منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية) Empty كتاب: من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ( المقاربة الميكروسردية)

    مُساهمة   السبت ديسمبر 18, 2010 11:48 am

    الفصل الثالث:

    المستوى الاستنتاجي




    المبحث الأول: المستوى الرؤيوي:

    من إيجابيات النص القصصي القصير جدا أنه يحمل تصورا للعالم ويستهدي برؤية فلسفية تعطينا نظرة الكاتب إلى الوجود والإنسان والقيم والمعرفة في شكل نسق تصوري متماسك ومنسجم. وكل نص قصصي يخلو من هذه الرؤى الفلسفية فهو نص جاف ومترهل وناقص وفارغ من الحمولات الإبداعية الحقيقية. ويعني هذا أن النص لابد أن يحمل رسالة أو أطروحة هادفة لتكون مفتاحا لرصد العمل أو شخصية المبدع أو العصر فهما وتفسيرا
    ونقدم لكم الآن نموذجا تحليليا مبنيا على دراسة الرؤى الفلسفية في الكتابة النسائية المغربية في مجال القصة القصيرة جدا:

    " تمتاز القصص القصيرة جدا للمبدعات المغربيات الأربع على المستوى الدلالي بالقيم الخلافية التالية:
    * انطلاق فاطمة بوزيان في مجموعتها القصصية القصيرة جدا"ميريندا" من الرؤية الرقمية التي تنظر إلى الشخصيات البشرية ككائنات رقمية إلكترونية ممسوخة ومستلبة ومشيأة؛
    * اهتمام وفاء الحمري في مجموعتها " بالأحمر الفاني" بالرؤية القومية من خلال تجاوز الهموم الذاتية والقضايا المحلية والوطنية نحو الاهتمام بقضايا الأمة العربية الإسلامية ولاسيما تعاطفها الكبير مع القضية الفلسطينية، كما أنها تعالج قضاياها الذاتية والقومية على ضوء الرؤية الإسلامية تناصا وتشكيلا وإبداعا؛
    * استهداء السعدية باحدة في مجموعتها:" وقع امتداه..ورحل" بالرؤية الفانطاستيكية الكروتيسكية القائمة على التحولات الامتساخية البشعة ، حيث تتحول الكائنات الإنسانية إلى حيوانات ماكرة وخادعة وذوات مشوهة ممسوخة عضويا ونفسيا و قيميا؛
    * انطلاق الزهرة رميج في مجموعتها القصصية:" عينما يومض البرق" من الرؤية الواقعية الانتقادية في رصدها للهموم الذاتية والموضوعية، كما أنها الكاتبة الموضوعية الوحيدة التي دافعت عن الرجل إلى حد ما، فانتقدت المرأة المغرورة والمتبجحة انتقادا شديدا."



    المبحث الثاني: المستوى التصنيفي:

    عندما ينتهي الناقد من دراسة المجموعات القصصية أو مجموعة ما أو مجموعة من النصوص القصصية القصيرة جدا، فمن الأجدى والأفضل أن يصنف المبدع داخل تيار فني أو جمالي معين أو يدرجه ضمن حركة أدبية أو فنية لها مقومات وسمات معينة.
    وإليكم نموذجا نقديا تصنيفيا نحدد فيه السمات الفنية والجمالية لكل مبدع على حدة في مجال القصة القصيرة جدا بالمغرب:

    " إذا كان حسن برطال في مجال القصة القصيرة جدا كاتبا شعبيا، ومصطفى لغتيري كاتبا مثقفا ذهنيا، وجمال بوطيب كاتبا ساخرا،وعز الدين الماعزي كاتبا طفوليا، وعبد الله المتقي كاتبا ماجنا، وسعيد منتسب كاتبا اجتماعيا، فإن سعيد بوكرامي كان كاتبا شاعريا تجريديا بامتياز.
    وعليه، فلقد تناول سعيد بوكرامي قضايا ذاتية ومجتمعية وإنسانية جادة وهامة ومصيرية. وعبر عنها بريشة تجريدية قوامها السخرية والتلوين الشاعري والتشكيل البصري الموحي الممزوج بأدب الخواطر و الصور البيانية الانزياحية التي تثير القارئ وتربكه بالاستعارات السردية المعقدة الموغلة في الغموض تارة والإبهام تارة أخرى.
    ومن هنا، فعلى المتلقي المفترض لقصص سعيد بوكرامي أن يكون متسلحا بكل طرائق التأويل ومناهج التحليل والمقاربة النصية قصد تفكيك شفرات نصوص الكاتب التي تتسم بالعناد والتمرد، وتستعصي في وحشيتها وشراستها حتى على النقاد المروضين للنصوص الأدبية الحداثية الغامضة ، والمتخصصين في التفكيك والتشريح الأدبي؛ بسبب طغيان التجريد والإكثار من السرد المجازي، وتخريب النسق الدلالي ، وتهلهل النسيج القصصي لهيمنة خطاب الحذف والإضمار والفراغ الدلالي وكثرة نقط البياض و انتشار أيقونات الحذف الملغزة."


    المبحث الثالث: المستوى التقويمي:

    إذا كانت المناهج البنيوية والشكلانية والسيميائية تقف عند حدود الوصف وشكلنة المضمون، ولاتهتم بالتقييم أو تشخيص عيوب النص الأدبي بصفة عامة والنص القصصي بصفة خاصة، فإن منهجنا الميكروسردي يهتم بتقويم القصص القصيرة جدا سلبا وإيجابا، ويبين عيوبها ويشخص سلبياتها من أجل أن يستفيد منها المبدع والمتلقي على حد سواء.
    ونستحضر من الشواهد النقدية التي التجأنا فيها إلى أسلوب التقويم والتشخيص النموذج النقدي الذي قومنا فيه كتابة وفاء الحمري في مجموعتها القصصية:" بالأحمر الفاني":

    " وما يؤاخذ على الكاتبة وفاء الحمري أنها كانت تسقط مرات عدة في التصريح الظاهري والتوضيح الموضح والتقرير النثري القاتل والأسلوب المباشر ، كما كانت تنهج في كثير من قصصها منهج المباشرة السطحية بدون مواراة رمزية أو تورية إيحائية أوتلميح أسلوبي أو انزياح تعريضي، وهذا بين في مجموعة من قصصها كقصة" الخوالف" وقصة:" فصيلة دم"، وقصة :" أنقاض"، وقصة :" العدد والعدة"..."


