منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    بنية الخطاب السردي في "سورة يوسف"

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    بنية الخطاب السردي في "سورة يوسف" Empty بنية الخطاب السردي في "سورة يوسف"

    مُساهمة   الأحد ديسمبر 19, 2010 1:02 pm

    [center]بنية الخطاب السردي في "سورة يوسف"
    دراسة سيميائية

    الدكتور: دفة بلقاسم

    قسم الأدب العربي

    كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية

    جامعة محمد خيضر بسكرة



    مدخل:

    يعد النص السردي (Texte Narratif) من بين النصوص التي اهتم بها الباحثون في مجال السيميائيات "sémiologie"(1). ويحاول علم السرد " narratologie " من حيث هو فرع من علم النص " textologie " إلى ضبط منهجه, وجعل الظاهرة الأدبية تتسم بالعلمية, وذلك بإبعادها عن التأويل غير المعلل(2).

    ولعل أبرز تحديد لعلم السرد – فيما أرى- هو مفهوم " ميك بال, Miek Bal ", حيث اعتبر علم السرد علم السردية " narrativité " أو هو العلم الذي يقبل صياغة النصوص السردية في بنيتها السردية(3) . وذهب " ميك بال" إلى أن النص القصصي يمكن أن يلحظ من خلاله ثلاثة أنواع :

    1- النص السردي

    2- الحكاية .

    3- القصة

    والسردية بعدها نصا بحسب مفهوم " ميك بال " هي الأسلوب أو الطريقة التي بها تفك شفرات النص, وينتهي إلى أن السردية محددة بعلاقات تربط بين النص السردي " texte narratif " والحكاية ""Récit " والقصة "Histoire "(4) .

    وقد أدى الاهتمام بهذه الموضوعات والسيميائيات بخاصة إلى استبدال فكرة الوظيفة "la fonction " بالملفوظ السردي "l’énoncé " والاعتراف بوجود وحدات سردية تتصل أحيانا بالجدول الإدراجي , وتتصل أحيانا أخرى بالجدول التعاقبي, فتنشئ العلاقات التي تربط بين الملفوظات السردية في علاقاتها المختلفة(5) .

    وكان من مبادئ السيميائيات بحسب الوجهة الدياكرونية أن جنحت إلى تحليل القصة, "أي شبكة من العلاقات الدلالية les rapports sémantiques " الموسعية وهي التي تشكل تمظهر النص القصصي .

    ويقوم المنهج الذي يقترحه التحليل السيميائي للخطاب السردي على اعتماد نماذج لغوية تحكم البنية السطحية " la structure de surface " والبنية العميقة " la structure profonde " للمسار السردي .

    إن النماذج سأتناولها بالدراسة تعد خطابات مشعة, أي: تستفز المتلقي .

    وسأتناول " قصة يوسف " في القرآن الكريم معتمدا على ما تقدمه علوم اللسان كعلم السيميائيات والسرديات وعلم الأصوات التمفصلي " La Phonétique " لأندري مارتيني " André Martinet " .

    والنظرية التمفصلية تنظر إلى أي خطاب مهما كان جنسه أو نوعه على أنه نص يقبل التشكل في تمفصلين كبيرين, اصطلح على الأول منها بالتمفصل الأول " première articulation " واصطلح على الثاني بالتمفصل الثاني " la deuxième articulation "(6) .

    يدرك بالتحديد اللساني في التشكل الأول الوحدات المدلالة " les monômes significatives " وهي وحدات صوتية تقبل التجزأ إلى أقل منها، ويدرك في التشكل الثاني الوحدات الصوتية المميزة, وائتلافها ينتج التمفصل الثاني " la double articulation " .

    نعتمد على هذه الأفكار كلها، حيث نسعى إلى استثمار المفيد منها في تحليل هذا النص السردي بالتركيز على تمفصلاته النصية، وأوجهها السيميائية ذات الطابع الإيحائي، وذلك بالوقوف على الوحدات السيميائية, أي: العلامات أو الإشارات الدالة التي استثمرت في بناء النظام السردي، وكانت مشحونة بشحنات دلالية .

    وفي هذا السياق نشير إلى أن الإجراءات السردية للخطاب السردي تنسجم مع المنطق السردي وروائع الإبداع, وعن طريقها يصل الدارس إلى رصد ملامح الخطاب السردي، غير أن السرد في الخطاب القرآني يختلف عن السرد في الخطاب الأدبي ؛ فمصدرية السرد في الخطاب القرآني تحيل إلى الله – جلت قدرته – وتهدف إلى الكشف عن عقيدة التوحيد للمتلقي، بينما مصدرية السرد في الخطاب السردي الأدبي فتنبثق من الذات الإنسانية وأحاسيسها ومشاعرها من خلال صور الإبداع (7). فالقرآن ليس بكتاب قصص, بل كتاب دعوة وتشريع، وإن وردت فيه بعض قصص الأمم السابقة، فإنما في سياق الدعوة إلى الإيمان والتوحيد . ومن هنا ينبغي أن يكون النظر إلى القصة القرآنية مختلفا عن القصة الأدبية، إذ القصة القرآنية ليست للتذوق الأدبي أو للمتعة، بل هي فريدة في طابعها وغايتها وتكوينها(Cool. إذ الله سبحانه وتعالى – وهو السارد- يتحرك بالمسرود ضمن وعي مسبق، لا شأن فيه لمنطق المفاجأة، وما يسرده يشير ويوحي إلى وقائع تجسد بسرديتها الموضوع والفكرة المنسجمة مع روح العقيدة الإسلامية .

    ويمكن أن ينظر إلى الإشارة أو العلامة " signe" في الخطاب القرآني على أنها هيئة أو نصبة بتعبير "الجاحظ"(9)، إذ هي هيئة ناطقة من دون لغة, ومشيرة من غير حركة جسدية, بل هي علامات دالة على قدرة السارد – الله سبحانه وتعالى - .

    ولهذا من الممكن التعامل مع الإشارات " signes " والرموز " symboles " في هذا النص السردي " سورة يوسف " بتقسيمه إلى عدة تمفصلات، وتعد هذه بمثابة حقول دلالية، ولكل تمفصل وحدات سيميائية " unités sémiotiques " ، نجسدها في الوحدات الآتية:

    1- التمفصل الأول: الوحدات السيميائية الدالة على بشائر النبوة.

    2- التمفصل الثاني: الوحدات السيميائية الدالة على الكيد وتدبير المؤامرة .

    3- التمفصل الثالث: الوحدات السيميائية الدالة على العلم وتأويل الرؤى .

    4- التمفصل الرابع: الوحدات السيميائية الدالة على التحقيق في المؤامرة والبراءة .

    5- التمفصل الخامس: الوحدات السيميائية الدالة على إنعام الملك على يوسف بخزائن مصر .

    6- التمفصل السادس: الوحدات السيميائية الدالة على انفراج الأزمة واللقاء المثير بين يوسف وأبويه وإخوته .

