بنية الخطاب السردي في قصص أنور عبد العزيز
بنية الخطاب السردي في قصص أنور عبد العزيز
علي احمد محمد العبيدي
-
يكاد يجمع كل المتحدثين عن الخطاب وتحليل الخطاب علي ريادة (هاريس) في هذا المضمار من بحثه المعنون (تحليل الخطاب) انه أول لساني حاول توسيع موضوع البحث اللساني بجعله يتحدي الجملة إلي الخطاب. وقد عرف الخطاب بأنه (ملفوظ طويل، أو هو متتالية من الجمل تكون مجموعته منغلقة يمكن من خلالها بنية سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجية التوزيعية.وبشكل يجعلنا في مجال لساني محض) (1) بمقتضي هذا التعريف فان التوزيعات التي تلتقي من خلال هذه العناصر تعبر عن انتظام معين يكشف عن بنية النص. ويذهب عبد الملك مرتاض، إلي إن أصل السرد في اللغة العربية هو التتابع الماضي علي سيرة واحدة وسرد الحديث والقراءة من هذا المنطلق الاشتقاقي، ثم أصبح يطلق علي الأعمال القصصية علي كل ما خالف الحوار، ثم لم يلبث إن تطور مفهوم السرد إلي معني اصطلاحي أهم، واشمل بحيث أصبح يطلق علي النص الحكائي، أو الراوي أو القاص، أو حتي المبدع الشعبي ليقدم بها الحدث إلي المتلقي، فكان السرد إذن نسيج الكلام، ولكن في الصورة حكي(2) . لقد تطور هذا المفهوم مع الكتابات النثرية الجديدة مدعوماً بطروح النقد الحداثي، فكانت القصة اقرب الأجناس الأدبية لتمثل هذه التقنية بخاصة مع تغير نظرة كاتبها في التعامل مع اللغة، وزمن الحدث، وفضاء ألحكي، ((فان كانت السردية في مفهومها التقليدي تعني وظيفة يؤديها السارد بالمسرود له،وبالشخصيات الساردة)) (3) فان مشهدية الخطاب الحديث كان من الروافد التي عمقت المفهوم الجمالي للنص القصصي، واضفت عليه أبعاد فنية أخرجته من اسر التقليدية الصورية التي حكمت منطق ألحكي، وأرغمته علي السير في منظور كلاسيكي، ولم تعمق، بل ولم تولي خصوصيات عناصر القصة من حدثٍ وزمان وشخصيات أي اهتمام، وهذه العناصر قد أضحت انفتاحية ومفتوحة في إن واحد علي بنيات عدة من منظور السر دانية الحديثة. وبذا يكون المقصود بالسرد هو الفعل السردي وبالتالي لا توجد الحكاية ولا السرد إلا بواسطة ألحكي، ولا يوجد حكي أو خطاب سردي إلا باعتبارين(4): ــ
باعتبار انه يحكي حكاية ــ وإلا لما كان سردياً.
انه ملفوظ لغوي مزود من طرف شخص معين وإلا لما كان خطاباً.
فالحكي إذن يستمد صفة السرد من خلال علاقته (بالحكاية) التي يحكيها ولتوضيح المسألة يجب توضيح ماهية الحكاية والحكي (المحكي) والخطاب. تعني الحكاية كل مايتعلق والمضمون السردي أو الملفوظ اللغوي أو الحكائي. وحينما نمعن النظر في العملية السردية نجد نوعين من الحكائية فيه:
الخارج حكائي:وهو كل ماخرج عن نطاق الحكاية، أي ما يدخل في نطاق الفعل السردي (السرد) أو الملفوظ أو الخطاب السردي (ألحكي).
الداخل الحكائي: وهو كل عنصر ينتمي ويدخل في صلب مكونات (الحكاية).
أما الخطاب: فهو عمل سردي أو ملفوظ شفوي أو كتابي يفترض بالضرورة متكلماً ومستمعاً وقارئاً لتحقيق التواصل الأدبي. ويتميز التواصل الأدبي بتعقيده وتعدد مستوياته وبالتالي تعدد المرسلين. وبما إن النص الأدبي هو سلسلة من الجمل المترابطة التي تؤلف شكلاً مستمراً ومتماسكاً ينتج عنه بنية نصية والأدبي بوصفه بنية مدركة وقابلة للوصف، فانه جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان عن طريق ربطه بالكلام التواصلي(5).
