السردية الغنائية
في ديوان " أحوال الحاكي " للشاعر السماح عبد الله
دراسة : عبد الجواد خفاجى
2ـ السردية الغنائية ودلالات العنوان :
ثمة فارق كبير بين نص سردى يأتى في سياق قصصي , ونفس النص إذا جاء في سياق شِعرى . إن حاصل جمع أساليب النص في الحالتين ستكون واحدة , فلدىَّ عبارة من عينة : " أستعدُّ الآن للريح التي تهب من خلف التخوم " هذا المعطى السردى لو ورد في سياق قصصي سيختلف مدلوله تماماً عن وروده في سياق شعري , ومن ثم فإن مسألة الاكتفاء بتحصيل أساليب النص في النقد الأدبي تبدو عملية " عبيطة " لأنها تستثنى الموقف الأدبي والسياق , غير أنها تحول الناقد إلى " ريبوت " مهمته تحصيل أساليب النص .
إنها عملية آلية يمكن أن يقوم بها أي إنسان آلي مبرمَج , والمسألة في النقد الأدبي أعقد من هذا بكثير . فعلىَّ كإنسان له ذائقته وبصيرته أن أحدد إلى أي اتجاه أنظر , وبصرف النظر عن اللافتة التوضيحية التي وضعها الشاعر على غلاف كتابه , والتي تعنى ضمنياً : " يوجد توحه شعرىّ بالدخل " فكلمة " شعر " على كثير من أغلفة الكتب تنطوي على أبعاد متباينة بين المخادعة بمعنى التضليل والبراءة بمعنى الغرة , وبين الصدق والادعاء , وبين الحقيقة والمجاز وبين المجازفة بالفن والفن المجازف , وبين هذه الأبعاد ليس على الشاعر إلا أن يعرف متى وكيف يكون توجهه نحو الكتابة شعرياً وعلى نحو أكيد ؛ ذلك لأن كل النصوص الأدبية على عموميتها تحمل ملامحها الأدبية والشاعرية وإن اختلفنا حول درجتيهما , لكنما ليست كل النصوص تحمل إلى جانب ذلك ملمحها الشعري .
والمسألة أبسط من أن نختلف حولها , فأمامي امرأة جميلة وتمثال لهذه المرأة الجميلة..الريبوت
يقول أن مقاييس الجمال واحدة في الحالتين .
هذه العملية هي ما اسميها الآن : حاصل جمع أساليب النص , وهى عملية لاتفرق بين المرأة الجميلة وتمثال لها .
يمكنني أن أنظر في بنية السرد وآلياته في نصوص هذا الكتاب الذي أمامي الآن , وبصرف النظر عما إذا كان مجرد سرد له بنياته وآلياته أم أنه بالفعل سرد غنائي له نفس البنيات والآليات .. إنني حقيقة بحاجة منذ البداية لتحديد الإطار الذي أنظر فيه , أو بالمعنى بحاجة لأن أعرف متى أقول : هاهنا شعر , أو هاهنا قصة .
وعودة إلى المثال الذي سقناه وأنا أمام المرأة الجميلة وتمثال لها , ولاشك إنني كإنسان له بصيرته أعرف متى أقول هاهنا حياة , ومتى أقول : هاهنا صنم . لكنما المسألة في النقد أعقد من هذا لأنها تتعلق مبدئياً بأحكام جمالية يجب أن تكون مبررة ومقنعة, ومهما يكن تعقد هذه الإشكالية فإنها تختلف جذرياً في كل حالةٍ عن الأخرى, فنحن أمام تمثال المرأة الجميلة نعاين مكونات جمالية تنسب إلى المرأة الأصل " الحيَّة "ومن ثم فكلما كان التمثال مطابقاً للأصل كلما كان جميلاً , أو ما نسميه : " مطابقته للمكونات الاعتيادية " أما إذا كنا أمام المرأة الجميلة نفسها فنحن نعاين مكونات جمالية تنسب إلى الجنس النسائي عموماً , ومن ثم فنحن نعاين جماليات هذه المرأة في إطار ما تحمله من سمات نوعية جمالية فارقة عن أي امرأة أخرى عاينّاها من قبل أو في إطار ما نسميه : " انزياحها عن المكونات الاعتيادية " .. ألم أقل إننا بحاجة ـ منذ البداية ـ للآن نعرف إلامَ ننظر وماذا نعاين ؟ وربما أن الإجابة على هذا السؤال سيكشف عنها التحليل النصي . وهى مهمة تعتمد أساساً على يقين الباحث بأن الفارق بين المعطى السردي القصصي, والسردية الغنائية يكمن في الفارق الجوهري بين القصة , والشعر , وهو فارق يقوم أساساً على اعتبار التجربة الوجدانية هي الفارق بين الشعر وغيره , والتجربة الوجدانية يمكن معاينتها نصوصيًّا في الجانب الإيقاعي الذي يحمل الوجدان في صورة صوتية يحملها النص , كما يمكن معاينته في اللغة الإيحائية والتصويرية والرمزية المشفَّة عن هذا الجانب الوجدان , وبغير ذلك فنحن أمام معطى سردى قصصي يتبرأ من الشِعرية , وإن كان غير متبرئ من الشاعرية .
ثمة فارق جوهرىٌّ إذن : الشِعر تعبير عن حالة تسكن القصيدة , أكثر منه تعبير عن دلالةٍ تسكن النص , وإن كان العكس هو الصحيح في تعريف النص القصصي .
والسردية الغنائية على هذا وليدة حالة وجدانية يجد الشاعر من الأنسب لها أن تتجسد تعبيرياً في ثوب قصصىًّ لا يتبرأ من إيقاع الشعر ,ومن ثم فالإيقاع في السردية الغنائية ليس حلية تجميلية على نحوما يتشكل في المقامة , أو القصة المنظومة , كما أنه ليس خلفية تجرى الأحداث أمامها , إنه ـ ولاشك ـ صورة إيقاعية للحالة الشعورية .
السردية الغنائية لا تهدف إذن إلى تجسيد قصة شعرية , ولاتسعى إلى التورط في هذا المنحى , وإنما تهدف إلى تجسيد حالة شعرية تعتمد تعبيرياً على السرد القصصى , ومن ثم فالقصة المتضمنة في القصيدة ليست مقصودة لذاتها , وإنما هي وسيلة تعبيرية تُقصد لا يحاءاتها وتأثيرها الدرامي , فيما تظل " القصيدة بهذه المثابة تجربة خيالية صادرة عن موقف الشاعر الفكري الخاص , ملونة بمشاعره وعواطفه , وهذا الوصف وحده يخرج القصيدة من باب الشعر القصصي ليضعها في الإطار الغنائي " (1)
والسردية الغنائية بحكم اعتمادها على فنيات الشعر والقصة معاً تبدو خطرة , وأكثر صعوبة من كتابة الشعر أو القصة , فهي تجمـع بينهما بنسب متوازنة , ومن ثم " فهي تتطلب شـاعـراً له أكثر من مقدرة الشاعر، وأكثر من مقدرة القاص "(2)
بقى أن نقول إن السردية الغنائية ليست جديدة على الشعر, فهي مألوفة منذ امرئ القيس وحكائياته في الشعر ,وإن كانت في الشعر المعاصر أكثر استخداماً كأسلوب من الأساليب الدرامية التي شاع استخدامها.
في ديوانه " أحوال الحاكي " يسعى السماح عبد الله إلى تكوين حكائى بداية من وضع "الحاكي "موضع "الشاعر "في عنوان الديوان ، غير أن " أحوال الحاكي "عنوان واصف لمجمل التجارب داخل الديوان , ولم يكن عنواناً لقصيدة بعينها داخل الديوان .
هو يحكى إذن , وهو حاكٍ , وهو ناقل أو قاص للحكاية , باعتبار أن الحكاية كل ما يُحكى ويُقص سواء وقع أو تُخُيَّل , ومن ثم فهي تعطى مدلولها في اتجاهين : أو لهما ناقل للحكاية , وثانيهما : صانع للحكاية .
وأسلوب الحاكي هو السرد , بالنظر إلى المعنى المجازى للسرد قاموسياً والذي يعنى النسج أو جمع الخيوط في قماشة واحدة , ويقال أيضاً : سرد الخبر أي جاء به متتابعاً . والسرد هو اسم للدروع محكمة النسج . ومن ثم فإن أسلوب الحاكي يتصف بالإحكام والتتابع والتوليف بين خيوط أو أطراف الحكاية " القصة " في مادة لغوية متصلة المبنى والمعنى . أن تتبع مدلول الكلمة على هذا النحو ليربطنا بالسرد وبالأسلوب القصصي بقدر ما يبعدنا عن الشعر والأسلوب الشعري , ومع هذا ارتضاه الشاعر عنواناً لديوان شعري ليؤكد به من حيث المبدأ على توجهه السردي .
ولعل إضافة " الحاكي " إلى " أحوال " أعطى انطباعاً مبدئياً بتمحور السرد حول الذات الساردة , حتى وإن كانت مجرد راصدة لأفعال ليست الذات طرفاً فيها , وإنها في جميع الأحوال تقوم بفعل جوهري هو الاختيار والرصد , تختار ما تشاء من أحداث , وترصدها بأسلوبها في حكاية ما .
غير أن الفعل الجوهري لا يبدو في الاختيار والرصد فحسب , بل في النظور السردي الذي يتم من خلاله عرض الحكاية , ومن خلاله أو بواسطته تتم الإحالات والإيحاءات لتعكس رؤية الذات الساردة . أو بالمعنى تغليف الحكاية بوجهة نظر الذات , ورؤيتها , فليس الغرض من الحكاية هو مجرد ممارسة الحكى بقدرما أن الغرض هو عرض رؤية الذات وتجسيدها من خلال الحكى .. إذا كان هذا هو الغرض فبإمكان الذات الساردة أن تتحول من خلال السرد إلى ذات شاعرة إذا ما كانت الرؤى شعرية ، ولها بعدها الوجداني المحلق .المنزاح عن المنطق الحصرى للواقع , إنها غالباً رؤى تبحث عن الحقائق خلف سجفة الفيزيقا , ولها منطقها الخاص الملون بلون الذات الشاعرة وفلسفتها.
وغير ذلك فإن مفردة " أحوال " التي جاءت جمعاً تشي بتنوع وتعدد الأحوال , ومن ثم فهي ليست حالة ذات طابع رتيب متواتر , كما أنها ليست أحوال ذات بعد تساوقي مؤتلف , وإنما هي على الأرجح أحوال تتسم بكثير من التذبذب والتوتر , وتنطوي على كثير من المفارقات والمتناقضات, ومن دون كثير عناءٍ يمكننا أن نتوقف عند " بدء القول " و " خاتمة القول " لنكتشف طبيعة هذا الأحوال .
و" بدء القول " منسوب إلى أبى فراس الحمدانى , جاء فيه :
" وقورٌ وأحداثُ الزمان تنوشنِى
وللموتِ حولي جيئة وذهابُ " صـ5
وإن كان الشاعر قد قطَّع البيت , وأورده بشكل رأسي على غرار ما يكتب شعراء التفعيلة , أو شعراء السطر الشعري .
