لمحات في أسلوب كتابة القصة القصيرة ........
للقصة القصيرة عناصر هامة تتضافر وتتشابك لتخرج في النهاية هذه التركيبة
الإبداعية الإنسانية، ولا نزعم أن هناك من يمكنه أن يضع "أسسًا" للفن؛ حيث
يميل الفن إلى التنافر مع التأطير ومحاولة الاحتواء، لكننا نحاول مجرد
الوقوف على أهم عناصر وتراكيب فن القصة القصيرة، الذي يضفي مزيدًا من
الجمال على تكوينها.
انطلق "أدجار ألان بو" في تعريفه القصة القصيرة من وحدة الانطباع، ومن
أنها تُقرأ في جلسة واحدة. ورأى "سومرست موم" أنها قطعة من الخيال، وركز
"فورستر" على الحكاية، واعتمد "موزلي" على عدد الكلمات.
وقال "هيدسون" بأن ما يجعل عمل الفنان قصة قصيرة هو الوحدة الفنية. ويرى
"شكري عياد" أنها تسرد أحداثاً وقعت حسب تتابعها الزمني مع وجود العلية.
بينما يلتقي الناقد الأيرلندي "فرانك أكونور" (Frank acoonor) مع "حسن
اليافي" في جعلها أشبه بالقصيدة الشعرية من حيث "التغني بالأفكار والوعي
الحاد بالتفرد الإنساني".
وإذا نحن أمعنا النظر قليلاً في كل هذه التعريفات؛ فإننا سنجد كلاً منها
يستند إلى واحدة أو أكثر من خصائص القصة القصيرة؛ ليستنتج منها تعريفاً
شاملاً.. فوحدة الانطباع أو القصر المعبر عنه بعدد الكلمات أو بالقراءة في
جلسةٍ واحدة، أو الحكي أو الشاعرية كلها مميزات لا تخلو منها القصة
القصيرة.
فإذا كان لا بد للتعريف من أن يتأسس على الخصائص؛ فالأجدر أن يكون جامعًا؛
لأن وحدة الانطباع في حد ذاتها مسألة نسبية، قد لا تختص بها القصة القصيرة
وحدها؛ فهي أثر تتركه النادرة والنكتة والخاطرة والقصيدة الشعرية، ولِم لا
تتركه الرواية أيضاً في ذهن قارئ يستوعب النص، ويتمكن من تحريكه في رحابة
ذهنية طيعة؟
وعدد الكلمات قضية جزئية بالقياس إلى البنية الفنية، وقد نصادف أعمالاً في
حجم القصة القصيرة من حيث عدد الألفاظ، وربما تنسب إلى الرواية أسبق من
القصة.
لا شك أن التركيز والتكثيف يمكنان من القبض على لحظة حياتية عابرة، ولا
يسمحان بتسرب الجزئيات والتفاصيل، ويحتم هذا الموقف على الكاتب أن يستغني
عن كل ما يمكنه الاستغناء عنه من الألفاظ والعبارات، وكل ما من شأنه أن
يثقل النسيج القصصي، ويبدو حشوًا يرهل النص، ويضعف أثره الجمالي.
أما كونها قطعة من الخيال؛ فذلك أمر بديهي. إلا أن الأكثر بداهة هو ألا يكون عنصر الخيال خاصية في القصة القصيرة دون غيرها.
إذ الخيال قوام كل عمل أدبي ناجح، وفي غيابه لا معنى للحديث عن أدب.. هكذا
يتبين أن الاعتماد على خاصية واحدة لتعريف القصة القصيرة -ولو أن الخاصية
أبرز من غيرها- يظل يشوبه النقص ولا يفي بالغرض المنشود. ولعل الباحث
المغربي "أحمد المديني "قد شعر بقصور كل واحد من التعريفات السابقة مأخوذة
على حدة؛ فقال موفقاً بينها جميعاً:
"وبالإجمال نستطيع القول: إن القصة القصيرة تتناول قطاعا عرضياً من
الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعالج لحظة وموقفاً تستشف أغوارهما، تاركة
أثراً واحداً وانطباعاً محدداً في نفس القارئ، وهذا بنوع من التركيز
والاقتصاد في التعبير وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة
القصيرة في بنائها العام، والتي تعد فيها الوحدة الفنية شرطاً لا محيد
عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان
القارئ، كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية".
والقصة لغة: "أحدوثة شائقة. مروية أو مكتوبة، يقصد بها الإقناع أو
الإفادة"، وبهذا المفهوم الدلالي؛ فإن القصة تروي حدثاً بلغة أدبية راقية
عن طريق الرواية، أو الكتابة، ويقصد بها الإفادة، أو خلق متعة ما في نفس
القارئ عن طريق أسلوبها، وتضافر أحداثها وأجوائها التخييلية والواقعية.
والقصة عند الكاتب الإنجليزي "هـ. تشارلتون" H.B. TCHARLETON إن لم تصور
الواقع فإنه لا يمكن أن تعَد من الفن.
عن الحدث
إن القصة القصيرة لا تحتمل غير حدث واحد، وربما تكتفي بتصوير لحظة شعورية
واحدة نتجت من حدث تم بالفعل أو متوقع حدوثه، ولا يدهش القارئ إذا انتهى
من القصة، ولم يعثر بها على حدث؛ إذ يمكن أن تكون مجرد صورة أو تشخيص
لحالة أو رحلة عابرة في أعماق شخصية، لكن لأن القصة القصيرة -على خلاف
الرواية- عادة ما تركز على شخصية واحدة تتخذها محورًا ومنطلقًا، لا بد أن
يكون هناك شخصيات أخرى تقدم خدمات درامية لهذه الشخصية، كما تتكشف لنا من
خلال هذه التفاعلات والاشتباكات. ولهذا تتضح أهمية الحدث وأهمية أن يكون
فعلا قويًا شديد التركيز والسلاسة وشديد التعبير أيضًا عن الحالة النفسية
لأبطال العمل؛ لأن القارئ إذا لم يجد هناك حدثًا هامًا وفاعلا فسينصرف عن
متابعة العمل؛ إذ إنه فقد الحافز المهم وهو الحدث.. إن الحدث هو ما يمكن
أن نعبر عنه في أقل عدد من الكلمات..
والحدث ببساطة يمكننا أن نعرفه من خلال محاولتنا التعبير عن فحوى القصة في
أقل عدد ممكن من الكلمات؛ ففي قصة الفاركونيت يمكننا أن نقول: إن الحدث
هو: اعتقال رب أسرة، والقلق الذي يسود هذه الأسرة الصغيرة.. أما في بيت من
لحم فإننا نستطيع القول بأن الحدث بها هو الرغبات المكبوتة المحتدمة داخل
النفس البشرية، أو أن نقول: "ظل رجل ولا ظل حائط"، كما يقول المصريون..
ونختم بمقولة آندروسون إمبرت -الناقد الأرجنتيني- حين يتحدث عن: "وحدة نغم
قوية وعدد قليل من الشخصيات، وموقف نترقب حل عقدته بنفاد صبر، ويضع القصاص
نهايته فجأة في لحظة حاسمة مفاجئة".
التكثيف والاختزال
يبدأ بناء القصة القصيرة مع أول كلمة، ومعها يشرع الكاتب في الاتجاه
مباشرة نحو هدفه، فإن هذه البداية تحمل الكثير من رؤية العمل وروحه؛ فيجب
أن تكون البداية مشوِّقة محفزة للقارئ أن يواصل القراءة ليرى ما هي حكاية
هذه القصة.
يجب أن يكون العمل متماسكًا مكثفًا متخلصًا من السرد غير اللازم الذي يصيب
العمل بالترهل، وربما كانت مقولة يوسف إدريس خير دليل، عندما قال: "إن
القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة"، ولهذا يجب أن يكون
العمل متماسكًا في وحدة عضوية شديدة، وأن يكون محكم البناء، وأن يمسك
الكاتب بعناصر الكتابة جيدًا حتى يستطيع أن يفرغ على الورق كل ما يدور
بداخله بدقة وصدق ليضمن وصوله إلى القارئ في سهولة وصدق أيضًا؛ ولهذا يجب
أن تكون البداية والنهاية والحدث على درجة عالية من التكثيف والتركيز.
لا مجال في القصة القصيرة لأي كلمة لا تخدم الهدف الأساسي للكاتب، وليس
معنى ذلك أن الكاتب يكون قد حدد لنفسه هدفًا واحدًا تصب فيه فكرة قصته..
ولا يسعه الخروج منها أبدا، لكن الأمر يتلخص في وحدة الحالة الشعورية عند
الكاتب التي تؤدي إلى أن القارئ بعد انتهائه من القصة يصل إلى أن النهاية
التي وصل إليها الكاتب لا يوجد في السياق إلا ما يخدمها فقط؛ فـ"إدجار
آلان بو" يصفها قائلاً: "يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب".
ويمكن أن نلمح هذا التكثيف والاختزال في القصص المعروضة في أروع ما كتب؛
حيث تلاحظ في غالبيتها أنه لا وجود لوصف لا يخدم غرض الكاتب، كما لا توجد
شخصيات يمكننا حذفها دون إخلال بالسياق.. وأرقى صور الاختزال والتكثيف هو
الاختزال على مستوى اللغة؛ فقدر الإمكان يجرد الكاتب لغته من كل ما لا
يخدم غرضه الفني..
الزمان والمكان في القصة القصيرة
في القصة القصيرة يمكن باستخدام أسلوب ودلالة ما أن أوضح كثيرًا من العناصر مثل الزمان والمكان..
فيما يخص الزمان فإن تحديد حقبة تاريخية معينة -بداية القرن التاسع عشر
مثلا- كفيلة عند ذكرها في القصة أن تنقل المتلقي إلى عالم آخر، وكفيلة
وحدها -إن أراد الكاتب- أن تنتقل بالمتلقي إلى عالم خاص من التعليم الديني
والورش والصناعات الصغيرة والهدوء الذي يلف الناس.. والآمال المتواضعة
والأحلام البسيطة و…
إذن فالزمان وحده أضاف أبعادًا لا متناهية على القصة، ومثال آخر حينما
يتحدث الكاتب عن الثالثة بعد منتصف الليل فإن ذلك ينتقل بالمتلقي إلى
الرهبة والخوف والأعمال غير المشروعة، وبائعات الهوى واللصوص، أو المؤمنين
وسبحاتهم، أو الأم القلقة على وليدها المريض أو الزوجة القلقة على زوجها
الذي تأخر.