    يتضح من خلال هذه الوحدات السيميائية أن النظام السردي في قصة " يوسف " – عليه السلام – هو تفاعل منطقي لسير الأحداث، حيث تتحرك شخصيات القصة على مسرح الأحداث بإرادة فاعل هو الله- سبحانه- الذي يجسد الحضور الغيبي، فيعلم مرسله العلم و الحكمة، ويقحمه في المجتمع، فيندمج ويقوم برسالته في ظروف صعبة، حتى إذا استنفذ القدرة على الفعل تداركته إرادة الله تعالى بنصرته.

    ومادامت القصة تحيل إلى وقائع لها حضورها التاريخي، نحاول في دراستها أن نفيد من النظرية السيميائية التواصلية لرومان جاكوبسون "Roman Jackobson"، إذ هي طرح لساني يقوم على عناصر ستة أساسية للتواصل الكلامي، وأهمها: الرسالة أو الخطاب الذي يشترط فيه أن يكون مستندا إلى سياق "contexte" وسنن "code" وصلة " contact"، والأهم الوظيفة المرجعية "la fonction référentielle"(10). فهي أساس كل تواصل، وهي تحدد العلاقات بين الرسالة "الخطاب" والشيء، أو الغرض الذي ترجع إليه، وهي أكثر الوظائف اللسانية أهمية في عملية التواصل، في حين لا تقوم الوظائف الأخرى إلا على دور ثانوي(11).

    الوظيفة المرجعية "la fonction référentielle" للقصة:

    تذكر بعض المراجع أن أحداث القصة ترجع إلى عهد الهكسوس "Hyksos " أو الرعاة، وهم قوم غزاة استولوا على مصر حوالى سنة 1700 ق.م، ويطلق عليهم اسم الملوك الرعاة . ويبدو أنهم بدو قدموا من سوريا، وكان غزوهم لمصر مشجعا للوافدين، ومنها وفادة إبراهيم عليه السلام، وفي هذا السياق فسر نشاط القوافل التجارية التي كانت منها القافلة التي حملت يوسف عليه السلام بعد انتشاله من غيابة الجب. وقد أشارت دائرة المعارف الإسلامية إلى أن يوسف وفد إلى مصر في عهد " الهكسوس". وما يؤكد هذا أن القرآن الكريم لم يستخدم كلمة "فرعون" في عهد يوسف، بل ذكر كلمة "ملك"، وهو لقب عرف به كل ملك مصري، إضافة إلى هذا أن المؤرخين يرون أن " الهكسوس" حكموا مصر في أسرتين، هما: الخامسة عشرة، و السادسة عشرة، ثم قضي عليهم بقيام الدولة الحديثة التي خلصت مصر من قبضتهم، و التي منها الأسرة الثامنة عشرة التي يرى جل الدارسين أن موسى عليه السلام ظهر في عهدها. (12)

    ولعل من الأدلة التاريخية على أن يوسف كان في عهد "الهكسوس" بلوغه مرتبة التمكين في مصر والسيطرة على خزائنها، لأن ذلك لا يصل إليه أجنبي في عهد الفراعنة أهل مصر، أما الهكسوس الأجانب فليس بغريب أن يختاروا مشرقيا من بينهم لهذا المنصب، وبخاصة عندما يكون صاحب رسالة ودعوة إلى العقيدة وتوحيد الله، من دون الاعتراف بتعدد الآلهة:" يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار، ماتعبدون من دونه إلا أسماءًسميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنِ الحكمُ إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه وذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون". يوسف 38-40 . ولو أعلن يوسف رسالته هذه في عهد الفراعنة لعذب وقتل، ولما نصب أمينا على خزائن الأرض:"قال الملك ايتوني به اسْتخْلِصْه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليومَ لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائنِ الأرضِ إني حفيظٌ عليم. وكذلك مكنا ليوسفَ في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء". يوسف 54-56.

    أما المكان الذي حدثت فيه وقائع القصة، فالظاهر أنها تنطلق من عاصمة "الهكسوس"، وتقع في إقليم الشرقية، أقرب أقاليم مصر إلى صحراء سيناء، ومكانها الآن بلدة " صا الحجر"، وهو مكان حيوي مهم للتبادل التجاري، إذ هو الذي سهل للقافلة التي عثرت على يوسف من بيعه إلى وزير الملك المسمى " فوطيفار"، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر في عهد أحد ملوك "الهكسوس"(13).

    ولعل اعتماد النظرية التواصلية السيميائية و الوظيفة المرجعية و الانتباهية و الإفهامية التي حددها جاكوبسون(14)، وكذا المعجمية من شأنه أن يبرز الكوامن المتوارية خلف العلامات، إذ القصة صدرت من قبل سارد عليم خبير، يتحرك بالشخصيات على مسرح الحياة ضمن نهج مسطر منذ الأزل، لا شأن فيه لمنطق المصادفة في البناء السردي.

    الآليات الدينامية للقصة:

    يتركز بناء الحبكة السردية في سورة يوسف- عليه السلام- على نظرة عميقة، تعتمد التسلسل المنطقي للأحداث عبر الزمن، وعلى طبيعة منطق الروابط بين شخصيات القصة، إذ تتعاقب الأحداث على مسرح الحياة، وتتطور المواقف وتنمو شيئا فشيئا حتى يبلغ به السارد درجة عالية من الصراع و التوتر، ثم يعود بها في حركة إياب إلى الأخذ بموقف سابق لبنائه، و السير به قدما في معترك الأحداث السردية من النص، أو الشروع في بلورة موقف سردي آخر، له علاقة محكمة بالموقف العام للوقائع والأحداث المسرودة.

    والقصة في عمومها تتأسس على شخصية محورية، وهي شخصية "يوسف عليه السلام"، فهو المبشر بالنبوة في منامه، و الذي دبرت له مؤامرة وألقي في الجب، وأنقذ، وبيع إلى وزير الملك، وراودته امرأة العزيز عن نفسه، و ألصقت به التهمة فسجن، وهو الذي فسر رؤيا صاحبيه في السجن، ورؤيا الملك، وتولى الإشراف على وزارة المال، وكيدَ لإخوته بحجز أخيه الصغير "بنيامين"، ثم كشفه السر لهم، وتعرف الإخوة عليه، وتلقي يعقوب خبر سلامة يوسف، ولقائه بأبويه، وإخوته وتحقق الرؤيا.

    فكان بحق الشخصية المحورية في البنية السردية للقصة، أما الشخصيات الأخرى: يعقوب عليه السلام، إخوة يوسف الكبار، أخ يوسف الصغير، أفراد القافلة، العزيز، امرأة العزيز، النسوة في المدينة،الشاهد، الفتيان"صاحبا السجن"، الملك، فقد قامت بوظائف ثانوية، وأسهمت بدورها في دعم الشخصية المحورية" يوسف" من تنامي الأحداث وتأزمها حتى أصبحت القصة مترابطة، متماسكة، فكانت البداية خطيئة ومعصية، و النهاية اعتراف بالخطيئة، وتوبة و مغفرة، وما بين البداية و النهاية صراع شديد برز في شكل ثنائيات متضادة: الحب و الكره، و الخير و الشر، و الشهوة و العفة، و اليأس و الفرح، و المرض و الشفاء. وهي ثنائيات قامت على نظام التضاد، فأعطت للبنية السردية شحنات عاطفية، وثراء لغويا وعمقا دلاليا.

