منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    السردية الغنائية3

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    السردية الغنائية3 Empty السردية الغنائية3

    مُساهمة   الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 3:22 am

    السردية الغنائية

    في ديوان " أحوال الحاكي " للشاعر السماح عبد الله
    دراسة : عبد الجواد خفاجى


    في نص " وتزوَّق لما سرد حكايته" الشخصية المحكي عنها هو الحاكي/ قاص يقترب إلي أنثاه معتمداً علي قدرته علي تدبيج الحكايا المنمقة المؤثرة دون أن يكون مالكاً لشىء آخر في الحقيقة, ويبدأ النص بالحكي عن هذا الصاعد إلي أنثاه " صعد الذكر إلي الأنثي./ قبض من الخبز الجاف/, وأطعمها/, عرى دمع العينين/, وياقوت القلب/, وأخذ خراج الوقت/, ورشرش بعضاً من فيض التذكرات المالحة علي جسد المدسوسة/, بين جدارات الحجرة/, وتزوّق/, لمَّا سرد حكايته في بطء وكأنْ يتعجل..الخ" صـ47 النص يضعنا أمام حاكي/ سارد منشىء النص, وحاكي آخر/ مسرود عنه يدبج الحكايا ويستغلها في التقرب إلي أنثاه, وهوالشخصية الفاعلة في الحدث, هو بالضرورة أديب يستخدم اللغة بشكل مؤثر مدهش, وهو مبتكر لمادة قصصية مسيَّجة بالأحزان و" بالتذكارات المالحة", كل ما لدية هو الأداء اللغوي المنمق الذي يأخذ بلب أنثاه التي " صعدت بالعينين علي كتف حكايته/, في فرح/, مكسور/, وكأنْ تتعكز بين حروف الجر/, وبين الأفعال المتكررة/, ببطن القصة.., صـ48
    هذه وسيلة صعود الحاكي/ الذكر/ المسرود عنه في النص إلي أنثاه.. وهي وسيلة ربما لن تؤهله لأكثر من إصابتها بالدهشة وحفزها علي إدرار الدموع.
    النص يلفت إلي العلاقة فوق الواقعية بين شخصية الحاكي صاحب القدرة علي التخييل ، وانثاه المالكة لناصية التخيَّل التي تؤهلها لمعايشة الروعة غير المنظورة, وإن كانت لن تؤهلها إلا لاحتضان الوهم الجميل " حتى امتلأت جدران الحجرة بتصاوير/, مدلاةٍ/ تترقص كل مساءٍ/, لَّما يهتز الدرج الصاعد بين المدسوسة والحاكي/, حتى أورثت المدسوسة جلباب/, الحاكي/, من كل تصاوير البهجة/ زوجين/, اثنين.." صـ50
    لقد استطاع الحاكي أن يفنن شخصية أنثاه, ويُكسبَها من روعته ما يؤهلها لأن تدرك روعة الوجود, وأن تنطلق ملكاتها الإنسانية باتجاه الخيال, وربما هذا كل ما يمكن أن يقدمه الحاكي/ الأديب لأنثاه علي نحوٍ أكيد
    السرد في النص الذي أمامنا يبقي علي فعاليته الشعرية. بمحافظته علي إيقاع المتدارك المصاحب لعملية الانشاء, وعلي إيقاع الحدث المصاحب, وثمة ما يعزز هذه الفعالية أيضاً تلك الحيودات الأسلوبية الجانحة نحو التخييل من عينة:" عرّى دمع العينين وياقوت القلب, وأخذ خراج الوقت, ورشرش بعضاً من فيض التذكارات المالحة ..الخ" وإن كان ما يربطه مباشرة بالشعرية أن التجربة تنطلق أساساً من ارتباط الأنا الساردة " الحاكى منشئ النص " بالـ" هو" المسرود عنها " الحاكى الفاعل فى النص " بهذا الارتباط وحده تأخذ التجربة بعدها الوجدانى ، وترتبط بالذات الساردة كصاحبة مشروع حكائى غنائى تصعد به إلى الحياة / الأنثى باعتبارها رمز للحياة نفسها ، وباعتبارها أصل لكل مواطن . ومن ثم فالرؤية الشعرية هنا تنطلق من جوانيات الذات الشاعرة حاملة أجواءها النفسية والعاطفية من عينة :" التذكارات المالحة ـ دمع العينين ـ ياقوت القلب " ومن ثم أيضاً ـ تبدو اللغة كاشفة عن هذه الأجواء النفسية فى شخصية الحاكى الذى يمارس جهداً كبيراً في تفنين العلاقة بينه, وبين أنثاه, في الوقت الذي بدا فقيراً من أية معطيات مادية تخص المطالب البيولوجية "قبض من الخبز الجاف/, وأطعمها.." أو كما تشى بذلك مفردة "حجرة" التي جاءت معبرة عن مسكن متواضع.. مجرد حجرة, فيما بدت حجرة في البعيد النائي عن الحياة يصل إليها عبر درج صاعد مهتز.
    كما تشف الأفعال عن معاناة الحاكي وجهده في المحافظة علي العلاقة بأنثاه, إذ تنتمي كلها إلي حقل دلالي يؤكد المعاناة والجهد:" صعد ـ قبض ـ عرَّى ـ رشرش ـ تزوَّق ـ يعاود كرَّته ..الخ" كما تؤكد هذه الأفعال في تواليها الحركة, وتربطها مباشرة بالحاكي كذات فاعله تتجه بكثير رغبة نحو الأنثي .كما تؤكد هذه الأفعال أيضاً عنصر الزمن, كعنصر سردي, أو كوعاء للحدث الذي يتنامي بين الحاكي وأنثاه.