    المبحث الرابع: المستوى التوجيهي:

    لاينبغي للناقد أن يكتفي بالقراءة والتقويم دون اللجوء إلى التوجيه والإرشاد، فعملية التوجيه مهمة للمبدع لكي يستفيد من أخطائه وأدوائه ليتفاداها في المستقبل. ويستحسن أن تكون عملية التوجيه مفيدة وشاملة تحيط بكل الجوانب النصية معللة ومفسرة بأدلة ملموسة وموثقة علميا وموضوعيا.
    ومن النماذج النقدية التي اعتمدنا فيها على التوجيه والإرشاد ما كتبناه في حق المبدعة وفاء الحمري حول مجموعتها:" بالأحمر الفاني":

    " غلبت وفاء الحمري في مجموعتها القصصية الهمين: الواقعي والقومي على حساب الهم الأسري والذاتي. ويعني هذا أن الكاتبة لم تعط لمشاكل الذات الأنثوية إلا حيزا محدودا وضئيلا ، وذلك بالتشديد على بعض المشاكل البارزة في الأسرة المغربية كعمل المرأة الموظفة، واحتداد الصراع اليومي بين الزوجين، وتفكك الأسرة، وتشرد الأبناء، ومشكل الفراق والطلاق...
    وتمتاز مجموعة وفاء الحمري بالرؤية الإسلامية المتزنة القائمة على الطرح الواقعي والاجتماعي والقومي والإنساني . بيد أن المجموعة على الرغم من تنوع أساليبها وسجلاتها الخطابية والتجنيسية فقد سقطت في المباشرة والتقريرية والمعالجة الواضحة للمعطى الموضوعي والذاتي. أي يفتقد العمل إلى خاصيات جمالية تميز جنس القصة القصيرة وتفرده عن باقي الفنون الأدبية الأخرى كالعصف الذهني والغموض الفني وإرباك المتلقي والإضمار الفلسفي والترميز الإحالي والانزياح المجازي والتخييب الدلالي والتي نجدها بشكل أو بآخر عند باقي كتاب القصة القصيرة جدا كمصطفى لغتيري وجمال بوطيب وعبد الله المتقي وسعيد بوكرامي وحسن برطال وعز الدين الماعزي...
    ويتضح لنا ، في الأخير، أن وفاء الحمري قد تأثرت أيما تأثر بالحسين زروق صاحب مجموعتين قصصيتين قصيرتين ألا وهما: " الخيل والليل" و" صريم" على مستوى التيمات والرؤية والصياغة الفنية والجمالية تناصا وتفاعلا وحوارا وتواردا.
    وعلى الرغم من هذه الانتقادات ، فوفاء الحمري لها بدون شك مستقبل زاهر في مجال القصة القصيرة جدا إذا استفادت من توجيهاتنا النقدية وملاحظاتنا التقويمية، ومالت نحو الأسلوب السهل الممتنع البعيد عن التقريرية والمباشرة مع تغليفه بالإيحائية والرمزية ، والمراوحة بين خاصيتي الفائدة والمتعة."

    تركيب:

    يمكن للناقد الذي يتبنى المقاربة الميكروسردية أن يحترم هذه المستويات الدراسية كما عرضناها بشكل متدرج ، فيبدأ بالمستويات الدنيا إلى المستويات العليا أو يتصرف فيها تقديما وتأخيرا مع حذف بعض المستويات لضرورات منهجية أو عملية أو لضيق الوقت وشساعة الموضوع أو الدراسة.
    ومن ثم، فمنهجيتنا الميكروسردية منهجية مركبة ومتكاملة تحيط بالنص الإبداعي من جميع جوانبه الداخلية والخارجية . وبالتالي، فهي منهجية مرنة ومنفتحة على كل المقاربات الوصفية والمعيارية وقابلة للاستفادة من المستجدات المنهجية بشرط أن تكون أدوات تقنية إجرائية وسهلة لتطبيقها واستثمارها في مجال مقاربة القصة القصيرة جدا.


    الباب الثاني:


    معايير المقاربة الميكروسردية ومقاييسها




    الفصل الأول:


    أركان القصة القصيرة جدا ومكوناتها الداخلية





    توطئــــة:

    تستند المقاربة النقدية لفن القصة القصيرة جدا إلى عدة معايير ومقاييس نقدية تنصب على الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية. ومن هنا، فهذه المقاربة تميز بين الأركان والشروط أو بين المكونات الداخلية والتقنيات الخارجية أو بين العناصر البنيوية التي تميز فن القصة القصيرة جدا وتفرده عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى وبين المقاييس المشتركة التي تجمع هذا الفن الجديد والمستحدث مع باقي كل الفنون والآداب والمعارف العلمية.
    وبناء على ماسبق، فقد حدد الدكتور أحمد جاسم الحسين مقومات القصة القصيرة جدا في كتابه: " القصة القصيرة جدا" في أربعة أركان أساسية وهي:القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف .
    أما الباحث السوري الأستاذ نبيل المجلي فقد جمع خصائص القصة القصيرة جدا في أرجوزة على غرار منظومات النحو والفقه والحديث ، فحصر أهم مميزاتها في خمسة عناصر أساسية ألا وهي: الحكائية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، وفعلية الجملة، فقال:

    ســـرد قصير متناه في القصر
    كالسهم، بل كالشهب تطلق الشرر
    كتبـــــها الأوائل الكبـــــــــــار
    وليس يدرى من هو المغــــــــوار
    قد ميزتـــها خمسة الأركــــان
    حكاية غنيــة المعــــــــــــــــــــاني
    وبعدهــــا يلزمها التكثــــــيف
    ووحـــــدة يحفظــــــــــــها حصيف
    واشترط النـــاس لها المفارقه
    وأن تكـــون للحدود فارقـــــــــــــه
    وجملة فعليـــــــة بها كمـــــــل
    بنـــــاؤها وحقه أن يكتمـــــــــــــــل

    وإذا انتقلنا إلى المبدع السوري سليم عباسي فقد حصر ملامح القصة القصيرة جدا في الحكائية، والمفارقة ، والسخرية، والتكثيف، واللجوء إلى الأنسنة، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، والاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها ، وقد ذكر هذه الملامح في الغلاف الخارجي الخلفي من مجموعته القصصية :" البيت بيتك".
    ويتبين لنا من كل هذا أن سليم عباسي يخلط بين الأركان والشروط أو بين الثوابت الجوهرية والتقنيات الخارجية التي تشترك فيها القصة القصيرة جدا مع القصة القصيرة والرواية والفنون السردية الأخرى.
    أما الدكتورة لبانة الموشح فتحصر عناصر القصة القصيرة جدا في: الحكاية، والتكثيف، والإدهاش.
    ويرى لويس بريرا ليناريس أن للقصة القصيرة جدا مجموعة من المؤشرات وهي:
    • حضور عنصر الدهشة؛
    • العلاقة بين العنوان والحبكة والنهاية؛
    • تركيب الجمل داخل النص؛
    • اجتناب الشرح أو التوسع؛
    • تنوع النهاية؛
    • القاعدة السردية؛
    • النص القصير جدا ليس نكتة.
    أما الناقد الأرجنتيني راوول براسكا فيحصر مميزات القصة القصيرة جدا في ثلاثة أركان جوهرية وهي:
    • الثنائية: وتتمثل في وجود عالمين أو حالتين متقابلتين في النص القصصي(حلم/يقظة، صورة حقيقية/ صورة معكوسة،...الخ). قد تحدث الثنائية بتحول مفاجئ في وجهة نظر الراوي أو بتقديم روايتين مختلفتين لنفس الحدث.
    • المرجعية التناصية؛
    • انزياح المعنى.