و "خاتمة القول " منسوب إلى أمل دنقل , جاء فيه :
" أيها السادة لم يبقَ اختيار .
سقط المهر من الأعباء ,
وانحلت سيور العربة
ضاقت الدائرةُ حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف ,
وفى الظهر الجدارة . " صـ89 في بيت أبى نواس : الأسلوب الخبري المفعم بمشاعر الذات الأسيانة المعزولة التي تستشعر الخطر المهلك حولها وهى رغم ذلك لاتزال محتفظة برزانتها وهدوئها , التجربة على هذا لها طابعها الغنائي , وتعبيرياً لها بعدها الاستعارى . فيما جاءت تجربة أمل دنقل تعبيرياً متنوعة بين الخبر والإنشاء لها بعديها الرمزي والاستعارى , حاملة مشاعر الذات التي تستشعر الخطر وسط حشد من مشاعر التداعي المفضي إلى نهاية مؤسفة , ومن ثم تأتى التجربة مفعمة بمشاعر الأسى والتهكم فما قوله : أيها السادة " إلاحاملاً لهذه النبرة المتهكمة , لكأنه يريد : " أيها السادة الذين ولَّت عنهم السيادة " , فيما أتت التجربة حاملة صورة الذات التي ترى نفسها وسط المجموع , ليست معزولة عن أمتها المتداعية , وعليه فإن بين قول أبى فراس وأمل دنقل وشائج متصلة , وإن اختلف الأسلوب والتعبير , ووضعية الذات .
ولاشك إن حصر تجارب " أحوال الحاكي " بين قوسي أبى فراس وأمل دنقل مفضٍ إلى تلاقح تجارب هذا الديوان مع تجربتي أبى فراس ، وأمل دنقل .. على المستوى الرؤيوى والنظرة إلى الحياة وإلى وضعية الذات في انفرادها أو انتمائها , ومدى الشعور بالخطر والنهاية المؤسفة وفى نبرة الحزن والأسى , ونبرة الهدوء التي تسربل الذات حتى وهى تواجه موتها المؤسف .. هذا الهدوء وحده هو ما أهل الذات لممارسة التأمل والتفلسف في اللحظات الأخيرة , وربما هو ديدن الذات المبدعة أن تلقى بتعليقاتها الأخيرة على المشهد الأخير, لقد عزَّ عليها أن تموت صامتة , كما عزَّ عليها ـ رغم الخطر ـ أن تفرط في وقارها ورزانتها.
لاشك إن حصر أحوال الحاكي بين قوسي أبى فراس الحمدانى وأمل دنقل له دلالته البالغة , فالأول هو الأمير العاشق, عزيز القوم الذي ذلَّ .. كان شاعراً وفارساً, وشارك في الحرب ضد الروم , ووقع في أسرهم , وافتداه ابن عمه سيف الدولة الحمدانى .. حياته مزيج من الصراع بين مكانته الاجتماعية كرجل دولة , وبين قلبه المترامي نحو المحبوبة الممعنة في الصدود والتدلل , كما كانت حياته مزيجاً من الصراع بين حياة العزَّة والفروسية و المنعة, وبين حياة الأسير الذي يعانى الوحدة والانقطاع والمصير المجهول بين الأمن والخطر , بين الأمل واليأس . والثاني هو أمير شعراء الرفض, الثوري الكبير الذي عاش حياته فوق مهبات رياح الصعلكة والتشرد في المدينة الكبيرة التي تهيمن بمركزيتها وأهواء ساستها على مصير الأمة , كانت حياته مزيجاً من الصراع بين حياة العربي المعتز بأمته وأمجادها وتراثها, وبين حياة العربي المنكسر الخاضع لهيمنة قوى استعمارية تفرض عليه وضعيةً ذليلة تجبره على تقبل الاستسلام باسم السلام.
ربما أن السماح عبد الله قد أثقل على كاهله كثيراً عندما حصر تجربته بين قوسي أبى فراس وأمل دنقل، لكنما وتخفيفاً عن كاهل شاعرنا سنكتفي بما يعطيه هذا الحصر من دلالات ترتبط مباشرة بمدلول مفردة " أحوال " لنعى أنها أحوال تنطوي على كثير من التذبذب بين المتناقضات .. هي أحوال ذات طابع درامي مشف عن التقلب بين القمة والقاع , بين السرور والأحزان , بين الرضا والسخط, بين الانكسار والثورية , بين العزة والاعتداد بالنفس, والتشتت والضياع, بين الشعور بالانتماء والارتباط بالذات الكبرى متمثلة في الأمة كلها وبين الشعور بالغربة والوحدة والانقطاع واجترار أحزان الذات المفرودة, بين الحلم اليوتوبى وبين رفض الوقع والسخرية منه .. إنها إذن أحوال الذات التي تمارس الغناء الملون بألوان زخمها الفكري والشعوري الذي لا ينفصل عن واقعها بما يشمله هذا الواقع من متناقضات ومفارقات .
عبدالجواد خفاجى
E.m:khfajy58@yahoo.com
( ُيْتبع )
عبدالجواد خفاجى غير متصل رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
عبدالجواد خفاجى
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن المشاركات التي كتبها عبدالجواد خفاجى
قديم 09-03-07, 02:53 AM #3
معلومات العضو
عبدالجواد خفاجى
شاعر و كاتب
إحصائية العضو
عبدالجواد خفاجى غير متصل
افتراضي تابع: السردية الغنائية فى ديوان أحوال الحاكى
السردية الغنائية
في ديوان " أحوال الحاكي " للشاعر السماح عبد الله
دراسة : عبد الجواد خفاجى
3ـ بنية السرد وآلياته .
الحكاية لها فنياتها ومكوناتها الأساسية من شخوص يتجسد بواسطتها الحدث في الزمان والمكان , ومن ثم فالحركة تظل من الفعاليات السردية الدرامية التي يتشكل بها الحدث ، إضافة إلى العناصر الأخرى كالحوار والمونولوج, والوصف, ومن يقرأ " أحوال الحاكي " يجد تجليات لكل هذه العناصر , لاتفرق أبداً عن الأداء الغنائي , فبالقدر الذي يصف فيه الشاعر المشهد الحكائى, ويعدد متوالياته, وكأنه يكتب قصة , نجده ينحت هذا البناء من تعبيرات موسيقية يتنامي فيها الإيقاع, ويتجلي عبر حركة البناء وجروس التراكيب والألفاظ . وفي كثير من النصوص ـ علي نحو ما سنرى ـ كان يخفت هذا البعد الإيقاعي ويتواري خلف السرد, أو بالمعني تخفت حدة الغنائية إلي الحد الذي يصبح فيه الشاعر حاكياً بالمعني الحرفىّ لا المجازي .
والزمن جزء من بنية الحكاية" زمن الحكاية" يتحكم في نمو وتوالد الحدث وفيه تتجسد حركة الأشياء والكائنات . وغالباً ما يعتلي السارد أو الحاكي الزمن بذاكرته"الفلاش باك" ليعود القهقرى إلي الماضي البعيد لينقل لنا مشاهد وأحداث من طفولته أو عنها.
في نص " فالتقطها بقلب وجيف" تبدأ ذاكرة السارد فعلها بتذكر ذلك الماضي البعيد, وقد كان الحاكي طفلاً يُرسِّم أولي علاقاته العاطفية مع "سعاد" زميلة الدراسة.. لحظات من البراءة وبكارة الحياة وطزاجتها تجد الذات مبرراً الآن لتذكرها تفلتاً من لحظة الحاضر " زمن السارد" يبدأ النص بالتساؤل:" لأين ترى ذهبتْ/, طفلة المدرسة. / سعاد التي منذ عشرين عاماً كتبتُ له حلَّ/, أسئلة الامتحانات..." صـ7
كل الأفعال في النص تشير إلي ذلك الماضي:" ذهبتْ ـ كتبتُ ـ كان المدرس ـ أنهي ـ الخ " في النص تبدو الشخصيتان : السارد وسعاد, وهما يمارسان ترسيم علاقة جديدة في الزمن, في الوقت الذي ينشغل فيه الآخرون بحشو دماغيهما بالأحاديث المعادة, إلي أن أتت مُدِّرسة الهندسة .. لكأن الحياة تهندسُ لهما مصيراً غير ما يصنعان؟!
في نص " ويدق بيوت الأطفال" تبدأ الذاكرة فعلها في تذكر الماضي البعيد ـ أيضاً ـ حيث السارد الذي ينقل واقعات ما حدث :" خبَّط في طرقات القرية حتى وصل إلينا/, أعطى كلاً منا/, شجرة." صـ11
وفيما يتجه فعل التذكر من الماضي البعيد إلي الماضي القريب:" السنوات المارة كقطار/, مرَّت كقطارٍ/, ضربتْ في الذاكرة وفي الفودين وفي القلب/, كمطرقةٍ..الخ " يعكس النص شعور الذات بالتلاشي, وبالزمن الذي يتصرَّم حولها, والعمر الذي يسرع الخطو نحو النهاية, وقد أزهرت الأشجار, ولكن بعد أن وليَّ قطار العمر.
يلاحظ استخدام السارد لضمير الجمع" وصل إلينا ـ أعطي كلاَّ مِنا..."ومن ثم فالرؤية تتسع لتشمل الجميع, وفيما بدت الشخصية التي توزع الأشجار علي أطفال القري فوق الشيخوخة, فالزمن حولها يمر, والأشجار تثمر والصغار يكبرون, وهي كما هي .. إذن هي شخصية فوق الزمن, أو لتكن الزمن نفسه, ومن هنا ينفتح النص علي السحري والرمزي معاً .
الملاحظ في النصين السابقين أن تجربة السرد تنطلق أساساً من علاقة السارد بالحياة, وهو فيما عرض من رؤى يعكس إحساسه بالزمن , ويعيد تأمل الماضي, كما يعيد تأمل نفسه في ضوء ما مضى, ومن ثم فالبعد الوجداني يبدو واضحاً, ولقد جاء النص حاملاً بعداً إيقاعياً خفياً يمثله توالى السرد علي تفعيلة المتقارب في النص الأول وتفعيلة المتدارك في النص الثاني, وإن كان الإيقاع التفعيلى هنا جاء كخلفية متوارية ولم تأخذ الصدارة في الضغط علي حس المتلقي, وربما أن هذه سمة النصوص التي تعتمد خاصية التدوير بما يعنيه من اتصال عروضي ونحوي يسمح بتدفق السرد وتتابعه حتى لأن النص بدا كما لو كان جملة واحدة.
