الشعرية السردية في الأدب الإسلامي
قصيدة العشماوي أنموذجا
"حكاية فتاة لا تخذل عاشقها"
قصيدة العشماوي أنموذجا
"حكاية فتاة لا تخذل عاشقها"
عبدالرزاق المساوي
حاولالمشتغلون على الأدب المعاصر أن يعملوا في إبداعه ونقده على السواء – وهذادأبهم في كل حين، فكل جيل يعمل على تخطي ما كان قبله- على تجاوز مجموعة منالتقنيات القديمة التي كان يمتاز بها الأدب كما حاولوا تفعيل خصائص أخرىبرؤية جديدة وعملوا على خلق تشكيل مختلف أدبيا من خلاله أبرزوا العناصرالمستحدثة والمقومات المقترحة..
فقدعملوا على المستوى النظري على سبيل المثال على زحزحة نظرية الأنواعالأدبية التي تعتبر هي الأساس والمدخل الرئيس لما يسمى التصنيف الأدبيوالذي يعنى بالفصل بين الأجناس الأدبية وإعطاء كل جنس على حده خصوصياتهومقوماته ومكوناته واستقلاليته، أي التفريق وتوسيع الهوة بين مساحتينكبيرتين استأثرتا بالإنجاز الأدبي.. وهما مساحة ما هو شعري ومساحة ما هونثري، وذلك لضمان صفاء الجنس الأدبي فهو يأتي إما شعرا وإما نثرا..
وعملهمذاك أدى مع مرور الوقت إلى رسم خارطة أخرى فيها برزت تضاريس تداخل الأجناسالأدبية وتلاقحها وتناسلها وامتداد النصوص واتساعها وانفتاحها علىالمساحتين معا واقتباس كل منهما من الآخر تقنياته وبعض خصائصه ومقوماتهوكذا استغلال مكوناته وتجلياته، وبذلك انصهرت النصوص في بوتقة نصية جديدةيمكن اعتبارها مساحة جديدة تنضاف إلى المساحتين النصيتين السابقتين لتعطيفي الأخير ما اصطلح على تسميته بالنص الجامع أو كما جاء عند الناقدالفرنسي جيرار جينيت( archi texte) والذي ترجم بجامع النص (1)
(1)انظر كتابه "مدخل لجامع النص" ترجمة عبدالرحمان أيوب دار توبقال للنشرالدار البيضاء المغرب ضمن المعرفة الأدبية الطبعة الأولى 1985
إذنعلى المستوى النظري يلحظ الدارسون نوعا من التراجع طال نظرية الأنواعالأدبية من باب أنها كما قلت مدخل رئيس للتصنيف الأدبي، ولكن على مستوىالفعل والإنجاز والتطبيق والممارسة الأدبية على الأقل في أدبنا العربي لازالت قائمة، وما زال النقد عندنا يمارس عمله على اعتبار مفهوم النوع،وبذلك يكرس البحث الدائم عن السمات المميزة لكل جنس أدبي.. إلا أن هذا لايعني أبدا أن الأمر عام أو أنه لا توجد محاولات بل أكثر من ذلك فإنالمتمعن في الأدب العربي قديمه وحديثه واجد أنه على الرغم من إخلاص العربيللنوع إلا أنه في إبداعه يجمع الأجناس والأنواع الأدبية في إنجازه فتجدمثلا قصائد في الشعر العربي ذات طابع ملحمي يشير إلى وجود المكوناتالرئيسة للسرد كما في قصيدة أبي تمام "فتح عمورية" وقصيدة المتنبي وقبلهماالحطيئة وابن أبي ربيعة وأبي نواس وغيرهم كثير من العصر الجاهلي حيث نقرأعن موضوعة (ثيمة) الطلل التي يمكن اعتبارها ملمحا بينا وواضحا من ملامحالسرد في أصول الشعر العربي القديم لأنه يدل على المكان ويعني المكانالمهجور الذي هو مكون أساس من مكونات السرد ومن ثمة فإنه يشير إلى فعلالهجرة كحدث وإلى شخصية قامت بالحدث في زمن معين يدل على الماضي الذييسترجعه الشاعر مستخدما المكونات السردية دون إغفال مكون الحوار الداخلي(المنولوج) أو الخارجي.. وهكذا بقي الشعر العربي مرتبطا بمكونات السرد منمكان وزمان وحدث وشخصيات وحوار وحكي وغيره ولكن دون أن يوغل في السردالخالص لأنه يحتفظ بأساس القصيدة العربية وهو نفسها الإيقاعي ونظامهاالمعتمد على الشطرين وبذلك ظل الشعر العربي في علاقته بالسرد محصنا منالوقوع في شرك السردية المحض بل استفاد من مكونات السرد واستغلها جميعهابإيقاعيته وموسيقاه الخارجية والداخلية.. وهكذا أضحت بعض الأشعار العربيةتقدم الحكاية بكل معطيات السرد ومع ذلك بقيت محتفظة باسمها قصيدة و شعرلأنها لم تخلع زيها الأصيل الذي هو إيقاع البيت ذي الشطرين إلى يومنا هذاحتى ظهرت مجموعة كبيرة من شعراء التفعيلة الذين طوروا الشعر ليصبح يعبربأدوات وآليات السرد المعتمدة مع الاحتفاظ بشعريته.. إذن فعلاقة الشعر بالسرد قديمة قدم الشعر نفسه..