    النص ـ كذلك ـ يضعنا أمام قدرية هذا الحاكي الذي عليه أن يستمر إلي أمد مع تذكراته المالحة وتصاويره الوهمية, وقدرية أنثاه " المدسوسة " التي تغلق نفسها عليه وتري الدنيا من خلال تصاويره مزيجاً من الوهم الذي يربطها بروعة فوق واقعية, وزاداً سحرياً يؤهلها لانتظار المزيد منها.. وهكذا يضعنا النص أمام مفتاح شخصية " المدسوسة " التي بدت بحياتها الفقيرة مادياً الثرية بالروعة والخيال, ومن هنا فإن السعادة مسألة شعورية يمكن أن تتم بالخيال والتخييل , وربما أن الشاعر قد أحسن عندما وصف أنثاه هذه بالمدسوسة التى بدت كروح ومشاعر مدسوسة خلف ظاهر اعتيادى . وربما لهذا السبب بدت المدسوسة أنثى مجردة من الفعل الاعتيادى فى الحياة , كما بدت حياة الحاكى على نفس القدر من التجريد , الأمر الذى جعل منها حياة فوق واقعية , وربما أن الأنا الساردة سعت إلى هذا التجريد إمعاناً منها في الفصل بينها وبين الـ "هو " المسرود عنه , ولعل هذا الفصل من شأنه أن يجعل من التجربة فى هذا النص بناءً فى فراغ . إن التجربة اكتسبت كل ما اكتسبته من قيمة شعرية ورؤيوية من ربطنا بين الأنا الساردة والـ " هو " المسرود عنه وليس العكس .
    فى نص " ويسب هذه الدنيا " تصريح بالرغبة فى البكاء جاء أسفل العنوان : " أريد أن أبكى " صـ51 هذا التصريح جاء كلافتة أوشعار يرفع مطلباً مشروعاً وكأن المطلب يبدو عصياً , ومن ثم تبحث الذات عن مثير للبكاء , وهى المشحونة بالشكوى , والمهَّيأة تماماً للبكاء , لذلك هى تتمنى أن يكون هذا المثير راكبا ًما ( واحدٌ ) يجلس قبالتها / صورة لها , له نفس القدر من السخط والضجر , ويبتدئ الحديث همساً , بما يعطيه الهمس من إيحاء بالتوجس أو الخوف من إعلان الشكوى أو التضجر , هكذا هى الذات الباحثة عن مثير , تبحث فى الوقت ذاته عن لحظة انفجار تجاوز الهمس قرين الخوف والتوجس.
    " وليس فى امتداد هذه البلاد , واحدٌ / يركب قاطرة الليل الأخير / فى قبالتى /, ويبدأ الكلام / همساً /, ويسب هذه الدنيا / , فأبتدئ الحديث / , وأشتكى . "صـ52
    لاشك أن النص رغم قِصره , وخلوه من عنصر السرد كان شعريًّا بالقدر الذى أهله للبروز على نصص أخرى مباهية بتواجدها الكمى فى هذا الديوان وإن كانت الجملة الابتدائية بما تحمله من تصريح فاقع كانت كإعلان غير شعرى لابسبب صراحته فقط , وأنما لأن بقية النص يتضمنه بشكل آخر.
    القدر الشعرى الذى يحملة النص ليس فيما تحمله اللغة من قدرة على التحليق بنا فى أجواء الذات الغاضبة فحسب , لكنه أيضاً فى الصورة التى تحمل قدراً من التخييل والإيحاء مثل : " يركب قاطرة الليل الأخير " لكأن الحياة رحلة سفر فى ليل , بما توحى به مفردة " ليل " من ظلام وخوف وتوجس وعدم وضوح ثم أنه ليل أخير دون أن يكون المتبادر إلى الذهن أن القادم نهار , فالليل الأخير ربما لابداية بعده , ربما لهذا هى الذات الشاعرة يعز عليها أن تغادر الحياة دون أن يكون فى مقدورها الإقضاء بسخطها , ومكبوتاتها .
    من النصوص التى يبدو السرد محملاً بالشعرية يأتى نص " وشكل أحبابة فى الدخان " النص موحٍ بجو الوحدة والهدوء والصمت والسكون والانقطاع : " سكن الليل/, وانطفأ الشمعدان / والوحيد أرتدى بذة الوجد / منقوشة بالتذكر والشوق " وهنالك يكون العالم ما نتخيلة لامانراه .. كيف يموضع الإنسان العالم على نحو خيالى تماماً ويتعامل معه كما لو كان حقيقة .. إنها الحياة فى الخيال على نحو ما أتت نصوص أخرى سبق استعراضها ـ كيف يعيش الإنسان تجربة الوهم , وما دافعه إلى هذا , وما الذى يجبره على الحياة وحيداً مع الصمت والسكون ؟ حقيقة هو الإنسان كائن اجتماعى ـ كما يقال ـ لكنه أمام فساد الوقع وزيف العلاقات قد يضطر للإنزواء , وهنالك يشكل أصحابه من دخان تبغه " أشعل تبغته /, وتصدر مائدة للحنين المصفىَّ /, وشكَّل أحبابه فى الدخان /, وقعَّدهم فى الكراسى " صـ34. الإشكالية أن الإنسان قد يصدق تجربة الوهم ويتعامل معها : " وحين ابتدا مهرجان الكلام الجماعى /, حين علاصوتهم /, وبدأ يتوتر / , وقال : /, على رسلكم ياصحاب .. " صـ35 وامعاناً فى التدليل على الإيغال فى تجربة الوهم وتصديقها يأتى الختام :" وتمتم : /, فى الغد / لابد من مقعدين جديدين / , إنى أرى اثنين لايجلسان " صـ35
    ربما أن تجربة الوحدة واسترطاب الخيال والتآلف مع تجربة الوهم تمثل حالة من أحوال الحاكى المتعددة فى هذا الديوان , ومن ثم فالنص وليد هذه الحالة الوجدانية فى الأساس , ومن ثم يأتى النص مدللاً على هذه الشعرية من خلال إيحاءات اللغة بالحالة هذه , فثمة مايوحى بطبيعة الشخصية ونفسيتها , وعواطفها وميلها إلى الهدوء : " وحيد ـ شوق ـ حنين ـ وجد ـ اشعل ـ تبغته ـ بدأ يتوتر حين علاصوتهم ـ تمتم ".
    الإيقاع الحركى فى النص يتواءم وصبيعة الشخصية وهدوئها ووحدتها : " ارتدى بذة الوجد ـ اشعل تبغته ـ تصدر مائدة للحنين المصفى ـ شكل أحبابه فى الدخان ـ قعَّدهم فى الكراسى .. الخ : إن توالى الأفعال على هذه الكيفية فى الزمن يوحى بالبطء والهدوء , وإن كان الزمن فى القصة / زمن الحدث هو طقس ليلى " سكت الليل , وانطفأ الشمعدان " يعزز من إيحاءات توالي الأفعال ويشي بسكون وهدوء المكان ـ يتوائم مع هذا الإيقاع الحركي ما اعتمد عليه النص كخلفية إيقاعية متوارية وراء السرد المتدفق المتصل, حيث نحسُّ بها تتردد ببطء خلف السرد: فاعلن فاعلن فاعلن, مندغمة في جو الحدث البطىء المتوالي الحدوث في المكان المعزول الهاديء:" شمعدان ـ مائدة ـ كراسي ـ دخان" أشخاص يتشكلون من دخان, وثمة بعض التمتمات التي يرددها شخص وحيد.