كما تتجسد شاعرية النص في لغته التصويرية والإيحائية التي تشف عن البعد النفسي للشخصية" فالتقطتها بقلب وجيف وكف مخوف" ـ " فطبقت الكلماتِ العشيقةُ بين أصابعها في حنو.." ـ "خَبَّط في طرقات القرية" ـ الأفعال المستخدمة أيضاً كانت موحية بطباع الشخصية ودوافعها وملامحها النفسية ولنا أن نتأمل إيحاءات الفعل " خبَّط " و"يخبِّط" لنقف عند ملامح إنسان مصمم علي الفعل كثير الحركة, وغير ذلك من أفعال كانت موحية أيضاً فى اتجاه مشاعر الذات فلنا أن نتأمل الأفعال في الجملة الآتية " السنوات المارة كقطارٍ /، مرت كقطارٍ / ضربت في الذاكرة وفى الفودين وفى القلب /، كمطرقة " لندرك مدى إحساس الذات بتلاشي العمر ، وتصرُّم الزمن ومدى أثره العنيف ظاهرياً على الأقل . وربما أن إيحاءات الأفعال في مثل الجملة الأخيرة هذه أكثر تأكيداً على شعرية النص لأنه يرتبط مباشرة بتجربة الشاعر / الحاكى الوجدانية .
في نص " وتبتدئان في رفس المياه " اللحظة الآنية التي يتوحد فيها زمن الأحداث مع زمن السرد حيث يثبت السارد عينيه " كاميرته " ليقوم بنقل ما يتم ممارساً " الرؤية مع " وكأنه يسير مع الشخوص ليصف أفعالهم ، دون أن يكون طرفاً في صُنع الأحداث . وحيث الدخول المباغت إلى لحظة القص الآنية ، والتركيز على الوصف والمشهدية :" أتتا معاً / امرأة /، تلبس فستاناً نهارياً له شمس تضوي أنة /، وتغيبُ /، حتى تهطل الأمطار /، وامرأة /، لها زىُُّ نسائي /، له قمر /، وبضعة أنجم /، وسحابتان /، وغابة مهجورة /، أتتا من الحقل البعيد / تخوَّضان الحقل /, والمستنقعات /, وتعبران على مماشي الزرع/، حتى جاءتا الإسفلت ..."صـ17
في النص تأخذ المرأتان بعداً رمزيّاً بارتدائهما زيىَّ المساء والنهار .. وهما امرأتان مجهولتان أتتا من البعيد يرسمان حركة الزمن الذي يتقدم لتتشكل مع حركته الفصول, ووجه الحياة البشرية بتغيراتها وتشكيلاتها, فقد بدأت فطرية, من الطبيعة وإليها حتى أتت الإسفلت بما يشي به من بعد حضاري عصري.. ماذا يفعل الزمن غير أنه يمضي لغايته, وكأنه يعطي ظهره للناس, إلي أن يتصَّرم؟" تغربُ شمسة الأولي/, فتنهض/وهي تقفل زرَّ فستان النهار/, فتنهض الأخرى".. إلام سيصل بنا الزمن وكيف أن الحياة بقدر ما تزداد جمالاً تزداد تعقداً بمضيِّه إلي الأمام؟الحياة التي بدأت من الماء لتنتشر في طبيعة هادئة, كما لو كانت غابة مهجورة يعمها الهدوء والسكينة.. ها هي وقد أصبحت كالغابة فعلاً, لكنما لم تعد مهجورة, وإن كان يعمها الخراب.
ومثلما يحمل النص أبعاداً رمزية يحمل أيضاً بعده الفلسفي الذي يميل إلي احتضان الطبيعة والفطرية, ويري أن الزمن يسير بنا في حركة هابطة إلي الفساد النهائي:" وتمشَّيا معاً /, بخطو واهنٍ/, ذي خلةٍ عرجاء/, حتى تدخلا شجراً يشكل غابة خربانةً/, ظهراها للناس/, والقمر الشفيف.." صـ22
الوصف أيضاً من البني السردية التي اعتمد عليها هذا النص, سواء وصف حركة المرأتين أو مشاهد الطبيعة أو وصف المرأتين:" والسمك الذي يقفز بين الحين والحين/, ترشان علي وجهيهما الماء المندى/,..." صـ19 وكذلك:" وتقعدان معاً/, علي حجر رخاميٍّ/, لملمسه/, حرير الزغب الطالع من نهدٍ بدائي/, وتبد آن في رش المياه بفرحةٍ...الخ " صـ18
لم يكن الوصف لمجرد الوصف, أو لمجرد ملء وعاء الزمن, وإنما كان واقعاً في إطار المنظور السردي الذي يركز علي جماليات بعينها تعكس إعجاب السارد بالطبيعة ودرجة إحساسه بروعة الحياة في معناها الفطري والطبيعي. حيث تتداخل فتنة المرأة والطبيعة والزمن, فإذا كان الزمن يتوالى في ثوبين: ليل ونهار , فلدينا امرأتان, ولكل وقتٍ فتنته, ولكل امرأة فتنتها, إحداهما ترتدي فستاناً نهارياً, والأخرى ليلياً .. تشتجران وتتبادلان الخطو, فيما يتحرك الزمن حولهما, منسجماً مع حركتيهما أو إرادتهما.
والمشهد يشف عن إيقاع الحركة, إذ الأفعال المضارعة المتوالية من عينة:" تمشيان بخطو واهن ـ تشتجران فيما يشبه الغضب الخفيف ـ تقعدان معاً ـ تبدئان في رفس المياه ـ ترشان علي وجهيهما الماء... الخ" وثمة إيقاع حركي موائم في الطبيعة:" تقفز الأسماك بين الحين والحين ـ تغرب الشمس ـ يصعد قمر ...الخ" وثمة ما يوحي بالسكون والهدوء:" حقل ـ مستنقعات ـ غابة مهجورة ـ مماشي الزروع ـ حجر رخامي ـ غابة خربانة...الخ" وثمة روعة في المشهد:" شمس كبيرة ـ طيور راجعات ـ سمك يتقافز ـ البحر ـ النجوم ـ القمر الشفيق..الخ"
إيقاع المشهد أو الحركة في المشهد لا شك يشكل جزءاً من نسيج السرد وهو هنا يعكس حالة من الإعجاب, والانجذاب الوجداني لدي السارد للقيم الطبيعية والفطرية التي يحويها هذا المشهد, ومن ثم جاء السرد محملاً بما يدلل به السارد علي هذا الإعجاب والانجذاب ألا وهو الإيقاع ولا شك إنه عالم مثير للإعجاب والدهشة أن تتوالى حركة امرأتين في طقس ساحلي هادئ, بحركتيهما الحثيثة الهادئة نحو البحر.. عالم سحري بديع تندمج فيه سحرية الأنوثة والطبيعة معاً, ومن ثم كان الإيقاع متوائماً مع الهدوء والحركة الوئيدة.
ثمة إيقاع اللفظ أو الإيقاع الكمي ممثلاً في البناء النغمي الذي نحس به بطريقة شبه سرية, لأنه لم يكن يأخذ مكان الصدارة, متوارياً خلف السرد مُشِّكلاً خلفية إيقاعية للكلام, تتداخل, فيه تفعيلتي المتقارب والمتدارك دون قصدية, لكأن الإيقاع يتمثل تنوع الخطو المزدوج للمرأتين, بتجاوز تفعيلتين متقاربتين إيقاعياً.
وثمة إيقاع حروفي ناتج عن تكرار حروف بعينها مثل تكرار حرفيّ السين والشين, من شأن هذا الوقع النغمي الحر وفي للسين والشين أن يغلف المشهد والصور بوقع يوحي بالسكونية والهمس والهدوء كما نلاحظ ذلك في المفردات" مماشي ـ شمس ـ تشد ـ يشبه ـ تشتجران ـ الشجر ـ المعشق...الخ" و" مسائي ـ سحابتان ـ مستنقعات ـ إسفلت ـ شمس ـ تلبس ـ فستان..الخ"
المونولوج يعد آلية من آليات السرد, انفرد به النص المعنون" وجودو تأخر أكثر مما يجب" النص الذي يحمل نبرة تشاؤمية, طالما أن الزمن يسير في حركة هابطة إلي الأسوأ, فإن الغد ليس أجمل من اليوم:" إن غداً ليس أجمل من يومنا المتكسر في درجات النهار" صـ 25 وطالما أن التجارب الجمالية في هذا الوجود تظل منزاحة, ومتقهقرة أمام تيارات القبح الكاسحة.
ثمة شعور بثقل الواقع المتجهم الشرس المطبق علي الذات صاحبة المشروع الجمالي, إذ تحاصرها قسوة الواقع وجهامته, وقد أضحت اللحظة مشحونة بالشر. التجربة في هذا النص قائمة علي تصور الذات وسط حشد من أصوات سالفة مارست التجربة الجمالية في هذه الحياة.. تتساءل التجربة ضمنياً: فيما جاءوا؟ وكأنها تقرر: جاءوا ثم عادوا, والبلاء باقٍ, ولم يزل داؤنا العياء! .. لاشك إنه الشعور الخفي بعبثية التجربة الجمالية في واقع مبارز بالقبح والشر.. يعلو بفداحة شره فوق كل الأصوات التي تصدت لبربرية الواقع عبر الزمن .. ربما لذلك يبدأ النص بصوت داخلي:" البرابرة المتعبون أتوا يا كفافي" صـ25 إنهم متعبون لما بذلوه من جهد كبير .. جاءوا ليمكثوا طويلاً في راحة طويلة وقد استتب لهم الأمر!