وقد ميز الشكلانيون الروس بين المبني الحكائي والمتن الحكائي، فالأول هو الخطاب بحسب تحديد تودوروف والثاني هو القصة، فعنده الخطاب والقصة مظهرين لازمين لكل حكي. والقصة عنده أحداث في ترابطها وتسلسلها وفي علاقتها بالشخصيات في فعلها وتفاعلها. أما الخطاب فيظهر من خلال الراوي الذي يقدم القصة(6) .
جزء من التجربة
وقد أصبح القاص أكثر حرصاً علي (القارئ) وهو حرص تجاوز المجالات إذ كان القاص يسعي لإرضاء فضول القارئ، أما ألان فالأمر اختلف وأصبح الكاتب يسعي لان يكون المتلقي هو القارئ المنتج الذي هو بالضرورة جزء من التجربة القصصية. وبدأ الكاتب يسعي لضم المتلقي لتجربته بوسائل عديدة منها عدم وضع نهاية. أو عرض وجهات نظر دونما حسم لوجهة نظر كلية، أو تعمد الكاتب ألا يسد كل الفراغات ويترك بعض المساحات أو الفجوات للتهميش الدلالي ليتمها القارئ بمدي تخيله.
والاهتمام بـ (المروي له) في القصة يعني مزيداً من العمق التحليلي داخل الخطاب السردي، عندما نتوقف هنا للبحث عن (المروي له) في نماذج من قصص (أنور عبد العزيز) كما سيأتي بعد ــ فإننا لا نهدف إلي إثبات وجود (المروي له) أو نكتشف طريقة تحديده في القصص، وإنما فضلاً عن ذلك نسعي لغاية أخري، هي الكشف عن أهمية (المروي له) ودوره في بناء النص. وهناك بعض الأعمال قد حدد شكلها (المروي له) بشكل مباشر، وعلي سبيل المثال (ألف ليلة وليلة) فشهريار الملك هو (المروي له) والذي مارس دوره المميز في التشخيص وكان بقسوته وتهديده لشهرزاد قوة دافعة علي ألحكي، ثم إن حالته النفسية هي التي (فرضت موضوعات بعينها لارتشاف العظات والعبر) (7). وتأتي أهمية دراسة (المروي له) من كون هذه الدراسة تسهم في تحقيق قراءة دقيقة والتوصل إلي تحديد خصائص العمل وتفيد في (الوصول إلي تصنيف أدق للجنس السردي والي فهم اكبر لتطوره وبالتالي إلي إدراك جميع أفعال الإيصال)( .
إن هذا المكون من مكونات بنية الخطاب السردي قد لاقي تجاهلاً وإهمالا، إذ كان مختلطاً بغيره كاختلاطه بالقارئ الحقيقي والقارئ الضمني. وجاء تسليط الضوء علي هذا المكون ليساعد في الكشف عن مستوي من مستويات القراءة ظل غامضاً، بحسب قول (سلدن): ((إن اثر نظرية برنس الموسعة هو إضاءة بعد من أبعاد القص كان القراء يفهمونه فهماً حدسياً لكنه بقي مبهماً وغير محدد))(9)، لان هناك مشكلات تحديد تتعلق ب (المروي له) وبقي إن نسأل: هل المروي له يمثل قارئا يهدف إليه المؤلف أصلا؟ أم هو يمثل القارئ في كل وقت تتم فيه عملية استهلاك الأثر الأدبي؟
القارئ الضمني
إن بنية أي خطاب سردي تتكون من تضافر ثلاثة مكونات أساسية هي: (الراوي والمروي والمروي له)، وان اختفاء، أو انعدام احد هذه المكونات يجعل بنية الخطاب السردي ناقصة ومختلفة، مما يجعل عملية التواصل السردي غير ممكنة، ذلك إن علاقة الراوي بالمروي له تخضع مباشرة لعملية الإرسال والتلقي المرتبط اشد الارتباط بثنائية النطق والاستماع.