أما بخصوص المكان فمن خلال استخدام أدوات القص يمكنني أن أعرف ماهية
المكان الذي تدور فيه أحداث القصة؛ فهل هو مكان مغلق، محدود بجدران وسقف،
أم مكان مفتوح غير محدود بشيء؟ هل هو على شاطئ البحر أم على ظهر طائرة؟…
إلخ؛ ولهذا دور مهم في تهيئة الجو الخاص للتلقي، خاصة إذا كان القاص يمتلك
أدوات الوصف بشكل جيد.
والزمان والمكان مرتبطان كثيرا في العمل القصصي؛ ففي المثال الذي أوردناه
عن الزمان: الليل، فلا يمكن للمتلقي أن يركز في اتجاه قصة ما لم يعرف أين
مكان هذا الزمان: في شارع مظلم، أم في شقة متواضعة، أم في وكر لعصابة؟
وبتطبيق ذلك على قصة الفاركونيت نستطيع أن نقول: إن هذه الجملة الافتتاحية
التي تحدد الزمان "هدير السيارة يزعج صمت الليل" استطاعت أن تنقلنا إلى
عالم القصة فورا وتدخلنا في أجوائها..
الرمز في القصة القصيرة
يلجأ كاتب القصة لاستخدام الرمز في حالات عديدة، منها مثلا: إذا كانت قصته
تدور في فلك الرمزية أو تجنح إلى الفلسفة والغيبيات، لكن الحالات التي
يلجأ فيها الكاتب إلى الرمز مضطرًا هي عندما حينما يتصدى الكاتب لنوع من
القهر، وخاصة عندما يواجه "بالتابوهات" الثلاثة التي تقف أمام أي كاتب،
وهي (السياسية، الدين، الجنس)، وهناك كتاب كثيرون استطاعوا التعامل بذكاء
مع مثل هذه "التابوهات"، وربما كان أكبر مثال على ذلك في تاريخنا الأدبي
هو كتاب "كليلة ودمنة" للحكيم "بيدبا"، وهو مجموعة من الحكايات -القصص-
تحكي على ألسنة الطير والحيوانات، لكنها في الأساس تقدم نقدًا لمجتمع
المؤلف وقتها.
ولما كانت القصة القصيرة هي أكثر الأجناس الأدبية تفاعلا وتأثرًا بغيرها
من الأجناس فلقد استفادت بالكثير من أدوات المسرح مثلا كالظلال واللعب
بالأضواء، وأمثلة أخرى كثيرة لأهمية استخدام الرمز في القصة القصيرة، لكن
الأكثر وضوحًا أن اللجوء للرمز بشكل مفرط يضيع الكثير من جماليات العمل
الفني، خاصة لمن هم على أول الطريق الإبداعي.
لكن الأمر المؤكد أن الكاتب الذكي اللماح يستطيع أن يثري عمله إذا اعتمد
على الرمز، وتحولت كل مفردات العمل إلى "حمالة أوجه" تحمل وجهًا ظاهرًا
للجميع، وآخر أعمق لا يدركه إلا المتذوق الجيد، وهو ما يمكن أن نطلق عليه:
تعدد مستويات النص..
وعلى سبيل المثال فقصة الفاركونيت تحوي عددا من الرموز التي تثري العمل؛
فالسيارة الفاركونيت رمز للسلطة الغاشمة.. والرجل ذو السيجارة رمز للظالم
غير المكترث، والمدرسة التي لا يفتأ الطفل يرددها رمز للبراءة والطفولة
والصدق.. والبناية السكنية ككل هي رمز للمجتمع المغلق الذي ينتظر أفراده
السَوْق إلى المذبح.. أما في بيت من لحم فيتجلى الرمز في الدبلة التي
أصبحت رمزا داخل العمل لعملية اللقاء المادي بين الرجل والمرأة
مفهوم القصة القصيرة بين آراء النقاد ورؤى المبدعين
على الرغم من أن السرد واحد من أقدم الفنون، فإن هذا لايعني أن كل قصة يقل
عدد كلماتها، يمكن أن تكون مثالاً لما عرف فيما بعد بالقصة القصيرة.
القصة القصيرة الحديثة (من ناحية مقارنة) جديدة في الأدب، بل إنها أصغر
عمراً من الرواية. لقد تم تأصيلها في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر،
وبعد خمسين عاماً من ظهورها، بلغت مرحلة النضج في أعمال عدد من الكتاب من
أبرزهم موباسان وتشيكوف، ثم ازدهرت بحيث وصلت إلى أكبر قدر من التعبير
المكثف الذي عرفته القصة، وتمثل ذلك في أ‘مال عدد من الكتاب المحدثين
الكبار في بداية ومنتصف القرن العشرين من أمثال جيمس جويس (1882 – 1941م)
وفرانز كافكا (1888- 1923م)، وإرنست هيمنجوي (1898- 1961م) وغيرهم.
إلا أن ثمة إشكالية تتصل بفن القصة القصيرة؛ أصوله ،مفهومه، نظرياته،
تقنياته… وهي إشكالية لعلها تبرز في هذا الفن أكثر من أي فن أدبي آخر. وفي
الواقعأنه لم تسد نظرية لشكل القصة القصيرة، بل إن معظم سمات هذا الفن جاء
بها الممارسون له من الكتاب أمثال فرانك أكونور (1903- 1966م) والناقد
المبدع بيتس (1905- 1974م)، وقبل ذلك إدجار ألن بو (1809- 1849م) وموباسان
(1850- 1893م) وغير هم.
في البدء يمكن لنا أن نلاحظ أن معظم الكتاب مبدعين ونقاداً يركزون على
مسألة السرد والرواية وكأنها التقنية الوحيدة! دون ريب، السرد هو البوابة
الرئيسية التي يدلف من خلالها كاتب القصة القصيرة وكذلك الرواية، لكن هناك
معالم ودروساً أساسية لاتساعد في رفع المستوى التقني للقصة والرواية فحسب،
بل من دونها لاتكون قصة قصيرة إنما تصبح شيئاً آخر.
وليس من الممكن الحديث عن القصة القصيرة بمعزل عن الرواية، فثمة تداخل
بينهما. بل إن هناك من يرى أنه من المستحيل تمييز القصة القصيرة من
الرواية على أساس معين غاير الطول. إلا أن المشكلة تكمن في أنه لايوجد
تحديد لطول أي منهما، فالقصة الطويلة والرواية القصيرة، مفهومات للقصص
التي – بسبب طولها- لايمكن تصنيفها على أنها قصة قصيرة أو رواية.
من جانب آخر لايستطيع أحد أن يقول إن القصة القصيرة أكثر وحدة من الرواية؛
فكل منهما يمكن أن تكون ذات وحدة متساوية، كما أن الونيت والملحمة يمكن أن
تكونا ذات وحدة متساوية، رغم الفارق الكبير في طوول كل منهما. أيضاً لا
يمكن لأحد القول إن القصة القصيرة تتعامل مع شخصيات أقل، أو فترة زمنية
أخصر من الرواية، وحيث أن هذه هي الحالة الغالبة، فإن القصة ذات الصفحات
المحدودة يمكن أن تتناول عدداً كبيراً من الشخصيات خلال أكثر من عقد من
الزمن، في حين أن الرواية الطويلة يمكن أن تقصر نفسها على يوم واحد في
حياة ثلاث أو أربع شخصيات.
تلك رؤية لبعض النقاد، لكن براندر ماثيوز أحد المنظرين الأوائل للقصة
القصيرة يؤكد قبل قرن من الزمان (1901م) أن القصة القصيرة لايمكن أن تكون
جزءاً من رواية، كما أنه لايمكن أن يتوسع فيها كي تشكل رواية. ويؤكد بشكل
قاطع بأن القصة القصيرة ليست فصلاً من رواية، أو حتى حادثة أو مشهداً تم
استقطاعه من قصة طويلة، لكنها في أحسن أحوالها ما تؤثر في القارئ بحيث إنه
يصل إلى قناعة أنها سوف تفسد لو أنها كانت أطول من ذلك، أو لو أنها جاءت
على نحو تفصيلي أكبر.
إلا أننا في الأدب العربي نجد عدداً من الكتاب تتداخل قصصهم القصيرة مع
أعمالهم الروائية مثل يجيى الطاهر وإبراهيم أصلان ومحمود الورداني. وقد
أشار خيري دومة في كتابه (تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة) إلى أن
يحيى الطاهر نشر قصصاً قصيرة في مجموعة (الدف والصندوق) ثم أخلها بعد ذلك
في سياق روايته (الطوق والأسورة) وينشر إبراهيم أصلان كثيرا من نصوص
(وردية ليل) في الدوريات، ثم يعيد تجميعها وإكمالها لينشرها تحت اسم
رواية. وينشر محمود الورداني بعض قصصه القصيرة في الدوريات وضمن مجموعاته
القصصية، ثم يدخلها بهعد ذلك في سياق روايته (نوبة رجوع).
أحد القضايا المهمة التي تتعلق بفن القصة القصيرة تتمثل في النظر إليه ضمن
إطار المقدار الكمي للكتابة مع إغفال كافة الجوانب الأخرى. نحن على يقين
أن القصة القصيرة هي الابن الشرعي أو بشكل أدق يمكن أن تكن الشقيقة الصغرى
لفن الرواية، لكن هذا لايعني بحال من الأحوال أن القصة القصيرة رواية يقل
عدد كلماتها.
القصة القصيرة لاتحتمل أن تعالج عدداً من القضايا لعدد من الشخصيات عبر
أجيال مختلفة؛ لأنها لو فعلت ذلك فلن تكون سوى سرد لأجداث متتابعة، تخلو
من التكثيف اللغوي والمعالجة المركزة. الروائي غالباً ما يتناول شخصيات
أكثر، وربما يغطي بشكل تفصيلي فترة زمنية طويلة، ويتناول عدة جوانب من
الشخصية الواحدة لكن هذا لايحدث في القصة القصيرة.