    ويتدرج مسار الحبكة السردية من حيث الترتيب الزمني من طفولة يوسف- عليه السلام- إلى بلوغه أشده حتى رجولته تدرجا زمنيا طبيعيا، لا تسبق مرحلة متأخرة منه مرحلة متقدمة في الترتيب الزمني(15)، كما جاءت الأحداث الثانوية نفسها تتدرج منطقيا مع نمو يوسف، فمن الحلم بالنبوة إلى تدبير المؤامرة ضده، إلى إنقاذه وبيعه إلى وزير الملك، إلى غواية امرأة العزيز، إلى إلصاق التهمة به وسجنه، وإنعام الملك عليه بوزارة المال، إلى اللقاء المثير وتحقق الرؤيا.

    وقد تتابعت الأحداث في سورة يوسف وفق نظام محكم دقيق، ليس لمجرد القصص، بل جاءت متعاقبة يتلو بعضها بعضا في حلقات محكمة، تتسم بالوحدة العضوية، حيث تدور حول أبناء الضرائر(16)، وحول المحبة، والكره، و الحقد، و الشهوة، و العفة، وتفسير الرؤيا، والعقوبة والبراءة(17).

    والقصة مع أن بدايتها كانت تتصف بالحوار، يقول الله تعالى:" إذ قال يوسفُ لأبيه يا أبت إني رأيت أحدَ عشرَ كوكباً و الشمسَ و القمرَ رأيتُهم لي ساجدين، قال يا بني لا تقصصْ رؤياك على إخوتِك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطانَ للإنسان عدوٌّ مبينٌ." يوسف 4،5 ، غير أنها تميل إلى السردية الاستعراضية، وتزاوج بينها وبين الحوار في نسج البنى السردية وتشكيلها. فالسارد-الله تعالى- يستهل القصة بعنصر التشويق: " نحن نقصُّ عليكَ أحسنَ القَصَصِ بما أوحينا إليك" يوسف 3 ، ويصور مبادئه السردية وقد أمسك مباشرة بحبل القصة وبمركزها:" لقد كان ليوسفَ و إخوتِه آياتٌ للسائلين. إذ قالوا ليوسفُ وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبةٌ إنَّ أبانا لفي ظلالٍ مبينٍ."يوسف 7،8، إذ السارد يروي الحدث، ويخبر عن مضمون؛ فالحوار في سياق الخطاب " أنبأ عنه القرآن على نحو من الموضوعية التامة التي تتوافق مع معطيات التاريخ و الكتب السماوية(18).

    ففي قصة يوسف _كما عبر القرآن_ " آيات للسائلين"، فهي علامات دالة بذاتها، فيها عبر ومواعظ للمتلقي .

    تمفصلات بنية القصة وحقولها الدلالية:

    في سورة يوسف إشارات ورموز دالة بسياقاتها و أحوالها المختلفة على خصائص النص القرآني الخالد، ومعبرة عن عظيم قدرة الخالق السارد للقصة المتكاملة التي اشتملت على كل عناصر القصة الفنية، من بداية ونهاية وشخصيات ومكان وزمان وعقدة وحل. فالقصة فيها بيان لحياة يوسف ومحنته مع إخوته، ومحنته مع امرأة العزيز، ودخوله السجن، ودعوته إلى الله، ثم خروجه من السجن، وتفسيره لرؤيا الملك، واستلامه وزارة المال، ثم مجيء إخوته إلى مصر بسبب القحط، ثم التعرف على إخوته، ثم اللقاء المثير وتحقق الرؤيا.

    إن هذه الأحداث بما تتضمنه من علامات سيميائية تتمحور في تمفصلات وحقول دلالية، لكل تمفصل وحداته السيميائية التي هي بمثابة نواة أو مركز ينطلق منها نسيج السرد، وقد قسم البحث حسب التمفصلات و الحقول الدلالية التي تبينت لنا في ستة تمفصلات أو حقول دلالية، هي كالآتي:

    1- الوحدات السيميائية الدالة على بشائر النبوة :

    تعد العلامة السيميائية وحدة رئيسة في إنماء الحدث السردي، وفي ربط المتلقي بغايات الخطاب، حيث تتسم القصة بالحيوية و الدينامية و الإيماء، وأكثر حقل الوحدات السيميائية الدالة في هذا التمفصل: أحد عشر، كوكبا، الشمس، القمر، ساجدين، الشيطان، الإنسان.

    يقص السارد "الله سبحانه وتعالى"، فيقول: " إذ قال يوسفُ لأبيه يا أبت إني رأيتُ أحدَ عشرَ كوكباً و الشمسَ و القمرَ رأيتُهم لي ساجدين". يوسف .4

    فالألفاظ: أحد عشر، وكوكبا، والشمس، و القمر، وساجدين، كلها وحدات سيميائية متعلقة بالبنية السردية للقصة ؛ فـ "أحد عشر": إشارة إلى إخوة يوسف، وهم أحد عشر أخا،و "الشمس ": إشارة إلى أمه أو خالته، لأن بعض الباحثين يقولون: إن " والدته توفيت وما دخلت عليه حال ما كان بمصر"(19). و"القمر": إشارة إلى أبيه يعقوب بن إسحاق عليهما السلام، و "السجود": فعل يشير إلى تواضعهم ودخولهم تحت أمره، وإلى ما سيكون عليه حاله في المستقبل، إذ سيؤتى العلم و الحكمة و النبوة و الملك، ولذلك نهاه أبوه يعقوب من أن يقص رؤياه على إخوته، لأن الشيطان قد يغريهم فيكيدوا له كيدا:" قال يا بني لا تقصصْ رؤياك على إخوتِك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطانَ للإنسان عدو مبينٌ" يوسف 5، وإنما قال يعقوب ذلك، لأنه قد تبين ليوسف من إخوته قبل ذلك حسدا، فقد كان شديد الحب ليوسف وأخيه، فحسده إخوته لهذا السبب، وظهر ذلك ليعقوب بالأمارات الكثيرة، فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته يخضعون له، فقال : لا تخبرهم برؤياك، فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدون لك كيدا(20).

    ويبدو من النص أن الاتهام موجه إلى الشيطان وليس إلى الإخوة، وهي أداة سيميائية، فالشيطان هو عدو الإنسان، وهو صانع العلامة، لأن الإنسان و المراد به: إخوة يوسف، وهم أبناء نبي، فما كان لهم أن يقوموا بعمل إجرامي، إلا أن يغريهم الشيطان بمكره بواسطة النفس الأمارة بالسوء.

    وتعد هذه العلامات السيميائية عناصر لسانية، قد أدركت دلالتها من خلال السياق وعلاقاتها مع الكلمات و التراكيب الأخرى في النص.