وقد انبثقت الدراسات السردية حول (المروي له) انطلاقاً من مبدأ لساني،حدده (جاكوبسن) مفاده إن الإرسالية اللغوية تنطوي علي ثلاثة أركان هي المرسل، الرسالة، المرسل إليه. والتقط البحث السردي هذا المبدأ وحوله إلي (الراوي ــ المروي ــ المروي له). فعدت (المروي) ملفوظاً ل (الراوي)ورسالته إلي (المروي له). ويعود الفضل إلي (جيرالد برنس) في وضع حجز الزاوية لدراسة المروي له بصفته هذه وإعادة تركيب الإرسالية السردية واكتمال أركان البنية السردية للرواية.
وتتشكل صورة المروي له من خلال كلام الراوي الذي هو رسالة موجهة بصفته، المروي له سواء؟ أكان يقرؤها أم يصغي إليها، فالراوي شخص خيالي لا يمكن إن تكون صورة مطابقة لنا لان طبيعته خيالية أساسا داخل النص، وبالنسبة لهويته الفريدة ومزاجه الخاص أو بالنسبة للعلاقات المتعددة والمتشابكة التي تربطه بالراوي وبشخصيات الحكاية أو بغيره من المروي لهم.
إن هذا التعلق الموجود بين صورتي الراوي والمروي له يثبته القانون السميولجي العام المتعلق بضميري (أنا) و(أنت) المتقابلين داخل النص، ومن هنا لا يمكن إن يكون سرد بدون رواية أو بدون مروي له. غير إن تعلقهما يمكن إن يكون متبيناً وشديد الوضوح، ويمكن إن يكون ضعيفاً أو ضمنياً(10)، وعكس تحديد المروي له ايضاً من خلال مقارنة وتمييز صورته عن صورة الراوي من خلال نص أدبي سواء أكان ذلك من خلال نوع العلاقة التي يربطها الراوي معه، (تهكم، احترام، استخلاف، احتقار). أو من خلال البعد الثقافي والاجتماعي والأخلاقي و الحكائي الذي يفصل بينهما، ومن خلال مقارنته بشخصيات الحكاية أو بغيره من المروي لهم، وتأسيساً علي ذلك علينا إن نفرق بين المروي له وغيره من أصناف القراء المتعددين والذين يمكن حصرهم في ثلاثة أصناف من دون إن نخلط مفاهيمهم بمفهوم المروي له ، وهم (القارئ الفعلي، القارئ الافتراضي، المجرد، القارئ المثالي). وهذا ما يعيدنا إلي نظرية التواصل الحكائي الذي يقوم علي عدة مستويات تواصلية خطابية متداخلة(11):
مستوي المؤلف الفعلي/ القارئ: الفعلي.
مستوي المؤلف المجرد/ القارئ المجرد.
مستوي الراوي الخيالي/ القارئ الخيالي (المروي له).
مستوي الشخصيات الحكائية.
الراوي والمستقبل
إن هذا الطرح المتبني لوجهة نظر سيميولوجية، يجعلنا ننظر إلي النص الأدبي علي انه علامة مرسل ــ هذه العلامة هي المؤلف الفعلي والمرسلة إليه هو القارئ الفعلي (القراء) ــ وداخل هذه العلامة (النص) يوجد مرسل أخر، وهو المؤلف المجرد الذي يخلف (النص) لقارئ افتراضي، مجرد هو ايضاً، ويضم عالم النص بدوره مرسل هو (الراوي) الذي يبعث بعلامة أخري (المروي) إلي مرسل إليه، هو (المروي له)، المتعلق به(12).
ــ علامات المروي له:
هنالك عدة علامات قادرة علي تصوير المروي له وهو متنوعة إلي حد بعيد، وعلي الرغم من ذلك فان صورة المروي له تنشأ، قبل كل شيء، من السرد الموجه إليه، وإذا ما اعتبرنا إن أي سرد يتألف من سلسلة من العلامات الموجهة إلي المروي له، فأننا يمكن إن نميز صنفين أساسيين للعلامات. فمن جهة أولي، ثمة علامات لا تتضمن ذكراً للمروي له، ومن جهة ثانية، ثمة علامات تحدد بعينها الراوي للمروي له بكلمات مثل (القارئ أو مصغي) وبتعبيرات مثل (عزيزي أو صديقي أو ياسيدي). وثمة فقرات تومئ إلي المروي له وتصفه علي الرغم من أنها غير مكتوبة بصيغة مثل (علاوة علي ذلك، وفي اغلب الأحيان، نحن لانمكث في البيت، نحن ذهبنا لنتمشي) فان (نحن) تتضمن المروي له. وعن طريق استخدام صيغة لا شخصية أو ضمير عام، فانه غالباً ما يمكن للضمير (نحن) إن يشير إلي المروي له.