    من النصوص المتهافتة في هذا الديوان يأتي نص " أنت أيضاً لم تجب, ولم تفرح" حيث تسيطر علي النص خطابية الموقف, والخطاب الموجه إلي "حمدان" .. من حمدان هذا؟! لاشك أنه صاحب حادثة فرضت وجود حمدان في هذا الديوان كشخصية يتشكل الخطاب حول الحادثة التي تمت معه:" أين ابنتك الصغيرة التي تدحرجت/, علي الأسفلت/, خلف خطوك العريان؟/ لم يسألك:/, كيف لم تصطحب الممرضات في يديك؟" صـ86 لاشك أن السرد يمكن أن يتشكل حول أية حادثة وحول أية شخصية, لكنما ما قيمة ما يتضمنه السرد فنياً ورؤيوياً, إن القيم الجمالية التي يحملها السرد ومدي فاعلية اللغة في حمل مضمون رؤيوي ونفسي هو ما يعطي أية نص سردي غنائي قيمته, خاصة عندما يحمل السرد بعض المعطيات الدرامية التي تركز علي الصراع والتناقض والمفارقة, وعندما يركز مضمونياً علي الإنسان وقضاياه . إن حادثة ما حدثت مع حمدان قد يعيها السارد ويتأثر بها ويجري حولها بعض التهويمات السردية, لكنما كيف يرقي هذا النص إلي مستوي الحدث الدرامي المؤثر وكيف يحمَّل بالشعرية التي تحملنا علي رؤية أنفسنا في ضوء ما يحمله النص إلينا. وكيف يمكن للنص أن يضعنا في حالة مشابهة لحالة منتجه؟ أري أن نصاً كهذا الذي نعاينه كسيح عن الصعود إلي مصاف النصوص الأخري في الديوان فقير فنياً إذ يحمل لغة أحادية, وخطابية ثقيلة الخطو والوقع غير اضطرابه عروضياً.
    من النصوص الأخرى المتهافتة في هذا الديوان يأتي نص " فَخَطت فوق الإسفلت" الذي يحمل رؤية متهافتة عن المرأة ككائن تتلذذ كثيراً وتبتهج بأن ترى الرجل يتمزق وجداً, وتهياماً بها, وإن كانت في كل أحوالها تورده مورد الهلكة, وهكذا ينتظر الرجل الشهد من الصَّاب, أو يخطو إليها فوق شق مدارج موته : "واصطحبت كراسات الفرح المبلولة / ,وانتظرت /, حتى شقَّ الوجد الرجل/, إلي نصفين/ وألقي نصفاً في الناحية اليسري للجسر/, ونصفاً /, في الناحية اليمنى/, فخطت فوق الإسفلت/, يفوح شذاها/, بالزىِّ المبهج.." صـ 84
    نحن أمام المشهد المحدد بـ" الرجل ـ المرأة ـ الإسفلت ـ الجسر" وأمام فعلين متناقضين من الرجل والمرأة, وأمام المفارقة أن تنتشي المرأة عندما تطمئن لمصرع من أحبها..هذا المشهد الذي يطمح إلي أن يقدم لنا صورة عن الحياة علي عموميتها يبدو كسيحاً لضعف معطياته الفنية من جهة, ومن جهةٍ أخرى تبدو الحياة أوسع بكثير من الثقب الضيق هذا الذي ينظر منه الحاكي, وإذا ما كنا بصدد أحوال الحاكي, فهل نحن أمام حالة تخص الحاكي بالفعل.. إنها ولاشك تجربة ذهنية مجردة مصطنعة, وإن حاولت أن تتجمل لغوياً ببعض الصور الاستعارية البسيطة التركيب من عينة:" كراسات الفرح المبلولة ـ شق الوجد الرجل"
    الحوار من الأساليب التعبيرية الحكائية التي تؤاذر السرد في التعبير عن المواقف الدرامية, أهمية الحوار تنبع أساساً من كونه يلفتنا إلي صوت آخر مقابل من شأنه أن يعمق شعورنا بالفكرة الظاهرة وإقناعنا بها.
    في نص " أولم يخترم الحب جدارات جوانحه بعد؟" يبدأ الصوت الأول بالسؤال :" لمن الورد الذابح/, والورد/, المذبوح؟" صـ53 هذا التساؤل يمثل نصف الحقيقة, والنصف الآخر تمثله الإجابة التي بدأها الصوت الآخر:" الورد الذابح/ لامرأة تبدو وكأنْ تتقتل/, من فرط براءتها الكذابة/, حتى لأنْ تخشى حين تصافحهاذوبان / , أصابعها فى كفك / , والورد المذبوح / , لرجل / , يبدو للرائي / , وكأنْ هو جلمودٌ من صخرٍ / , من فرط جهامته الخادعة/, حتى لكأن تتساءل/, حين تقابله:/, أولم يخترم الحب جدارات جوانحه بعد؟" صـ55 وهكذا كما نرى تتحول الجملة الحوارية التي تمثل الإجابة إلي عملية سردية تنقل وقائع ومشاهد عن المرأة/ صاحبة الورد الذابح والرجل صاحب الورد المذبوح.
    النص يحمل فاعليته الدرامية من خلال التناقض والمفارقة المتضمنين فيه, فالمرأة الناعمة البريئة ذابحة, والرجل الجلمود المتجهم مذبوح, رغم أن الحكم الظاهري قد لا ينقاد إلي مثل هذه الحقيقة, ومن هنا فان الذات ( الرائية) الراصدة/ الساردة إذ تلفت أنظارنا إلي هذا التناقض المنطوي علي مفارقة تبدأ في تفنيد عِلاَّت أحكامنا الظاهرية لتؤكد أننا إنما نحكم علي القناع الخادع.. والحقيقة هي ما يسوقها الرائي/ الراصد بعد هذا عن طريق المنولوج:" فيا لك/, من راءٍ/, ليس يري خلف براءتها حمماً وبراكين/,تذيب/, جبال الأرض/, وليس يري خلف جهامته أن ليس به/, خردلة/, غير مخربة.." صـ56 ليصل بنا إلي حكمة ختامية في ثنايا المناجاة:" يا من ليس يري/, كم يخفي الجلد الصلد المتشقق/, من أوجاع/, وتباريح." صـ56