النص حافل بحشد من أسماء الأعلام الذين مارسوا دوراً جمالياً فوق الأرض:" كفافي ـ ناظم ـ رامبو ـ ماركيز ـ جودو ـ زوربا ـ المتنبي - المعري" وثمة شعور بالعجز والانقطاع والضياع:" فمن لك يا قورىَّ الخطا/, وصحابك/, مازال حلمهم في المنافي؟" صـ28
الملاحظ أن النص متصل نحوياً وعروضياً شأنه شأن كافة نصوص الديوان مشَكِّلاً بذلك حواراً ذاتياً متصلاً يوحي بالزمن: سأقول لناظم (الآن) ـ إن غداً ( المستقبل ) ـ ليس أجمل من يومنا ( الآن ) ـ وزورق رامبو تداعى ( الماضي ) ـ المتنبى ضلله الله في رمل مصر ( الماضي ) ـ فمن لك يا قورىَّ الخطى ؟ ( الآن وغداً )
المونولوج في هذا النص يضع كل الماضي الجمالي في خبر كان ، بينما الحاضر كله خَضَع لسيطرة البرابرة ، فيما تخلَّف المخَلِّصون ودعاة الإنسانية والمصلحون وقد هلك من هلك منهم في الطريق ، تخلفوا عن الحضور وقد تر صدتهم عوامل الشر ، وحالت أقدارهم دون الوصول ، ومن ثم كانت نبرة الأسى التي سيطرت على النص ، كما شاعت نبرة الترحم على البشرية والغد الآتي . من المعلوم أن المونولوج يكون بمثابة المناسبة التي تخلو فيها الذات إلى نفسها بعيداً عن منطقة الواقع ومنطقة المجافى ، ومن ثم يكون مناسبة لمجاوزة الشعور الذي يثقل الذات ويستثقل هذا الواقع إلى اللا شعور ، ومن ثم فإن لغته أقرب إلى اللغة الحُلميَّة التي تتجاوز العقلنة الرتيبة التي تقيم اشتراطاتها الممنطقة على الذات . أو بالمعنى يكون المونولوج فرصة الذات لممارسة هذياتها الحلمى ، والإفضاء بمخاوفها وكوابيسها ، وفق منطق لا شعوري " تيار الوعي " وإن شئنا الدقة "تيار اللاوعي " ، ومن تلك المنطقة تحديدا تمارس الذات عجن الأزمنة ، فالماضى ليس ماضيًّا ، وقد أصبح الوجود كله شاخصًا الآن في صراع مصيرىٍّ قائم .. كفافى لم يمت بل هو حى وإلا فما معنى النداء " يا كفافى " وناظم حكمت أيضا لم يمت " سأقوم لناظم " ورامبو لا يزال فى صراعة مع الحياة ، وإن كان زورقه قد تداعى ، وجودو تأخر أكثر مما يجب ، والمتنبي ضلله الله في رمل مصر وبغداد والشام ، وكلاب المعرة لا تزال تنبح ، وأبو العلاء المعرى الضرير لا يزال يحاول اجتياز الخطر .. وهكذا تظل لعبة اتصال الأنا بالآخرين في النص دليلاً على تلاشى الفروق بين الوعي واللا وعى أو بين اليقظة التي تستوجب الهروب ، والحلم الذي يهئ رؤية الماضي مجسداً في صورة منهزمة كسيحة لم تؤهل الجماليين للوصول ، ومن خلال السفر الحلمى إلى الماضي أمكن نقل صور كثيرة كسيحة منهزمة للأعلام الذين ورد ذكرهم في النص ، .. هذا السفر الكابوسى المعانق للماضي هو بلا شك انعكاس للقلق والعذاب المستقرين فى نفس الشاعر ، ووليد الإحباط الكامن في الأعماق .
وطبيعي بعد هذا السفر أن تتركب الصور وتترادف على نحوٍ مكثف لا يخضع لمنطق الوجود الخارجي ولا للعلاقات الممكنة .
من النصوص التي تقترب من المونولوج يأتى ـ أيضاً ـ نص " ثم أطوحها في الفضاء " حيث تجرى الذات حواراً مع نفسها : " سأعطيك عشرين نارنجة / , لتغنىَّ.." صـ29.. تشتق الذات من نفسها أنيساً تحاوره بضمير المخاطَب إلى أن تعلن عن نفسها بشكل أكثر صراحة عن طريق الالتفات : " أقطَّع من عمري المَّر بعضاً من اللحظات/, البهيحة /, أو أتصيَّد ذكرى مغامرةٍ في الطفولة .."صـ30
في هذا النص تجنح الذات المتفلِّتة من إسار اللحظة القاسية إلى فسحة الغناء والتذكر.. الغناء يظل مشروعاً جمالياً أمام " القروي "/ السارد الذي يعالج أدواءه بالغناء, فيما تظل ذكريات الطفولة مناط الذات ببراءتها و فطريتها, وتخففها من الإحساس بثقل الواقع:" أوقف تمر النخيل عليك لمدة عشرين/, عاماً/ شريطة أن تضرب العود/, يا قروي الكلام/,وتشدو" صـ31 المهم أن الاستمرار في الغناء في هذا الواقع العصيب يبدو باهظ الثمن, بيد أن البحث لا يزال قائماً عن لحظة للغناء والشدو, تشي بذلك أزمنة الأفعال:" سأعطيك ـ أقطّع ـ أتصيَّد ـ أوقف.." كلها أفعال مضارعة تعطي دلالتها في الاستمرار والتجدد, وتربطنا بلحظة آنية للحوار, وإن كان التصريح:" لمدة عشرين عاماً" يعطي إمكانية الاستمرار في دفع الثمن لسنوات طويلة قادمة.
في نص " إلي آخرة الليل" الاعتماد علي سارد مطمئن ينقل حدثاً ما.. يبدأ النص بالإعلان عن اسم الشخصية المحكي عنها:" اسمها سامرة الحىّ /, وأم الفقراء" هي قيمة جمالية أيضاً في حيزها.. ربما لهذا يترصدها الموت " خطط الموتُ نهاراً كلاماً/, من طلعة الشمس/, إلي آخرة الليل/, لكي يحظي بها.." وربما لهذا قدم الموت الكثير من القرابين لكي يحظى بها, وهكذا هي القيم الجميلة في الحياة تنزاح بفعل فاعل,حتى وإن كان الثمن فادحاً, وبهذا تتلاقح الرؤية في هذا النص مع سابقه.
النص يحمل شكل الحكاية المضفورة بعناية دون استغراق في التفاصيل وعدم الاكتراث بالاستطراد نحو نهاية حتمية للأقصوصة, فكل ما يعني الحاكي أن يعرض للكيفية التي يترصد بها الموت سامرة الحىّ, وإن كانت النهاية أضحت معلومة, إذ لابد أن يفوز الموت الذي قام بكل هذه الخطط وقدم كل هذا الثمن.
يضعنا النص رغم قصره أمام الوجه الدرامى المفارق للواقع ، عندما يضع سامرة الحى ، وأم الفقراء فى مواجهة مباشرة مع الموت بطغيانه وقدرته العالية على تنفيذ مخططاته ، لكأن الحياة تأبى أن يكون لقفراء أماً أو سميراً !، لنتساءل بعد هذا المشهد : الحياة لمن ؟!
لعل هذا النص من النصوص التى بدا الشاعرفيها متورطاً فى كتابة أقصوصة لها طرافتها ، وقيمتها الرؤيوية وإن كانت فنياً تسير فى نظام البناء الأفقى الرتيب ، الذى يُتبع الحدث بحدث, ويحرص علي الترابط وهو ينمو إلي الأمام, وإن كانت درامياً غير مقنعة لأن الدراما لا تتجسد في المجردات علي نحو ما جاء الموت في النص مجرداً .
لم نلحظ ما ندلل به تعبيرياً علي أن ثمة تجربة وجدانية وراء تجربة الكتابة وإن كان النص قد اعتمد إيقاعياً علي المزج بين تفعيلتي المتدارك والمتقارب, لكن مثل هذا التنميط الإيقاعي يأتي من باب النظم, إذ ينتظم النص في إيقاع ما دون أن يكون مرتبطاً بتجربة وجدانية علي نحو ما يمكن أن نري في كل النظميات الموقعة.
من النصوص التي بدا فيها الشاعر متورطاً في كتابة قصة هو نص" حين جا وأشعل الحريقة" حيث السارد الذي يسرد بضمير الجمع, وحيث الحدث الفانتازي الذي يتقافز فيه الجميع إلي النار تقليداً للسيد الأكبر فيهم الذي ألقي بنفسه في النار, وقد أعجبهم منظره:" ورأيناه/, وهو تأكله النارُ/, وتلقيه إلي أعلي/,وتلقفه/, وهو مبتهج.." صـ41 يمكننا أن نلحظ دور السارد وهو يمارس الحكي حول هذا الحدث منذ البداية:" كنا مسافرين/, حين جا/, وأشغل الحريقة" صـ39 في إشارة إلي زمن الحدث"كنا" لتتوالي الأفعال بعد ذلك لتدل علي هذا الماضي والحدث الذي ينمو متجهاً إلي الأمام أي إلي المنطقة الأحدث في الزمن" الماضي القريب":" قام ـ ارتمي ـ كان يغني ـ قلنا..إلخ" حتى ينتهي الحدث بانتهاء القصة نهاية مسبوقة بما يمهد لها.
الملاحظ في النص أنه بالرغم من اعتماده علي التفعيلة حيث جاءت الجملة الأولي معتمدة علي تفعيلة الرجز ليعتمد النص بعد ذلك علي تفعيلتي المتدارك والمتقارب المتداخلتين أو المتبادلتين إلا أن هذا النظام التفعيلي كان كخلفية باهتة أمام انسيابية الحدث ونموه واتصاله نحوياً, وإن كان البارز هو إيقاع الحدث والمشهد كما تشي بذلك الحركة المتوالية للأفعال:" قمنا مثل دائرة ـ شبكنا أصابعنا النحيلة في أصابعنا النحيلة ـ ارتمينا فرحين ـ تغنينا ولوحنا.." وثمة إيقاع المشهد:" وكُنَّا قد أُخذنا بغتة/, بطقصقاتها/, ومهرجان لونها العذري/, قام السيد الأكبر فينا/, خالعاً جلبابه القطنيّ/, وارتمي في حضنها/, وهو يغني.." صـ40
لقد استغرقت الحكاية السارد, ومن ثم كان مهموماً بإيقاع الحدث لا إيقاع اللفظ, فيما بدا مطمئناً وهو يسرد منذ البداية حيث بدأ بالتمهيد لحكايته ثم تتبع الحدث, ووصف الحركة, والحركة المضادة, وكان مطمئناً وهو يمهد للنهاية أيضاً في إيقاع لفظي ختامي( ارتمينا ـ تغنينا ـ لوحنا ـ تذوقنا) إلي أن ينهي حكايته بـ " شممنا عطرنا للمرة الأولي/, تذوقنا/, رحيقه" صـ43 . وهكذا تنتهي الحكاية يا سادة يا كرام, وقد أخرجت النار جوهر الأشياء, وطهرتها من الشوائب. الإشكالية أن النار رمز العذاب والألم ومصدرهما الحسي تحولت في الحدث إلي مهرجان يتسابق الجميع إليه, ومن هنا تأخذ النار رمزيتها في هذا الألم والمعاناة اللذين لابد منهما للوصول إلي بهجة الدنيا.. لكأننا لكي نبتهج في هذه الحياة لابد أن نرتاد النار, ولا توجد حلوي بغير هذه النار علي حد تعبير المثل الشعبي.
النص ولاشك محمل بقدر كبير من الشاعرية( ولا أقول الشعرية) من خلال حيودات الغة التي تنقل حدثاً فنتازياً عن طريق الصور والمشاهد" مهرجان لونها العذري ـ محدقين فى جمالها العريان ـ دغدغات النار في الجلد المشقق" ومن خلال المفارقات التي تضمنتها الحكاية " ارتمي في حضنها وهو يغني ـ تأكله النار وهي مبتهج " لكنما وأمام التقهقر الحاد للإيقاع الكمي للغة وسيطرة إيقاع الحدث نفسه وأمام اطمئنان السارد, وتبرؤ التجربة من البعد الوجداني تبعد التجربة عن السردية الغنائية, وتقترب من السرد القصصي الاعتيادي, الذي يقدمه سارد مطمئن تماماً إذ يسعي إلي طرافةِ القص, دونما قلق نفسي أو وجداني يجعله صاحب تجربة وجدانية. .