    2-الوحدات السيميائية الدالة على الكيد وتدبير المؤامرة:

    تتابع الأحداث وتتطور، وتتجدد المواقف، فتتوتر العلاقات بين الشخصيات، ويتعمق الحوار، وتصطدم المصالح و القيم والأفكار، فتتعدد الأدوات السيميائية، و الوسائل الإخبارية المشحونة بالدلالة، فيثرى حقل الوحدات الدالة على الكيد و الحقد وتدبير المؤامرة ضد يوسف، ومنها: فيكيدوا، اقتلوا، اطرحوه، الجب، السيارةْ، الذئب، القميص، الدلو، الدم، بضاعة، ثمن بخس، مكرهن.

    وإذا أمعنا النظر في هذه العلامات المدلالة من خلال البنى السردية ندرك أن السارد يحرك شخصيات القصة، ويدفعهم إلى القيام بوظائف سردية، فقد عمل الإخوة برأي أخيهم الأكبر"رأوبين" -كما يظهر من السياق- فاختاروا إلقاء يوسف في "الجب" بدل قتله أو طرحه أرضا:" إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبةٌ إنَّ أبانا لفي ظلال مبين. اقتلوا يوسفَ أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجهُ أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين. قال قائلٌ منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعضُ السيارة إن كنتم فاعلين". يوسف 8-10. فقد أجمعوا أمرهم على ذلك، يقول السارد الله سبحانه :" فلما ذهبُوا بهِ وأجمعُوا أنْ يجعَلوه في غياباتِ الجبِّ" يوسف 15 . وكلمة " أرضاً ": جاءت نكرة تشير إلى أرض مجهولة بعيدة عن العمران، أو قاصية، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس(21)، ولذلك قالوا: اطرحوه أرضا، أي: أبعدوه .

    وكلمة " الجب" – التي وردت في موضعين- وهي البئر التي حفرت وتركت من دون بناء، هي نواة السرد القصصي، ومركز النسيج السردي السيميائي ؛ فحضورها في بناء القصة ومحورها الإدراجي يؤهلها لأن تكون من الوحدات السيميائية المهمة، فدلالتها تتصل بالارتواء و الحياة، فقد احتضن" الجب" يوسف –بقدرة الله تعالي- فكان أمنا وسلاما عليه.

    وتتصل العلامات السيميائية الأخرى، نحو: اقتلوا، اطرحوه، ألقوه، يلتقطه، بالنواة السيميائية" الجب "، فتسهم في إثراء الحقل الدلالي.

    أما لفظة" عصبة ": فهي تشير إلى المكيدة المدبرة من قبل الإخوة، وهم جماعة، وذلك ما يظهر –كذلك- من إسناد الأفعال إلى ضمير الجمع في: قالوا، اقتلوا، اطرحوه، تكونوا، لا تقتلوا، ألقوه، كنتم، فاعلين.

    وكلمة "الذئب": - هي الأخرى - قد احتلت موقعا حيويا، وتكررت في ثلاثة مواضع: " قال إني ليحزنُني أنْ تذهبوا به وأخافُ أن يأكلَه الذئبُ وأنتمْ عنه غافلون. قالوا لئنْ أكله الذئبُ ونحن عصبةٌ إنا إذا لخاسرون" . يوسف 13، 14، و " قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبقُ وتركْـنا يوسفَ عند متاعنــا فأكله الــذئبُ " يوسف 17.

    وهذه العلامة" الذئب" ترمز إلى المكر و الخداع و الخيانة و الخبث و الكيد و الافتراس... وكلها صفات قبيحة تشير إلى الدلالات التي تشتمل عليها كلمة " الذئب".

    وتتطور الأحداث وتنمو حتى يبلغ الخطاب السردي حالة تتعقد فيها المواقف، وتتداخل فيها ملابسات الحبكة السردية، فتصير إشارة تحيل إلى إشارة، ورمزا يومئ إلى رمز، فيفاجأ المتلقي بكلمة " قميص" في قول السارد –الله تبارك وتعالى- : " وجاءوا على قميصِه بدمٍ كذبٍ ، قال بل سوَّلتْ لكم أنفسُكم أمرًا ، فصبرٌ جميلٌ" يوسف 18.

    وفي كلمة "قميصه" ضمير عائد على يوسف في الآية، وعليه دم، ووصف الدم بـ "كذب" أي: بدم ذي كذب أو مكذوب(22). والدم إشارة إلى الجريمة المقترفة، وفي القميص ثلاث آيات: حين جاءوا عليه بدم كذب، وحين قد قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا.

    و العلامة " قميص " من حيث هي وحدة سيميائية نواة في العمل السردي وردت مرتبطة بالدم، والكذب و الفعل الشنيع في البنية السطحية، ودالة على القتل و الإجرام في البينة العميقة.

    ودلالةُ تَسَرعِ الإخوة في حبك الجريمة أن جاءوا على قميص يوسف بدم كذب لطخوه به في غير إتقان، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب. فيقول السارد:" وجاءوا أباهم عشاءً يبكونَ قالوا يأبانا إنا ذهبنا نستبقُ وتركنا يوسفَ عند متاعنا فأكله الذئبُ" يوسف 17.

    ويحسبون أنها مكشوفة، ويكاد المريب أن ينطق بالحق، فقالوا:" وماأنتَ بمؤمن لنا ولو كْنا صادقين" يوسف 17.

    وتتفاعل العلاقات السيميائية الأخرى المدرجة في حقل الوحدات الدالة على كيد الإخوة، نحو: يبكون، سيارة، دلوه، غلام، أسروه بضاعة، ثمن، فتنصهر جميعها في الأحداث السردية، وتعمل على تأجيج عاطفة المتلقي واستجابته، وفي تشويقه إلى متابعة أحداث القصة، لأن الأمر يتعلق بكيد الإخوة، وذلك ظلم له وقع أكثر في النفس البشرية.

    وتتابع الأحداث، وتتواصل النكبات فما إن تنتهي نكبة حتى تحل أخرى على يوسف، إذ بعد كيد الإخوة يأتي كيد امرأة العزيز "زليخا"، والنسوة في المدينة.

    فقد باع أصحاب القافلة يوسف في مصر بدراهم قليلة للتخلص منه خشية أن يدركهم أهله فينتزعونه منهم(23)، وكان الذي اشتراه العزيز "فوطيفار" وزير الملك، الذي كان على خزائن مصر فأرسله إلى بيته وأوصى امرأته "زليخا" به خيرا، فقال لها: " أكرمي مثواهُ عسى أنٌ ينفعنا أو نتخذَهُ ولداً " يوسف 21.

    وكانت هذه المرأة ترعاه وتحنو عليه و تحبه، ولما بلغ أشده أحست في نفسها ميلا إليه، فقد رأت بعين الأنثى جمال يوسف، فخفق قلبها، ولما كان هو فتاها ورهين إشارتها هان عليها ما ينتابها من الشوق و الهيام، وقد كانت غادة في مقتبل العمر.