ثمة اتفاق أن الروائي وكاتب القصة القصيرة يستخدمان نفس المادة، التي
يلتقطانها غالباً من الواقع المعاش الذي يحيط بهما، لكن الاختلاف بينهما
إنما يكون في اختيار الصيغة والشكل الأنسب للتعامل مع هذه الأحداث. وهنا
يؤكد الطاهر أحمد مكي أنه لاقيمة للزمن هنا. وإذا كان (طول الرواية هو
الذي يحدد قالبها، كما أن قالب القصة القصيرة يحدد طولها)، فإن في الوقت
نفسه (لايوجد مقياس للطول في القصة القصيرة إلا ذلك المقياس الذي تحدده
المادة نفسها، فالروائي قادر على تحويل الثواني إلى دقائق في القراءة،
واللحظة إلى تحليلات متأنية) القصة القصيرة تحوي العناصر الأساسية لتقنية
الرواية لكنها تأتي بشكل مضغوط ومركز.
حين يأتي عباس محمود العقاد لتعريف القصة القصيرة، نجده يربطها بالرواية
لكنه يرى أنها تخالفها. هذه المخالفة – حسب رأيه- لاترجع إلى التفاوت في
عدد الصفحات أو السطور أو الإسهاب والإيجاز، وإنما يكون في الموضوع وطريقة
التناول.
القصة القصيرة كما يرى فتحي الأبياري، تعالج جانباً واحداً من الحياة
يقتصر على حادثة واحدة، لاتستغرق فترة طويلة من الزمن، وإن حدث ذلك فإن
القصة تفقد قوامها الطبيعي وتصبح نوعاً من الاختصار للرواية.
من جانب آخر ،هناك ارتباط عكسي من حيث الإبداع، فماثيوز يؤكد في كتابه
(فلسفة القصة القصيرة) أن المستوى الكبير الذي تمتاز به الروايةالأمريكية
في ذلك الزمن (1901م) يعود الفضل فيه إلى القصة القصيرة، حيث نجد تقريباً
أن كل روائي أمريكي تقرأ أعماله من قبل الناطقين بالإنجليزية، قد بدأ
ككاتب للقصة القصيرة. وقبل ذلك في سنو 1887م أشار محرر مجلة الناقد إلى
كتابة القصة القصيرة والرواية بفوله (كقاعدة يتم إنتاج القصة القصيرة في
مرحلة الشباب، في حين أن الرواية إنتاج الخبرة)
وهناك العديد من كتاب القصة الذين حاولوا الهروب من القصة القصيرة، من
أبرز هؤلاء تشيكوف (1876 - 1941م) ولعله انتقال أو تطور من كتابة القصة
القصيرة إلى الرواية. وفي الثلث الأول من هذا القرن نجد أن عدداً من
الكتاب العرب تحولوا من كتابة القصة الصيرة إلى الرواية، ومن هؤلاء أحمد
خيري سعيد، ومحمود طاهر لاشين ومحمود تيمور ويحيى حقي… كما يشير إلى ذلك
سيد حامد النساج.
أما إنتاج الرواية والقصة القصيرة فقد وجد لدى كثيين من الكتاب العرب
الذين لاتتسع لهم القائمة. وفي الجزيرة العربية نجد مثلاً إسماعيل فهد
إسماعيل وليلى العثمان ومحمد عبد الولي وزيد مطيع دماج وأمين صالح
وعبدالله خليفة وغيرهم.
وحين ننظر لساحتنا المحلية نجد الأمر ذاته قد حدث مبكراً على يد أحمد
السباعي مثلاً، وفي فترة لاحقة يبرز إبراهيم الناصر الحميدان الذي نجده في
إنتاجه السردي يوازن بين الرواية والقصة القصيرة. ومن كتابنا المحليين من
بدأ بالقصة القصيرة ثم اتجه بعد ذلك إلى الرواية مع استمرار إنتاجه للقصة
القصيرة، من هؤلاء عبدالله جفري وغالب حمزة أبو الفرج. أما الجيل التالي
فنجد منهم عبدالعزيز مشريوعبده خال وحسن النعمي وعبدالعزيز الصقعبي.
في محاولة لإعطاء تعريف للقصة القصيرة كتبت الناقدة الأمريكية برولكس في
مقدمة (أفضل قصص أمريكية 1997م) تقول بأن القصة القصيرة شكل أدبي صعب،
يتطلب اهتماماً أكبر من الرواية من أجل السيطرة والتوازن. إنها اختيار
المبتدئين في عالم الكتابة، تجذبهم بسبب إيجازها ومظهرها الودود (الخادع)
للموضوعات المختصرة، أو وظيفتها المدركة كاختبار حقيقي قبل محاولة كتابة
الرواية ذات الخمسمائة صفحة. ولعله يجدر التأكيد أن هذا الرأي ليس على
ظاهره فهو لايجعل القصة القصيرة محطة عبور فقط، بل إنه يؤكد واقعاً
عايشناه ولازلنا في حياتنا الأدبية يتمثل في أن الذين كتبوا الرواية
مروراً بالقصة القصيرة أقدر على تملك ناصية الكتابة والتععامل مع التقنيا
السردية (ولندع الاستثناءات جانباً) لكننا نؤكد أن القصة القصيرة عالم فني
متكامل بذاته ومحطة بقاء داءم لكثير من المبدعين. لكنه خادع بإغرائه، فهو
مع فارق الإبداع مثل الشعر ينتسب إليه كثيرون ويبدع فيه قليلون، وهي
كالشعر:
صعب وطويل سلّمه
إذا ارتقى فيه الذي لايعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
لكننا رغم ذلك نؤكد صلة الترابط والأسر السردي بين فني الرواية والقصة
القصيرة، ومن النقاد من ينظر إليهما نظرة صراع زمني. فإذا كان القرن
التاسع عشر يعتبر قرن الفرواية فإن القرن العشرين دون ريب قرن القصة
القصيرة، كما يؤكد ذلك الناقد المغربي نجيب العوفي، في كتابه (مقارنة
الواقع في القصة القصيرة المغربية) ويضيف (لقد فقدت الرواية أو كادت تلك
الأبهة التقليدية، وذلك الاسترسال النهري الوئيد، وفوجئت بفن جديد مشاغب
وآسر، يقاسمها النفوذ ويتخطاها في السباق. بل إن رواية القرن العشرين
ذاتها لم تنج من أسر وفتنة هذا الفن الجديد، فإذا بها في أهم نماذدها
عبارة عن مونتاج قصصي، أو مجموعة من اللوحات القصصية المتصلة المنفصلة،
على غير ذلك المنوال المتلاحم المنسجم الذي نسجت عليه الرواية الكلاسيكية،
وهو ما أصبح معروفاً لدى بعض النقاد بـ (الرواية الأبيسودية).
وفي محاولة لتقريب مفوهم القصة القصيرة، يرى بعض النقاد ضرورة اشتمالها
على وحدة الموضوع ووحدة الغرض ووحدة الحادثة. فالرواية قد تحطي نظاماً
حياً طويلاً ومعقداً ،فتضم السيرة الكاملة لإنسان أو مجموعة من الناس، بل
قد تضم جيلين أو ثلاثة، أما القصة القصية فمن المستحيل عليها أن تفعل ذلك.
وإذا كانت الشخصيات في الرواية تبدأ صغيرة ثم تكبر مع الأحداث، وتتحرك من
مشهد لآخر، ومن مكان إلى مكان، كما تقول الروائية فرجينا وولف (1882-
1941م)، فإن الأمر يختلف بالنسبة للقصة القصيرة، فالزمن لايتحرك إلا في
إطار ضيق جداً، كما أن الشخصيات لاتتحرك كثيراً ولايمكن لهم أن يكبروا في
السن.
يشير محمد يوسف نجم في كتابه (القصة) إلى أن الرواية ’’ تصور فترة كاملة
من حياة خاصة أو مجموعة من الحيوات‘‘ بينما القصة القصيرة ’’تتناول قطاعاً
أو شريحة أو موقفاً من الحياة‘‘ ولذا فإن كاتب القصة القصيرة يتجنب الخوض
في تفاصيل الأحداث التي تكون في الرواية، لأنه يعتمد الإيحاء في المقام
الأول. وإذا كانت الرواية تعرض لسلسلة من الأحداث الهامة، وفقاً للتدرج
التاريخي أو النسق المنطقي فإن القصة القصيرة تبرز صورة واضحة المعالم
لقطاع من الحياة من أجل إبراز فكرة معينة. ويضيف إلى أن الفرق الجوهري بين
الأقصوصة والقصة (ويعني القصة القصيرة والرواية) أن ’’الأقصوصة تبني على
موجة واحدة الإيقاع، بينما تعتمد القصة على سلسلة من الموجات الموقعة،
تتوالى في مدها وجزرها، ولكنها أخيراً تنتظم في وحدة كبيرة كاملة‘‘. وهذه
عبارات شعرية تؤدي نفس المعنى الذي سبق طرحه من أن القصة القصيرة تركز على
حدث واحد، بلغة ورؤية مكثفة، في حين أن الرواية تقوم على سلسلة من الأحداث
المتتابعة، وبالتالي يمتد الزمن إلى وقت طويل في الرواية، في حين تكون
القصة القصيرة محدودة الزمن جداً.
شكري عياد يؤكد في هذا الإطار أنه (من الجائز أن تمتد أحداث القصيرة على
زمان طويل) ويمثل لذلك بواحدة من أشهر قصص موباسان ( الحيلة). أما رشاد
رشدي فيبين أن كاتب القصة القصيرة غير معني بسرد تاريخ حياة كاملة لشخصية
من الشخصيات أو إلقاء الضوء على أحداث متعددة، أو التركيز على زوايا
متعددة للشخصيات والأحداث، فتلك من مهام كاتب الرواية. أما في القصة
القصيرة فإن الكاتب يوصور الحدث من زاوية واحدة فقط، ويصور موقفاً محدداً
من حياة الفرد. والاستثناءات مهما كثرت رغم قيمتها الأدبية تظل خارج إطار
التصور العام .
لو أردنا تقديم تعريفاً للقصة القصيرة فسنجد أن ثمة طرقاً مختلفة، لكن بأي
طريقة تم تعريفها، ستبقى بشكل أساسي فن اتصال موجز، بمعنى أن الشكل
الأساسي لها أن تكون محدودجة الكلمات، وهذا التعريف في الواقع ينطلق من
مفهوم الرواية، ولذلك فإن من أقدم التعريفات للقصة القصيرة ما قدمه مؤصل
هذا الفن الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو، فهو يعرف القصة القصيرة التي
أسماها القصة النثرية بطريق بدائية حيث يرى أنها المروي الذي يمكن أن يقرأ
في جلسة واحدة، ورغم بساطة هذا التعبير إلا أنه يخرج من رحم الرواية، التي
عادة ماتحتاج إلى فترة أطول في قراءتها.
