من يأخذ بالمنهج التوفيقي (التكاملي) )ذلك الناقد الذي يحاول تأصيل المنهج الجديد وتوظيفه في نقدنا، وذلك عندما يبحث عن أصول له وجذور في تراثنا النقدي، ثم يحاول تطبيقه على نصوص عربية لإثبات فاعليته وجدواه(. ولعل لناقد عزام أن يتساءل: لِمَ إذن كانت حملتك على فؤاد أبو منصور. أما الإلماعة هنا إلى التأصيل في التراث النقدي، فستتلفع بالنزوع القومي العتيد عندما نصل إلى خاتمة كتاب عزام، وقوله إن من تلفقوا البنيوية من نقادنا، قد تجاوزوا مرحلة الأخذ