    وقد ترددت وقتا في إظهار شعورها نحو يوسف إلى أن استحوذ الضعف الطبيعي على مشاعرها، فانتهزت فرصة وجوده في بيتها يوما، وأخذت تغريه بمفاتنها و محاسنها، بعد أن غلَّقت الأبواب، يقول السارد" الله تعالى:" وراودتهُ التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبوابَ، وقالتْ هَيْتَ لك" يوسف 23. فأعرض يوسف ونفر منها نفرة الغضوب رافضا الخيانة و الرذيلة:" قال معاذ اللهِ إنهُ ربيَ أحسنَ مثوايَ إنه لا يفلِحُ الظالمون" يوسف 23

    غير أن غريزة السوء التي حركت مشاعر المرأة لم تتركه و حاله، فقد أثرت فيه وجعلته بين فتنة عنيفة تدفع وفضيلة تصد، حتى كاد يستجيب لها، لولا أن رأى برهان ربه:" ولقد همّت به، وهمَّ بها لولا أن رأى برهانَ ربهِ، كذلكَ لنصرفَ عنه السوءَ و الفحشاءَ إنه من عبادنا المُخلَصين" يوسف 24

    فقد رأى يوسف آيات ربه، ونور الله الحق فاستضاء به، فلم يطاوع ميل النفس، و امتنع عن المعصية، وانطلق يجري نحو الباب يريد الخروج فلحقت به المرأة وأمسكت بقميصه حتى مزقته، وحين فُتح الباب أدركا سيدها "زوجها" لدى الباب، ومن هنا توترت العلاقات بين الشخصيات في البيت، وتحول من حيث هو علامة محورية في السرد إلى هم وغم، بعد أن كان سكينة وحنانا.

    وينسج السارد " الله تعالى" بأسلوب شيق إنطلاقا من العلامة السيميائية "قميص" نسيج القصة التي بلغ فيها توتر العلاقات بين الشخصيات قمته:" واستبقا البابَ وقدّتْ قميصَهُ من دُبُرٍ وألفيا سيدَها لدى البابِ" يوسف 25 .

    ومن هنا تبدو قيمة العلامة السيميائية " قميص" من حيث إنها كونت حضورا واضحا في هذه السورة، فقد وردت ثلاث مرات، حيث جاءت نواة محورية في حقل الوحدات السيميائية الدالة على كيد الإخوة، فقد

    اهتدى يعقوب عليه السلام إلى فك شفرتها فتنبه إلى كيد أبنائه، وإدعاءاتهم، الكاذبة:" وجاءوا على قميصِهِ بدَمٍ كذبٍ" يوسف 18.

    وأرى أن كلمة " قميص" في هذا الموقف -أن تكون من حيث هي وحدة سيميائية- حجة ليوسف لا عليه. فالسارد (الله تعالى) يخبر أن هذه المرأة حاولت بمكرها قلب دلالة الحدث، فبادرت زوجها باتهام يوسف بمحاولة اغتصابها وحرضته على سجنه: " قالتْ ما جزاءُ من أرادَ بأهلكَ سوءًا إلا أن يُسجنَ أو عذابٌ أليمٌ" يوسف 25.

    ولكن يوسف دفع التهمة عن نفسه، وحضر الجدال شاهد من أهلها، فحكم قائلا: إن كان قميصه شق من أمام فقد صدقت في إدعائها، لأن هذا يعني أنه كان مندفعا نحوها وهي تدافع عن نفسها، وإن كان قميصه شق من خلف، فهذا يعني أنه كان يحاول الفرار، فقد كذبت في قولها، وهو من الصادقين، فلما رأى العزيز أن قميص يوسف شق من دبر فدلت العلامة على الملاحقة، وقد بانت الحجة للزوج " العزيز" من حيث إن القميص قد من دبر يقول السارد الحكيم:" قالَ هي راودتني عن نفسي، وشهِدَ شاهدٌ من أهلها إنْ كان قميصُه قدَّ من قُبُلِ فصَدَقتْ وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قدَّ من دُبُرِ فكَذَبتْ وهو من الصادقين، فلما رأى قميصَهُ قدَّ من دُبُرِ قال إنه من كيدِكُنَّ إن كيدَكُن عظيم، يوسفُ أعرِضْ عن هذا واستغفري لذنبِكِ إنك كنتِ من الخاطئين" يوسف 26-29.

    يبدو من النص ميل "العزيز" إلى ستر الفضيحة و العفو، فقال ليوسف : تناس ما حدث لك واكتمه، وقال لامرأته : استغفري الله لذنبك وتوبي إليه عن الإثم الذي اقترفته، إنك من الآثمين، غير أن نبأ حادثة الإغراء سرى إلى جماعة من النسوة في المدينة وتناقلته في مجتمعاتهن، وقد أخبر السارد"الله تبارك وتعالى" عن ذلك قائلا:" وقالتْ نسوةٌ في المدينةِ امرأةُ العزيزِ تراوِدُ فتاها عن نفسِهِ، قد شغَفَهَا حبًا إنا لنراهَا في ظلالٍ مبينٍ" يوسف 30.

    وصل إلى امرأة العزيز اغتياب هؤلاء النسوة، وهنا يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل الطبقة الأرستقراطية. ويكشف سياق الخطاب عن مشهد من صنع تلك المرأة " زليخا " الجريئة التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد ككيدهن . "فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن, وأَعْتَدَتْ لهن متكأً, وآتتْ كلَ واحدةٍ منهنَّ سِكّينا وقالت اُخرج عليهن". يوسف 31 . قامت بذلك لتريهن جمالَهُ, وكان بحق آية من آيات الخالق في الحسن والجمال.

    وفي هذا الموقف تُبرز العلامة السيميائية "سكين" عن وظيفتها في الخطاب السردي، حيث هي من العلامات المركزية. وهذه العلامة "سكين" تتصل بدلالات، منها: التقطيع والذبح والقتل. وكل هذه الدلالات لها وقع في نفس المتلقي، إذ تحرك عواطفه ومشاعره وأحاسيسه، فيضحى متقبلا للخطاب والتفاعل معه. أما البنية الهامشية للعلامة "سكين" فتومئ إلى دلالات، منها: الكره، وحب الانتقام، والقسوة، وكلها –كما يظهر من السياق- صفات كامنة في نفس امرأة العزيز، ولذلك كان أن أقامت للنسوة مأدبة في قصرها –كما يبدو من سياق الخطاب- وندرك من هذا أنهن كن من الطبقة الراقية، فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور، وهن اللواتي يؤخذن بهذه الأدوات الدالة على مظاهر التحضر، ويبدو أنهن كن يأكلن، وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان، فأعدت لهن هذا المتكأ، وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعمله في الطعام. والظاهر أن استعمال السكاكين في الطعام في ذلك العهد له قيمته في تصوير الترف المادي، وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: "فلما رأينَه قلن حاشا للهِ ما هذا بشراً إنْ هذا إلا ملكٌ كريمٌ" يوسف 31.

    والتعبير بـ "حاشا لله"، و"إن هذا إلا ملك كريم" فيه دلالات على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان.

    ويظهر السياق أن المرأة انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من حسن يوسف الإعجاب والدهشة والذهول، فقالت قولة المرأة المنتصرة التي لا تستحي أمام النساء من بنات طبقتها، والتي لا تملك عليهن في هذا الموقف إلا أن تفخر عليهن بأن يوسف في متناول يدها، وهو الخادم في بيتها، وإن خاب تقديرها مرة فلن يخيب أخرى: "قالت فذلكُنَّ الذي لمتُنَّنِي فيه" يوسف32.