    النص يضعنا أمام مكون شعري أساسي بتحول الذات الباصرة إلي طرف أول في الحوار, والذات المتأملة الشاعرة إلي طرف ثانٍ يتولي الإجابة, مُطْلِقةَ العنان لقدرات الحدس واختراق جلدة الظاهر وصولاً إلي الحقائق الكامنة خلف جلدة هذا الظاهر الاعتيادي.. هذه العملية التخييلية تتم في إطار أسلوبي مفعم بالإنشاء الإستفهامي التعجبي, والخبري الذي يعتمد علي التشبيه, وكذا الأساليب المنفية التي تؤكد الحقائق المثبتة, عندما يقول:" ليس يري خلف براءتها حمماً وبراكين" فكأنه يقول:" هاهنا كثير من الحمم والبراكين"
    بالضرورة يجب أن نلتفت إلي أن الاستخدام اللغوي الإيحائي والتصويري في النص كان مُشِفًّّا عن مكتشفات الرائي, بكلمات بالغة الدقة في استخدامها مثل:" وليس يري خلف جهامته أنْ ليس به/ خردلةً/ غير مخرَّبة" صـ55, أن ورود مفردتين من عينة"خردلة" و"مخرَّبة" يؤكد فداحة ما نظنه حقيقة في مقابل مكتشفات الرائي الجديدة التي ليس فيها مقدار خردلة مما نظنه حقيقة, لتفزعنا مفردة "مخرَّبة" التي تؤكد جهلنا أيضاً بما نظنه عامراً. لكأن اللغة تقوم بمهمة أساسية غير نقل مكتشفات الشاعر الجديدة, تتعلق بالنفاذ إلي ذواتنا لإحداث الصدمة المطلوبة فينا لنعيد اكتشاف ذواتنا من جديد في ضوء الحقائق الجديدة التي تتنافي مع العمي الرؤيوى الذي نرتع فيه.
    لاشك أنه من المهام الأساسية للسردية الغنائية أنها تتيح للشاعر أن يتحول إلي مفكر شعري, عندما يختلط عنده الفكري بالشعوري, فما يحركه نحو التفكير في الظاهر الإعتيادي الذي يراه ليعيد تأمله واكتشاف الكامن خلفه, ما يحركه نحو هذا الهدف في الأساس هو شعور وجداني عميق بكره الزيف والأقنعة, وميله إلي الحقائق حتى وإن كانت صادمة, ومن ثم فالسردية الغنائية هي في الأساس غنائية فكرية علي نحو ما رأينا في هذا النص خاصة إذا ما كان السرد ذا طبيعة درامية.
    ومرة أخرى يبدو إيقاع المتدارك كنغمة سردية متوارية خلف تدفق السرد واتصاله النحوي, دون تدعيم إيقاعي كمي آخر, أو إمكانية توقف السرد عند محطات إيقاعية معينة كل ذلك أدى إلي سرِّيَّة الإيقاع العروض إلا في بعض المواقع التي ارتفعت فيها حدة الغنائية مثل:" آهٍ/, لو تدرك/ يا من ليس يري/ كم يخفي الجلد الصلد المتشقق/ من أوجاع وتباريح" صـ56.
    في نص " وكان متعباً من كثرة التجوال" محاولة تجسيد الموت في صورة كائن يبحث عن " الرجل الذي يوزع الحنين/, في أكفِّ الناس/, والبلاد/, والطيور/, ويجمع العشاق/, والصادين/, أشتاتاً/, أشتاتا" صـ60 وبصرف النظر عن كيفية أن يكون" الجمع أشتاتاً" .. ظفر الموت بضالته أخيراً وقبض روح الرجل في المكان والزمان المحددين, و" واصل السير/, وكأنه/, مازال متعباً/,وغاب/, قبل خفقة الطير الذي أتي لتوه" صـ63 ليس لهذا النص عمق رؤيوي يمكن أن نستكشفه, غير أنه يعيد علي أذهاننا معني الآية الكريمة" وإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون" ومن ثم فالنص يعيد ما هو معلوم بالضرورة.
    في النص مساحة من الاستهلاك اللغوي فيما لا قيمة له في الأساس, غير خلق مناخ سردي لا يقول شيئاً من عينة:" وقابله الموت الذي يمر مرة إذا المساء أتي/, ومرة إذا مضي/, وكان متعباً من كثرة التجوال/, كان في يمينه مخلاته مملوءة بخبز أسود/, جاف/, وفي يسراه قش قولتين ليستا لحاجة/,السلوان/, وانغلاقة العين/, ومرَّا في انعطافة الطريق عند الشجر الحافي/,وأخرج المتعب خبزة ناشفةً/, وبص حوْاليه..الخ" صـ61 وحتى آخر النص مساحة شاسعة من تفاصيل صغيرة يقول في آخرها:" والرجل الذي يوزع الحنين.........../مات" صـ63
    وربما أن هذه الجملة الأخيرة تختزن كل النص في باطنها, وما عداها, إنما هو قشٌّ يحتل مساحة لا بأس بها من التواجد الكمي المباهي بتواجده حول هذه الجملة. غير أن تجريد"الرجل" علي نحو ما جاء في النص أفقد النص قيمته, وإن كان النص متأثراً بالقصص التراثي والشعبي الذي يجسد الموت أو مَلَك الموت في صورة الإنسان العاقل الذي ينفذ مهام محددة, ومن ثم تُنسج الحكايا والأقاصيص حول هذا الكائن, تنتهي معظمها بقيمة وعظيَّة, أو تحذيرية ، تركز على قدرية الموت ، ونفاذه فى العباد ، غير أن الموت هنا ـ على ما بدا فى النص ـ صاحب مهمة شريرة إذ يترصد القيم الجمالية فقط كما بدا أيضاً فى نصوص أخرى فى هذا الديوان فقد سبق أن رأينا أنه ترصَّد " سامرة الحى ، وأم الفقراء " وظفر بها بعد كثير عناء وتضحيات وها هو فى هذا النص يترصد " الرجل الذى يوزع الحنين فى أكف الناس والبلاد والطيور ".