وتأتيقصيدة الدكتور عبدالرحمن العشماوي "" حكاية فتاة لا تخذل عاشقها "" في هذاالسياق فهي قصيدة شعرية تتوسل مقومات الشعر العربي الأصيل في لغتهوموسيقاه وجماليته وتشكيله.. مع اعتماد آليات السرد واستغلال مكوناتهومقوماته بأصولها..
وتأتي قصيدة/قصةالدكتور عبدالرحمن العشماوي "" حكاية فتاة لا تخذل عاشقها "" في هذاالسياق فهي قصيدة شعرية تتوسل مقومات الشعر العربي الأصيل في لغتهوموسيقاه وجماليته وتشكيله.. مع اعتماد آليات السرد واستغلال مكوناتهومقوماته بأصولها..
انالشاعر عبدالرحمن العشماوي أنجز ملفوظه/مكتوبه الشعري بأدواته التي صقلهامنذ نعومة أظافره بالعطاء المستمر والنفس الطويل والتجربة الدائمة، وغمرهابرؤيته الإبداعية المستقاة من انتمائه للإسلامية والعربية، وأحاطها بإشعاعمن العطاء البلاغي والمكون المجازي والتنويعات الايقاعية والموسيقية.. مماجعل النص يتوفر على مقومات عالية من درجات الإبلاغية التي تشد إليهاالمتلقي بكل تلقائية..
وحينيتوسل نصه الشعري هذا كل تلك الأدوات الأدبية نجد الشاعر يتوغل من خلالهفي فضاء السردية ويجوب أركانها الفضائية، ويطوف دروبها الوصفية والحوارية،متوشحا بمكوناتها الأساسية في رسم ملامح الشخصية والأحداث الواقعية.. إنأصوله الفطرية وثقافته الشعرية ودرايته الإبداعية ولمساته النفسية وكذلكصوره الفنية وإحساساته الموسيقية وتنامي إيقاعاته الدرامية وسبحاته فيالوصفية والحوارية.. كل ذلك خلق حصنا حصينا لدائرة النص وقاه من الوقوع فيالسردية الصرفة التي تحيل القصيدة في ذهن المتلقي إلى حكاية موزونة اوتجعلها في عرفه الأدبي عبارة عن قصة مجازية ليس إلا..
إذنفالبناء المحكم والرؤية المتقنة للقصيدة يجعلانها محاطة بهالة شعريةممزوجة بإيقاعات موسيقية متنوعة تأخذ بتلابيب المتلقي ولبه فتدفعه إلىالتفاعل معها تفاعلا إيجابيا على الرغم من كونها استخدمت ادوات السردونهلت من معطياته الشيء الكثير، ويلحظ أن هذا العمل من شاعر كبير في حجمالدكتوى عبدالرحمن العشماوي إنما هو يخدم درامية القصيدة ويعزز بناءهاالفني والدلالي بخلاف ما يلحظه في أغلب ما ينتشر من هذا النوع من الإبداععلى الساحة العربية..
إنميزة نص العشماوي "حكاية فتاة لا تخذل عاشقها" تتجلى في كونه يجعل المتلقيلا يستطيع أن يتمكن من تحديد هوية هذا النص في إطار الجنس الأدبي الصافي،فهل هو مجموعة أبيات شعرية أم هو مجرد قطعة قصصية..؟؟ وذلك لأن الشاعراستطاع أن يوفر لنصه كل معالم الجودة الشعرية والسردية وأن يلعب علىالحبلين معا بكل فنية وإبداعية وتأثرية جعلت النص مضاعف الأدبية ينهل منهنا (الشعرية) ومن هناك (السردية)، ويبدأ إشعاع تلك الجودة من العنواننفسه الذي تواطأ على صياغته فحلان اثنان هما الشاعر عبدالرحمن العشماويوابنه الشاعر أسامة العشماوي واتفقا بشكل أو بآخر على وضعه عتبة أولى لهذهالقصيدة السردية، فكانت في الحقيقة عتبة مثيرة تغري المتلقي على تناولالنص تناولا خاصا، ثم تأسره لقراءته قراءة متأنية ومتابعة سرد أحداثهبانتباه تام لمعرفة الحدث من أوله إلى نهايته بعقدته وتجلياته وتطوراته..