عبدالجواد خفاجى
E.m:khfajy58@yahoo.com
في ديوان " أحوال الحاكي " للشاعر السماح عبد الله
دراسة : عبد الجواد خفاجى
2ـ السردية الغنائية ودلالات العنوان :
ثمة فارق كبير بين نص سردى يأتى في سياق قصصي , ونفس النص إذا جاء في سياق شِعرى . إن حاصل جمع أساليب النص في الحالتين ستكون واحدة , فلدىَّ عبارة من عينة : " أستعدُّ الآن للريح التي تهب من خلف التخوم " هذا المعطى السردى لو ورد في سياق قصصي سيختلف مدلوله تماماً عن وروده في سياق شعري , ومن ثم فإن مسألة الاكتفاء بتحصيل أساليب النص في النقد الأدبي تبدو عملية " عبيطة " لأنها تستثنى الموقف الأدبي والسياق , غير أنها تحول الناقد إلى " ريبوت " مهمته تحصيل أساليب النص .
إنها عملية آلية يمكن أن يقوم بها أي إنسان آلي مبرمَج , والمسألة في النقد الأدبي أعقد من هذا بكثير . فعلىَّ كإنسان له ذائقته وبصيرته أن أحدد إلى أي اتجاه أنظر , وبصرف النظر عن اللافتة التوضيحية التي وضعها الشاعر على غلاف كتابه , والتي تعنى ضمنياً : " يوجد توحه شعرىّ بالدخل " فكلمة " شعر " على كثير من أغلفة الكتب تنطوي على أبعاد متباينة بين المخادعة بمعنى التضليل والبراءة بمعنى الغرة , وبين الصدق والادعاء , وبين الحقيقة والمجاز وبين المجازفة بالفن والفن المجازف , وبين هذه الأبعاد ليس على الشاعر إلا أن يعرف متى وكيف يكون توجهه نحو الكتابة شعرياً وعلى نحو أكيد ؛ ذلك لأن كل النصوص الأدبية على عموميتها تحمل ملامحها الأدبية والشاعرية وإن اختلفنا حول درجتيهما , لكنما ليست كل النصوص تحمل إلى جانب ذلك ملمحها الشعري .
والمسألة أبسط من أن نختلف حولها , فأمامي امرأة جميلة وتمثال لهذه المرأة الجميلة..الريبوت
يقول أن مقاييس الجمال واحدة في الحالتين .
هذه العملية هي ما اسميها الآن : حاصل جمع أساليب النص , وهى عملية لاتفرق بين المرأة الجميلة وتمثال لها .
يمكنني أن أنظر في بنية السرد وآلياته في نصوص هذا الكتاب الذي أمامي الآن , وبصرف النظر عما إذا كان مجرد سرد له بنياته وآلياته أم أنه بالفعل سرد غنائي له نفس البنيات والآليات .. إنني حقيقة بحاجة منذ البداية لتحديد الإطار الذي أنظر فيه , أو بالمعنى بحاجة لأن أعرف متى أقول : هاهنا شعر , أو هاهنا قصة .
وعودة إلى المثال الذي سقناه وأنا أمام المرأة الجميلة وتمثال لها , ولاشك إنني كإنسان له بصيرته أعرف متى أقول هاهنا حياة , ومتى أقول : هاهنا صنم . لكنما المسألة في النقد أعقد من هذا لأنها تتعلق مبدئياً بأحكام جمالية يجب أن تكون مبررة ومقنعة, ومهما يكن تعقد هذه الإشكالية فإنها تختلف جذرياً في كل حالةٍ عن الأخرى, فنحن أمام تمثال المرأة الجميلة نعاين مكونات جمالية تنسب إلى المرأة الأصل " الحيَّة "ومن ثم فكلما كان التمثال مطابقاً للأصل كلما كان جميلاً , أو ما نسميه : " مطابقته للمكونات الاعتيادية " أما إذا كنا أمام المرأة الجميلة نفسها فنحن نعاين مكونات جمالية تنسب إلى الجنس النسائي عموماً , ومن ثم فنحن نعاين جماليات هذه المرأة في إطار ما تحمله من سمات نوعية جمالية فارقة عن أي امرأة أخرى عاينّاها من قبل أو في إطار ما نسميه : " انزياحها عن المكونات الاعتيادية " .. ألم أقل إننا بحاجة ـ منذ البداية ـ للآن نعرف إلامَ ننظر وماذا نعاين ؟ وربما أن الإجابة على هذا السؤال سيكشف عنها التحليل النصي . وهى مهمة تعتمد أساساً على يقين الباحث بأن الفارق بين المعطى السردي القصصي, والسردية الغنائية يكمن في الفارق الجوهري بين القصة , والشعر , وهو فارق يقوم أساساً على اعتبار التجربة الوجدانية هي الفارق بين الشعر وغيره , والتجربة الوجدانية يمكن معاينتها نصوصيًّا في الجانب الإيقاعي الذي يحمل الوجدان في صورة صوتية يحملها النص , كما يمكن معاينته في اللغة الإيحائية والتصويرية والرمزية المشفَّة عن هذا الجانب الوجدان , وبغير ذلك فنحن أمام معطى سردى قصصي يتبرأ من الشِعرية , وإن كان غير متبرئ من الشاعرية .
ثمة فارق جوهرىٌّ إذن : الشِعر تعبير عن حالة تسكن القصيدة , أكثر منه تعبير عن دلالةٍ تسكن النص , وإن كان العكس هو الصحيح في تعريف النص القصصي .
والسردية الغنائية على هذا وليدة حالة وجدانية يجد الشاعر من الأنسب لها أن تتجسد تعبيرياً في ثوب قصصىًّ لا يتبرأ من إيقاع الشعر ,ومن ثم فالإيقاع في السردية الغنائية ليس حلية تجميلية على نحوما يتشكل في المقامة , أو القصة المنظومة , كما أنه ليس خلفية تجرى الأحداث أمامها , إنه ـ ولاشك ـ صورة إيقاعية للحالة الشعورية .
السردية الغنائية لا تهدف إذن إلى تجسيد قصة شعرية , ولاتسعى إلى التورط في هذا المنحى , وإنما تهدف إلى تجسيد حالة شعرية تعتمد تعبيرياً على السرد القصصى , ومن ثم فالقصة المتضمنة في القصيدة ليست مقصودة لذاتها , وإنما هي وسيلة تعبيرية تُقصد لا يحاءاتها وتأثيرها الدرامي , فيما تظل " القصيدة بهذه المثابة تجربة خيالية صادرة عن موقف الشاعر الفكري الخاص , ملونة بمشاعره وعواطفه , وهذا الوصف وحده يخرج القصيدة من باب الشعر القصصي ليضعها في الإطار الغنائي " (1)
والسردية الغنائية بحكم اعتمادها على فنيات الشعر والقصة معاً تبدو خطرة , وأكثر صعوبة من كتابة الشعر أو القصة , فهي تجمـع بينهما بنسب متوازنة , ومن ثم " فهي تتطلب شـاعـراً له أكثر من مقدرة الشاعر، وأكثر من مقدرة القاص "(2)
بقى أن نقول إن السردية الغنائية ليست جديدة على الشعر, فهي مألوفة منذ امرئ القيس وحكائياته في الشعر ,وإن كانت في الشعر المعاصر أكثر استخداماً كأسلوب من الأساليب الدرامية التي شاع استخدامها.
في ديوانه " أحوال الحاكي " يسعى السماح عبد الله إلى تكوين حكائى بداية من وضع "الحاكي "موضع "الشاعر "في عنوان الديوان ، غير أن " أحوال الحاكي "عنوان واصف لمجمل التجارب داخل الديوان , ولم يكن عنواناً لقصيدة بعينها داخل الديوان .
هو يحكى إذن , وهو حاكٍ , وهو ناقل أو قاص للحكاية , باعتبار أن الحكاية كل ما يُحكى ويُقص سواء وقع أو تُخُيَّل , ومن ثم فهي تعطى مدلولها في اتجاهين : أو لهما ناقل للحكاية , وثانيهما : صانع للحكاية .
وأسلوب الحاكي هو السرد , بالنظر إلى المعنى المجازى للسرد قاموسياً والذي يعنى النسج أو جمع الخيوط في قماشة واحدة , ويقال أيضاً : سرد الخبر أي جاء به متتابعاً . والسرد هو اسم للدروع محكمة النسج . ومن ثم فإن أسلوب الحاكي يتصف بالإحكام والتتابع والتوليف بين خيوط أو أطراف الحكاية " القصة " في مادة لغوية متصلة المبنى والمعنى . أن تتبع مدلول الكلمة على هذا النحو ليربطنا بالسرد وبالأسلوب القصصي بقدر ما يبعدنا عن الشعر والأسلوب الشعري , ومع هذا ارتضاه الشاعر عنواناً لديوان شعري ليؤكد به من حيث المبدأ على توجهه السردي .
ولعل إضافة " الحاكي " إلى " أحوال " أعطى انطباعاً مبدئياً بتمحور السرد حول الذات الساردة , حتى وإن كانت مجرد راصدة لأفعال ليست الذات طرفاً فيها , وإنها في جميع الأحوال تقوم بفعل جوهري هو الاختيار والرصد , تختار ما تشاء من أحداث , وترصدها بأسلوبها في حكاية ما .
غير أن الفعل الجوهري لا يبدو في الاختيار والرصد فحسب , بل في النظور السردي الذي يتم من خلاله عرض الحكاية , ومن خلاله أو بواسطته تتم الإحالات والإيحاءات لتعكس رؤية الذات الساردة . أو بالمعنى تغليف الحكاية بوجهة نظر الذات , ورؤيتها , فليس الغرض من الحكاية هو مجرد ممارسة الحكى بقدرما أن الغرض هو عرض رؤية الذات وتجسيدها من خلال الحكى .. إذا كان هذا هو الغرض فبإمكان الذات الساردة أن تتحول من خلال السرد إلى ذات شاعرة إذا ما كانت الرؤى شعرية ، ولها بعدها الوجداني المحلق .المنزاح عن المنطق الحصرى للواقع , إنها غالباً رؤى تبحث عن الحقائق خلف سجفة الفيزيقا , ولها منطقها الخاص الملون بلون الذات الشاعرة وفلسفتها.
وغير ذلك فإن مفردة " أحوال " التي جاءت جمعاً تشي بتنوع وتعدد الأحوال , ومن ثم فهي ليست حالة ذات طابع رتيب متواتر , كما أنها ليست أحوال ذات بعد تساوقي مؤتلف , وإنما هي على الأرجح أحوال تتسم بكثير من التذبذب والتوتر , وتنطوي على كثير من المفارقات والمتناقضات, ومن دون كثير عناءٍ يمكننا أن نتوقف عند " بدء القول " و " خاتمة القول " لنكتشف طبيعة هذا الأحوال .
و" بدء القول " منسوب إلى أبى فراس الحمدانى , جاء فيه :
" وقورٌ وأحداثُ الزمان تنوشنِى
وللموتِ حولي جيئة وذهابُ " صـ5
وإن كان الشاعر قد قطَّع البيت , وأورده بشكل رأسي على غرار ما يكتب شعراء التفعيلة , أو شعراء السطر الشعري .