المروي له المعلن
(الداخل ــ حكائي)
إن المروي له ينتمي إلي مستوي الراوي دائماً، وهو علي صلة مباشرة به، ويبرز ذلك من خلال مناداة الراوي له واستدعاؤه إلي النص، ومن خلال توجيه كلام إليه، ومعني ذلك إن المروي عليه إن يؤدي سلسلة من الوظائف الفنية، وليس منها الاعتماد علي الضمير في تحديد المروي له ، لان الضمائر في السرد غالباً ما تتنازع وتتبادل أدوارها، وفي حركة دائماً تصعب مهمة اعتمادها كوسيلة للتحديد، إذ لا تتصف بالثبات. وفي مجموعة (ضوء العشب) لأنور عبد العزيز، نجد المروي له بارزاً في موضع وغير بارز في مواضع أخر.
ولقد لعب المروي له في قصة (الحكاية الأخيرة لأحمد سيد صادق) وظيفتين أساسيتين:
الأولي: تشمل كل ما يتعلق بالجانب الدلالي وعلي مجموعة القيم والأفكار التي يتبناها القاص: ((مات إذن وانتهي كل شيء كل حي يموت ويندثر، يعرفون ذلك ويحزنون وترعبهم وتشقيهم هذه الحقيقة)) (13)
الثانية: مجموعة الوظائف الفنية الجمالية، لعل أهم تلك الوظائف هو التلقي والتأويل، حيث يمتلك المروي له شخصية فكرية ومجموعة قيم ومعتقدات يؤمن بها، وله صوته الخاص والمتميز((أنت ستخرج بعد أيام وان طالت فلأشهر، وأنا مثبت راسخ مدقوق هنا كمسمار ــ بحكم مؤبد ولنهاية العمر، هو بيتي ومأواي...))(14)، إذا تستجيب الأنا الساردة لمتطلبات التحول المأساوي الذي يبرز واضحاً/ أنا مثبت راسخ مدقوق هنا كمسمار.
إن التنازع هنا ما بين الضمائر (أنت/ أنا) يدعو إلي حضور الأنا (الراوي) الذي يفترض بالضرورة أل...(أنت) أمامه فيري له، وان اختلفت درجة حضور الأخر
(المروي له)، فربما تزيد الدرجة زيادة تؤثر بدورها علي بناء الخطاب السردي.
إن الكاتب في هذا التشكيل اللغوي، إنما يستعير من الفضاء الشعري صفاءه، وكأن اللغة تأخذ علي طبيعتها الأسطورية لمحاورة الذات، التي لا ترضي بالمكشوف، فهو لا يروض اللغة للمضمون، بل يجعل منها أداة لمسائلته بوعي وإدراك لان ((المحكي التخيلي عندما يعي خصوصيته يعد ضرورياً لقراءة المهمل والهامشي والمتشكل عبر ثنايا الجدلية الحياتية)) (15). فالمتن القصصي عند أنور عبد العزيز يتعدي المظهر التصنيفي إلي التقاط تفاصيل الأمكنة والحركات (السجن ــ البيت)، والي استبطان ما يصطرع في الأعماق من مشاعر مضادة لما هو قائم حولها، حيث تغدو الاشارية وكثافة البعد الشعري هي المحرك لدينامية الأحداث كما يصبح التأويل ضرورة للقبض علي حيثيات المضمون.
ولعل الملاحظ في هذه القصة، هو إن السرد يبدأ عبر نقطة ضيقة، وغالباً مع الضمير ــ أنا ــ ثم يتنوع مع تنوع الضمائر مما يمد الحدث بانفتاحية اكبر، ويعود الراوي إلي نقطة البداية، وهكذا...