    وترى الناقدة الفنزويلية بيوليطا روخو أن للقصة القصيرة جدا مجموعة من المكونات الرئيسية وهي:
    • المساحة النصية؛
    • الحبكة؛
    • البنية؛
    • الأسلوب؛
    • التناص.

    أضف إلى ذلك، فقد ذهب الناقد المكسيكي لاوروز زافالا إلى أن خصائص القصة القصيرة جدا هي:
    • الإيجاز؛
    • الإيحاء؛
    • التناص؛
    • الطابع التقطيعي؛
    • الطابع الديداكتيكي.

    ومن هنا نفهم أن للقصة القصيرة جدا أركانها الأساسية وشروطها التكميلية. ويمكن استجماع تلك الأركان والشروط في المباحث التالية:


    المبحث الأول: المعيار الطبوغرافي:

    نعني بالمعيار الطبوغرافي كل ما يتعلق بتنظيم الصفحة تبييضا وتسويدا، وكل ماتحويه من مؤشرات أيقونية وبصرية وعلامات سيميائية تشكيلية،وفي هذا السياق بالذات يمكن الحديث عن بعض الأركان الطبوغرافية التي يمكن حصرها في المقاييس النقدية التالية:

    1- مقياس القصر:

    ينبغي أن تتخذ القصة القصيرة جدا حجما محدودا من الكلمات والجمل ، وألا تتعدى مائة كلمة في غالب الأحوال، أي خمسة أسطر على الأقل وصفحة واحدة على الأكثر لكي لاتتحول إلى أقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية بنفسها السردي المسهب والموسع. ويعني هذا أن يحترم الكاتب حجم هذا الفن المستحدث وألا يتعدى نصف صفحة، ويختار الجمل ذات الفواصل القصيرة والجمل البسيطة من حيث البنية التركيبية ذات المحمول الواحد.
    وهذا الحجم القصير جدا هو الميسم الحقيقي لهذا الجنس الأدبي الجديد الذي ظهر ليواكب التطورات السريعة التي عرفها العالم بصفة عامة والمجتمع المغربي والعربي بصفة خاصة. كما يستجيب هذا الحجم المحدود من حيث الأسطر والكلمات مع سرعة الإيقاع الواقعي وكثرة مشاغل الإنسان وتخبطه في أزمات يومية ومشاكل كثيرة يستوجبها الظرف الزمني المعاصر؛ مما يجعل المتلقي أو القارئ لا يستطيع أن يقرأ الأعمال الأدبية الإبداعية الطويلة والمسترسلة، لذلك يلتجئ إلى القصة القصيرة والقصيرة جدا.
    ولقد صدق القاص الفنزويلي لويس بريتو غارسيا:" نمر بسرعة من دراما الكتاكالي التي يدوم عرضها ثلاثة أيام، إلى التراجيديا الإغريقية التي تستمر ليلة كاملة، إلى الأوبرا التي تستغرق خمس ساعات، إلى الفيلم الذي يدوم ساعة ونصف، إلى حلقة المسلسل من عشرين دقيقة، إلى الفيديو كليب من خمس دقائق، إلى الوصلة الإشهارية من عشرين ثانية، ثم القصة القصيرة جدا من ثانية واحدة"
    ونلاحظ أن كثيرا من الكتاب لا يعرفون كيف يتحكمون في خاصية التكثيف والاقتضاب، فيطولون من قصصهم توسيعا وتمطيطا حتى تصبح نصوصهم المتخمة بالاستطرادات والحشو الزائد أقرب من القصة القصيرة أو الرواية القصيرة جدا، وبهذا التطويل يعكر الكاتب صفو هذا الفن الجديد ويميعه فنيا وجماليا. لذا، يستسهل كثير من الكتاب هذا الفن ويعتبرونه مطية سهلة يمكن تطويعها في أية لحظة استعد لها الكاتب أو لم يستعد. وبالتالي، يركبها الجميع حتى الفاشلون من المبتدئين والمجربين والمستسهلين في مجال الكتابة الشعرية والسردية والدرامية.
    ويعتبر حسن برطال في مجموعته: " أبراج" من أكثر كتاب القصة القصيرة احتراما للحجم القصير جدا ، ومن أمثلة ذلك هذه القصة التي لاتتعدى سطرا واحدا:" شرب من الماء... ولما علق العود بحلقه أدرك أنه في عين الحسود..."
    أما قصص مصطفى لغتيري في :" مظلة في قبر" فتتسم بحجمها المتوسط الذي لا يتجاوز نصف صفحة ماعدا نصين يستغرقان تقريبا الصفحة الكاملة وهما: "الأسير"، و"كابوس".
    أما نصوص الزهرة رميج في مجموعتها القصصية القصيرة جدا:"عندما يومض البرق" فتتميز في معظمها بالطول المسهب والانسياب المسترسل وتستغرق صفحة كاملة كما في قصتها: "واجهة":

    " كل الطلبة منهمكون في الإجابة عن أسئلة الامتحان ماعداها.آخرون يحاولون... لكنها أكثرهم إصرارا.
    تحرك رأسها في كل اتجاه...تهمس إلى مجاوريها، فينهرها الأستاذ:
    - إذا كان غطاء رأسك يحول دون سماعك لصوتك، فإن أذني تسمعان دبيب النمل!
    الوقت يمر وهي على حالها ، تتربص بإجابات الآخرين تربص الوحش بفريسته.
    لم يبق الآن، سوى بعض الطلبة المتناثرين في القاعة. دائرة فارغة تحيط بها...لاأمل في تلك اللحظة الأخيرة التي يختلط فيها الحابل بالنابل!...
    أخيرا، سلمت الأستاذ ورقة تحريرها.ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة وهو يقرأ ما كتبته أعلى الصفحة بخط عريض أحمر:" بسم الله الرحمن الرحيم.عليه توكلت وهو المعين"."

    وعليه، فهناك ثلاثة أنواع من الكتابة في مجال القصة القصيرة جدا على مستوى الحجم: كتابة قصيرة جدا، وكتابة متوسطة، وكتابة طويلة ومسترسلة.