لقد جمع النص بفضلحنكةصاحبه الذي تفاعل مع الحدث المسرود في الزمان والمكان بروحانية عالية تركتبصماتها على إيقاعيته مما جعله يجمع بين الشعرية في أعلى مستوياتهاوالقصصية في أعلى مستوياتها.. فالمقومات الشعرية المعروفة واردة،والمشَكّلات السردية المشهورة معتمدة، والربط بينها حاصل بتقنيات رائعة..لقد استطاع الشاعر بكل ما أوتي من أدوات أدبية وإبداعية أن يخلق في قصيدتهالسردية دينامية وحيوية تطال مجموع النص من الزمان إلى المكان مرورابالأحداث والأفعال والشخصيات في إطار وصف متكامل وحوارات متجاذبة، بدأتسردا وانتهت شعرا وتفاعلا معا فيما بين البداية والنهاية..
من قوله في البداية:
في عصر يومٍ مُفعمٍ بالريح والغبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار
منطلقاً في عملي مُرتَّبُ الأفكارْ
كؤوسُ شعري لم تكن تُدار
ولم تكنْ شموعُهُ في مهجتي تُنارْ
ولمْ يكنْ يُثيرني ولمْ يكنْ يُثارْ
لأنني في يومها لم ألثمِ الأزهارْ
وما سمعتُ يومها ترنُّم الأطيارْ
لكنَّني ..
سمعتُ في المذياعِ نشرة الأخبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار
منطلقاً في عملي مُرتَّبُ الأفكارْ
كؤوسُ شعري لم تكن تُدار
ولم تكنْ شموعُهُ في مهجتي تُنارْ
ولمْ يكنْ يُثيرني ولمْ يكنْ يُثارْ
لأنني في يومها لم ألثمِ الأزهارْ
وما سمعتُ يومها ترنُّم الأطيارْ
لكنَّني ..
سمعتُ في المذياعِ نشرة الأخبارْ
إلى قوله في النهاية:
لا تيأسي من فارسٍ أصيلْ
تُطربهُ سنابكُ الخيولِ و الصهيلْ
يسقيكِ من وفائِهِ ما ينعش النَّخيلْ
ينالُ فيكِ شرفاً ليسَ لهُ مثيل
تُطربهُ سنابكُ الخيولِ و الصهيلْ
يسقيكِ من وفائِهِ ما ينعش النَّخيلْ
ينالُ فيكِ شرفاً ليسَ لهُ مثيل
من قوله في البداية:
في عصر يومٍ مُفعمٍ بالريح والغبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار
منطلقاً في عملي مُرتَّبُ الأفكارْ
كؤوسُ شعري لم تكن تُدار
ولم تكنْ شموعُهُ في مهجتي تُنارْ
ولمْ يكنْ يُثيرني ولمْ يكنْ يُثارْ
لأنني في يومها لم ألثمِ الأزهارْ
وما سمعتُ يومها ترنُّم الأطيارْ
لكنَّني ..
سمعتُ في المذياعِ نشرة الأخبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار
منطلقاً في عملي مُرتَّبُ الأفكارْ
كؤوسُ شعري لم تكن تُدار
ولم تكنْ شموعُهُ في مهجتي تُنارْ
ولمْ يكنْ يُثيرني ولمْ يكنْ يُثارْ
لأنني في يومها لم ألثمِ الأزهارْ
وما سمعتُ يومها ترنُّم الأطيارْ
لكنَّني ..