ومن خصائص هذا النمط من المروي لهم إن يكون بارزاً في السرد بصفة كبيرة أو ضعيفة، متأثرا بمسار الحكاية تأثر بليغاً أو ضعيفاً، إذ غالباً ما ينمو المروي له: الشخصية ويتغير من خلال تعاقب الأحداث المروية.
المروي له الخفي
(الخارج ــ الحكائي)
يتموضع المروي له داخل النص أو الفعل السردي، إلا انه قد يظل خارج الحكاية، وهي حالة المروي له (الخارج ــ 0 حكائي) ويكون شخصية مشاركة في تحريك أحداث السرد، وهي حالة (الداخل ــ حكائي) حيث يلعب فضلاً عن دوره الأصلي (تلقي السرد) أو يلعب أدوارا أخري، أهمها مشاركته الوظيفية في بناء الحكاية. ويحقق المروي له وجوده من خلال الخطاب الحكائي الموجه إليه، كيفما كان الحال. ومن طرف الراوي، فهو طفل أو شيخ، امرأة أو رجل، مثقف أو أمي، قروي أو حضري....فلابد لنا إن نعثر علي أدلة تؤكد انتماء المروي له لحقل ثقافي معين، أو تؤكد الصعوبات اللغوية التي يعاني منها أو تشدد علي ما يعانيه من نسيان، أو تلك التي توضح لنا معرفته بالمشكلة التي نتحدث عنها الخ...
وثمة فقرات داخل النص القصصي لا تشير صراحة إلي المروي له، بل تؤمي إليه علي الرغم من كونها تستخدم الضمير العام (نحن) التي تتضمن المروي له. كما يمكن إن يستخدم الراوي الأسئلة أو شبه الأسئلة التي تتضمن ايضاً المروي له. وكذلك استخدام الإنكار حتي وان كان انكاراً الهامياً. ويمكن للراوي إن يستخدم المسوغات المفرطة ليدل علي المروي له، وهذه المسوغات هي التي تعطينا تفصيلات مشوقة لمعرفة شخصية المروي له(16) ، وكذلك يمكن الكشف عن المروي له في الخارج ــ حكائي عن طريق التعليقات التي يذكرها الراوي وكذلك من خلال تذكر الراوي في العملية السردية.
ففي قصة (مرثية الفئران) يقول الراوي: ((لا ادري لم صار هذا البيت مرتعاً ومرعي للفئران برغم بؤسه وخلوه من الطعام، برميل الفضلات العتيق المبعوج القابع.
أمام الدار يظل خاوياً ولا يمتلئ إلا بعد أسابيع، وبرميل جاري الغني الأنيق يطفح بها كل يوم وليلة مغرقاً لامعاً بالدهون السائلة وبقشور الموز والتفاح والبيض وبذيول وحراشف الأسماك...وأغلفة وأكياس ملونة لسكا ير وحلويات ومرطبات.... لكن الفئران وكأنها عميت وماتت ذائقتها وانشلت حاسة الشم القوية الملتهبة فيها، فجرت ذلك المطبخ المترف وتلك الأطعمة الدسمة ــ لتغزو بيتي لا تتشمم فيه غير رائحة الأرض الممسوحة ونثار الجص الرطب المتعفن المتساقط من سقوف غرفة جدرانها)) (17) .