    وقد دفعها رأي النسوة في يوسف لما خرج عليهن على ملاحقته وإجباره على فعل المعصية، "ولئِنْ لم يفعلْ ما آمرهُ ليسجنَنَّ وليكوناً من الصاغرين" يوسف32. فهو إصرار المرأة وإغراؤها الجديد في ظل التهديد، ويسمع يوسف هذا القول في مجتمع النساء المبهورات المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات. ويفهم من سياق الخطاب أنهن كن مفتونات فاتنات في مواجهته، فإذا هو يتضرع إلى ربه مناجيا "قال ربِّ السجنُ أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه" يوسف 33. ولم يقل: "مما تدعوني إليه"، ليكون الخطاب موجها للمرأة، فهن جميعا كن مشتركات في دعوته وإغرائه، سواء بالقول أم باللفتات والإيماءات، وإذا هو يستنجد ربه لأن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن مخافة أن يضعف في لحظة من اللحظات أمام إغرائهن الدائم، فيقع في مستنقع الرذيلة، وذلك ما يخشاه عن نفسه، فدعا الله مخلصا أن ينقذه منه(24): "وإلَّا تصرفُ عني كيدَهن أصبُ إليهنَّ وأكنْ من الجاهلين فاستجاب له ربُّه فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنه هو السميعُ العليم" يوسف 34.

    وفي قول السارد "الله تعالى": "ثم بدا لهم من بعد ما رأَوُا الآياتِ ليسجنُنَّهُ حتى حين" يوسف35. دلالة على براءة يوسف من التهمة، فقد رأى العزيز والنسوة العلامات الناطقة براءته. ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد، ولعل الأمر -أيضا- قد زاد شيوعا في الطبقات الاجتماعية الأخرى، وهنا لا بد أن تحفظ سمعة الأكابر، فهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء، كل ما في الأمر أنه لم يستجب للمعصية، وأن امرأة من الوسط الاجتماعي الأرستقراطي قد فتنت به واشتهرت بحبه، ولاكت الألسن أخبارها في أوساط المدينة، ولذلك رأى العزيز أن يدخله السجن، ليمحو العار، ويوهم الناس أن يوسف معتد خائن، وزوجته بريئة.

    وتتنامى الأحداث السردية، وتتطور المواقف، وتتعقد العلاقات بين الشخصيات، فتتوتر وتتأزم، فيدخل يوسف السجن، وينتقل بذلك من حياة اللين إلى حياة القسوة، ويقص السارد الأحداث بدقة: "ودخل معه السجنَ فتيان" يوسف 36.

    ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن، وما ظهر من إحسانه وصلاحه، فوجه إليه الأنظار، وجعله موضع ثقة المساجين، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم القدر مثله للعمل في القصر والحاشية، فغضب عليهم في نزوة من النزوات العارضة، فزج بهم في السجن. ويختصر سياق الخطاب كل هذا، ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها، ويطلبان إليه تفسيرها، لما يتوسمانه فيه من الصلاح والإحسان والعلم(25): "قال أحدهما: إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحملُ فوق رأسي خبزاً تأكلُ الطيرُ منهُ نبئْنا بتأويله إنا نراكَ من المحسنين" يوسف 36.

    يبرز النص كلمة "سجن" وهي علامة سيميائية محورية في عمليات السرد، إذ تومئ دلالاتها إلى فقدان الحرية، والطعن في الشرف والقيام بالخطأ، وما إلى ذلك من هذه المعاني التي كان سببها السجن. أما دلالتها الهامشية فترتبط بالأمل والدعوة إلى عبادة الله، ومن هنا فعلامة "السجن" من حيث هي كيان سيميائي قد شحنت بكل الإيحاءات والإيماءات، وكانت أمنا على يوسف، حيث أنعم الله تعالى عليه بنعمة العلم والتأويل.

    3- الوحدات السيميائية الدالة على العلم وتأويل الرؤى:

    ينتقل السرد إلى وصف أحداث جديدة، ومواقف معقدة، فقد دخل يوسف السجن، وكان فاتحة خير له، لأنه ابتعد عن المكر والفتنة، وقد صادف أن دخل معه السجن فتيان من خدم الملك، وهما رئيس السقاة "نبو"، ورئيس الخبازين "ملحب" بتهمة المؤامرة على الملك، وبعد زمن رأى كل منهما رؤيا قصها على يوسف، "فقال أحدُهما إني أراني أعصرُ خمرا، وقال الآخر إني أراني أحملُ فوق رأسي خبزاً تأكلُ الطيرُ منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين" يوسف36. وطلب هذا الفتيان من يوسف تأويل الحلمين، وذلك بعد أن لمسا فيه العلم بتفسير الأحلام، وما اتصف به من الصلاح والتقى، فقال لهما يوسف مؤكدا نعمة تفسير الرؤى، ومعترفا بنعمة أخرى هي علم الغيبيات بما يوحي الله إليه، "قال لا يأتيكُما طعامٌ تُرْزَقَانِهِ إلا نبأتُكما بتأويله قبلَ أن يأْتيَكما ذلكما مما علمني ربيَ إني تركتُ ملةَ قومٍ لا يؤمنون بالله وهو بالآخرةِ هم كافرون" يوسف 37.

    وقد اغتنم يوسف فرصة احترام السجناء له، وإعجابهم به لما ينبئهم من تأويل الأحلام، وما يعلمهم به من أنباء الغيب، فأخذ يكشف لهم عن نفسه، ويدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده. وقد أخبر السارد الحكيم عن ذلك، فقال: "واتبعتُ ملةَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ ما كان لنا أن نُشْرِكَ باللهِ من شيءٍ، ذلك من فضلِ اللهِ علينا وعلى الناسِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يشكرون. يا صاحِبَيِ السجنِ أأربابٌ متفرقون خيرٌ أمِ اللهُ الواحدُ القهارُ. ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سمَّيْتُمُوها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطانٍ إنِ الحكمُ إلا للهِ أمرَ ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدينُ القيِّمُ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون" يوسف 38-40.

    لما أتم يوسف عظته لرفيقيه، أخذ يجيبهما عما سألاه من تفسير رؤيتيهما. وهنا تنكشف دلالة الوحدات السيميائية، وتظهر قيمتها في البناء السردي، ذلك أن "الخمر" و"الرأس" و"الخبز" كلها علامات، فقال: "يا صاحِبَيِ السّجنِ أما أحدُكُما فيسقي ربَّهُ خمراً، وأما الآخرُ فيُصْلَبُ فتأكلُ الطيرُ من رأسِهِ" يوسف 41. فقد فك يوسف شفرة العلامات السيميائية: الخمر، الرأس، الطير، فأحد السجينين، وهو رئيس السقاة سيفرج عنه، ويظل خادما للملك كما كان، وأما الثاني، وهو رئيس الخبازين فسيصلب، وتأكل الطير من رأسه، لأنه سيتبين اشتراكه في المؤامرة على حياة الملك. وهكذا كانت العلامة "الخمر" إشارة إلى استمرار العطاء والسقي في قصر الملك، وكانت العلامة "الطير" مؤشرا للهلاك والفناء.