    2- مقياس الترقيم:

    من أهم مكونات القصة القصيرة جدا الاهتمام بعلامة الترقيم وتطويعها سيميائيا لخدمة أغراض الكاتب ونواياه الإبداعية والتصورية . ونلاحظ في الكثير من المجموعات القصصية القصيرة جدا ثلاث ظواهر بارزة:
    أولا: هناك من يتحرر من علامات الترقيم ويرفض الوقفات المفرملة والفواصل المسيجة التي تحد من التدفقات الشعورية والتعبيرية، ويتمرد عن ضوابطها ثورة وانزياحا وجرأة، كما في قصة:" بدون" لعز الدين الماعزي:" دخل الحمام بقفته الفوطة الملابس الداخلية صابونة مشطا محكا وشامبوان...
    نزع ملابسه ثوبا ثوبا ودخل للاستحمام.
    جاء الكسال دعك أطرافه جره جذبه ثناه طواه حمله وضعه أسنده كتم أنفاسه أفرغ عليه الماء وخرج التفت وجد نفسه بدون...."
    ثانيا: هناك من يحترم علامات الترقيم أيما احترام، ويستخدم وقفاتها الإملائية في سياقاتها الملائمة ويضعها في أماكنها المناسبة كما في قصص : " الخيل والليل" للحسين زروق:

    " الابن: أماه أين أبي؟
    الأم: مسافر ياولدي.
    الابن: ومتى سيعود أماه؟
    الأم: لاأدري ياولدي.
    وبعد شهور...ومع استمرار الحرب.
    الابن: أماه لماذا لم يعد أبي؟
    الأم: لاأدري ياولدي.
    بعد سنة...والحرب تزداد شراستها...
    الابن: لماذا لانسافر أيضا يا أماه؟
    الأم: ربما نفعل يا ولدي.
    الابن: ومتى يا أماه؟
    الأم: لا أدري يا ولدي.
    وفي أول غارة كان القصد منها شل الحركة الطبيعية للأحياء سافر الابن ولم تضع الأم مزيدا من الوقت... بل سارعت لشراء تذكرة سفر... صارت تملك بندقية"

    ثالثا:هناك من يوفق بين الاتجاهين احتراما وتحررا، أي يتصرف في هذه العلامات الترقيمية ويطوعها لأغراض فنية وجمالية ومقصدية، ويكتفي ببعض العلامات تركيزا وتبئيرا كعلامات الحذف والفاصلة كما هو حال فاطمة بوزيان في مجموعتها القصصية:" ميريندا":

    " كان يوسف يحب الطائرات...
    سمع الكبار يتحدثون عن طائرات دمرت أبراجا عالية فمزقها
    وأحب يوسف صناعة الزوارق...
    سمعهم يتحدثون عن زوارق الموت فأغرقها في الماء
    راح يلعب في سيارات صغيرة...رأى في التلفزة سيارات تنفجر ودماء ودموعا فهجر اللعب، وقال إخوته:
    - كبر يوسف!"

    ويلاحظ أن كثيرا من كتاب القصة القصيرة جدا يكثرون من علامات الحذف الثلاث والفاصلة من أجل تحقيق التكثيف والإيجاز والاقتضاب وخلق الجمل القصيرة المتراكبة والمتتابعة سرعة وإيقاعا.
    فالكاتب عزالدين الماعزي في مجموعته:" حب على طريقة الكبار" يميل كثيرا إلى الإضمار والحذف عن طريق تغييب علامات الترقيم التي لا تظهر إلا في حالات قليلة. أما أهم علامة تحضر لديه بشكل لافت للانتباه هي علامة الحذف بنقطها الثلاث. وهذه الخاصية الترقيمية إن دلت على شيء فإنما تدل على الإيحاء والتلميح والإخفاء وإسكات لغة البوح والاعتراف و الامتناع عن توضيح الواضح وفضح الفاضح. وبالتالي، تحرك هذه العلامة الترقيمية مخيلة القارئ وتحفزه على التفكير والتخييل والإجابة عن الألغاز المطروحة في سياقاتها المرجعية وأبعادها الانتقادية.
    ويشغل عبد الله المتقي في مجموعته" الكرسي الأزرق" علامات الحذف الثلاث مع توظيف علامة الاستفهام قصد دفع القارئ إلى التخييل ، وتدبر الجواب، وملء الفراغات بأجوبته الافتراضية والممكنة كما في قصته التي تدور حول السينما التي يهرب إليها الشباب والكبار على حد سواء للتنفيس عن مكبوتاتهم والالتحام مع الخطاب الجسدي الذي يجسده الفيلم السينمائي. وهنا ، تتحول قاعة السينما إلى فضاء الاستهتار والاستمناء:" أطفئت مصابيح القاعة....خيم الصمت....وبدأت أحداث الشريط الفاحشة....الأجساد العارية....القبل....مايشبه اللهاث....و.... سقطت نقطة ساخنة على حافة صلعته...تحسسها بأصابعه...كانت لزجة ودافئة...
    - تفو!
    - وانسحب من القاعة....
    - فقط، كان يشعر بتفاهته".
    و نجد حسن برطال أيضا في مجموعته " أبراج" يكثر من علامات الحذف والنقط المتتالية الدالة على حذف المنطوق واختيار لغة الصمت والتلميح بدلا من التوضيح وتفصيح ماهو واضح؛ لأن الواضحات كما يقال من الفاضحات. وتعمل نقط الحذف على إثارة المتلقي، ودفعه إلى التخييل ، وتصور المحتمل، والبحث عن الجواب الصحيح ، وإيجاد الحلول الممكنة للأسئلة المطروحة، لأن الأسئلة كما يقول الفيلسوف كارل ياسبرز أهم من الأجوبة.
    ويكثر الكاتب المغربي حسن برطال من نقط الحذف ليخلق بلاغة الإضمار والصمت بدلا من بلاغة الاعتراف والبوح التي نجدها كثيرا في الكتابات الكلاسيكية شعرا ونثرا. يقول الكاتب متوكئا على بلاغة الحذف ملمّحا إلى الموت وبشاعة القتل البشري:" قابيل دفن أخاه...الغراب دفن أخاه....والذي قتل بغداد دفن نفسه".
    ويستلزم الفراغ النقطي قارئا ذكيا لما يكتبه حسن برطال، لأن قصصه قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة يحتك فيها المتلقي بأسلاك قصصه القصيرة جدا، والتي على الرغم من حجمها الكبسولي تحمل في طياتها أسئلة كثيرة وقضايا إنسانية شائكة.
    ويلاحظ في مجموعة" ميريندا" لفاطمة بوزيان ظاهرة الانسياب السردي والتحرر من علامات الترقيم التي تتحول إلى علامات معطلة وسالبة في كثير من الأحيان ، أو تتحول إلى علامات الحذف والإضمار كما في قصة:" ماسنجر" مثلا.
    والسبب في تعطيل علامات الترقيم في كثير من قصص المجموعة ربما يعود إلى رغبة الكاتبة في التحرر من شرنقة الإملاء والفواصل المفرملة للأفكار والعواطف، والانسياق أيضا وراء اللاشعور الوجداني الذاتي مع ترك التخيلات السردية تنساب بدون تقييد أو وضع للحواجز التي تكبح اللغة وتسلسل المعاني.