وقد أثار هذا التعريف بعض النقاد فتساءل وليام سارويان أن مشلكة هذا
التعريف تكمن في أن بعض القراء يمكنهم الجلوس فترة أطول من الآخرين، ويأتي
ويلز ليعطي تعريفاً زمنياً أكثر تحديداً، فيشير إلى أن القصة القصيرة هي
التي يمكن قراءتها في مدة تتراوح بين ربع ساعة وثلاثة أرباع الساعة، ثم
يضيف إنها حكاية تجمع بين الحقيقة والخيال، وتتسم بالتشويق والإمتاع، وليس
من المهم أن تكون إنسانية أو غير إنسانية، تمتلئ بالأفكار التي تثير
القارئ، أو تكون سطحية تنسى بعد قراءتها بلحظات، (المهم أن تربط القارئ
لمدة تتراوح بين ربع ساعة وخمسين دقيقة، ربما يثير فيه الشعور بالمتعة
والرضا) كما جاء في كتاب فن اغلقصة لحسين القباني.
وفي محاولة لإيجاد تعريف أكثر دقة ضمن إطار الكم، نجد سارويان نفسه في
حديثه عن القصة القصيرة يحدد أ، القصة القصيرة ينبغي أن تتراوح كلماتها
بين ألفين وخمسمائة كلمة وعشرة آلاف كلمة، فإن قلت عن هذا العدد أصبحت قصة
قصيرة جداً، وإن زادت عن ذلك أصبحت قصة قصيرة طويلة، وإن تجاوزت عشرين ألف
كلمة أصبحت رواية قصيرة، لكنه بعد ذلك يضيف بأن مثل هذا التحديد، وإن بدا
مريحاً لبعض النقاد، فإنه لا معنى له.
وفي نفس الإطار نجد أن ناقداً آخر هو جرويج يحدد بأن طول القصة يجب أن
يكون حوالي ثلاثة آلاف كلمة، ويرى بيرنت أنها أقصر من الرواية، لكنها عادة
لاتكون أكثر من خمسة عشر ألف كلمة.
وإذا كانت الصحافة لعبت دوراً كبيراً في تقديم القصة القصيرة للقراء
وانتشارها على مساحة جغرافية وثقافية واسعة فإنها حولتها إلى فن محكوم
بصياغة محددة، بل رفضت عدداً معيناً من الكلمات؛ كي تناسب مساحة محددة
قررتها الصحيفة سلفاً. وقد حدث ذلك في فترة مبكرة في عدد من الصحف
الغربية، بل إن ثمة تزامناً تقريبياً بين نشأة الصحافة وانتشار القصة
القصيرة، وإن كلاً منهما قد خدم الآخر، ففي الوقت الذي نجد أن الصحافة
لعبتت دوراً كبيراً في توسيع رقعة قراء القصة القصيرة وزيادة انتشارها على
مساحة جغرافية أكبر ومستويات اجتماعية وثقافية مختلفة، فإنها في نفس الوقت
فرضت عليها مقداراً كمياً محدداً،نظراً لمحدودية الزوايا والصثفحات،
واتخذت الصحافة من القصة القصيرة بدلاً عن الرواية، التي كانت تنشرها
مسلسلة، لكنها حين رأت أن القارئ ليس بمقدوره المتابعة اليومية أو
الأسبوعية الدائمة تحولت إلى القصة القصيرة حيث وجدت فيها البديل الأفضل
المناسب للصحيفة السيارة المقروءة في ذات اليوم.
وفي عالمنا العربي، يؤكد يحيى حقي في (فجر القصة المصرية) أن من أسباب
تغلب القصة القصيرة على الرواية في مصر مع بداية القرن أن الجرائد اليومية
كانت تمثل الطريق الوحيد للنشر، إذ لم تبدأ مطابع كثير في نشر مجاميع
قصصية قصيرة، كما أن الجرائد- على حد تعبير حقي- تفضل نشر قصة كاملة
مستوعبة الموضوع من أن تنشر قصة مطولة، فالقصة الطويلة (الرواية) حين يتم
نشرها على أجزاء عديدة، سيجد القارئ صعوبة في متابعتها ،ناهيك أنه التزام
قد لاتستطيع الجريدة الوفاء به بشكل منتظم.
وظاهرة نشر الروايات مجزأة لم تنته من الصحافة، ولعل القارئ لايزال يذكر
رواية إبراهيم شحبي التي كان ينشرها ملحق الجزيرة الثقافي خلال الفترة
الماضية، وكذلك رواية عبده خال (عندما ترحل العصافير) التي استمر نشر
أجزائها لأسابيع عديدة في جريدة عكاظ، خلال الفترة الماضية، وللمعلومية
فإن هذه الرواية صدرت عن دار الساقي بلندن ولكن بعنوان (مدن تأكل العشب)
ولعل التسمية الأخيرة تمثل رؤية الناشر.
حين ننتقل إلى مسألة الكم اللفظي في تعريف القصة القصيرة، فإن هناك جوانب
أخرى ترتبط بالمفهوم تستحق وقفات طويلة، لكن سنجد أنها تسير على نفس
المنوال، من حيث تعدد مفاهيمها بين النقاد.
القصة القصيرة عند نشأتها – مثل بقية الفنون- ظلت متأثرة بنظرية أرسطو في
الرتاجيديا التي يرى أنها تمر بالمراحل الثلاث المنطقية؛ البداية والوسط
والنهاية، بمعنى أن هناك عملاً كلياًت متكاملاً. وهذا الأمر سرى على بقية
الفنون الأدبية فيما بعدتقريباً، وحيث أن القصة القصيرة تلتصق بالفن
الروائي فقد انتقل هذا المفهوم إليها.
من أهم أساسيات القصة ماعبر عنها ماثيوس بشكل موجز حيث قال إن القصة
القصيرة لاوجود لها إذا لم يكن هناك قصة تحكى، ويؤكد الناقد ويت بيرنيت
هذا المعنى في قوله (إني لا أعتقد أنك تستطيع كتابة قصة قصيرة جيدة دون أن
يكون في داخلك قصة جيدة … أفضّل أن يكون لديك شيء تقوله من غير تقنيات
القصة، عن أن تملك التقنيات وليس لديك شيء تقوله)
والحقيقة أن التأكيد على وجود قصة مسألة متفق عليها تقريباً، لكنها تنبء
عن الرؤية الأساسية للقصة في بداية نشأتها، ولعل ماثيوس وهو يؤكد هذا
الأساس في القصة القصيرة، يشير بتوقع منه إلى ما ستؤول إليه القصة القصيرة
حيث غدت مجموعة من المفاهيم المختلفة، التي من بينها انحرافها من فن القص
إلى مسائل تعبيرية كثيرة، ضمن إطار فن التجريب ،وهو أمر تتيحه القصة
القصيرة أكثر من أي فن أدبي آخر. هذا الأمر جعل محمد الشنطي يقول (إن
القصة القصيرة من أكثر الفنون استعصاء على التنظير والتأطير الشكليين، إلى
الحد الذي أدى إلى شيوع القون بأن كل قصة هي تجربة جديدة في التكنيك)
ولذلك نجد أن سارويان يرى أن القصة القصيرة هي أكثر النفون الأدبية حرية.
هذه الحرية جعلت عدداً من الكتاب يكتب ماشاء كيفما شاء دون الإلتفات لأصول
الكتابة الفنية لهذا الشكل الكتابي.
ولعل المتابع للإنتاج القصصي على المستوى المحلي يلاحظ هذا الأمر بوضوح في
العديد من المجموعات القصـصية المجبوعة، وعـشرات القصص المنشورة في
الصحافة. لقد أصبحت القصة القصيرة فن من لافن له، وأصبحت تقترب من بحر
الرجز بالنسبة للشعراء، مع فارق الانضباط الإيقاعي في الرجز، والإنفلات
الفني في القصة القصيرة. إن أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ذلك يتمثل
في أن هؤلاء الكتاب المشار إليها آنفاً غفلوا عن مسألة هامة جداً، وهي أن
الحرية التي يتيحها هذا الشكل، وقد لاتوجد في أي فن آخر، لاتعني بأي حال
من الأحوال انفلات هذا الفن من أي قيود كتابية فنية.
ونظراً لعدم وجود تحديد واضح وصارم لمفهوم القصة القصيرة منذ البدء، فإننا
رأينا بعض التحولات في صياغة القصة القصيرة قد حدثت في مرحلة مبكرة. فإذا
كانت القصة القصيرة كما أسلفنا تسير في تسلسل منطقي تبدأ بمقدمة لحدث
يتطور حتى يصل إلى النهاية ضمن حبكة قصصية تحددها قدرة المبدع، فإن تحولاً
في كتابة القصة قد حدث على يد واحد من أبرز روادها وهو تشيكوف حيث عمل على
إعادة صياغة كتابة للقصة القصيرة، فألغى مقدمة الحدث ونهايته ولم يبق سوى
جزء من الحدث دون أن يقود إلى نهاية محددة، فالحبكة بمفهومها التقليدي لم
تعد تتوفر في القصة القصيرة. وهذه الظاهرة وجدت في القصة القصيرة في مصر
في نهاية السبعينات، حين حدث تحول في كتابة القصة القصيرة في أعقاب حرب
1967م، أشار إلى ذلك مراد مبروك الذي لاحظ بروز ظاهرة تفتيت الحدث واللغة،
وتبعثر الحدث في البناء الكلي للقصة، ولم يعد متمركزاً في نقطة معينة.
إضافة إلى ذلك فقد انتفت البداية والنهاية في القصة، وتحولت إلى مجموعة من
البنى المتراصة والمتسلسلة تسلسلاً غير منطقي، لكن يوجد بينها الترابطات
النفسية ووحدة الشعور. وتمثل هذا النوع من القصص في كتابات إدوار الخراط
وإبراهيم عبد المجيد ومجيد طوبيا وغيرهم.
امتداداً للآراء الكثيرة والمختلفة حول مفهوم فن القصة القصيرة تستوقفنا
فاليري شو في رأي أكثر مباشرة، حين أشارت إلى معقولية القول بأن تقديم
تعريف محدد للقصة القصيرة أمر مستحيل، وتضيف بأنه لاتوجد نظرية يمكن لها
أن تشمل الجوانب المتعددة لطبيعة هذا الفن، الذي لايتميز بشيء محدد، سوى
ما يبدو أنه يحقق الغرض السردي في مساحة موجزة نسبياً.