و "خاتمة القول " منسوب إلى أمل دنقل , جاء فيه :
" أيها السادة لم يبقَ اختيار .
سقط المهر من الأعباء ,
وانحلت سيور العربة
ضاقت الدائرةُ حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف ,
وفى الظهر الجدارة . " صـ89 في بيت أبى نواس : الأسلوب الخبري المفعم بمشاعر الذات الأسيانة المعزولة التي تستشعر الخطر المهلك حولها وهى رغم ذلك لاتزال محتفظة برزانتها وهدوئها , التجربة على هذا لها طابعها الغنائي , وتعبيرياً لها بعدها الاستعارى . فيما جاءت تجربة أمل دنقل تعبيرياً متنوعة بين الخبر والإنشاء لها بعديها الرمزي والاستعارى , حاملة مشاعر الذات التي تستشعر الخطر وسط حشد من مشاعر التداعي المفضي إلى نهاية مؤسفة , ومن ثم تأتى التجربة مفعمة بمشاعر الأسى والتهكم فما قوله : أيها السادة " إلاحاملاً لهذه النبرة المتهكمة , لكأنه يريد : " أيها السادة الذين ولَّت عنهم السيادة " , فيما أتت التجربة حاملة صورة الذات التي ترى نفسها وسط المجموع , ليست معزولة عن أمتها المتداعية , وعليه فإن بين قول أبى فراس وأمل دنقل وشائج متصلة , وإن اختلف الأسلوب والتعبير , ووضعية الذات .
ولاشك إن حصر تجارب " أحوال الحاكي " بين قوسي أبى فراس وأمل دنقل مفضٍ إلى تلاقح تجارب هذا الديوان مع تجربتي أبى فراس ، وأمل دنقل .. على المستوى الرؤيوى والنظرة إلى الحياة وإلى وضعية الذات في انفرادها أو انتمائها , ومدى الشعور بالخطر والنهاية المؤسفة وفى نبرة الحزن والأسى , ونبرة الهدوء التي تسربل الذات حتى وهى تواجه موتها المؤسف .. هذا الهدوء وحده هو ما أهل الذات لممارسة التأمل والتفلسف في اللحظات الأخيرة , وربما هو ديدن الذات المبدعة أن تلقى بتعليقاتها الأخيرة على المشهد الأخير, لقد عزَّ عليها أن تموت صامتة , كما عزَّ عليها ـ رغم الخطر ـ أن تفرط في وقارها ورزانتها.
لاشك إن حصر أحوال الحاكي بين قوسي أبى فراس الحمدانى وأمل دنقل له دلالته البالغة , فالأول هو الأمير العاشق, عزيز القوم الذي ذلَّ .. كان شاعراً وفارساً, وشارك في الحرب ضد الروم , ووقع في أسرهم , وافتداه ابن عمه سيف الدولة الحمدانى .. حياته مزيج من الصراع بين مكانته الاجتماعية كرجل دولة , وبين قلبه المترامي نحو المحبوبة الممعنة في الصدود والتدلل , كما كانت حياته مزيجاً من الصراع بين حياة العزَّة والفروسية و المنعة, وبين حياة الأسير الذي يعانى الوحدة والانقطاع والمصير المجهول بين الأمن والخطر , بين الأمل واليأس . والثاني هو أمير شعراء الرفض, الثوري الكبير الذي عاش حياته فوق مهبات رياح الصعلكة والتشرد في المدينة الكبيرة التي تهيمن بمركزيتها وأهواء ساستها على مصير الأمة , كانت حياته مزيجاً من الصراع بين حياة العربي المعتز بأمته وأمجادها وتراثها, وبين حياة العربي المنكسر الخاضع لهيمنة قوى استعمارية تفرض عليه وضعيةً ذليلة تجبره على تقبل الاستسلام باسم السلام.
ربما أن السماح عبد الله قد أثقل على كاهله كثيراً عندما حصر تجربته بين قوسي أبى فراس وأمل دنقل، لكنما وتخفيفاً عن كاهل شاعرنا سنكتفي بما يعطيه هذا الحصر من دلالات ترتبط مباشرة بمدلول مفردة " أحوال " لنعى أنها أحوال تنطوي على كثير من التذبذب بين المتناقضات .. هي أحوال ذات طابع درامي مشف عن التقلب بين القمة والقاع , بين السرور والأحزان , بين الرضا والسخط, بين الانكسار والثورية , بين العزة والاعتداد بالنفس, والتشتت والضياع, بين الشعور بالانتماء والارتباط بالذات الكبرى متمثلة في الأمة كلها وبين الشعور بالغربة والوحدة والانقطاع واجترار أحزان الذات المفرودة, بين الحلم اليوتوبى وبين رفض الوقع والسخرية منه .. إنها إذن أحوال الذات التي تمارس الغناء الملون بألوان زخمها الفكري والشعوري الذي لا ينفصل عن واقعها بما يشمله هذا الواقع من متناقضات ومفارقات .
عبدالجواد خفاجى
E.m:khfajy58@yahoo.com
( ُيْتبع )
عبدالجواد خفاجى غير متصل رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
عبدالجواد خفاجى
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن المشاركات التي كتبها عبدالجواد خفاجى
قديم 09-03-07, 02:53 AM #3
معلومات العضو
عبدالجواد خفاجى
شاعر و كاتب
إحصائية العضو
عبدالجواد خفاجى غير متصل
افتراضي تابع: السردية الغنائية فى ديوان أحوال الحاكى
السردية الغنائية
في ديوان " أحوال الحاكي " للشاعر السماح عبد الله
دراسة : عبد الجواد خفاجى
3ـ بنية السرد وآلياته .
الحكاية لها فنياتها ومكوناتها الأساسية من شخوص يتجسد بواسطتها الحدث في الزمان والمكان , ومن ثم فالحركة تظل من الفعاليات السردية الدرامية التي يتشكل بها الحدث ، إضافة إلى العناصر الأخرى كالحوار والمونولوج, والوصف, ومن يقرأ " أحوال الحاكي " يجد تجليات لكل هذه العناصر , لاتفرق أبداً عن الأداء الغنائي , فبالقدر الذي يصف فيه الشاعر المشهد الحكائى, ويعدد متوالياته, وكأنه يكتب قصة , نجده ينحت هذا البناء من تعبيرات موسيقية يتنامي فيها الإيقاع, ويتجلي عبر حركة البناء وجروس التراكيب والألفاظ . وفي كثير من النصوص ـ علي نحو ما سنرى ـ كان يخفت هذا البعد الإيقاعي ويتواري خلف السرد, أو بالمعني تخفت حدة الغنائية إلي الحد الذي يصبح فيه الشاعر حاكياً بالمعني الحرفىّ لا المجازي .
والزمن جزء من بنية الحكاية" زمن الحكاية" يتحكم في نمو وتوالد الحدث وفيه تتجسد حركة الأشياء والكائنات . وغالباً ما يعتلي السارد أو الحاكي الزمن بذاكرته"الفلاش باك" ليعود القهقرى إلي الماضي البعيد لينقل لنا مشاهد وأحداث من طفولته أو عنها.
في نص " فالتقطها بقلب وجيف" تبدأ ذاكرة السارد فعلها بتذكر ذلك الماضي البعيد, وقد كان الحاكي طفلاً يُرسِّم أولي علاقاته العاطفية مع "سعاد" زميلة الدراسة.. لحظات من البراءة وبكارة الحياة وطزاجتها تجد الذات مبرراً الآن لتذكرها تفلتاً من لحظة الحاضر " زمن السارد" يبدأ النص بالتساؤل:" لأين ترى ذهبتْ/, طفلة المدرسة. / سعاد التي منذ عشرين عاماً كتبتُ له حلَّ/, أسئلة الامتحانات..." صـ7
كل الأفعال في النص تشير إلي ذلك الماضي:" ذهبتْ ـ كتبتُ ـ كان المدرس ـ أنهي ـ الخ " في النص تبدو الشخصيتان : السارد وسعاد, وهما يمارسان ترسيم علاقة جديدة في الزمن, في الوقت الذي ينشغل فيه الآخرون بحشو دماغيهما بالأحاديث المعادة, إلي أن أتت مُدِّرسة الهندسة .. لكأن الحياة تهندسُ لهما مصيراً غير ما يصنعان؟!
في نص " ويدق بيوت الأطفال" تبدأ الذاكرة فعلها في تذكر الماضي البعيد ـ أيضاً ـ حيث السارد الذي ينقل واقعات ما حدث :" خبَّط في طرقات القرية حتى وصل إلينا/, أعطى كلاً منا/, شجرة." صـ11
وفيما يتجه فعل التذكر من الماضي البعيد إلي الماضي القريب:" السنوات المارة كقطار/, مرَّت كقطارٍ/, ضربتْ في الذاكرة وفي الفودين وفي القلب/, كمطرقةٍ..الخ " يعكس النص شعور الذات بالتلاشي, وبالزمن الذي يتصرَّم حولها, والعمر الذي يسرع الخطو نحو النهاية, وقد أزهرت الأشجار, ولكن بعد أن وليَّ قطار العمر.
يلاحظ استخدام السارد لضمير الجمع" وصل إلينا ـ أعطي كلاَّ مِنا..."ومن ثم فالرؤية تتسع لتشمل الجميع, وفيما بدت الشخصية التي توزع الأشجار علي أطفال القري فوق الشيخوخة, فالزمن حولها يمر, والأشجار تثمر والصغار يكبرون, وهي كما هي .. إذن هي شخصية فوق الزمن, أو لتكن الزمن نفسه, ومن هنا ينفتح النص علي السحري والرمزي معاً .
الملاحظ في النصين السابقين أن تجربة السرد تنطلق أساساً من علاقة السارد بالحياة, وهو فيما عرض من رؤى يعكس إحساسه بالزمن , ويعيد تأمل الماضي, كما يعيد تأمل نفسه في ضوء ما مضى, ومن ثم فالبعد الوجداني يبدو واضحاً, ولقد جاء النص حاملاً بعداً إيقاعياً خفياً يمثله توالى السرد علي تفعيلة المتقارب في النص الأول وتفعيلة المتدارك في النص الثاني, وإن كان الإيقاع التفعيلى هنا جاء كخلفية متوارية ولم تأخذ الصدارة في الضغط علي حس المتلقي, وربما أن هذه سمة النصوص التي تعتمد خاصية التدوير بما يعنيه من اتصال عروضي ونحوي يسمح بتدفق السرد وتتابعه حتى لأن النص بدا كما لو كان جملة واحدة.