    4- مقياس التنوع الفضائي:

    تتنوع الفضاءات البصرية للقصة القصيرة جدا إلى فضاءات متنوعة يمكن تصنيفها حسب الشكل التالي:

    - فضاء الجملة الواحدة: كما في قصة :" المستبد" لجميل حمداوي:" استيقظ الحاكم المستبد،يوما، فلم يجد شعبه..." ؛
    - الفضاء المسردن: وهو الغالب على القصة القصيرة جدا كما في هذه القصة السردية التي يطغى فيها السواد على البياض:

    " ينظر مليا إلى رسم كاريكاتوري على جريدة ويبتسم
    " حذاء الوزارة على رأس النيابة، حذاء النيابة على رأس المدرسة،
    حذاء المدرسة على رأس الأب..." فإذا بحذاء الأب يكاد يقتلع رأسه:
    - " نوض تحفظ المسخوط"

    - فضاء القصيدة الشعرية: مثل ما نجد عند سعيد بوكرامي الذي كتب قصة قصيرة جدا تشبه الشعر المنثور:

    " عاد بلحية خفيفة كغيفارا
    أحب أن يعود طبيبا
    لكن موسكو تريده أن يعود
    قي نعش.
    صامت يبتسم وحين يتعب
    يتشرد في الذكريات
    لماذا تحول إلى نحورنا؟"

    - فضاء الكتابة الدرامية: كما في هذه القصة للحسين زروق، وهي من مجموعته : " الخيل والليل":

    " الابن: أماه أين أبي؟
    الأم: مسافر ياولدي.
    الابن: ومتى سيعود أماه؟
    الأم: لاأدري ياولدي.
    وبعد شهور...ومع استمرار الحرب.
    الابن: أماه لماذا لم يعد أبي؟
    الأم: لاأدري ياولدي.
    بعد سنة...والحرب تزداد شراستها...
    الابن: لماذا لانسافر أيضا يا أماه؟
    الأم: ربما نفعل يا ولدي.
    الابن: ومتى يا أماه؟
    الأم: لا أدري يا ولدي.
    وفي أول غارة كان القصد منها شل الحركة الطبيعية للأحياء سافر الابن ولم تضع الأم مزيدا من الوقت... بل سارعت لشراء تذكرة سفر... صارت تملك بندقية" .
    - الفضاء الشذري أو المتقطع: يتراوح الفضاء في القصة القصيرة جدا بين فضاء كبسولي متجمع في وحدة منسجمة ومتسقة و فضاء متقطع ومتشذر في مقطوعات ومتواليات سردية متجزئة كما في مجموعة الحسين زروق:" الخيل والليل".
    ونعني بالتقطيع البصري عملية التجزيء والتشذير والتقسيم ، أي تقطيع القصة القصيرة جدا إما بتقسيمـها إلى مقاطع نووية متكاملة فيما بينها دلالة ومقصدية وإما تقطيع الكلمات إلى حروف وأصوات ومورفيمات لسانية.
    فهذه الكاتبة المغربية وفاء الحمري تستعين بالتشكيل الحروفي المتقطع كما في قصة :" كتاب":

    " قرأ الكتاب العالمي (كيف تصبح مليونيرا) إلى نهايته...
    وضعه برفق تحت الحصير...
    بحث على ضوء شمعة عن كتاب الواقع
    قرأ ماتيسر منه
    و
    ن
    ا
    م"
    ويقع التقطيع عن طريق تمديد الكلمات وتوسيعها تشكيلا ودلالة كما فعلت الكاتبة المغربية سعدية باحدة حينما مددت من الكلمات والحروف بصريا وأيقونيا للتعبير عن سخريتها وانفعالاتها وموقفها من الأحداث المروية كما في قصة" جرد"، وقصة" انتكاس":

    " هنااااااااااااااااااااااااااااك
    مازالت بينيلوب مشتعلة/منشغلة
    ...
    وتلمبع طيور أل فرح الصدئة...
    منخووووووووووووووووورة
    مت ----------------------عبة
    ..."
    إذا، ثمة فضاءان أساسيان: فضاء كبسولي متسق ومنسجم عضويا وموضوعيا، وفضاء متشذر ومتقطع كتابة ومتوالية.


    المبحث الثاني: المعيار السردي:

    يرتكز المعيار الشكلي أو الفني أو الجمالي لفن القصة القصيرة جدا على مجموعة من المقاييس التي يخضع لها هذا الفن المستحدث في أدبنا العربي الحديث والمعاصر، ومن أهم المقاييس التي ينبني عليها المعيار الشكلي نستحضر المقاييس الفنية التالية:

    1- مقياس القصصية:

    تشترك القصة القصيرة مع باقي الفنون السردية كالأقصوصة والقصة القصيرة والرواية والرواية القصيرة في الانطلاق من الفكرة ومعالجتها من خلال أحداث مركزة تؤديها عوامل وشخوص معينة وغير معينة في أفضية محددة أو مطلقة مع الاستعانة بالأوصاف المكثفة أو المسهبة عبر منظور سردي معين ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعة وبطئا مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة للتعبير عن رؤية فلسفية ومرجعية معية.
    وإذا افتقدت القصة القصيرة جدا مقوماتها الحكائية تحولت إلى خاطرة أو مذكرة انطباعية أو نثيرة شعرية...
    ومن شروط هذه القصة أن تخضع لفاعلية القراءة ومستلزمات الاتساق والانسجام والبناء الحجاجي مراعاة أو انتهاكا.
    وهكذا، تكتمل مثلا في مجموعة عزالدين الماعزي النزعة القصصية والتخطيب السردي الحكائي. ونعني بهذا أن قصصه الرمزية والتقريرية معا تتوفر فيهما الحبكة السردية والنزعة القصصية بمكوناتها الخمس: الاستهلال السردي، والعقدة الدرامية، والصراع، والحل ، والنهاية التي قد تكون مغلقة معطاة، أو مفتوحة يرجى من القارئ أن يملأ فراغ البياض ونقط الحذف عن طريق التخييل والتصوير واقتراح الحلول الممكنة. ويا للعجب العجاب! فما تقوله قصة من قصص الماعزي الموجزة في أربعة أسطر أو صفحة واحدة من الحجم المتوسط تعجز كثير من الروايات الكلاسيكية والحداثية بصفحاتها الطويلة ومجلداتها المتسلسلة أن تقوله بوضوح و جلاء وروح شاعرية فكاهية مقنعة. ومن هنا، نرى أن القصة القصيرة جدا ستكون جنس المستقبل بلا منازع مع التطور السريع للحياة البشرية والاختراعات الرقمية الهائلة وسرعة الإيقاع في التعامل مع الأشياء وكل المعنويات الذهنية والروحية.
    ومن أمثلة النزعة القصصية المحبكة بشكل متكامل في صياغة الأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور والزمن والسجلات اللغوية والخاصية الوصفية نذكر قصة: (حذاء شطايبه):" يضع شطايبه قبعته نظارته السوداء يهيم في الشارع يخيط بعينيه أرداف الفتيات ويمسح غبار الأزقة وكراسي المقاهي.
    لا يدري شطايبه الذي أصابه إنه قلق منقبض كتوم...
    شطايبه يضع صندوقه في يده يتابع سيره بين المقاهي يتطلع إلى الأحذية التي تود المسح... وهو في طريقه يصطدم مع كلب هو الآخر يبحث عن عظمة أو فتات أمام باب مقهى يلتفت إليه ينهره يرفع رجله ليضربه يرفع الكلب أذنه تظهر أنيابه يفتح فاه يزمجر الطفل يغضب الكلب يرفع رجله يتلقاه الكلب فيلقم حذاءه يهرب الكلب بالحذاء يرمي شطايبه الصندوق يجري ويجري يضيع الصندوق والحذاء..." (ص:50).
    ويبدو لنا أن هذه القصة تتوفر على مقومات الحبكة القصصية من أحداث وفواعل وفضاء سردي ومنظور ووصف وأسلبة وتزمين.

    2- مقياس التركيز:

    نعني بخاصية التركيز أن تنبني القصة القصيرة جدا على الوظائف الأساسية والأفعال النووية مع الاستغناء عن الوظائف الثانوية والأفعال التكميلية الزائدة والأجواء المؤشرة الملحقة والقرائن الظرفية المسهبة. أي إن على المبدع أن يشذب الزوائد المعيقة، ويبعد عن نصه كل الفضلات والملحقات التي لاتخدم الحبكة القصصية. ويعني هذا أنه من الأفضل للمبدع أن يركز على الأفعال الإسنادية التي تكون بمثابة العمدة، ويجتنب قدر الإمكان الفضلات القائمة على التوسيع والإسهاب والتمطيط. كما ينبغي عليه أن يبتعد قدر الإمكان عن التفصيلات المتشعبة، ويكتفي إن اقتضى الأمر بالتفصيلات الجزئية المختزلة التي تخدم النص.
    وإذا تأملنا قصة " فرح" لمصطفى لغتيري المأخوذة من مجموعته القصصية القصيرة جدا:" تسونامي" فإننا نجد أنفسنا أمام وظائف أساسية وأفعال إسنادية عمدة تتشكل في أغلبها من أفعال ماضية تامة أو ناقصة: أعد- انتظر- تأجل- حل- كان- تعفن...بدون استزادة إسهابية أو استطرادية في التفصيل أو الحشد اللغوي.
    وقصة:" فرح " على الشكل التالي: هي:" قبيل حلول العيد، أعد نفسه للفرح...مساء انتظر كباقي الناس ظهور الهلال، لكنه لم يظهر، فتأجل العيد يوما واحدا...
    حين حل العيد كان الفرح قد تعفن."
    وهذا التركيز نجده جليا في أقصر قصة قصيرة كتبت في التاريخ وهي للكاتب الغواتيمالي أوغسطو مونتيروسو:" عندما استيقظ ، كان الديناصور لايزال هناك" .
    لم يستعمل الكاتب في هذه القصة إلا فعلين أساسين في تشكيل قصته وتحبيكها، مع العلم أن الفعل " كان" مجرد رابطة مساعدة دالة على زمنية الفعل الماضي. وهذه القصة في الحقيقة تمثل قمة التركيز، كما تحمل في طياتها دلالات عدة منفتحة وموحية.

    3- مقياس التنكير:

    إذا كانت الكثير من الروايات والقصص القصيرة الواقعية والرومانسية تحمل أسماء علمية محددة بدقة تعبر عن كينونات وذوات إنسانية مرصودة من خلال رؤى فزيولوجية ونفسية واجتماعية وأخلاقية، فإن القصة القصيرة جدا تتخلص من هذه الأسماء الشخوصية العلمية المعرفة ؛ فتصبح ذواتا مجهولة نكرة. وبالتالي، تتحول في عصر العولمة إلى كائنات معلبة ومستلبة ومشيأة ومرقمة بدون هوية ولا كينونة وجودية ، وتبقى أيضا بدون حمولات إنسانية. أضف إلى ذلك أن الإنسان في زماننا هذا قد امتسخ وتحجر، وصار كائنا كروتيسكيا متوحشا يخيف الآخرين ، وصار ذئبا لأخيه الإنسان كما قال الفيلسوف الإنجليزي هوبز.
    وربما يكون هذا التنكير الشخوصي راجعا إلى تطابق الذات القصصية مع ذات المبدع التي أصبحت بدورها ذاتا مهمشة وممزقة وضائعة بين سراديب هذا الكون الشاسع الذي تقزمت فيه كثير من الذوات وتضآلت قيميا وحضاريا وماديا ووجوديا وثقافيا.
    يقول رشيد البوشاري في قصة:" ملل" مستعملا مقياس التنكير وتغييب الشخصيات مختفيا وراء ضمير الغائب والرؤية من الخلف المحايدة:" انتهى منه العمل بعد الستين...فامتطى صهوة زمنه المتبقي، يسافر بعيدا عن فكرة الفراغ.
    على أريكته المهترئة، جلس يراقب مركبه الرابض قرب الصخور والأمواج تتقاذفه...أحس بالحنين لأيام العمل، لكن عجزه وقوة الحياة جعلاه يكتفي بمشاهدة مركبه وهو يتمسك بحبل النجاة.
    استسلم العجوز لرتابة الزمن، وقرر الموت في حضن الفراغ وعلى أريكة الملل".
    ويقول عبد الدائم السلامي في حديثه عن الشخصيات وتركيزه على مقياس التنكير في مجموعتي مصطفى لغتيري وعبد الله المتقي:"إن قراءة متأنية لقصص الكتابين تظهر لنا أن شخصياتها تتنوع كثرة وأفعالا ومآلا، فقصص :" الكرسي الأزرق" تتوفر على مائة وتسع عشرة شخصية منها مائة وتسع شخصيات لاتحمل اسما علما وأغلبها معرف بالإضافة أو بالألف واللام ، ولكنها فاعلة في المغامرة مشاركة فيها ونسبتها 91.6% ، وعشر شخصيات عينها الكاتب بأسماء معلومة، غير أنها في الغالب الأعم جاءت باهتة عرضا في المغامرة قليلة الفعل فيها ونسبتها 8.4%، وتتضمن قصص:"مظلة في قبر" مائة وإحدى عشرة شخصية منها اثنتان وتسعون شخصية غير معرفة ولها فعلها في المغامرة ونسبتها 82.9% وتسع عشرة شخصية تحمل اسما علما وهي على غرار شخصيات قصص:"الكرسي الأزرق" يوردها الراوي دون أن سيند إليها أفعالا في الحكاية إلا نادرا بما يسمها بميسم المساعدة في سيرورة الحكاية لاغير، نسبتها 17.1%."
    وحينما ترد هذه الشخصيات المغيبة النكرة فإنها ترد كضمائر إحالة مثل: خرج- عاد- فترجل، إنه....
    أو ترد بأدوارها الاجتماعية مثل: الشرطي- المدرس- الأب- الجد- مدير البنك- الأستاذ- الطبيب- السائق...