    عبدالجواد خفاجى
    E.m:khfajy58@yahoo.com
    عبدالجواد خفاجى غير متصل رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
    عبدالجواد خفاجى
    مشاهدة ملفه الشخصي
    البحث عن المشاركات التي كتبها عبدالجواد خفاجى
    قديم 09-03-07, 03:30 AM #5
    معلومات العضو
    عبدالجواد خفاجى
    شاعر و كاتب
    إحصائية العضو






    عبدالجواد خفاجى غير متصل



    افتراضي تابع السردية الغنائية فى ديوان أحوال الحاكى

    السردية الغنائية

    في ديوان " أحوال الحاكي " للشاعر السماح عبد الله
    دراسة : عبد الجواد خفاجى

    بالضرورة يجب أن نشير إلى رتابة البناء الأفقى فى نمو الأحداث وتوالدها , وربما لهذا أتى النص مترابطاً نحوياً شديد الترابط , إذ ترتبط فيه الجملة بالجملة , مركِّزاً على استولاد الأحداث من بعضها وفق منطق هادئ يحرص على الوصف ، والتعليل والتكرار.
    وبالضرورة يجب أن نشير إلى اضمحلال أى ملامح لموقف شعرى خلف عملية السرد ؛ مما أفقد النص قيمته الغنائية أو الشعرية لنبقى أمام رتابة مبنى قصص سردى بلا قيمة ، يركزعلى التفاصيل الصغيرة المملة التى لا تضيف بقدر ما تستهلك ساحة النص ، وكأنه النص الميت الذى يعيد على الأذهان سيرة الموت . ولننظر إلى مثل هذه التفاصيل الصغيرة غير الخادمة عن حركة الموت وهو يسير مع الرجل المرصود :" وبلل الشفاه/, مرة/, وحيدة /, بقطرة وحيدة /, بقد حاجة الريق الأخيرىّ / ، استدار باليسرى /, ورش قش قولتين / , ليستا لحاجة السلوان /, وانغلاقة العين .." صـ62 لينتهى بنا الموقف عند " الفزورة " الأخيرة هذه على نحوما يمكن أن نسمى سؤالنا الآتى :ـ ما مدلول " القولتين ا للتين ليستا لحاجة السلوان وانغلاقة العين " .. ترى ما نص القولتين ؟!
    وأرجو الايتورط أحد معنا بالقول الشعرية لا تعكس مدلولات محددة وأنها ... فنحن ـ كما سبق القول ـ لسنا أمام نصٍّ شعرى فى الأساس , بقدرما أننا أمام سارد " حكاء " مطمئن وهو يقدم حكاية رتيبة , مرتبة الأجزاء ممنطقة الأحداث , ومن ثم لم تتلقت منه اللغة نحوما يمكن أن نسميه : أصداء الحالة الشعرية التى تجنح نحو لغة تجسد اللايقين وهى تتوسل بالمجاز والرمز والاستعارة والإيقاع لتحتض صوت الذات المشدودة إلى أقاصى الحلم والمعرفة . وقد يتورط آخر بالقول : إننا أمام استخدامات شعرية للغة من عينة: " فى يسراه قش قولتين ـ الشجر الحافى ـ الموت الذى يمر مرة إذ المساء أتى ـ يوزع الحنين ." ربما أن مثل هذا الرأى يتجاهل أن أى بناء لغوى إنما يكتسب شعريته من الموقف الذى يستدعى هذا السياق اللغوي أو ذاك وبتجاهل الموقف يصبح كل الكلام شعراً , وكل الكلام ليس بشعر. وربما أن هذه إشكالية النظر إلىالنصوص مجرداً من الموقف.
    فربما أن عبارة من عينة : " يا للسماء " لو قالها رجل ينظر إلى السماء لكانت أقل شعرية منها لو قالها رجل منكفئ بوجهه إلى الأرض . فهى فى الموقف الأول تعكس حالة إعجاب مباشرة بما يُرى , وفى الثانية حالة من الأسف تستدعى غائباً لتتعجب منه , ومن قدريته التى أدت بالرجل إلى مثل هذا المصير المنكفئ . ومن ثم فإن اختلاف الموقف أدى إلى اختلاف المدلول , ومن ثم اختلاف درجة الشعرية فالنص فى الموقف الأخير أكثرعمقًا نحو الخفى من الشعور وأكثر فاعلية فى استحضارلمشهد غايب , ومن ثم فهى أكثرتخييلاً من المشهد الأول .
    هكذا يمكننى أن أقررأن حالة ذات موقف ذهنى يعيد الشائع ويؤكده فى مشهد سردى جامح الخيال يختلف عن حالة ذات موقف شعورى ينأى عن الاعتيادي فى مشهد تخييلى يعتمد على السرد.
    فى نص " كان الباب شبه مغلق " البناء الذى يعتمد على مشهدين متوازيين يجمعها زمن واحد , أحدهما يعطى مدلوله فى الآخر.
    فى المشهد الأول: تبدأ الذات السادرة التحرك نحو الذات المسرود لها " الأليف وفى المشهد الثانى : ثمة عصفورين " إلفين " تم حبسهما فى قفص .فى المشهد الأول تتفلت الذات السادرة من إسار الواقع يحدوها الأمل فى احتضان لحظة تلامس فيها الحياة بمعناها الحقيقى بعيداً عن جهامة الواقع , ومن ثم تبذل كثير عناء فى الوصول .
    وفى المشهد الثانى يتفلت أحد العصفورين من حديد القفص ، فيما يظل الآخر داخله محاولاً الخروج إلى أن استطاع الخروج لاحقاً بصديقه . حلقا فى أجواء المكان غير أنهما أصطدما بالسقف . هذا المشهد الختامى للطائرين هو ختام حكاية الطائرين ، وإن كان إلى حدٍ ما بداية لقصيدة يمكن أن تنشئها الذات الساردة حول المفارقات التى يحتويها المشهدان معاً .