في هذا النص يظهر المروي له من خلال الأسئلة التي يطرحها الراوي (لاأدري لم صار هذا البيت مرتعاً ومرعي للفئران)، إذا يتوق القارئ إلي معرفة أي نوع من القراء يريد النص، كما يطمح إلي اكتشاف الطريقة التي يستعملها المؤلف النموذجي من اجل تسريب معلوماته، إذا ما أتيحت له فرصة التو هان في غابة السرد، وفي النهاية ينجح معظم القراء في الوصول إلي ممارسة يسميها (سلا توف) القراءة الجيدة مهما استزرع القاص علامات مضللة، لأنهم ــ القراء ــ يفعلون ذلك تعاطفاً مع أو تقرباً مما يظهر أخيرا علي انه هدف الكاتب الضمني أو الوجود الإنساني في العمل الأدبي، وعليه فان لحظة الذروة في القصة، بما هي لحظة فهم الأحداث تكمن في تشاطر المعني في النص بين القاص كمرسل، والقارئ كمرسل إليه. فالقارئ مدعو لفهم حقيقة النص والحكم عليه. كما يفعل القاص أنور عبد العزيز في قصته (مرثية الفئران) عندما عقد مقارنة بين الراوي في هذه القصة والقارئ الضمني لهذا النص. مما دعاه لاستدعاء المروي له للحكم علي هذه المقارنة بين (بيت الفقير الذي تسكنه الفئران) و(بيت الغني الذي لا تدخل إليه الفئران) وهكذا تدخل الراوي في هذا النص من اجل استدعاء المروي له للحكم. كما يقدم لنا النص ايضاً تعليقات الراوي فيقول: ((فهل يشكو عاقل من كثرتها وهي منذ قديم الزمان ومنذ اهراءات نبي الله يوسف ومخازن الحبوب وخوابي الحنطة والصوامع التي احتاط بها لسنوات القحط والجدب، كانت رموزاً للخير والبركة والوفرة والثراء...))(18)
لقد قدم لنا الراوي صورة معكوسة لهذه الفئران..صورة رمزية.. إذ ان قلة الفئران تعني خلو الدار من أنواع الأطعمة والاشربة بينما نراها ــ الفئران ــ موجودة بكثرة في داره الخالية منها، وهذه مفارقة تدعو للسخرية. كما إن عنوان القصة (مرثية الفئران) فيه مفارقة وهذه لعبة من القاص ذكية إذ قدم الفئران للسخرية من الواقع الاجتماعي الذي جعل من الفئران تأكل مصائد الموت بنفسها بعد إن لا تجد ما تأكله: ((فئران هذا البيت أكلت نفسها وأكلتني، فبعد إن التهمت تراب البيت و الجص المنثور والزوان اقتحمت ــ وقد ألهب جنونها الجوع ــ مصائد الموت.))(19). إن صيغة الخطاب المعروض غير المباشر: وهي اقل مباشرة من المعروض المباشر، لأننا نجد فيه مصاحبات الخطاب المعروض التي تظهر لنا من خلال تداخلات الراوي قبل العرض أو من خلاله أو بعده، وفيه نجد المتحكم يتحدث إلي أخر، والراوي من خلال تدخلاته يؤشر للمتلقي غير المباشر. فإذا كنا في المسرود الذاتي أمام متكلم يحاور ذاته عن أشياء تمت في الماضي، فإننا هنا نجده يتحدث إلي ذاته عن فعل يعيشه وقت انجاز الكلام. وهذا الخطاب (الذاتي) يتم عندما يتحدث المتكلم عن ذاته واليها عن أشياء تمت في الماضي، أي إن هناك مسافة بينه وبين ما يتحدث عنه.
كشف التعالق بين
المخيلة والذات
تتميز بنية الخطاب السردي في قصص أنور عبد العزيز في مجموعة (ضوء العشب) بطابعها الحداثي الذي تجلي في تعدد الأزمنة وتداخل أنساقها، وان كانت الهيمنة للزمن الاستذكاري، بفعل اشتغال الكاتب علي فعل التذكر في استعادة مراحل من تاريخ أناه الوجودي الذي يتعالق واناه الجماعي لتاريخ الموصل الحديث والمعاصر.
كشف تعالق الروائي/التخييلي، والسير ذاتي/ المرجعي، في قصص أنور عبد العزيز، وتفاعلها في تشكيل عوالم ألحكي، التي كشفها (المروي له).
أنتج تنوع الصيغ خطابات متعددة يتقاطع فيها الذاتي والموضوعي، الواقعي والعجائبي، الشعري والصوفي، وهي خطابات أغنت بنية خطاب هذه المجموعة القصصية جمالياً ودلالياً وشكلت تنويعات له. كشف بنية الخطاب السردي عند أنور عبد العزيز علي منطق التعاقب في الأحداث، علامة دالة في اشتغال الكاتب المكثف علي الذاكرة، فضلاً عن كون الذات تشكل موضوع التبئير والسرد في آن. أعطي الكاتب أنور عبد العزيز (للمروي له) مساحة صغيرة في نتاجه القصصي، كون الكاتب قد اعتمد علي السرد ألتتابعي في بناء الحدث.