    وفي ظل هذه الأحداث والصراع بين الموت والحياة والعدل والظلم، شعر يوسف بمرارة السجن وقساوته، من حيث اتهم وسجن ظلما، وبدا له أن رئيس السقاة على وشك الخروج من السجن والمثول بين يدي الملك أدلى يوسف برجائه إليه أن يذكر قصته لدى الملك، وما وقع له من ظلم عساه أن يعيد التحقيق في أمره، لتظهر له براءته فيرفع عنه ما لحق به من ظلم: "وقال للذي ظنَّ أنَّهُ ناجٍ منهما اذكرني عند ربِّك" يوسف 42. ولكن فرح رئيس السقاة ومشاغله أنسته أن يذكر يوسف عند الملك، وكان من جراء هذا النسيان أن مكث يوسف في السجن سنين، لا تقل عن ثلاث، يقول السارد "الله تعالى": "فأنساه الشيطانُ ذكرَ ربِّه فلبثَ في السجن بضعَ سنين" يوسف 42.

    وتشاء الأقدار أن رأى الملك في منامه رؤيا أثارت اضطرابه وأوجس منها خيفة، فجمع الحكماء والكهنة، وقل لهم: "إني أرى سبعَ بقراتٍ سمانٍ يأكلهنَّ سبعٌ عجافٌ، وسبعَ سنبُلاتٍ خُضْرٍ وأخرَ يابساتٍ يا أيها الملأُ أَفْتوني في رؤيايَ إنْ كنتم للرؤيا تَعْبُرُونَ" يوسف 43. وعجز الملأ عن تأويلها، وفي تلك الأثناء تذكر السجين الناجي –وكان ساقيا للملك- أن يوسف يحسن التأويل، فطلب أن يؤذن له في عرض رؤيا الملك عليه: "وقال الذي نجا منهما وادَّكرَ بعدَ أمةٍ أنا أنَبِّئُكم بتأويلهِ فأرسلونِ. يوسفُ أيها الصديقُ أفتِنا في سبعِ بقراتٍ سمانٍ يأكلُهن سبعٌ عجافٌ وسبعِ سنبلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابساتٍ لَعَلِّيَ أرجِعُ إلى الناسِ لعلهم يعلمون" يوسف45،46.

    يلحظ أن الوحدات السيميائية في هذا الخطاب هي الرمز سبعة للبقرات السمان، والسبع العجاف، والسبع سنبلات الخضر، والأخر اليابسات.

    أخذ يوسف في تفسير رؤيا الملك، وكانت تحمل في مضمونها حلول أزمات وكوارث، فلم يكتف بما تدل عليه الرؤيا من نوائب ستحل بمصر، بل وصف الحلول الناجعة للخروج من الأزمة الخانقة التي ستمر بها البلاد، فها هو يقول لرئيس السقاة: "تزرعونَ سبعَ سنينَ دأَباً فما حصدتُم فذروهُ في سنْبُلهِ إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شدادٌ يأكلن ما قدمتم لهنَّ إلا قليلا مما تُحْصِنون. ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاثُ الناسُ وفيه يَعْصِرون". يوسف 47-49.

    نقل رئيس السقاة تفسير الرؤيا إلى الملك، فابتهج بها وعلم أن تأويلها وفك رموزها ينسجم مع رؤياه، مما يدل على عبقرية عقل مفسرها، فأمر باستدعائه ليستوضحه بعض التفاصيل: "وقال الملكُ ائْتوني بهِ" يوسف 50. فذهب الرسول إلى يوسف يبلغه رغبة الملك، فلم يتلهف للخروج من السجن، بل أصر على البقاء حتى ترفع عنه التهمة التي ألصقت به ظلما، وطلب من الرسول أن يرجع إلى الملك ويطلب منه التحقيق في المؤامرة التي حيكت ضده، ويستجوب النسوة اللائي حضرن مأدبة امرأة العزيز وقطعن أيدهن في تلك المأدبة عن أسباب سجنه، ليكن شاهدات في قضيته.

    4-الوحدات السيميائية الدالة على التحقيق في المؤامرة والبراءة:

    لقد دخل يوسف السجن بسبب تهمة تخل بالشرف، ولبث في السجن مدة سنوات، فلو خرج بأمر الملك معفوا عنه، لظلت التهمة لاصقة به، لا يستطيع دفعها، لذلك طالب بإعادة التحقيق في التهمة التي وجهت إليه، وأن يخاطر برفض المثول بين يدي الملك حتى ينتهي التحقيق إلى براءته التي يعلمها العزيز، إذ شهد ببراءته من قبل(26): "فلما جاءه الرسولُ قال ارجِعْ إلى ربِّك فاسألهُ ما بالُ النسوةِ اللاتي قَطَّعنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ ربي بكيدهِنَّ عليم". يوسف 50.

    يعد هذا الخطاب التفاتا من يوسف إلى الماضي، والعودة إلى الماضي هي سمة فنية مهمة في الطرح السيميائي، حيث يوصف هذا بالارتداد في العمل السردي، وهو العودة إلى فكرة وردت في سياق ما، فأرجئ تقديمها لهدف فني، كالربط بين الزمن الماضي والحاضر، وربط أحدهما بالآخر بطريقة فنية لا شك أنه يعطي الخطاب ديناميكية وحركية وتجددا.

    والظاهر أن القارئ "المتلقي" قد شعر بهذه اللفتة الفنية في هذا الخطاب السردي، حيث أعادته إلى حادثة كان فيها يوسف -عليه السلام- متهما بالاعتداء على شرف امرأة العزيز "زليخا"، ولم ينصفه سيده "العزيز" ولا النسوة المعجبات بجماله، واللائي التزمن الصمت في البداية، وهنا تبرز كلمة "النسوة" في الخطاب باعتبارها وحدة سيميائية، إذ يعتمد يوسف عليهن، فطلب سؤال النسوة، ولم يطلب سؤال امرأة العزيز، لأنه تصور أن هؤلاء النسوة أدنى على قول الحق منها، وأرسل الملك إلى امرأة العزيز وإليهن، ولما مثلن بين يديه: "قال ما خَطْبُكُنَّ إذ راودتُن يوسفَ عن نفسهِ قلن حاشَ للهِ ما علمنا عليه من سوءٍ" يوسف 51.

    والواضح أن ضمير امرأة العزيز استيقظ في هذا الوقت، وما كان منها إلا أن تعترف كما يعترف كل من تحركت فيه دواعي الحق، يقول السارد "الله تعالى" عن لسانها: "قالتِ امرأةُ العزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقُّ أنا راودتُهُ عن نفسهِ وإنَّه لَمِنَ الصادقين. ذلك ليعلمَ أني لم أَخُنْهُ بالغيبِ وأنَّ اللهَ لا يهدي كيدَ الخائنين" يوسف 51-52، ولكنها حتى مع اعترافها بالخطأ والكيد، لا تريد أن تجعل نفسها بدعا بين الناس، وإنما راحت تلتمس سبب الخطيئة لدى النفس البشرية، وليس في ضعفها، فيعبر القرآن الكريم عن نفسيتها في ذلك الموقف الرهيب: "وما أُبَرِّئُ نفسِي إنَّ النفسَ لأَمارَةٌ بالسوءِ إلا ما رحمَ ربِّي إنَّ ربِّي غفورٌ رحيمٌ" يوسف 53. أي: أن من طبائع النفس الإنسانية أن تأمر بالسوء.