    ففى الأولى لم يبرح أحد الطائرين القفص حتى لحق به الثانى ، بينما البشر لم يصلا بعد إلى هذه الدرجة من الإصرار على عوامل قتلهما ، فمهما كانت الذات الساردة ساعية إلى الخلاص ، وإلى الاتصال بالمخاطب ( القرين أو الأليف )، إلا أن الأخير ظل على حالة الصمت البليد واجماً كالمقتول ، لم يستطع أن يدلل على حياة فيه ، وقد كان المأمول أن تجد الذات الساردة عند إلفها نوعاً من الحياة ينسيها رحلتها الشاقة ، وهى التى ظلت لفترة طويلة تحلم بمثل هذا الاتصال والتلاقى ، إلا أن المفارقة أنها وجدته أكثر منها موتاً ؛ ففى الوقت الى كانت تردد :" أنا القتيل " كان الآخر يثبت بصمته وسكوته أنه أيضاً قتيل .المفارقة الثانية أن الطائرين هربا من القفص ليصطدما بسقف الحجرة ، ومن ثم فإن الهروب من السجن لا يعنى الحرية وإنما يعنى الهروب إلى سجن أكبر .
    هذا التكشف الأخير يلقى بظلاله على الواقع الخارجى الذى قتل الاثنين معاً .. لكأنه زمن للقتل ، ومن ثم لا مكان فيه إلا لجثث المحبين .. إنه زمن يأبى التواصل والمحبة ، كما يأبى أن يعيش فيه الإنسان حراً ، ومن ثم فالزمن مقتول أيضاً ، لا وجود حقيقى فيه إلا للقتلة ، هم وحدهم يمرون على جثث الوقت . الإشكالية التى يطرحها النص أن كل المحاولات للتفلت من الموت المحقق محكوم عليها بالفشل ، فالطائران بعد أن تفلَّتا من القفص ، اصطدما بالسقف ، ومن ثم سيظلان حبيسين حتى الموت فى المكان الذى أصبح دار الحياة ودار الممات فى الوقت ذاته . وهكذا يحتضن النص رؤية أكبر لحياة متدرجة الخطر ، فمهما يحاول الإنسان التفلت من المستوى الأول فإنه سيصطدم بالمستوى الثانى ،غير أنه لن يمتلك حريته وحياته أبداً . غير أن حياةً بريئة من الاشتباك بالقهر لن تكون ، فبعد كل سجن صغير يُنْجَى منه سجن أكبر هو العالم نفسه الذى يجد الإنسان فيه سقفاً أعلى يصده عن الانطلاق إلى آفاق أرحب من الحرية والإنسانية .
    النص الذى أمامنا هو أطول نصوص الديوان ـ كمياً ـ وربما أعلاها جودة ليس لأنه يحمل رؤية أكثر اتساعاً ، وليس لأنه يحمل أبعاداً رمزية محفزة على التأمل ، ومثيرة للتفكير وقادرة على حمل الرؤية المتسعة ، ليس هذا فحسب ، بل لأن النص اعتمد على فكرة التوازى الدرامى بين مشهدين تتداول بينهما رؤية كبرى حول الحياة والمواطنة والحرية ، وربما حول العصر كله ، وقد أصبح القتل سمة أساسية للترويع وسلب حريات البشر المسالمين . وإن كانت الذات المقتولة فى النص ليست بريئة مما تعانيه ، فهى تتسلى بأسر عصفورين فى قفص ، لكأن النص يلفت إلى طبيعة البشر وميلهم إلى انتهاك حريات الضعفاء والأبرياء كما قال " أبوالعلاء المعرى " للديك الذي قدموه له ليأكله : " استضعفوك قذبحوك ، فهلا ذبحوا شبل الأسد ! " أو لكأن النص يلفت إلي أن فوق كل قاتل صغير ثمة قاتل كبير. أو لكأن النص يلفت أيضا إلي أن كل محاولة للتفلت من الموت مفضية إلي موت.
    يكفي أن نتأمل خاتمة الحدث لنكتشف أن الاستقرار الأخبر لم يكن إلا في سجن كبير هو نفسه الوطن / العالم الذي يحيا فيه الطائران في انتظار موتها الحتمي,كما يحيا فيه الإلفان علي ما في أحدهما من بقايا حياة, وعلي ما في الثاني من دلائل موت .. إنه وطن الموت وسجن الأحياء, وكل محاوله فيه للتفلت من الموت مفضية إلي موت.
    النص يلفت أيضاً إلي الفعل الوحيد الممكن في هذا العالم المتاح للضعفاء والمسالمين والأخيار علي السواء هو فعل التفلت من الموت إلي إن يصبح التفلت مستحيلاً , وإن كان النشاط المصاحب لهذا الفعل هو البحث الذي لا يريم عن الأسباب : " فمالك لا تردُّ / ,أصرت مقتولاً /, أما يكفي قتيلً واحدً منا " صـ78.
    علي أية حالة إن مجمل الرؤي التي تم استكشافها خلف الظاهر الفيزيقي للنص هي في الأساس, وليدة حالة شعورية, أو وليدة شعور ذاتي باستلاب الحياة, وسيطرة قوى الشر علي مقدرات البشر, وإن كان الشعور الأقوى من هذا هو الشعور بالضعف وهشاشة الذات أمام واقع قاتل تعايشه الذات مسيجة بخوفها, أدى بها إلي هذا المنهج من التفكير الشعري الدرامي, ومن ثم فإن النص يعكس تجربة وجدانية في الأساس. وربما أن هذا البعد من المشاعر الذاتية هو ما أعطي التجربة هنا درجة قصوى من الغنائية التي تنأي عن التقريرية إلي مسلمات بنائية أخري تعتمد علي عناصر تعبيرية درامية, منها ما سبق الإشارة إليه من الاعتماد علي المشهد والمشهد الموازي له, والمدعم موضوعياً له " معادل موضوعي" وثانيها البناء الحواري, فالنص كله جملة حوارية واحدة إلي آخر صامت لا يرد, ومن ثم ـ وأمام صمت الآخرـ تحول الحوار الخارجي إلي منولوج في بعض المواضع, حيث بدا السارد وكأنه يتحدث إلي ذاته الأخرى المقتولة داخله, غير أن الحوارية في حد ذاتها أتت محملة بالسردية التي تركز علي نقل عناصر حكائية مترابطة في الزمان والمكان منذ بدايتها: " لنهارك الواشي/, تتبَّعني القطا/, وفرغت من آلاء أسلافي/, وجرَّرت المدائن والحصى/, حتى/, دققت الباب/, في زىَّ الغريب/, وغُنَّة المقتول/, كان الباب شبه مغلق/, فدلفت/, كنت ممدداً بجوار مدفأةٍ تتابع نقر/, عصفورين/, في قفصٍ علي الشُبَّاك/, قلت:/, أنا/, القتيل" صـ75 وثمة تفاصيل سردية كثيرة تعكس هيئة القادم ومعانته, ولذلك جاءت مطعمة بالتساؤلات الحائرة أمام صمت الآخر: " أليس يكفي/, أن أدقَّ عليك بابك/, حشو عينىَّ البكا/, والرمل/, حشو قلبي/,ألف مدينةٍ خربانة.." صـ80 