http://www.alefyaa.com/index.asp?fna...torytitle=بنية الخطاب السردي في قصص أنور عبد العزيز
بنية الخطاب السردي في قصص أنور عبد العزيز
علي احمد محمد العبيدي
-
يكاد يجمع كل المتحدثين عن الخطاب وتحليل الخطاب علي ريادة (هاريس) في هذا المضمار من بحثه المعنون (تحليل الخطاب) انه أول لساني حاول توسيع موضوع البحث اللساني بجعله يتحدي الجملة إلي الخطاب. وقد عرف الخطاب بأنه (ملفوظ طويل، أو هو متتالية من الجمل تكون مجموعته منغلقة يمكن من خلالها بنية سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجية التوزيعية.وبشكل يجعلنا في مجال لساني محض) (1) بمقتضي هذا التعريف فان التوزيعات التي تلتقي من خلال هذه العناصر تعبر عن انتظام معين يكشف عن بنية النص. ويذهب عبد الملك مرتاض، إلي إن أصل السرد في اللغة العربية هو التتابع الماضي علي سيرة واحدة وسرد الحديث والقراءة من هذا المنطلق الاشتقاقي، ثم أصبح يطلق علي الأعمال القصصية علي كل ما خالف الحوار، ثم لم يلبث إن تطور مفهوم السرد إلي معني اصطلاحي أهم، واشمل بحيث أصبح يطلق علي النص الحكائي، أو الراوي أو القاص، أو حتي المبدع الشعبي ليقدم بها الحدث إلي المتلقي، فكان السرد إذن نسيج الكلام، ولكن في الصورة حكي(2) . لقد تطور هذا المفهوم مع الكتابات النثرية الجديدة مدعوماً بطروح النقد الحداثي، فكانت القصة اقرب الأجناس الأدبية لتمثل هذه التقنية بخاصة مع تغير نظرة كاتبها في التعامل مع اللغة، وزمن الحدث، وفضاء ألحكي، ((فان كانت السردية في مفهومها التقليدي تعني وظيفة يؤديها السارد بالمسرود له،وبالشخصيات الساردة)) (3) فان مشهدية الخطاب الحديث كان من الروافد التي عمقت المفهوم الجمالي للنص القصصي، واضفت عليه أبعاد فنية أخرجته من اسر التقليدية الصورية التي حكمت منطق ألحكي، وأرغمته علي السير في منظور كلاسيكي، ولم تعمق، بل ولم تولي خصوصيات عناصر القصة من حدثٍ وزمان وشخصيات أي اهتمام، وهذه العناصر قد أضحت انفتاحية ومفتوحة في إن واحد علي بنيات عدة من منظور السر دانية الحديثة. وبذا يكون المقصود بالسرد هو الفعل السردي وبالتالي لا توجد الحكاية ولا السرد إلا بواسطة ألحكي، ولا يوجد حكي أو خطاب سردي إلا باعتبارين(4): ــ
باعتبار انه يحكي حكاية ــ وإلا لما كان سردياً.
انه ملفوظ لغوي مزود من طرف شخص معين وإلا لما كان خطاباً.
فالحكي إذن يستمد صفة السرد من خلال علاقته (بالحكاية) التي يحكيها ولتوضيح المسألة يجب توضيح ماهية الحكاية والحكي (المحكي) والخطاب. تعني الحكاية كل مايتعلق والمضمون السردي أو الملفوظ اللغوي أو الحكائي. وحينما نمعن النظر في العملية السردية نجد نوعين من الحكائية فيه:
الخارج حكائي:وهو كل ماخرج عن نطاق الحكاية، أي ما يدخل في نطاق الفعل السردي (السرد) أو الملفوظ أو الخطاب السردي (ألحكي).
الداخل الحكائي: وهو كل عنصر ينتمي ويدخل في صلب مكونات (الحكاية).