يتبع .........
للقصة القصيرة عناصر هامة تتضافر وتتشابك لتخرج في النهاية هذه التركيبة
الإبداعية الإنسانية، ولا نزعم أن هناك من يمكنه أن يضع "أسسًا" للفن؛ حيث
يميل الفن إلى التنافر مع التأطير ومحاولة الاحتواء، لكننا نحاول مجرد
الوقوف على أهم عناصر وتراكيب فن القصة القصيرة، الذي يضفي مزيدًا من
الجمال على تكوينها.
انطلق "أدجار ألان بو" في تعريفه القصة القصيرة من وحدة الانطباع، ومن
أنها تُقرأ في جلسة واحدة. ورأى "سومرست موم" أنها قطعة من الخيال، وركز
"فورستر" على الحكاية، واعتمد "موزلي" على عدد الكلمات.
وقال "هيدسون" بأن ما يجعل عمل الفنان قصة قصيرة هو الوحدة الفنية. ويرى
"شكري عياد" أنها تسرد أحداثاً وقعت حسب تتابعها الزمني مع وجود العلية.
بينما يلتقي الناقد الأيرلندي "فرانك أكونور" (Frank acoonor) مع "حسن
اليافي" في جعلها أشبه بالقصيدة الشعرية من حيث "التغني بالأفكار والوعي
الحاد بالتفرد الإنساني".
وإذا نحن أمعنا النظر قليلاً في كل هذه التعريفات؛ فإننا سنجد كلاً منها
يستند إلى واحدة أو أكثر من خصائص القصة القصيرة؛ ليستنتج منها تعريفاً
شاملاً.. فوحدة الانطباع أو القصر المعبر عنه بعدد الكلمات أو بالقراءة في
جلسةٍ واحدة، أو الحكي أو الشاعرية كلها مميزات لا تخلو منها القصة
القصيرة.
فإذا كان لا بد للتعريف من أن يتأسس على الخصائص؛ فالأجدر أن يكون جامعًا؛
لأن وحدة الانطباع في حد ذاتها مسألة نسبية، قد لا تختص بها القصة القصيرة
وحدها؛ فهي أثر تتركه النادرة والنكتة والخاطرة والقصيدة الشعرية، ولِم لا
تتركه الرواية أيضاً في ذهن قارئ يستوعب النص، ويتمكن من تحريكه في رحابة
ذهنية طيعة؟
وعدد الكلمات قضية جزئية بالقياس إلى البنية الفنية، وقد نصادف أعمالاً في
حجم القصة القصيرة من حيث عدد الألفاظ، وربما تنسب إلى الرواية أسبق من
القصة.
لا شك أن التركيز والتكثيف يمكنان من القبض على لحظة حياتية عابرة، ولا
يسمحان بتسرب الجزئيات والتفاصيل، ويحتم هذا الموقف على الكاتب أن يستغني
عن كل ما يمكنه الاستغناء عنه من الألفاظ والعبارات، وكل ما من شأنه أن
يثقل النسيج القصصي، ويبدو حشوًا يرهل النص، ويضعف أثره الجمالي.
أما كونها قطعة من الخيال؛ فذلك أمر بديهي. إلا أن الأكثر بداهة هو ألا يكون عنصر الخيال خاصية في القصة القصيرة دون غيرها.
إذ الخيال قوام كل عمل أدبي ناجح، وفي غيابه لا معنى للحديث عن أدب.. هكذا
يتبين أن الاعتماد على خاصية واحدة لتعريف القصة القصيرة -ولو أن الخاصية
أبرز من غيرها- يظل يشوبه النقص ولا يفي بالغرض المنشود. ولعل الباحث
المغربي "أحمد المديني "قد شعر بقصور كل واحد من التعريفات السابقة مأخوذة
على حدة؛ فقال موفقاً بينها جميعاً:
"وبالإجمال نستطيع القول: إن القصة القصيرة تتناول قطاعا عرضياً من
الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعالج لحظة وموقفاً تستشف أغوارهما، تاركة
أثراً واحداً وانطباعاً محدداً في نفس القارئ، وهذا بنوع من التركيز
والاقتصاد في التعبير وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة
القصيرة في بنائها العام، والتي تعد فيها الوحدة الفنية شرطاً لا محيد
عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان
القارئ، كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية".
والقصة لغة: "أحدوثة شائقة. مروية أو مكتوبة، يقصد بها الإقناع أو
الإفادة"، وبهذا المفهوم الدلالي؛ فإن القصة تروي حدثاً بلغة أدبية راقية
عن طريق الرواية، أو الكتابة، ويقصد بها الإفادة، أو خلق متعة ما في نفس
القارئ عن طريق أسلوبها، وتضافر أحداثها وأجوائها التخييلية والواقعية.
والقصة عند الكاتب الإنجليزي "هـ. تشارلتون" H.B. TCHARLETON إن لم تصور
الواقع فإنه لا يمكن أن تعَد من الفن.
عن الحدث
إن القصة القصيرة لا تحتمل غير حدث واحد، وربما تكتفي بتصوير لحظة شعورية
واحدة نتجت من حدث تم بالفعل أو متوقع حدوثه، ولا يدهش القارئ إذا انتهى
من القصة، ولم يعثر بها على حدث؛ إذ يمكن أن تكون مجرد صورة أو تشخيص
لحالة أو رحلة عابرة في أعماق شخصية، لكن لأن القصة القصيرة -على خلاف
الرواية- عادة ما تركز على شخصية واحدة تتخذها محورًا ومنطلقًا، لا بد أن
يكون هناك شخصيات أخرى تقدم خدمات درامية لهذه الشخصية، كما تتكشف لنا من
خلال هذه التفاعلات والاشتباكات. ولهذا تتضح أهمية الحدث وأهمية أن يكون
فعلا قويًا شديد التركيز والسلاسة وشديد التعبير أيضًا عن الحالة النفسية
لأبطال العمل؛ لأن القارئ إذا لم يجد هناك حدثًا هامًا وفاعلا فسينصرف عن
متابعة العمل؛ إذ إنه فقد الحافز المهم وهو الحدث.. إن الحدث هو ما يمكن
أن نعبر عنه في أقل عدد من الكلمات..
والحدث ببساطة يمكننا أن نعرفه من خلال محاولتنا التعبير عن فحوى القصة في
أقل عدد ممكن من الكلمات؛ ففي قصة الفاركونيت يمكننا أن نقول: إن الحدث
هو: اعتقال رب أسرة، والقلق الذي يسود هذه الأسرة الصغيرة.. أما في بيت من
لحم فإننا نستطيع القول بأن الحدث بها هو الرغبات المكبوتة المحتدمة داخل
النفس البشرية، أو أن نقول: "ظل رجل ولا ظل حائط"، كما يقول المصريون..
ونختم بمقولة آندروسون إمبرت -الناقد الأرجنتيني- حين يتحدث عن: "وحدة نغم
قوية وعدد قليل من الشخصيات، وموقف نترقب حل عقدته بنفاد صبر، ويضع القصاص
نهايته فجأة في لحظة حاسمة مفاجئة".
التكثيف والاختزال
يبدأ بناء القصة القصيرة مع أول كلمة، ومعها يشرع الكاتب في الاتجاه
مباشرة نحو هدفه، فإن هذه البداية تحمل الكثير من رؤية العمل وروحه؛ فيجب
أن تكون البداية مشوِّقة محفزة للقارئ أن يواصل القراءة ليرى ما هي حكاية
هذه القصة.
يجب أن يكون العمل متماسكًا مكثفًا متخلصًا من السرد غير اللازم الذي يصيب
العمل بالترهل، وربما كانت مقولة يوسف إدريس خير دليل، عندما قال: "إن
القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة"، ولهذا يجب أن يكون
العمل متماسكًا في وحدة عضوية شديدة، وأن يكون محكم البناء، وأن يمسك
الكاتب بعناصر الكتابة جيدًا حتى يستطيع أن يفرغ على الورق كل ما يدور
بداخله بدقة وصدق ليضمن وصوله إلى القارئ في سهولة وصدق أيضًا؛ ولهذا يجب
أن تكون البداية والنهاية والحدث على درجة عالية من التكثيف والتركيز.
لا مجال في القصة القصيرة لأي كلمة لا تخدم الهدف الأساسي للكاتب، وليس
معنى ذلك أن الكاتب يكون قد حدد لنفسه هدفًا واحدًا تصب فيه فكرة قصته..
ولا يسعه الخروج منها أبدا، لكن الأمر يتلخص في وحدة الحالة الشعورية عند
الكاتب التي تؤدي إلى أن القارئ بعد انتهائه من القصة يصل إلى أن النهاية
التي وصل إليها الكاتب لا يوجد في السياق إلا ما يخدمها فقط؛ فـ"إدجار
آلان بو" يصفها قائلاً: "يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب".
ويمكن أن نلمح هذا التكثيف والاختزال في القصص المعروضة في أروع ما كتب؛
حيث تلاحظ في غالبيتها أنه لا وجود لوصف لا يخدم غرض الكاتب، كما لا توجد
شخصيات يمكننا حذفها دون إخلال بالسياق.. وأرقى صور الاختزال والتكثيف هو
الاختزال على مستوى اللغة؛ فقدر الإمكان يجرد الكاتب لغته من كل ما لا
يخدم غرضه الفني..
الزمان والمكان في القصة القصيرة
في القصة القصيرة يمكن باستخدام أسلوب ودلالة ما أن أوضح كثيرًا من العناصر مثل الزمان والمكان..
فيما يخص الزمان فإن تحديد حقبة تاريخية معينة -بداية القرن التاسع عشر
مثلا- كفيلة عند ذكرها في القصة أن تنقل المتلقي إلى عالم آخر، وكفيلة
وحدها -إن أراد الكاتب- أن تنتقل بالمتلقي إلى عالم خاص من التعليم الديني
والورش والصناعات الصغيرة والهدوء الذي يلف الناس.. والآمال المتواضعة
والأحلام البسيطة و…
إذن فالزمان وحده أضاف أبعادًا لا متناهية على القصة، ومثال آخر حينما
يتحدث الكاتب عن الثالثة بعد منتصف الليل فإن ذلك ينتقل بالمتلقي إلى
الرهبة والخوف والأعمال غير المشروعة، وبائعات الهوى واللصوص، أو المؤمنين
وسبحاتهم، أو الأم القلقة على وليدها المريض أو الزوجة القلقة على زوجها
الذي تأخر.