كما تتجسد شاعرية النص في لغته التصويرية والإيحائية التي تشف عن البعد النفسي للشخصية" فالتقطتها بقلب وجيف وكف مخوف" ـ " فطبقت الكلماتِ العشيقةُ بين أصابعها في حنو.." ـ "خَبَّط في طرقات القرية" ـ الأفعال المستخدمة أيضاً كانت موحية بطباع الشخصية ودوافعها وملامحها النفسية ولنا أن نتأمل إيحاءات الفعل " خبَّط " و"يخبِّط" لنقف عند ملامح إنسان مصمم علي الفعل كثير الحركة, وغير ذلك من أفعال كانت موحية أيضاً فى اتجاه مشاعر الذات فلنا أن نتأمل الأفعال في الجملة الآتية " السنوات المارة كقطارٍ /، مرت كقطارٍ / ضربت في الذاكرة وفى الفودين وفى القلب /، كمطرقة " لندرك مدى إحساس الذات بتلاشي العمر ، وتصرُّم الزمن ومدى أثره العنيف ظاهرياً على الأقل . وربما أن إيحاءات الأفعال في مثل الجملة الأخيرة هذه أكثر تأكيداً على شعرية النص لأنه يرتبط مباشرة بتجربة الشاعر / الحاكى الوجدانية .
في نص " وتبتدئان في رفس المياه " اللحظة الآنية التي يتوحد فيها زمن الأحداث مع زمن السرد حيث يثبت السارد عينيه " كاميرته " ليقوم بنقل ما يتم ممارساً " الرؤية مع " وكأنه يسير مع الشخوص ليصف أفعالهم ، دون أن يكون طرفاً في صُنع الأحداث . وحيث الدخول المباغت إلى لحظة القص الآنية ، والتركيز على الوصف والمشهدية :" أتتا معاً / امرأة /، تلبس فستاناً نهارياً له شمس تضوي أنة /، وتغيبُ /، حتى تهطل الأمطار /، وامرأة /، لها زىُُّ نسائي /، له قمر /، وبضعة أنجم /، وسحابتان /، وغابة مهجورة /، أتتا من الحقل البعيد / تخوَّضان الحقل /, والمستنقعات /, وتعبران على مماشي الزرع/، حتى جاءتا الإسفلت ..."صـ17
في النص تأخذ المرأتان بعداً رمزيّاً بارتدائهما زيىَّ المساء والنهار .. وهما امرأتان مجهولتان أتتا من البعيد يرسمان حركة الزمن الذي يتقدم لتتشكل مع حركته الفصول, ووجه الحياة البشرية بتغيراتها وتشكيلاتها, فقد بدأت فطرية, من الطبيعة وإليها حتى أتت الإسفلت بما يشي به من بعد حضاري عصري.. ماذا يفعل الزمن غير أنه يمضي لغايته, وكأنه يعطي ظهره للناس, إلي أن يتصَّرم؟" تغربُ شمسة الأولي/, فتنهض/وهي تقفل زرَّ فستان النهار/, فتنهض الأخرى".. إلام سيصل بنا الزمن وكيف أن الحياة بقدر ما تزداد جمالاً تزداد تعقداً بمضيِّه إلي الأمام؟الحياة التي بدأت من الماء لتنتشر في طبيعة هادئة, كما لو كانت غابة مهجورة يعمها الهدوء والسكينة.. ها هي وقد أصبحت كالغابة فعلاً, لكنما لم تعد مهجورة, وإن كان يعمها الخراب.
ومثلما يحمل النص أبعاداً رمزية يحمل أيضاً بعده الفلسفي الذي يميل إلي احتضان الطبيعة والفطرية, ويري أن الزمن يسير بنا في حركة هابطة إلي الفساد النهائي:" وتمشَّيا معاً /, بخطو واهنٍ/, ذي خلةٍ عرجاء/, حتى تدخلا شجراً يشكل غابة خربانةً/, ظهراها للناس/, والقمر الشفيف.." صـ22
الوصف أيضاً من البني السردية التي اعتمد عليها هذا النص, سواء وصف حركة المرأتين أو مشاهد الطبيعة أو وصف المرأتين:" والسمك الذي يقفز بين الحين والحين/, ترشان علي وجهيهما الماء المندى/,..." صـ19 وكذلك:" وتقعدان معاً/, علي حجر رخاميٍّ/, لملمسه/, حرير الزغب الطالع من نهدٍ بدائي/, وتبد آن في رش المياه بفرحةٍ...الخ " صـ18
لم يكن الوصف لمجرد الوصف, أو لمجرد ملء وعاء الزمن, وإنما كان واقعاً في إطار المنظور السردي الذي يركز علي جماليات بعينها تعكس إعجاب السارد بالطبيعة ودرجة إحساسه بروعة الحياة في معناها الفطري والطبيعي. حيث تتداخل فتنة المرأة والطبيعة والزمن, فإذا كان الزمن يتوالى في ثوبين: ليل ونهار , فلدينا امرأتان, ولكل وقتٍ فتنته, ولكل امرأة فتنتها, إحداهما ترتدي فستاناً نهارياً, والأخرى ليلياً .. تشتجران وتتبادلان الخطو, فيما يتحرك الزمن حولهما, منسجماً مع حركتيهما أو إرادتهما.
والمشهد يشف عن إيقاع الحركة, إذ الأفعال المضارعة المتوالية من عينة:" تمشيان بخطو واهن ـ تشتجران فيما يشبه الغضب الخفيف ـ تقعدان معاً ـ تبدئان في رفس المياه ـ ترشان علي وجهيهما الماء... الخ" وثمة إيقاع حركي موائم في الطبيعة:" تقفز الأسماك بين الحين والحين ـ تغرب الشمس ـ يصعد قمر ...الخ" وثمة ما يوحي بالسكون والهدوء:" حقل ـ مستنقعات ـ غابة مهجورة ـ مماشي الزروع ـ حجر رخامي ـ غابة خربانة...الخ" وثمة روعة في المشهد:" شمس كبيرة ـ طيور راجعات ـ سمك يتقافز ـ البحر ـ النجوم ـ القمر الشفيق..الخ"
إيقاع المشهد أو الحركة في المشهد لا شك يشكل جزءاً من نسيج السرد وهو هنا يعكس حالة من الإعجاب, والانجذاب الوجداني لدي السارد للقيم الطبيعية والفطرية التي يحويها هذا المشهد, ومن ثم جاء السرد محملاً بما يدلل به السارد علي هذا الإعجاب والانجذاب ألا وهو الإيقاع ولا شك إنه عالم مثير للإعجاب والدهشة أن تتوالى حركة امرأتين في طقس ساحلي هادئ, بحركتيهما الحثيثة الهادئة نحو البحر.. عالم سحري بديع تندمج فيه سحرية الأنوثة والطبيعة معاً, ومن ثم كان الإيقاع متوائماً مع الهدوء والحركة الوئيدة.
ثمة إيقاع اللفظ أو الإيقاع الكمي ممثلاً في البناء النغمي الذي نحس به بطريقة شبه سرية, لأنه لم يكن يأخذ مكان الصدارة, متوارياً خلف السرد مُشِّكلاً خلفية إيقاعية للكلام, تتداخل, فيه تفعيلتي المتقارب والمتدارك دون قصدية, لكأن الإيقاع يتمثل تنوع الخطو المزدوج للمرأتين, بتجاوز تفعيلتين متقاربتين إيقاعياً.
وثمة إيقاع حروفي ناتج عن تكرار حروف بعينها مثل تكرار حرفيّ السين والشين, من شأن هذا الوقع النغمي الحر وفي للسين والشين أن يغلف المشهد والصور بوقع يوحي بالسكونية والهمس والهدوء كما نلاحظ ذلك في المفردات" مماشي ـ شمس ـ تشد ـ يشبه ـ تشتجران ـ الشجر ـ المعشق...الخ" و" مسائي ـ سحابتان ـ مستنقعات ـ إسفلت ـ شمس ـ تلبس ـ فستان..الخ"
المونولوج يعد آلية من آليات السرد, انفرد به النص المعنون" وجودو تأخر أكثر مما يجب" النص الذي يحمل نبرة تشاؤمية, طالما أن الزمن يسير في حركة هابطة إلي الأسوأ, فإن الغد ليس أجمل من اليوم:" إن غداً ليس أجمل من يومنا المتكسر في درجات النهار" صـ 25 وطالما أن التجارب الجمالية في هذا الوجود تظل منزاحة, ومتقهقرة أمام تيارات القبح الكاسحة.
ثمة شعور بثقل الواقع المتجهم الشرس المطبق علي الذات صاحبة المشروع الجمالي, إذ تحاصرها قسوة الواقع وجهامته, وقد أضحت اللحظة مشحونة بالشر. التجربة في هذا النص قائمة علي تصور الذات وسط حشد من أصوات سالفة مارست التجربة الجمالية في هذه الحياة.. تتساءل التجربة ضمنياً: فيما جاءوا؟ وكأنها تقرر: جاءوا ثم عادوا, والبلاء باقٍ, ولم يزل داؤنا العياء! .. لاشك إنه الشعور الخفي بعبثية التجربة الجمالية في واقع مبارز بالقبح والشر.. يعلو بفداحة شره فوق كل الأصوات التي تصدت لبربرية الواقع عبر الزمن .. ربما لذلك يبدأ النص بصوت داخلي:" البرابرة المتعبون أتوا يا كفافي" صـ25 إنهم متعبون لما بذلوه من جهد كبير .. جاءوا ليمكثوا طويلاً في راحة طويلة وقد استتب لهم الأمر!