وإن كان السارد قد استرجع بعض التفاصيل " فلاش باك" عرض فيها لتفاصيل حالته أثناء المسير, وما كان يعتوره من مشاعر مترامية نحو هذا الصمت الآن:" عيناك غافلتا حدودى/, كانتا/, تتشربان الوقت/, أو تتصيدان/, هنيهتين بحجم مائهما المراق/, علي دمي/, ويدي/, وجلبابي/,وصمت غوايتي" صـ 80 اعتمد النص في بنائه علي تفعيلة الكامل في إطار التدوير الموسيقي الذي يسمح بتدفق البناء السردي كالسيل الذي يتحرك إلي الأمام مخلفاً وراءه نغمة ثابتة, وإن كان ما يدعم إيقاع التفعيلة هو الإيقاع الأشد خفاءً المتوالد في المشهدين ناتج من توالي الأفعال التي يقوم بها السارد والعصفورين" جرَّرت المدائن والحصي ـ دققت الباب ـ نقَّرت كتفك ـ طاردنى القطا " هذه الأفعال التي تنم عن إيقاع حركي يتسم بالقوة خفتت تماماً في نهاية المشهد ليتحول إلي سؤال شبه مكتوم ونبرة أسيانة" فمالك لا ترد , أصرت مقتولاً, أما يكفي قتيل واحد منا؟" إلي أن كف الصوت تماماً وقد شَخُصت الأبصار: " فانزويتُ / , محدقاً في السقف/, والجدران/, والطيرين/, والأسياخ/,كان الوقت مقتولاً/, وكنتُ/, أنا وأنتَ/, بلا كلام" صـ81
    وإن كان ثمة إيقاع مشهدي آخر جاء متوائماً بين حركتي السارد القادم بما يرسِّمه من حركة وبين حركة الطائرين اللذين يتفلتان من أسرهما إلي أن استقرا أخيراً وقد باءت محاولتيهما بالفشل:" حلَّقا في السقف/,واصطدما بزركشةٍ لها شكل العشيقة والعشيق.." صـ79 ثم: " الطيْران منقارهما دميا/, وصوتهما تشرَّخ" .
    وثمة ما يدعم الإيقاع التفعيلى إيقاع آخر ـ كمى أيضاً ـ اعتمد على التساوى الصوتى النغمى مثل :" فرغتُ ـ دققت " ـ" نقَّرتُ ـ جررت " وكذلك" لتُختتم الحكاية ـ لتُبتدأ القصيدة " وكذلك " دمى ـ يدى " ـ والجدرانِ ـ والطيرينِ ـ والأسياخ " وإن كان أيضاً ثمة نغمة صوتية ناجمة من التجنيس وتكرار بعض الكلمات والجمل وثمة إيقاع حروفى ناتج من تكرار كثير من الحروف المتجاورة مثل حرف القاف فى :" محدقاً فى السقف ـ الوقت مقتولاً ـ حلَّقا فى السقف ـ دق بالمنقار بلا قصد ـ دققت الباب ، غنة المقتول ، شبه مغلق ، نقر ، فى قفص ، قلت ، القتيل ".
    وفى نص " وارتدى دمى الشفيف " الذات المنقسمة على نفسها ، إذ تنتمى الأولى إلى عالم الحلم والرؤى ، بينما الأخرى مغموسة فى نشع الواقع المتسلط المكبِّل لانطلاقة الذات وحريَّتها ، فيما بدت الأولى مشفقة على الثانية :" متى أتى /، ومرَّ من عساكر الدوريَّةِ الليلية /، لابساً زيى /، وراسماً /، على سمات وجههِ /، ملامحى .. " صـ66 ، بينما بدت الثانية كذاتٍ مطلقةٍ هائمة فى عالم أحلامها :" ونام على سريرى /، فرحاً بشِباكِ حلمى /، حينما نصَّبتها /، كى أوقعَ المحبوبَ فيها .." صـ76
    إنها إشكالية الذات الحالمة الشفيفة مع واقع صلد متجهم يملى عليها اشتراطاته هنالك ينتابها الشعور بالغربة والغثيان فتفر إلى أحلامها . لكأنها سقطت سهواً فى عالم لا يخصُّها . ومن ثم تبدأ فى الترامى نحو عالم أحلامها المثالى :" متى أتى هذا الغريب /، ضارباً/، فى وقته العريان /، متروف الخطأ .." صـ76 تتضح من النص أوصاف الذات المتسائلة ، ومدى شفافيتها وعطشها إلى عالم أحلامها :" وارتدى دمى الشفيف / وجلدى الصادى .." صـ67
    ثمة مساحة إذن من التلاحم بالذات فى أسيانها وشعورها بالغربةِ ، وثمة فسحة من الحلم ، إذ تهرب الذات إلى فيافئ الروح ، متحررة من إسار جبلة هذا الواقع الصادم ، ومن ثم كان من المناسب أن تنبنى التجربة تعبيرياً فى شكل المونولوج الذي ينبنى بدوره عبر التساؤل المشف عن الغرابة والدهشة والتعجب ، وإن كان السؤال بـ" متى " لكأن كل شئ تم خلسة فى غفلةٍ من الزمن الذى تحيا فيه الذات حياتها الحقيقية ، ومن ثم كانت التساؤلات :" متى أتى هذا الغريب ؟" ،" متى أتى وفرَّ من عساكر الدورية الليلية ؟" ، ولعل من جماليات الخطاب أنه أعطى الأسئلة ، وترك مساحة الأجوبة مسكونةً بالفراغ الفاغر فاه نحو هوة المجهول ، فلا أحد يعرف على وجه اليقين متى تم استلاب الذات ، ومتى تم نفيها فى الغربة السادرة ، لكأن هذه الحياة ليست لها ، أو لكأنها ليست لهذى الحياة .النصُّ ينطوى على صراع إذن بين نقيضين ينتميان إلى عالمين مختلفين وإن كان الصراع بينهما حول الموقع " السرير " كلاهما يطمح إلى راحة طويلة ، وفسحة فى عالم الروح .
    ومن ثمَّ فالحركة وليدة الصراع تتشكَّل من الأفعال التى يقوم بها الغريب : ( أتى ـ مر ـ ارتدى ـ نام ..) حركة تتسم بكثير من الخفَّة والسرية والتوجس ، وإن كان الفعل " يدق " يوحى بالرعب والفزع ، فدق الباب هنا بغرض الإحتماء من خطر مؤكد ، ثمة لهفة إلى لحظة آمنة هادئة ، وإن انطوت ـ رغم ذلك ـ علىالمغامرة والمخاطرة .
    تواءمت هذه الحركة مع توقيع لفظى يُرسِّم حركة هذا الغريب " راسماً ـ لابساً ـ واقفاً ـ ضارباً .." فى جو إيقاعى آخر من تفعيلة الرجز . هذا الإيقاع رفع درجة غنائية النص واعطاه بعده الشجنى المؤثر