أما بخصوص المكان فمن خلال استخدام أدوات القص يمكنني أن أعرف ماهية
المكان الذي تدور فيه أحداث القصة؛ فهل هو مكان مغلق، محدود بجدران وسقف،
أم مكان مفتوح غير محدود بشيء؟ هل هو على شاطئ البحر أم على ظهر طائرة؟…
إلخ؛ ولهذا دور مهم في تهيئة الجو الخاص للتلقي، خاصة إذا كان القاص يمتلك
أدوات الوصف بشكل جيد.
والزمان والمكان مرتبطان كثيرا في العمل القصصي؛ ففي المثال الذي أوردناه
عن الزمان: الليل، فلا يمكن للمتلقي أن يركز في اتجاه قصة ما لم يعرف أين
مكان هذا الزمان: في شارع مظلم، أم في شقة متواضعة، أم في وكر لعصابة؟
وبتطبيق ذلك على قصة الفاركونيت نستطيع أن نقول: إن هذه الجملة الافتتاحية
التي تحدد الزمان "هدير السيارة يزعج صمت الليل" استطاعت أن تنقلنا إلى
عالم القصة فورا وتدخلنا في أجوائها..
الرمز في القصة القصيرة
يلجأ كاتب القصة لاستخدام الرمز في حالات عديدة، منها مثلا: إذا كانت قصته
تدور في فلك الرمزية أو تجنح إلى الفلسفة والغيبيات، لكن الحالات التي
يلجأ فيها الكاتب إلى الرمز مضطرًا هي عندما حينما يتصدى الكاتب لنوع من
القهر، وخاصة عندما يواجه "بالتابوهات" الثلاثة التي تقف أمام أي كاتب،
وهي (السياسية، الدين، الجنس)، وهناك كتاب كثيرون استطاعوا التعامل بذكاء
مع مثل هذه "التابوهات"، وربما كان أكبر مثال على ذلك في تاريخنا الأدبي
هو كتاب "كليلة ودمنة" للحكيم "بيدبا"، وهو مجموعة من الحكايات -القصص-
تحكي على ألسنة الطير والحيوانات، لكنها في الأساس تقدم نقدًا لمجتمع
المؤلف وقتها.
ولما كانت القصة القصيرة هي أكثر الأجناس الأدبية تفاعلا وتأثرًا بغيرها
من الأجناس فلقد استفادت بالكثير من أدوات المسرح مثلا كالظلال واللعب
بالأضواء، وأمثلة أخرى كثيرة لأهمية استخدام الرمز في القصة القصيرة، لكن
الأكثر وضوحًا أن اللجوء للرمز بشكل مفرط يضيع الكثير من جماليات العمل
الفني، خاصة لمن هم على أول الطريق الإبداعي.
لكن الأمر المؤكد أن الكاتب الذكي اللماح يستطيع أن يثري عمله إذا اعتمد
على الرمز، وتحولت كل مفردات العمل إلى "حمالة أوجه" تحمل وجهًا ظاهرًا
للجميع، وآخر أعمق لا يدركه إلا المتذوق الجيد، وهو ما يمكن أن نطلق عليه:
تعدد مستويات النص..
وعلى سبيل المثال فقصة الفاركونيت تحوي عددا من الرموز التي تثري العمل؛
فالسيارة الفاركونيت رمز للسلطة الغاشمة.. والرجل ذو السيجارة رمز للظالم
غير المكترث، والمدرسة التي لا يفتأ الطفل يرددها رمز للبراءة والطفولة
والصدق.. والبناية السكنية ككل هي رمز للمجتمع المغلق الذي ينتظر أفراده
السَوْق إلى المذبح.. أما في بيت من لحم فيتجلى الرمز في الدبلة التي
أصبحت رمزا داخل العمل لعملية اللقاء المادي بين الرجل والمرأة
مفهوم القصة القصيرة بين آراء النقاد ورؤى المبدعين
على الرغم من أن السرد واحد من أقدم الفنون، فإن هذا لايعني أن كل قصة يقل
عدد كلماتها، يمكن أن تكون مثالاً لما عرف فيما بعد بالقصة القصيرة.
القصة القصيرة الحديثة (من ناحية مقارنة) جديدة في الأدب، بل إنها أصغر
عمراً من الرواية. لقد تم تأصيلها في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر،
وبعد خمسين عاماً من ظهورها، بلغت مرحلة النضج في أعمال عدد من الكتاب من
أبرزهم موباسان وتشيكوف، ثم ازدهرت بحيث وصلت إلى أكبر قدر من التعبير
المكثف الذي عرفته القصة، وتمثل ذلك في أ‘مال عدد من الكتاب المحدثين
الكبار في بداية ومنتصف القرن العشرين من أمثال جيمس جويس (1882 – 1941م)
وفرانز كافكا (1888- 1923م)، وإرنست هيمنجوي (1898- 1961م) وغيرهم.
إلا أن ثمة إشكالية تتصل بفن القصة القصيرة؛ أصوله ،مفهومه، نظرياته،
تقنياته… وهي إشكالية لعلها تبرز في هذا الفن أكثر من أي فن أدبي آخر. وفي
الواقعأنه لم تسد نظرية لشكل القصة القصيرة، بل إن معظم سمات هذا الفن جاء
بها الممارسون له من الكتاب أمثال فرانك أكونور (1903- 1966م) والناقد
المبدع بيتس (1905- 1974م)، وقبل ذلك إدجار ألن بو (1809- 1849م) وموباسان
(1850- 1893م) وغير هم.
في البدء يمكن لنا أن نلاحظ أن معظم الكتاب مبدعين ونقاداً يركزون على
مسألة السرد والرواية وكأنها التقنية الوحيدة! دون ريب، السرد هو البوابة
الرئيسية التي يدلف من خلالها كاتب القصة القصيرة وكذلك الرواية، لكن هناك
معالم ودروساً أساسية لاتساعد في رفع المستوى التقني للقصة والرواية فحسب،
بل من دونها لاتكون قصة قصيرة إنما تصبح شيئاً آخر.
وليس من الممكن الحديث عن القصة القصيرة بمعزل عن الرواية، فثمة تداخل
بينهما. بل إن هناك من يرى أنه من المستحيل تمييز القصة القصيرة من
الرواية على أساس معين غاير الطول. إلا أن المشكلة تكمن في أنه لايوجد
تحديد لطول أي منهما، فالقصة الطويلة والرواية القصيرة، مفهومات للقصص
التي – بسبب طولها- لايمكن تصنيفها على أنها قصة قصيرة أو رواية.
من جانب آخر لايستطيع أحد أن يقول إن القصة القصيرة أكثر وحدة من الرواية؛
فكل منهما يمكن أن تكون ذات وحدة متساوية، كما أن الونيت والملحمة يمكن أن
تكونا ذات وحدة متساوية، رغم الفارق الكبير في طوول كل منهما. أيضاً لا
يمكن لأحد القول إن القصة القصيرة تتعامل مع شخصيات أقل، أو فترة زمنية
أخصر من الرواية، وحيث أن هذه هي الحالة الغالبة، فإن القصة ذات الصفحات
المحدودة يمكن أن تتناول عدداً كبيراً من الشخصيات خلال أكثر من عقد من
الزمن، في حين أن الرواية الطويلة يمكن أن تقصر نفسها على يوم واحد في
حياة ثلاث أو أربع شخصيات.
تلك رؤية لبعض النقاد، لكن براندر ماثيوز أحد المنظرين الأوائل للقصة
القصيرة يؤكد قبل قرن من الزمان (1901م) أن القصة القصيرة لايمكن أن تكون
جزءاً من رواية، كما أنه لايمكن أن يتوسع فيها كي تشكل رواية. ويؤكد بشكل
قاطع بأن القصة القصيرة ليست فصلاً من رواية، أو حتى حادثة أو مشهداً تم
استقطاعه من قصة طويلة، لكنها في أحسن أحوالها ما تؤثر في القارئ بحيث إنه
يصل إلى قناعة أنها سوف تفسد لو أنها كانت أطول من ذلك، أو لو أنها جاءت
على نحو تفصيلي أكبر.
إلا أننا في الأدب العربي نجد عدداً من الكتاب تتداخل قصصهم القصيرة مع
أعمالهم الروائية مثل يجيى الطاهر وإبراهيم أصلان ومحمود الورداني. وقد
أشار خيري دومة في كتابه (تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة) إلى أن
يحيى الطاهر نشر قصصاً قصيرة في مجموعة (الدف والصندوق) ثم أخلها بعد ذلك
في سياق روايته (الطوق والأسورة) وينشر إبراهيم أصلان كثيرا من نصوص
(وردية ليل) في الدوريات، ثم يعيد تجميعها وإكمالها لينشرها تحت اسم
رواية. وينشر محمود الورداني بعض قصصه القصيرة في الدوريات وضمن مجموعاته
القصصية، ثم يدخلها بهعد ذلك في سياق روايته (نوبة رجوع).
أحد القضايا المهمة التي تتعلق بفن القصة القصيرة تتمثل في النظر إليه ضمن
إطار المقدار الكمي للكتابة مع إغفال كافة الجوانب الأخرى. نحن على يقين
أن القصة القصيرة هي الابن الشرعي أو بشكل أدق يمكن أن تكن الشقيقة الصغرى
لفن الرواية، لكن هذا لايعني بحال من الأحوال أن القصة القصيرة رواية يقل
عدد كلماتها.
القصة القصيرة لاتحتمل أن تعالج عدداً من القضايا لعدد من الشخصيات عبر
أجيال مختلفة؛ لأنها لو فعلت ذلك فلن تكون سوى سرد لأجداث متتابعة، تخلو
من التكثيف اللغوي والمعالجة المركزة. الروائي غالباً ما يتناول شخصيات
أكثر، وربما يغطي بشكل تفصيلي فترة زمنية طويلة، ويتناول عدة جوانب من
الشخصية الواحدة لكن هذا لايحدث في القصة القصيرة.