    وهكذا نجد امرأة العزيز تثور على نفسها الأمارة بالسوء، فتحطم أوامرها. ومن حيث هي وحدة سيميائية في البناء السردي نجدها تتحرك على مساحة الخطاب السردي، حيث برزت على سطحه ودلت على معاني الشجاعة والحق والصراحة. وقد برأ الله يوسف مما كادت له امرأة العزيز، وعلم الناس أنه سجن ظلما، وخروجه من السجن في هذه الحال فإنه خروج البريء المخلص لربه الذي استحق حتى في السجن أن يوصف بلقب الصديق "يوسفُ أيها الصديق" يوسف 46.

    ولما علم الملك ببراءة يوسف، وأعجب بتفسيره للرؤيا، رأى أنه ينبغي الحرص عليه والانتفاع به: "وقال الملكُ ائْتُوني به أستخلصْهُ لنفسِي فلما كلَّمهُ قال إنك اليومَ لدينا مكينٌ أمينٌ" يوسف54. ويفتح الله على يوسف فتحا مبينا من خلال حلقات السرد المثيرة، حيث ينقله من الرق إلى السيادة، ومن الحزن إلى الفرح؛ فيعجب به الملك، ويستخلصه لنفسه، ويوليه وزارة المال وأمر الخزائن في مصر.

    5- الوحدات السيميائية الدالة على إنعام الملك على يوسف بخزائن مصر:

    وقف الملك على صحة براءة يوسف وعفته مما اتهم به، فازداد ثقة به خصوصا وقد آنس منه ذكاء وعلما حين أول رؤياه، والتدبير الذي اقترحه للخروج من الأزمة الاقتصادية التي ستعيشها البلاد "مصر"، ورأى الملك وهو الشامي الأصل أنه يوجد بينه وبين يوسف صلة قربى من حيث الجنس، فهما ليسا مصريين في الأصل. كل ذلك كان له وقع قوي في نفس الملك، فأحبه وقربه إليه، وأرسل إليه رسولا يبلغه نتيجة التحقيق واعتراف امرأة العزيز ببراءته ورغبة الملك في المثول بين يديه للإنعام عليه، فلم يتردد يوسف من تلبية الدعوة، وكلمه بما جعله يزداد به إعجابا وتعلقا، حينئذ طمأنه الملك على أنه ذو مكانة وفي أمان، فليس بالفتى الموسوم بالعبودية، إنما هو مكين، وليس هو المتهم بالتهديد بالسجن، إنما هو أمين "...فلما كلمهُ قال إنك اليومَ لدينا مكينٌ أمينٌ" يوسف 54.

    وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه، فماذا قال يوسف؟ لقد طلب ما يرى أنه قادر على تحمله من الأعباء في الأزمة القادمة، التي أول بها رؤيا الملك، وكان قويا في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وأمانته، محتفظا بكرامته وعزته: "قالَ اجعلني على خزائنِ الأرضِ إنِّي حفيظٌ عليمٌ" يوسف 55.

    ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه، فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض، وإنما كان فطنا ذكيا في اختيار الوقت الملائم الذي يستجاب له فيه الطلب، ليقوم بالواجب في أشد أوقات النكبة، وليكون مسؤولا على إطعام شعب هو منه وشعوب تجاوره طوال سبع سنوات عجاف.

    ويلحظ انتقال السرد في هذا الحقل من الضيق إلى الفرج، ويقف السياق لينبه إلى أن هذا التدبير من الله تعالى، وبمثله قدر ليوسف التمكين في الأرض، ويشير إلى أنه ماض في الطريق، ليعلمه الله من تأويل الأحاديث. ويعقب السياق على هذا الابتداء في تمكين يوسف بما يدل عليه من أن قدرة الله غالبة، وبأنه مالك أمره "وكذلك مكَّنا ليوسفَ في الأرض يتبوأُُ منها حيثُ يشاءُ" يوسف 56.

    وتبرز في هذا التمفصل عدة وحدات سيميائية لتدل على الملك ومنها: خزائن، بضاعة، الكيل، المتاع، جهاز، السقاية، وعاء، العير، العرش.

    وتبرز الوحدة السيميائية "خزائن الأرض" فتسمو على كل الوحدات، فالأرض هيئة ناطقة، تعني أحد كواكب المجموعة الشمسية، أو المعمورة التي يسكنها البشر.

    والأرض من حيث هي وحدة سيميائية تومئ بمعاني النماء والعطاء، والتناقص كالحياة والموت والحب والكره، والخطيئة والمغفرة، والتمكين وعدم التمكين، وقد مكن الله ليوسف في الأرض فتولى الإشراف على تخزين الغلال وتوفيرها لسنين القحط والجفاف.

    وكانت السنون السبع عجافا –كما ذكر القرآن- فأصابت مصر ومن حولها، فكانت القوافل التجارية تأتي إلى مصر طلبا للتبادل التجاري، وكان يوسف يشرف بنفسه على تزويد القوافل، ويعقد مع تجارها صفقات، يأخذ منهم ما يعرضون، ويمدهم بما اختزنه من غلال الأرض، وكانت من بين القوافل الوافدة إلى مصر قافلة إخوته: "وجاءَ إخوةُ يوسفَ فدَخَلوا عليه فَعرفهُمْ وهم له منكِرون" يوسف 58.

    وصل إخوة يوسف إلى مصر، فرأتهم العيون المرصدة قادمين بعدد يلفت الانتباه، فأخذوهم إلى يوسف وأدخلوا عليه في قصره، فعرفهم بملامحهم وكلامهم وأزيائهم الكنعانية ، أما هم فلم يعرفوه، لطول مدة الفرقة، وتغير شكله، يضاف على هذا وجوده على رأس وزارة المال، وتكلمه باللغة المصرية، وتغير اسمه لأن ملك مصر أطلق على يوسف اسم "صفنات فعينع" بمعنى مخلّص العالم.

    وهكذا يدفع السارد "الله تعالى" بشخصيات القصة دفعا لا مجال فيه للمفاجأة، فجاءت الأحداث مثيرة، وتحمل بين طياتها أسرارا ربانية، فقد أنزل يوسف إخوته ضيوفا عليه، وكال لهم القمح والشعير كيلا زائدا عن حقهم، وأعطاهم زادا للطريق، ولم يكشف لهم أمره، حتى يبلغ هدفه، ولما تأهبوا للرحيل قال لهم: "ائتونيِ بأخِ لكم من أبيكمْ ألا ترونَ أني أوفِ الكيلَ وأنا خيرُ المُنزِلينَ. فإن لم تأتوني بهِ فلا كيلَ لكم عندي ولا تقربونِ" يوسف 59،60.

    تحتل الوحدة السيمي