سمعتُ في المذياعِ نشرة الأخبارْ
إلى قوله في النهاية:
لا تيأسي من فارسٍ أصيلْ
تُطربهُ سنابكُ الخيولِ و الصهيلْ
يسقيكِ من وفائِهِ ما ينعش النَّخيلْ
ينالُ فيكِ شرفاً ليسَ لهُ مثيل
تُطربهُ سنابكُ الخيولِ و الصهيلْ
يسقيكِ من وفائِهِ ما ينعش النَّخيلْ
ينالُ فيكِ شرفاً ليسَ لهُ مثيل
لقدكانت البداية سردية ترسم ملامح بداية الحكاية انطلاقا من وصف الزمان "فيعصر يوم" بأسلوب شعري "مفعم بالريح والغبار" وقع فيه حدث ما "بدأت رحلةالنهار".. فكأن هذه البداية إجابة عن سؤال مطروح سلفا من طرف المتلقي وذلكفي ذهن الشاعر الذي عايش الحدث بكل جوارحه وتأثرت نفسيته بوقائعه التيزلزلت كيانه كما روى ابنه أسامة العشماوي، فجعلته يدخل في عزلة بين الحينوالحين فتوقع السؤال:
"ماذا وقع؟ ما الذي حدث؟
ثمكأني بها بداية أتت بعد بداية أخرى مسكوت عنها تحيلنا على موروثحكائي/سردي قديم كان تفتتح به القصة للتشويق وشد الانتباه خصوصا عندماتسردها الجدات للأبناء والأحفاد ليلا مبتدئة بصياغة مصكوكة:
"كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان كان حتى كان..."
وتبدأ الحكاية على إيقاع:
"في عصر يومٍ مُفعمٍ بالريح والغبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار"
بدأتْ رحلةُ النهار"
لتسجلعلاقة المحسوس (عصر يوم) بالملموس (مفعم بالريح والغبار)، فالدال علىالزمان في السطر الأول مجرد إحساس غير ملموس يعيشه الشاعر ويشعر به لكنهذا الأخير يشيئه حتى يصبح كائنا ملموسا يتسع للأشياء الأخرى، فيجعلهقابلا للملإ والإفعام (بالريح والغبار)، بما هو محسوس (بالريح) وملموس(الغبار)..
والملأجاءت دلالته أولا بصيغة حرف الجر "في" الدالة على الظرفية الزمانيةلمجيئها قبل التركيب الإضافي "عصر يوم" الدال على الزمان.. وسرعان ماتتحول إلى الدلالة على الظرفية المكانية في الوقت نفسه الذي تحافظ فيه علىزمانيتها عندما تأتي في سياق يتربع فيه اسم المفعول "مُفعَم" من الفعل"أفعم".. الدال على الملإ وزاد في دلالته هذه مجاورته لحرف الجر "الباء"..مما يجعل المتلقي يشعر وكأن الملقي يصر على رسم هذه الصورة أمامه بالشكلالذي يوحي بأن القضية حاصلة وواقعة فعلا، وليست مجازا..
فيهذا الجو الملئ بالريح والغبار حقيقة أو مجازا وقعت الأحداث وجرت الوقائعمن طرف الحدث نفسه فالرحلة حدث أحدث حدث البدء وليس شخصية من المعقول أنينسب لها الإحداث، الرحلة حدث تقوم به شخصية معينة وبدأت فعل تقوم به هوالآخر شخصية ما لكن الحدث يتماهى مع الشخصية.. فـ"بدأت رحلة النهار" فعلوفاعل ومضاف إليه.. بدأت فعل ماض أغرقت ماضويته التركيب الإضافي " عصريومٍ" في النكرة.. فأصبح الزمان محاطا بكل ما يوحي بالدلالة السلبيةللفظتي (الريح والغبار)، مما سيعطي صورة قاتمة من أول وهلة للوضع الذيستوجد فيه الشخصية المتحدثة بضمير المتكلم فيما بعد.. البداية إذن كانتسردية في قالب شعري..
في عصر يومٍ مُفعمٍ بالريح والغبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار
منطلقاً في عملي مُرتَّب الأفكارْ
كؤوسُ شعري لم تكن تُدار
ولم تكنْ شموعُهُ في مهجتي تُنارْ
ولمْ يكنْ يُثيرني ولمْ يكنْ يُثارْ
لأنني في يومها لم ألثمِ الأزهارْ
وما سمعتُ يومها ترنُّم الأطيارْ
لكنَّني ..
سمعتُ في المذياعِ نشرة الأخبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار
منطلقاً في عملي مُرتَّب الأفكارْ
كؤوسُ شعري لم تكن تُدار
ولم تكنْ شموعُهُ في مهجتي تُنارْ
ولمْ يكنْ يُثيرني ولمْ يكنْ يُثارْ
لأنني في يومها لم ألثمِ الأزهارْ
وما سمعتُ يومها ترنُّم الأطيارْ
لكنَّني ..
سمعتُ في المذياعِ نشرة الأخبارْ