ثمة اتفاق أن الروائي وكاتب القصة القصيرة يستخدمان نفس المادة، التي
يلتقطانها غالباً من الواقع المعاش الذي يحيط بهما، لكن الاختلاف بينهما
إنما يكون في اختيار الصيغة والشكل الأنسب للتعامل مع هذه الأحداث. وهنا
يؤكد الطاهر أحمد مكي أنه لاقيمة للزمن هنا. وإذا كان (طول الرواية هو
الذي يحدد قالبها، كما أن قالب القصة القصيرة يحدد طولها)، فإن في الوقت
نفسه (لايوجد مقياس للطول في القصة القصيرة إلا ذلك المقياس الذي تحدده
المادة نفسها، فالروائي قادر على تحويل الثواني إلى دقائق في القراءة،
واللحظة إلى تحليلات متأنية) القصة القصيرة تحوي العناصر الأساسية لتقنية
الرواية لكنها تأتي بشكل مضغوط ومركز.
حين يأتي عباس محمود العقاد لتعريف القصة القصيرة، نجده يربطها بالرواية
لكنه يرى أنها تخالفها. هذه المخالفة – حسب رأيه- لاترجع إلى التفاوت في
عدد الصفحات أو السطور أو الإسهاب والإيجاز، وإنما يكون في الموضوع وطريقة
التناول.
القصة القصيرة كما يرى فتحي الأبياري، تعالج جانباً واحداً من الحياة
يقتصر على حادثة واحدة، لاتستغرق فترة طويلة من الزمن، وإن حدث ذلك فإن
القصة تفقد قوامها الطبيعي وتصبح نوعاً من الاختصار للرواية.
من جانب آخر ،هناك ارتباط عكسي من حيث الإبداع، فماثيوز يؤكد في كتابه
(فلسفة القصة القصيرة) أن المستوى الكبير الذي تمتاز به الروايةالأمريكية
في ذلك الزمن (1901م) يعود الفضل فيه إلى القصة القصيرة، حيث نجد تقريباً
أن كل روائي أمريكي تقرأ أعماله من قبل الناطقين بالإنجليزية، قد بدأ
ككاتب للقصة القصيرة. وقبل ذلك في سنو 1887م أشار محرر مجلة الناقد إلى
كتابة القصة القصيرة والرواية بفوله (كقاعدة يتم إنتاج القصة القصيرة في
مرحلة الشباب، في حين أن الرواية إنتاج الخبرة)
وهناك العديد من كتاب القصة الذين حاولوا الهروب من القصة القصيرة، من
أبرز هؤلاء تشيكوف (1876 - 1941م) ولعله انتقال أو تطور من كتابة القصة
القصيرة إلى الرواية. وفي الثلث الأول من هذا القرن نجد أن عدداً من
الكتاب العرب تحولوا من كتابة القصة الصيرة إلى الرواية، ومن هؤلاء أحمد
خيري سعيد، ومحمود طاهر لاشين ومحمود تيمور ويحيى حقي… كما يشير إلى ذلك
سيد حامد النساج.
أما إنتاج الرواية والقصة القصيرة فقد وجد لدى كثيين من الكتاب العرب
الذين لاتتسع لهم القائمة. وفي الجزيرة العربية نجد مثلاً إسماعيل فهد
إسماعيل وليلى العثمان ومحمد عبد الولي وزيد مطيع دماج وأمين صالح
وعبدالله خليفة وغيرهم.
وحين ننظر لساحتنا المحلية نجد الأمر ذاته قد حدث مبكراً على يد أحمد
السباعي مثلاً، وفي فترة لاحقة يبرز إبراهيم الناصر الحميدان الذي نجده في
إنتاجه السردي يوازن بين الرواية والقصة القصيرة. ومن كتابنا المحليين من
بدأ بالقصة القصيرة ثم اتجه بعد ذلك إلى الرواية مع استمرار إنتاجه للقصة
القصيرة، من هؤلاء عبدالله جفري وغالب حمزة أبو الفرج. أما الجيل التالي
فنجد منهم عبدالعزيز مشريوعبده خال وحسن النعمي وعبدالعزيز الصقعبي.
في محاولة لإعطاء تعريف للقصة القصيرة كتبت الناقدة الأمريكية برولكس في
مقدمة (أفضل قصص أمريكية 1997م) تقول بأن القصة القصيرة شكل أدبي صعب،
يتطلب اهتماماً أكبر من الرواية من أجل السيطرة والتوازن. إنها اختيار
المبتدئين في عالم الكتابة، تجذبهم بسبب إيجازها ومظهرها الودود (الخادع)
للموضوعات المختصرة، أو وظيفتها المدركة كاختبار حقيقي قبل محاولة كتابة
الرواية ذات الخمسمائة صفحة. ولعله يجدر التأكيد أن هذا الرأي ليس على
ظاهره فهو لايجعل القصة القصيرة محطة عبور فقط، بل إنه يؤكد واقعاً
عايشناه ولازلنا في حياتنا الأدبية يتمثل في أن الذين كتبوا الرواية
مروراً بالقصة القصيرة أقدر على تملك ناصية الكتابة والتععامل مع التقنيا
السردية (ولندع الاستثناءات جانباً) لكننا نؤكد أن القصة القصيرة عالم فني
متكامل بذاته ومحطة بقاء داءم لكثير من المبدعين. لكنه خادع بإغرائه، فهو
مع فارق الإبداع مثل الشعر ينتسب إليه كثيرون ويبدع فيه قليلون، وهي
كالشعر:
صعب وطويل سلّمه
إذا ارتقى فيه الذي لايعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
لكننا رغم ذلك نؤكد صلة الترابط والأسر السردي بين فني الرواية والقصة
القصيرة، ومن النقاد من ينظر إليهما نظرة صراع زمني. فإذا كان القرن
التاسع عشر يعتبر قرن الفرواية فإن القرن العشرين دون ريب قرن القصة
القصيرة، كما يؤكد ذلك الناقد المغربي نجيب العوفي، في كتابه (مقارنة
الواقع في القصة القصيرة المغربية) ويضيف (لقد فقدت الرواية أو كادت تلك
الأبهة التقليدية، وذلك الاسترسال النهري الوئيد، وفوجئت بفن جديد مشاغب
وآسر، يقاسمها النفوذ ويتخطاها في السباق. بل إن رواية القرن العشرين
ذاتها لم تنج من أسر وفتنة هذا الفن الجديد، فإذا بها في أهم نماذدها
عبارة عن مونتاج قصصي، أو مجموعة من اللوحات القصصية المتصلة المنفصلة،
على غير ذلك المنوال المتلاحم المنسجم الذي نسجت عليه الرواية الكلاسيكية،
وهو ما أصبح معروفاً لدى بعض النقاد بـ (الرواية الأبيسودية).
وفي محاولة لتقريب مفوهم القصة القصيرة، يرى بعض النقاد ضرورة اشتمالها
على وحدة الموضوع ووحدة الغرض ووحدة الحادثة. فالرواية قد تحطي نظاماً
حياً طويلاً ومعقداً ،فتضم السيرة الكاملة لإنسان أو مجموعة من الناس، بل
قد تضم جيلين أو ثلاثة، أما القصة القصية فمن المستحيل عليها أن تفعل ذلك.
وإذا كانت الشخصيات في الرواية تبدأ صغيرة ثم تكبر مع الأحداث، وتتحرك من
مشهد لآخر، ومن مكان إلى مكان، كما تقول الروائية فرجينا وولف (1882-
1941م)، فإن الأمر يختلف بالنسبة للقصة القصيرة، فالزمن لايتحرك إلا في
إطار ضيق جداً، كما أن الشخصيات لاتتحرك كثيراً ولايمكن لهم أن يكبروا في
السن.
يشير محمد يوسف نجم في كتابه (القصة) إلى أن الرواية ’’ تصور فترة كاملة
من حياة خاصة أو مجموعة من الحيوات‘‘ بينما القصة القصيرة ’’تتناول قطاعاً
أو شريحة أو موقفاً من الحياة‘‘ ولذا فإن كاتب القصة القصيرة يتجنب الخوض
في تفاصيل الأحداث التي تكون في الرواية، لأنه يعتمد الإيحاء في المقام
الأول. وإذا كانت الرواية تعرض لسلسلة من الأحداث الهامة، وفقاً للتدرج
التاريخي أو النسق المنطقي فإن القصة القصيرة تبرز صورة واضحة المعالم
لقطاع من الحياة من أجل إبراز فكرة معينة. ويضيف إلى أن الفرق الجوهري بين
الأقصوصة والقصة (ويعني القصة القصيرة والرواية) أن ’’الأقصوصة تبني على
موجة واحدة الإيقاع، بينما تعتمد القصة على سلسلة من الموجات الموقعة،
تتوالى في مدها وجزرها، ولكنها أخيراً تنتظم في وحدة كبيرة كاملة‘‘. وهذه
عبارات شعرية تؤدي نفس المعنى الذي سبق طرحه من أن القصة القصيرة تركز على
حدث واحد، بلغة ورؤية مكثفة، في حين أن الرواية تقوم على سلسلة من الأحداث
المتتابعة، وبالتالي يمتد الزمن إلى وقت طويل في الرواية، في حين تكون
القصة القصيرة محدودة الزمن جداً.
شكري عياد يؤكد في هذا الإطار أنه (من الجائز أن تمتد أحداث القصيرة على
زمان طويل) ويمثل لذلك بواحدة من أشهر قصص موباسان ( الحيلة). أما رشاد
رشدي فيبين أن كاتب القصة القصيرة غير معني بسرد تاريخ حياة كاملة لشخصية
من الشخصيات أو إلقاء الضوء على أحداث متعددة، أو التركيز على زوايا
متعددة للشخصيات والأحداث، فتلك من مهام كاتب الرواية. أما في القصة
القصيرة فإن الكاتب يوصور الحدث من زاوية واحدة فقط، ويصور موقفاً محدداً
من حياة الفرد. والاستثناءات مهما كثرت رغم قيمتها الأدبية تظل خارج إطار
التصور العام .
لو أردنا تقديم تعريفاً للقصة القصيرة فسنجد أن ثمة طرقاً مختلفة، لكن بأي
طريقة تم تعريفها، ستبقى بشكل أساسي فن اتصال موجز، بمعنى أن الشكل
الأساسي لها أن تكون محدودجة الكلمات، وهذا التعريف في الواقع ينطلق من
مفهوم الرواية، ولذلك فإن من أقدم التعريفات للقصة القصيرة ما قدمه مؤصل
هذا الفن الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو، فهو يعرف القصة القصيرة التي
أسماها القصة النثرية بطريق بدائية حيث يرى أنها المروي الذي يمكن أن يقرأ
في جلسة واحدة، ورغم بساطة هذا التعبير إلا أنه يخرج من رحم الرواية، التي
عادة ماتحتاج إلى فترة أطول في قراءتها.