النص حافل بحشد من أسماء الأعلام الذين مارسوا دوراً جمالياً فوق الأرض:" كفافي ـ ناظم ـ رامبو ـ ماركيز ـ جودو ـ زوربا ـ المتنبي - المعري" وثمة شعور بالعجز والانقطاع والضياع:" فمن لك يا قورىَّ الخطا/, وصحابك/, مازال حلمهم في المنافي؟" صـ28
الملاحظ أن النص متصل نحوياً وعروضياً شأنه شأن كافة نصوص الديوان مشَكِّلاً بذلك حواراً ذاتياً متصلاً يوحي بالزمن: سأقول لناظم (الآن) ـ إن غداً ( المستقبل ) ـ ليس أجمل من يومنا ( الآن ) ـ وزورق رامبو تداعى ( الماضي ) ـ المتنبى ضلله الله في رمل مصر ( الماضي ) ـ فمن لك يا قورىَّ الخطى ؟ ( الآن وغداً )
المونولوج في هذا النص يضع كل الماضي الجمالي في خبر كان ، بينما الحاضر كله خَضَع لسيطرة البرابرة ، فيما تخلَّف المخَلِّصون ودعاة الإنسانية والمصلحون وقد هلك من هلك منهم في الطريق ، تخلفوا عن الحضور وقد تر صدتهم عوامل الشر ، وحالت أقدارهم دون الوصول ، ومن ثم كانت نبرة الأسى التي سيطرت على النص ، كما شاعت نبرة الترحم على البشرية والغد الآتي . من المعلوم أن المونولوج يكون بمثابة المناسبة التي تخلو فيها الذات إلى نفسها بعيداً عن منطقة الواقع ومنطقة المجافى ، ومن ثم يكون مناسبة لمجاوزة الشعور الذي يثقل الذات ويستثقل هذا الواقع إلى اللا شعور ، ومن ثم فإن لغته أقرب إلى اللغة الحُلميَّة التي تتجاوز العقلنة الرتيبة التي تقيم اشتراطاتها الممنطقة على الذات . أو بالمعنى يكون المونولوج فرصة الذات لممارسة هذياتها الحلمى ، والإفضاء بمخاوفها وكوابيسها ، وفق منطق لا شعوري " تيار الوعي " وإن شئنا الدقة "تيار اللاوعي " ، ومن تلك المنطقة تحديدا تمارس الذات عجن الأزمنة ، فالماضى ليس ماضيًّا ، وقد أصبح الوجود كله شاخصًا الآن في صراع مصيرىٍّ قائم .. كفافى لم يمت بل هو حى وإلا فما معنى النداء " يا كفافى " وناظم حكمت أيضا لم يمت " سأقوم لناظم " ورامبو لا يزال فى صراعة مع الحياة ، وإن كان زورقه قد تداعى ، وجودو تأخر أكثر مما يجب ، والمتنبي ضلله الله في رمل مصر وبغداد والشام ، وكلاب المعرة لا تزال تنبح ، وأبو العلاء المعرى الضرير لا يزال يحاول اجتياز الخطر .. وهكذا تظل لعبة اتصال الأنا بالآخرين في النص دليلاً على تلاشى الفروق بين الوعي واللا وعى أو بين اليقظة التي تستوجب الهروب ، والحلم الذي يهئ رؤية الماضي مجسداً في صورة منهزمة كسيحة لم تؤهل الجماليين للوصول ، ومن خلال السفر الحلمى إلى الماضي أمكن نقل صور كثيرة كسيحة منهزمة للأعلام الذين ورد ذكرهم في النص ، .. هذا السفر الكابوسى المعانق للماضي هو بلا شك انعكاس للقلق والعذاب المستقرين فى نفس الشاعر ، ووليد الإحباط الكامن في الأعماق .
وطبيعي بعد هذا السفر أن تتركب الصور وتترادف على نحوٍ مكثف لا يخضع لمنطق الوجود الخارجي ولا للعلاقات الممكنة .
من النصوص التي تقترب من المونولوج يأتى ـ أيضاً ـ نص " ثم أطوحها في الفضاء " حيث تجرى الذات حواراً مع نفسها : " سأعطيك عشرين نارنجة / , لتغنىَّ.." صـ29.. تشتق الذات من نفسها أنيساً تحاوره بضمير المخاطَب إلى أن تعلن عن نفسها بشكل أكثر صراحة عن طريق الالتفات : " أقطَّع من عمري المَّر بعضاً من اللحظات/, البهيحة /, أو أتصيَّد ذكرى مغامرةٍ في الطفولة .."صـ30
في هذا النص تجنح الذات المتفلِّتة من إسار اللحظة القاسية إلى فسحة الغناء والتذكر.. الغناء يظل مشروعاً جمالياً أمام " القروي "/ السارد الذي يعالج أدواءه بالغناء, فيما تظل ذكريات الطفولة مناط الذات ببراءتها و فطريتها, وتخففها من الإحساس بثقل الواقع:" أوقف تمر النخيل عليك لمدة عشرين/, عاماً/ شريطة أن تضرب العود/, يا قروي الكلام/,وتشدو" صـ31 المهم أن الاستمرار في الغناء في هذا الواقع العصيب يبدو باهظ الثمن, بيد أن البحث لا يزال قائماً عن لحظة للغناء والشدو, تشي بذلك أزمنة الأفعال:" سأعطيك ـ أقطّع ـ أتصيَّد ـ أوقف.." كلها أفعال مضارعة تعطي دلالتها في الاستمرار والتجدد, وتربطنا بلحظة آنية للحوار, وإن كان التصريح:" لمدة عشرين عاماً" يعطي إمكانية الاستمرار في دفع الثمن لسنوات طويلة قادمة.
في نص " إلي آخرة الليل" الاعتماد علي سارد مطمئن ينقل حدثاً ما.. يبدأ النص بالإعلان عن اسم الشخصية المحكي عنها:" اسمها سامرة الحىّ /, وأم الفقراء" هي قيمة جمالية أيضاً في حيزها.. ربما لهذا يترصدها الموت " خطط الموتُ نهاراً كلاماً/, من طلعة الشمس/, إلي آخرة الليل/, لكي يحظي بها.." وربما لهذا قدم الموت الكثير من القرابين لكي يحظى بها, وهكذا هي القيم الجميلة في الحياة تنزاح بفعل فاعل,حتى وإن كان الثمن فادحاً, وبهذا تتلاقح الرؤية في هذا النص مع سابقه.
النص يحمل شكل الحكاية المضفورة بعناية دون استغراق في التفاصيل وعدم الاكتراث بالاستطراد نحو نهاية حتمية للأقصوصة, فكل ما يعني الحاكي أن يعرض للكيفية التي يترصد بها الموت سامرة الحىّ, وإن كانت النهاية أضحت معلومة, إذ لابد أن يفوز الموت الذي قام بكل هذه الخطط وقدم كل هذا الثمن.
يضعنا النص رغم قصره أمام الوجه الدرامى المفارق للواقع ، عندما يضع سامرة الحى ، وأم الفقراء فى مواجهة مباشرة مع الموت بطغيانه وقدرته العالية على تنفيذ مخططاته ، لكأن الحياة تأبى أن يكون لقفراء أماً أو سميراً !، لنتساءل بعد هذا المشهد : الحياة لمن ؟!
لعل هذا النص من النصوص التى بدا الشاعرفيها متورطاً فى كتابة أقصوصة لها طرافتها ، وقيمتها الرؤيوية وإن كانت فنياً تسير فى نظام البناء الأفقى الرتيب ، الذى يُتبع الحدث بحدث, ويحرص علي الترابط وهو ينمو إلي الأمام, وإن كانت درامياً غير مقنعة لأن الدراما لا تتجسد في المجردات علي نحو ما جاء الموت في النص مجرداً .
لم نلحظ ما ندلل به تعبيرياً علي أن ثمة تجربة وجدانية وراء تجربة الكتابة وإن كان النص قد اعتمد إيقاعياً علي المزج بين تفعيلتي المتدارك والمتقارب, لكن مثل هذا التنميط الإيقاعي يأتي من باب النظم, إذ ينتظم النص في إيقاع ما دون أن يكون مرتبطاً بتجربة وجدانية علي نحو ما يمكن أن نري في كل النظميات الموقعة.
من النصوص التي بدا فيها الشاعر متورطاً في كتابة قصة هو نص" حين جا وأشعل الحريقة" حيث السارد الذي يسرد بضمير الجمع, وحيث الحدث الفانتازي الذي يتقافز فيه الجميع إلي النار تقليداً للسيد الأكبر فيهم الذي ألقي بنفسه في النار, وقد أعجبهم منظره:" ورأيناه/, وهو تأكله النارُ/, وتلقيه إلي أعلي/,وتلقفه/, وهو مبتهج.." صـ41 يمكننا أن نلحظ دور السارد وهو يمارس الحكي حول هذا الحدث منذ البداية:" كنا مسافرين/, حين جا/, وأشغل الحريقة" صـ39 في إشارة إلي زمن الحدث"كنا" لتتوالي الأفعال بعد ذلك لتدل علي هذا الماضي والحدث الذي ينمو متجهاً إلي الأمام أي إلي المنطقة الأحدث في الزمن" الماضي القريب":" قام ـ ارتمي ـ كان يغني ـ قلنا..إلخ" حتى ينتهي الحدث بانتهاء القصة نهاية مسبوقة بما يمهد لها.
الملاحظ في النص أنه بالرغم من اعتماده علي التفعيلة حيث جاءت الجملة الأولي معتمدة علي تفعيلة الرجز ليعتمد النص بعد ذلك علي تفعيلتي المتدارك والمتقارب المتداخلتين أو المتبادلتين إلا أن هذا النظام التفعيلي كان كخلفية باهتة أمام انسيابية الحدث ونموه واتصاله نحوياً, وإن كان البارز هو إيقاع الحدث والمشهد كما تشي بذلك الحركة المتوالية للأفعال:" قمنا مثل دائرة ـ شبكنا أصابعنا النحيلة في أصابعنا النحيلة ـ ارتمينا فرحين ـ تغنينا ولوحنا.." وثمة إيقاع المشهد:" وكُنَّا قد أُخذنا بغتة/, بطقصقاتها/, ومهرجان لونها العذري/, قام السيد الأكبر فينا/, خالعاً جلبابه القطنيّ/, وارتمي في حضنها/, وهو يغني.." صـ40
لقد استغرقت الحكاية السارد, ومن ثم كان مهموماً بإيقاع الحدث لا إيقاع اللفظ, فيما بدا مطمئناً وهو يسرد منذ البداية حيث بدأ بالتمهيد لحكايته ثم تتبع الحدث, ووصف الحركة, والحركة المضادة, وكان مطمئناً وهو يمهد للنهاية أيضاً في إيقاع لفظي ختامي( ارتمينا ـ تغنينا ـ لوحنا ـ تذوقنا) إلي أن ينهي حكايته بـ " شممنا عطرنا للمرة الأولي/, تذوقنا/, رحيقه" صـ43 . وهكذا تنتهي الحكاية يا سادة يا كرام, وقد أخرجت النار جوهر الأشياء, وطهرتها من الشوائب. الإشكالية أن النار رمز العذاب والألم ومصدرهما الحسي تحولت في الحدث إلي مهرجان يتسابق الجميع إليه, ومن هنا تأخذ النار رمزيتها في هذا الألم والمعاناة اللذين لابد منهما للوصول إلي بهجة الدنيا.. لكأننا لكي نبتهج في هذه الحياة لابد أن نرتاد النار, ولا توجد حلوي بغير هذه النار علي حد تعبير المثل الشعبي.
النص ولاشك محمل بقدر كبير من الشاعرية( ولا أقول الشعرية) من خلال حيودات الغة التي تنقل حدثاً فنتازياً عن طريق الصور والمشاهد" مهرجان لونها العذري ـ محدقين فى جمالها العريان ـ دغدغات النار في الجلد المشقق" ومن خلال المفارقات التي تضمنتها الحكاية " ارتمي في حضنها وهو يغني ـ تأكله النار وهي مبتهج " لكنما وأمام التقهقر الحاد للإيقاع الكمي للغة وسيطرة إيقاع الحدث نفسه وأمام اطمئنان السارد, وتبرؤ التجربة من البعد الوجداني تبعد التجربة عن السردية الغنائية, وتقترب من السرد القصصي الاعتيادي, الذي يقدمه سارد مطمئن تماماً إذ يسعي إلي طرافةِ القص, دونما قلق نفسي أو وجداني يجعله صاحب تجربة وجدانية. .
عبدالجواد خفاجى
E.m:khfajy58@yahoo.com