    4- مقياس التنكيت والتلغيز:

    تتحول مجموعة من القصص القصيرة جدا إلى أحداث ملغزة أو من باب التنكيت والترفيه ليترك المبدع القارئ دائما يتسلح بالبياض لملء الفراغ. ويعني هذا أن قصص حسن برطال مثلا عبارة عن ألغاز معقدة تثير إشكاليات مفتوحة من الصعب بمكان أن نجد لها حلا بسهولة أو نبحث لها عن إجابات نهائية محددة شافية:" هاجر الابن...ثم هاجرت الأم...وتبعهما الأب...
    ولما عادت الأسرة من المهجر وجدت البيت قد هاجر" .
    ويقول في سياق آخر معتمدا على التلغيز:" بفضل المظلات والواقيات الشمسية....لم تعد
    هناك رواية" رجال الشمس"
    بل كل الرجال يعيشون في
    الظل روايات..."
    ونلاحظ في هذه القصص الملغزة الموجزة أن النص غير مكتمل يحتاج إلى توضيح وتفسير، لابد أن يملأ المتقبل فراغه بالجواب والتأويل حسب السياق المرجعي الذي يعيشه ذلك المتلقي الضمني.
    ومن النكت المثيرة ماكتبه حسن برطال في مجموعته:" أبراج" :" تحول " مسمار جحا" من فكرة في رأسه
    إلى " مسمار الكيف" في قدمه...
    ليعرقل مسيرته الشيطانية"
    ونستنتج أن التلغيز والتنكيت من المكونات الضرورية لانبناء القصة القصيرة جدا وانكتابها فنيا وجماليا ووظيفيا.

    5- مقياس الاقتضاب:

    إذا كانت الرواية الواقعية تسهب في الوصف تطويلا واستطرادا وحشوا كما عند بلزاك و فلوبير و ستاندال و موباسان ونجيب محفوظ وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع... فإن من أهم المكونات الأساسية للقصة القصيرة جدا الاقتضاب في الوصف عن طريق الابتعاد عن الحشو الزائد، وتجنب الاستطرادات الوصفية والتأملات الشاعرية، وتفادي التكرار اللفظي والمعنوي، والتقليل من النعوت والصفات ، والابتعاد عن التمطيط في التصوير الوصفي صفحات وصفحات. ومن هنا، فلابد من عملية الاقتضاب في الوصف تشذيبا وانتقاء ، ولابد من الاقتصاد فيه إيجازا واختزالا وتدقيقا.
    وفي هذه الحالة، لاينبغي للمبدع أن يستخدم في قصصه القصيرة جدا الأوصاف إلا إذا كانت معبرة تخدم السياق القصصي خدمة دلالية وفنية ومقصدية ، وألا يتحول الوصف إلى حشو زائد كما نجد ذلك في الكثير من القصص القريبة إلى نفس الرواية والقصة القصيرة.
    فإذا أخذنا هذا النموذج القصصي الذي يحسب على القصة القصيرة جدا ، فإننا نجده بسبب كثرة الأوصاف والنعوت والأحوال وأسماء التفضيل أقرب إلى مميزات القصة القصيرة والرواية من نفس القصة القصيرة جدا التي ينبغي أن ترتكز على الوصف المقتضب والموجز مع إلغاء الزوائد اللغوية المعيقة والأوصاف المسترسلة المسهبة، تقول الزهرة رميج في قصة:" النادل":

    " تحول فضاء الفيلا الفخمة إلى حديقة تفوح منها روائح أغلى العطور وتينع فيها أجساد أجمل النساء.
    كان الحفل في أوجه. إيقاع الموسيقى يزداد ارتفاعا والأجساد حرارة وعريا.عندما توقف النادل الشاب ذو البدلة الرسمية الأنيقة عند إحدى الموائد ، كانت صاحبة الجسد الممتلئ والصدر شبه العاري تحكي نكتة ماجنة. استمرت في الحكي بعدما سحبت نفسا عميقا من سيجارتها الفخمة ونفخت الدخان الذي ارتطم بوجهه وهو ينحني ليقدم لها الشاي...
    تابع النادل طريقه على المائدة المجاورة.قالت إحدى الحاضرات وهي تكاد تنفجر من الضحك:
    - ألم تخجلي وأنت تحكين النكتة أمام الرجل؟
    أجابت وهي تنظر حولها في استغراب:
    - أي رجل؟!"

    ولا يعني هذا ألا يستخدم الكاتب النعوت والأوصاف ، بل عليه أن ينتقي الصفات الملائمة والمناسبة ، ويحتكم إلى مقياس التركيز والتدقيق، فيختار ما يخدم السياق النصي ، وينفع عقدة القصة ، ويوتر أزمتها ، ويثير القارئ، ويصدمه بشكل مربك ومدهش، ويفاجئه بوقع القصة، فتتحول النعوت والصفات المنتقاة إلى مؤشرات فاعلة وصادمة وواخزة كأننا أمام لقطة سينمائية مرعبة ومثيرة ومدهشة كما في قصة:"الخطيئة" لمصطفى لغتيري:

    " بخطى واثقة، توجه " نيوتن" نحو شجرة...
    توقف تحتها، وطفق يتأمل ثمارها...
    أحست تفاحة بوجوده فارتعبت...
    ألقى في روعها أنه آدم يوشك، ثانية، أن يرتكب فعل الخطيئة...
    حين طال مكوثه، انتفضت التفاحة فزعة، فانكسر سويقها...
    هوت على الأرض، واستقرت هامدة بالقرب من قدميه."