وقد أثار هذا التعريف بعض النقاد فتساءل وليام سارويان أن مشلكة هذا
التعريف تكمن في أن بعض القراء يمكنهم الجلوس فترة أطول من الآخرين، ويأتي
ويلز ليعطي تعريفاً زمنياً أكثر تحديداً، فيشير إلى أن القصة القصيرة هي
التي يمكن قراءتها في مدة تتراوح بين ربع ساعة وثلاثة أرباع الساعة، ثم
يضيف إنها حكاية تجمع بين الحقيقة والخيال، وتتسم بالتشويق والإمتاع، وليس
من المهم أن تكون إنسانية أو غير إنسانية، تمتلئ بالأفكار التي تثير
القارئ، أو تكون سطحية تنسى بعد قراءتها بلحظات، (المهم أن تربط القارئ
لمدة تتراوح بين ربع ساعة وخمسين دقيقة، ربما يثير فيه الشعور بالمتعة
والرضا) كما جاء في كتاب فن اغلقصة لحسين القباني.
وفي محاولة لإيجاد تعريف أكثر دقة ضمن إطار الكم، نجد سارويان نفسه في
حديثه عن القصة القصيرة يحدد أ، القصة القصيرة ينبغي أن تتراوح كلماتها
بين ألفين وخمسمائة كلمة وعشرة آلاف كلمة، فإن قلت عن هذا العدد أصبحت قصة
قصيرة جداً، وإن زادت عن ذلك أصبحت قصة قصيرة طويلة، وإن تجاوزت عشرين ألف
كلمة أصبحت رواية قصيرة، لكنه بعد ذلك يضيف بأن مثل هذا التحديد، وإن بدا
مريحاً لبعض النقاد، فإنه لا معنى له.
وفي نفس الإطار نجد أن ناقداً آخر هو جرويج يحدد بأن طول القصة يجب أن
يكون حوالي ثلاثة آلاف كلمة، ويرى بيرنت أنها أقصر من الرواية، لكنها عادة
لاتكون أكثر من خمسة عشر ألف كلمة.
وإذا كانت الصحافة لعبت دوراً كبيراً في تقديم القصة القصيرة للقراء
وانتشارها على مساحة جغرافية وثقافية واسعة فإنها حولتها إلى فن محكوم
بصياغة محددة، بل رفضت عدداً معيناً من الكلمات؛ كي تناسب مساحة محددة
قررتها الصحيفة سلفاً. وقد حدث ذلك في فترة مبكرة في عدد من الصحف
الغربية، بل إن ثمة تزامناً تقريبياً بين نشأة الصحافة وانتشار القصة
القصيرة، وإن كلاً منهما قد خدم الآخر، ففي الوقت الذي نجد أن الصحافة
لعبتت دوراً كبيراً في توسيع رقعة قراء القصة القصيرة وزيادة انتشارها على
مساحة جغرافية أكبر ومستويات اجتماعية وثقافية مختلفة، فإنها في نفس الوقت
فرضت عليها مقداراً كمياً محدداً،نظراً لمحدودية الزوايا والصثفحات،
واتخذت الصحافة من القصة القصيرة بدلاً عن الرواية، التي كانت تنشرها
مسلسلة، لكنها حين رأت أن القارئ ليس بمقدوره المتابعة اليومية أو
الأسبوعية الدائمة تحولت إلى القصة القصيرة حيث وجدت فيها البديل الأفضل
المناسب للصحيفة السيارة المقروءة في ذات اليوم.
وفي عالمنا العربي، يؤكد يحيى حقي في (فجر القصة المصرية) أن من أسباب
تغلب القصة القصيرة على الرواية في مصر مع بداية القرن أن الجرائد اليومية
كانت تمثل الطريق الوحيد للنشر، إذ لم تبدأ مطابع كثير في نشر مجاميع
قصصية قصيرة، كما أن الجرائد- على حد تعبير حقي- تفضل نشر قصة كاملة
مستوعبة الموضوع من أن تنشر قصة مطولة، فالقصة الطويلة (الرواية) حين يتم
نشرها على أجزاء عديدة، سيجد القارئ صعوبة في متابعتها ،ناهيك أنه التزام
قد لاتستطيع الجريدة الوفاء به بشكل منتظم.
وظاهرة نشر الروايات مجزأة لم تنته من الصحافة، ولعل القارئ لايزال يذكر
رواية إبراهيم شحبي التي كان ينشرها ملحق الجزيرة الثقافي خلال الفترة
الماضية، وكذلك رواية عبده خال (عندما ترحل العصافير) التي استمر نشر
أجزائها لأسابيع عديدة في جريدة عكاظ، خلال الفترة الماضية، وللمعلومية
فإن هذه الرواية صدرت عن دار الساقي بلندن ولكن بعنوان (مدن تأكل العشب)
ولعل التسمية الأخيرة تمثل رؤية الناشر.
حين ننتقل إلى مسألة الكم اللفظي في تعريف القصة القصيرة، فإن هناك جوانب
أخرى ترتبط بالمفهوم تستحق وقفات طويلة، لكن سنجد أنها تسير على نفس
المنوال، من حيث تعدد مفاهيمها بين النقاد.
القصة القصيرة عند نشأتها – مثل بقية الفنون- ظلت متأثرة بنظرية أرسطو في
الرتاجيديا التي يرى أنها تمر بالمراحل الثلاث المنطقية؛ البداية والوسط
والنهاية، بمعنى أن هناك عملاً كلياًت متكاملاً. وهذا الأمر سرى على بقية
الفنون الأدبية فيما بعدتقريباً، وحيث أن القصة القصيرة تلتصق بالفن
الروائي فقد انتقل هذا المفهوم إليها.
من أهم أساسيات القصة ماعبر عنها ماثيوس بشكل موجز حيث قال إن القصة
القصيرة لاوجود لها إذا لم يكن هناك قصة تحكى، ويؤكد الناقد ويت بيرنيت
هذا المعنى في قوله (إني لا أعتقد أنك تستطيع كتابة قصة قصيرة جيدة دون أن
يكون في داخلك قصة جيدة … أفضّل أن يكون لديك شيء تقوله من غير تقنيات
القصة، عن أن تملك التقنيات وليس لديك شيء تقوله)
والحقيقة أن التأكيد على وجود قصة مسألة متفق عليها تقريباً، لكنها تنبء
عن الرؤية الأساسية للقصة في بداية نشأتها، ولعل ماثيوس وهو يؤكد هذا
الأساس في القصة القصيرة، يشير بتوقع منه إلى ما ستؤول إليه القصة القصيرة
حيث غدت مجموعة من المفاهيم المختلفة، التي من بينها انحرافها من فن القص
إلى مسائل تعبيرية كثيرة، ضمن إطار فن التجريب ،وهو أمر تتيحه القصة
القصيرة أكثر من أي فن أدبي آخر. هذا الأمر جعل محمد الشنطي يقول (إن
القصة القصيرة من أكثر الفنون استعصاء على التنظير والتأطير الشكليين، إلى
الحد الذي أدى إلى شيوع القون بأن كل قصة هي تجربة جديدة في التكنيك)
ولذلك نجد أن سارويان يرى أن القصة القصيرة هي أكثر النفون الأدبية حرية.
هذه الحرية جعلت عدداً من الكتاب يكتب ماشاء كيفما شاء دون الإلتفات لأصول
الكتابة الفنية لهذا الشكل الكتابي.
ولعل المتابع للإنتاج القصصي على المستوى المحلي يلاحظ هذا الأمر بوضوح في
العديد من المجموعات القصـصية المجبوعة، وعـشرات القصص المنشورة في
الصحافة. لقد أصبحت القصة القصيرة فن من لافن له، وأصبحت تقترب من بحر
الرجز بالنسبة للشعراء، مع فارق الانضباط الإيقاعي في الرجز، والإنفلات
الفني في القصة القصيرة. إن أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ذلك يتمثل
في أن هؤلاء الكتاب المشار إليها آنفاً غفلوا عن مسألة هامة جداً، وهي أن
الحرية التي يتيحها هذا الشكل، وقد لاتوجد في أي فن آخر، لاتعني بأي حال
من الأحوال انفلات هذا الفن من أي قيود كتابية فنية.
ونظراً لعدم وجود تحديد واضح وصارم لمفهوم القصة القصيرة منذ البدء، فإننا
رأينا بعض التحولات في صياغة القصة القصيرة قد حدثت في مرحلة مبكرة. فإذا
كانت القصة القصيرة كما أسلفنا تسير في تسلسل منطقي تبدأ بمقدمة لحدث
يتطور حتى يصل إلى النهاية ضمن حبكة قصصية تحددها قدرة المبدع، فإن تحولاً
في كتابة القصة قد حدث على يد واحد من أبرز روادها وهو تشيكوف حيث عمل على
إعادة صياغة كتابة للقصة القصيرة، فألغى مقدمة الحدث ونهايته ولم يبق سوى
جزء من الحدث دون أن يقود إلى نهاية محددة، فالحبكة بمفهومها التقليدي لم
تعد تتوفر في القصة القصيرة. وهذه الظاهرة وجدت في القصة القصيرة في مصر
في نهاية السبعينات، حين حدث تحول في كتابة القصة القصيرة في أعقاب حرب
1967م، أشار إلى ذلك مراد مبروك الذي لاحظ بروز ظاهرة تفتيت الحدث واللغة،
وتبعثر الحدث في البناء الكلي للقصة، ولم يعد متمركزاً في نقطة معينة.
إضافة إلى ذلك فقد انتفت البداية والنهاية في القصة، وتحولت إلى مجموعة من
البنى المتراصة والمتسلسلة تسلسلاً غير منطقي، لكن يوجد بينها الترابطات
النفسية ووحدة الشعور. وتمثل هذا النوع من القصص في كتابات إدوار الخراط
وإبراهيم عبد المجيد ومجيد طوبيا وغيرهم.
امتداداً للآراء الكثيرة والمختلفة حول مفهوم فن القصة القصيرة تستوقفنا
فاليري شو في رأي أكثر مباشرة، حين أشارت إلى معقولية القول بأن تقديم
تعريف محدد للقصة القصيرة أمر مستحيل، وتضيف بأنه لاتوجد نظرية يمكن لها
أن تشمل الجوانب المتعددة لطبيعة هذا الفن، الذي لايتميز بشيء محدد، سوى
ما يبدو أنه يحقق الغرض السردي في مساحة موجزة نسبياً.
يتبع .........