    عبدالجواد خفاجى
    E.m:khfajy58@yahoo.com
    عبدالجواد خفاجى غير متصل رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
    عبدالجواد خفاجى
    مشاهدة ملفه الشخصي
    البحث عن المشاركات التي كتبها عبدالجواد خفاجى
    قديم 09-03-07, 03:41 AM #6
    معلومات العضو
    عبدالجواد خفاجى
    شاعر و كاتب
    إحصائية العضو






    عبدالجواد خفاجى غير متصل



    افتراضي تابع السردية الغنائية فى ديوان أحوال الحاكى

    السردية الغنائية

    في ديوان " أحوال الحاكي " للشاعر السماح عبد الله
    دراسة : عبد الجواد خفاجى

    أما بعد :

    فقد كنا أمام نوع من السرد الغنائي أو المحكى الشعرى والحلمى ، يتوزع بين الكتابة الشعرية بلزومياتها وكثافتها وموسيقاها ولغتها التصويرية والايحائية ، وبعدها الذاتى الوجدانى والشجنى والحلمى . وبين التخييل القصصى القائم على الوصف والاستحضار والتشخيص ، وما يترتب على ذلك من بناء قصصى له سارده وأحداثه وشخوصه فى الزمان والمكان ، وما إلى ذلك من حوار ومونولوج .
    لا شك إنه توزع يستتبع مستلزماته من توتر اللغة التى تتوسل بالاستعارة والمجاز والإيقاع والرمز ، لتحتضن صورة الذات المشدودة إلى أقاصى الحلم والمعرفة ، والعشق ، والصبا .
    لا شك كان السرد ناقلاً لجوانب مستترة فى حياة الحاكى ، عبر وسيط سردى حلمى تحتشد فيه ذكريات الطفولة ، وكوابيس المشيب ، والأحلام المخيفة والرغبات الموؤدة ، وزخيرة لا بأس بها من الشعور بالموات والتلاشي والإحساس بالغربة والعجز والانقطاع ، وثمة طقس مسيج بالخوف وحصار الواقع الزاجر الصادم المتبلد ، ونفور من التسلط وكثير من مشاعر الأسى والحزن والإحباط ، والشعور باللا جدوى ، كُنَّا نستشعر وراء كل ذلك بانطلاقةِ ذات صارخةٍ فى وجه هذا الكون التعس الذى تمثل الحياة فيه أكذوبةً عريضةً ، لأن الشئ الحقيقى فيه ـ فيما يبدو ـ هو الموت وليس الحياة .
    كانت النصوص فى مجملها تحقق بالتعاضد بين مكوناتها الطابع الدرامى للتجربة بتوفرها على العناصر الأساسية للدراما والتى نعنى بها الإنسان والصراع ، وتناقضات الحياة ومفارقاتها . وما كان لهذا الواقع الدرامى أن يبرز لولا توفر العناصر التعبيرية اللازمة له والتى نعنى بها الأسلوب القصصى والتقابل بين الصور والتوازى فيما بينهما ، وما إلى ذلك من الحوار والمونولوج وبقية العناصر السردية .
    وفيما تقهقر الإيقاع الخليلى عن الظهور والضغط على حس المتلقى ، بدا فى كثير من النصوص جزءاً من التعبير عن التجربة شكلا عنصراً من عناصرها دعمَّه فى بعض النصوص إيقاع الحركة والمشهد . وفى بعض النصوص كان كخلفية تجرى الأحداث بمصاحبتها ، وليس أمامها . وإن كان قد نأى عن أن يكون حليَّة تجميلية إلا أنه كان دائماً بعداً جمالياً مدعماً للشعرية .
    لقد كان السرد عن طريق المونولوج ـ على قلَّته ـ مشخِّصاً للفكر الداخلى للحاكى وشفافيته ، كما كان فرصةً لرصد الحياة الجوانيَّة للحاكى ، وسبر عوالمه النفسية والوجدانية والشعورية .
    كما كان الوصف فرصة لتشخيص العالم التخييلى للخطاب الشعرى الغنائى ليمدنا بأهم ما يميز هذا العالم من خصوصيَّةٍ مشفةٍ عن اتجاهات الذات النفسيَّة والرؤيويةِ ، فلم يكن الوصف لمجرد الوصف ، وإنما كان وسيطاً جمالياً بيننا وبين عالم داخلى يتوسل بالوصف ، ليعلن عن تحيزات الذات أو نفورها وإن كان الوصف فى كُلٍّ فرصة لاستبطان مادية الأشياء والشخوص .
    وبالطبع والضرورة معاً كان لابد أن نستعرض إشكاليات هذا النوع من الكتابة الشعرية ، وبعض إخفاقات شاعرها ، فتوقفنا عند بعض النصوص التى خفتت فيها حدة الغنائية مثل نص " سامرة الحى " كما توقفنا عند بعض النصوص الأخرى التى بدا فيها الشاعر متورطاً فى كتابة قصة لذات القصة ، مثل نص " حين جا وأشعل الحريقة " وإن كان مثل هذا النص محملاً بالشاعرية إلا أنه خلى من الشعرية ، ومن النصوص الأخرى التى بدت متهافتة نص " أنت أيضاً لم تجب ولم تفرح " لقد كان فقراً فنياً ، فيما بدت لغته أحادية وخطابية ثقيلة الخطو والوقع ، تحمل كثيراً من دلائل تشتتها خارج أى إطار فنى ، ومن النصوص الت بدت متهافتة أيضاً نص " فخطت فوق الإسفلت " الذى نأى عن السردية الغنائية وسيطرت عليه الذهنية المجردة وإن حاول أن يتجمَّل ببعض الاستعارات البسيطة . وفى نص " وكان متعباً جداً من كثرة التجوال " تتجسد رتابة البناء الأفقى وتضمحل ملامح الشعرية خلف عملية السرد المهموم بالتافه من التفاصيل التى بدت بلا قيمة .
    وجَبَ بالضرورة أن ننوه عن وضعة السادر المطمئن التى كانت سبباً فى مجافاة السردية الغنائية , فبجانب خفوت البعد الوجدانى فى بعض النصوص كان أيضاً السارد المطمئن صاحب اليقين السردي سبباً آخرفى خفوت الغنائية أو انعدامها. هذا السارد المطمئن كان صاحب حضور مطلق المعرفة بما يَقُصّ , فى الوقت نفسه كان نائياً بنفسه عن حالة القلق الشعرية , ومفارقات التواصل أو التباس الأشياء , هو قادر على رصد الأحداث وتطورها متورط فى حكى قصصى بلا فضاء , ومن ثم نأت الشعرية التى تسمح له بإضفاء البعد الغنائى على النص.
    وأخيراً تمنياتى لشاعرنا الغائص فى هذا الخضم الشعرىالبكر أن يستمر فى دفق شعريتة إلى آفاق الوجود الإنسانى , وأن يستمر فى حضوره كشاعر متميز ومخلص لعملية الكتابة ومسيرة التواص
    ل


    الهوامش والمراجع :

    1- د . عزالدين اسماعيل – الشعر العربى المعاصر – ط 5 ص 260 -المكتبة الأكاديمية –القاهرة –1994م
    2 – السابق ص275

    عبدالجواد خفاجى
    فى 12/9/2004م
    بريد الكترونى :
    Khfajy58@yahoo.com

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:56 am