    يلاحظ على هذه القصة القصيرة جدا أنها كبسولة مقتضبة من حيث الوصف والتصوير ، إذ ترد نعوتها القليلة لتشخص لنا حدثا دراميا متوترا، فأحسن الكاتب تشغيل منظومته الوصفية على الرغم من اقتضابها وإيجازها.

    6- مقياس التكثيف:

    نعني بتكثيف القصة اختزال الأحداث وتلخيصها وتجميعها في أفعال رئيسية وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والابتعاد عن الأوصاف المسهبة أو التمطيط في وصف الأجواء.
    ونفهم من هنا، أن القصة لابد أن تخضع لخاصية الاختزال والتركيز ، وتجميع أكبر عدد ممكن من الأحداث والجمل في رقعة طبوغرافية محددة ومساحة فضائية قصيرة جدا. ولا يكون التكثيف هنا فقط على مستوى تجميع الجمل والكلمات، بل يكون أيضا على المستوى الدلالي، فتحمل القصة تأويلات عدة وقراءات ممكنة ومفتوحة.
    ويعد التكثيف أيضا من أهم عناصر القصة القصيرة جدا، ويشترط فيه الدكتور يوسف حطيني: " ألا يكون مخلا بالرؤى أو الشخصيات، وهو الذي يحدد مهارة القاص، وقد يخفق كثير من القاصين أو الروائيين في كتابة هذا النوع الأدبي، بسبب قدرتهم على التركيز أو عدم ميلهم إليه."
    وتستند معظم قصص مصطفى لغتيري إلى التكثيف القصصي والإيجاز في تفصيل الحبكة السردية عن طريق التركيز على استهلال وجيز وطرح للعقدة بشكل مركز وتبئير لنهاية قد تكون مغلقة أو مفتوحة تحتاج إلى التخييل القرائي والتأويل الاستنتاجي والتفاعل الضمني بين النص والمتلقي كما في قصة " بلقيس" التي يصور فيها الكاتب العطش الإنساني إلى الارتواء الشبقي والإيروسي بسبب الافتتان بغواية المرأة والإعجاب بجمالها الفينوسي الجذاب اشتهاء وحرقة:" في قصر سليمان، حينما كشفت بلقيس عن ساقيها المرمريتين، كان هناك في مكان ما، عين تختلس النظر، وترتشف بالتذاذ تفاصيل القوام البهي.
    من مكانه، في إحدى شرفات القصر، رأى الهدهد ما حدث، فاعتصر قلبه الندم.
    منذ ذلك الحين، أقسم الهدهد بأن لا ينقل مطلقا الأخبار بين البشر، وأن يلزم الصمت إلى أبد الآبدين" .

    وتعتبر مجموعة" أبراج" لحسن برطال نموذج بارز لخاصية التكثيف والاختزال السردي بسبب قصر الجمل وكثرة الفواصل المفرملة.

    7- مقياس الإضمار والحذف:

    تستند القصة القصيرة جدا إلى مكون الإضمار والحذف باعتبارهما من أهم الأركان الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وينتجان كما هو معلوم عن طريق وجود نقط الحذف والفراغ الصامت وظاهرة التلغيز.
    وهكذا، يستعمل كاتب القصة القصيرة جدا تقنية الحذف والإضمار من أجل التواصل مع المتلقي قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله لملء الفراغات البيضاء وتأويل ما يمكن تأويله، لأن توضيح دلالات المضامين ومقصدياتها لايمكن توضيحها أكثر من اللازم. ويستعين الكاتب غالبا بالإيجاز والحذف لدواع سياسية واجتماعية وأخلاقية ولعبية وفنية وأخلاقية. كما أن ذكر بعض التفاصيل الزائدة التي يعرفها القارئ تجعل من العمل الأدبي حشوا وإطنابا. لذلك، يبتعد الكاتب عن الوصف ويستغني في الكثير من النصوص عن الوقفات الوصفية والمشهدية التي قد نجدها حاضرة في القصة القصيرة العادية أو النصوص الروائية.
    وتتحقق ظاهرة الإضمار فنيا في المجموعة القصصية عن طريق الحذف الدلالي وتشغيل علامات الترقيم الدالة على غياب المنطوق اللغوي والإبهام البصري والفراغ اللغوي كما يظهر ذلك بوضوح في توظيف النقط الثلاث كما في قصة " برتقالة " لمصطفى لغتيري التي يحاور فيها قصة أحمد بوزفور التي تجسد تحول سيارة أجرة إلى برتقالة عندما عاينت الشرطي في الطريق خوفا من بطش السلطة ومضايقاتها غير المشروعة:" صباحا فتحت باب الثلاجة...مددت يدي داخلها...تناولت برتقالة....متلذذا شرعت أقشرها...فجأة أمام ذهولي، تحولت البرتقالة إلى سيارة أجرة صغيرة حمراء...شيئا فشيئا استحالت دهشتي إعجابا بالسيارة...بتؤدة فتحت بابها الخلفي...انبثق منها الكاتب متأبطا أوراقه... مددت يدي نحوه...دون تردد سلمني إحداها...متلهفا قرأتها...إنها قصة سيارة أجرة، تحولت إلى برتقالة" .

    وهذا يبين لنا مدى غلبة الطابع الذهني على قصص الكاتب؛ مما يجعل قصصه الرائعة تجمع بين المتعة والفائدة. أي إن الكاتب يصدر في قصصه عن معرفة خلفية وزاد ثقافي رمزي، وهذا ما يميز هذه المجموعة عن باقي المجموعات القصصية القصيرة الأخرى.
    ومن أهم سمات القصة القصيرة جدا عند حسن برطال وجود ظاهرة الحذف والإضمار من خلال الإكثار من علامات الحذف والنقط المتتالية الدالة على حذف المنطوق واختيار لغة الصمت والتلميح بدلا من التوضيح .
    هذا، ويكثر الكاتب من نقط الحذف ليخلق بلاغة الإضمار والصمت بدلا من بلاغة الاعتراف والبوح التي نجدها كثيرا في الكتابات الكلاسيكية شعرا ونثرا. يقول الكاتب متوكئا على بلاغة الحذف ملمّحا إلى الموت وبشاعة القتل البشري:" قابيل دفن أخاه...الغراب دفن أخاه....والذي قتل بغداد دفن نفسه..." .

    ويستلزم الفراغ النقطي قارئا ذكيا لما يكتبه حسن برطال؛ لأن قصصه قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة يحتك فيها المتلقي بأسلاك قصصه القصيرة جدا، والتي على الرغم من حجمها الكبسولي تحمل في طياتها أسئلة كثيرة وقضايا إنسانية شائكة.

    [/b]

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 5:13 pm