أما الخطاب: فهو عمل سردي أو ملفوظ شفوي أو كتابي يفترض بالضرورة متكلماً ومستمعاً وقارئاً لتحقيق التواصل الأدبي. ويتميز التواصل الأدبي بتعقيده وتعدد مستوياته وبالتالي تعدد المرسلين. وبما إن النص الأدبي هو سلسلة من الجمل المترابطة التي تؤلف شكلاً مستمراً ومتماسكاً ينتج عنه بنية نصية والأدبي بوصفه بنية مدركة وقابلة للوصف، فانه جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان عن طريق ربطه بالكلام التواصلي(5).
وقد ميز الشكلانيون الروس بين المبني الحكائي والمتن الحكائي، فالأول هو الخطاب بحسب تحديد تودوروف والثاني هو القصة، فعنده الخطاب والقصة مظهرين لازمين لكل حكي. والقصة عنده أحداث في ترابطها وتسلسلها وفي علاقتها بالشخصيات في فعلها وتفاعلها. أما الخطاب فيظهر من خلال الراوي الذي يقدم القصة(6) .
جزء من التجربة
وقد أصبح القاص أكثر حرصاً علي (القارئ) وهو حرص تجاوز المجالات إذ كان القاص يسعي لإرضاء فضول القارئ، أما ألان فالأمر اختلف وأصبح الكاتب يسعي لان يكون المتلقي هو القارئ المنتج الذي هو بالضرورة جزء من التجربة القصصية. وبدأ الكاتب يسعي لضم المتلقي لتجربته بوسائل عديدة منها عدم وضع نهاية. أو عرض وجهات نظر دونما حسم لوجهة نظر كلية، أو تعمد الكاتب ألا يسد كل الفراغات ويترك بعض المساحات أو الفجوات للتهميش الدلالي ليتمها القارئ بمدي تخيله.
والاهتمام بـ (المروي له) في القصة يعني مزيداً من العمق التحليلي داخل الخطاب السردي، عندما نتوقف هنا للبحث عن (المروي له) في نماذج من قصص (أنور عبد العزيز) كما سيأتي بعد ــ فإننا لا نهدف إلي إثبات وجود (المروي له) أو نكتشف طريقة تحديده في القصص، وإنما فضلاً عن ذلك نسعي لغاية أخري، هي الكشف عن أهمية (المروي له) ودوره في بناء النص. وهناك بعض الأعمال قد حدد شكلها (المروي له) بشكل مباشر، وعلي سبيل المثال (ألف ليلة وليلة) فشهريار الملك هو (المروي له) والذي مارس دوره المميز في التشخيص وكان بقسوته وتهديده لشهرزاد قوة دافعة علي ألحكي، ثم إن حالته النفسية هي التي (فرضت موضوعات بعينها لارتشاف العظات والعبر) (7). وتأتي أهمية دراسة (المروي له) من كون هذه الدراسة تسهم في تحقيق قراءة دقيقة والتوصل إلي تحديد خصائص العمل وتفيد في (الوصول إلي تصنيف أدق للجنس السردي والي فهم اكبر لتطوره وبالتالي إلي إدراك جميع أفعال الإيصال)( .
إن هذا المكون من مكونات بنية الخطاب السردي قد لاقي تجاهلاً وإهمالا، إذ كان مختلطاً بغيره كاختلاطه بالقارئ الحقيقي والقارئ الضمني. وجاء تسليط الضوء علي هذا المكون ليساعد في الكشف عن مستوي من مستويات القراءة ظل غامضاً، بحسب قول (سلدن): ((إن اثر نظرية برنس الموسعة هو إضاءة بعد من أبعاد القص كان القراء يفهمونه فهماً حدسياً لكنه بقي مبهماً وغير محدد))(9)، لان هناك مشكلات تحديد تتعلق ب (المروي له) وبقي إن نسأل: هل المروي له يمثل قارئا يهدف إليه المؤلف أصلا؟ أم هو يمثل القارئ في كل وقت تتم فيه عملية استهلاك الأثر الأدبي؟
القارئ الضمني
إن بنية أي خطاب سردي تتكون من تضافر ثلاثة مكونات أساسية هي: (الراوي والمروي والمروي له)، وان اختفاء، أو انعدام احد هذه المكونات يجعل بنية الخطاب السردي ناقصة ومختلفة، مما يجعل عملية التواصل السردي غير ممكنة، ذلك إن علاقة الراوي بالمروي له تخضع مباشرة لعملية الإرسال والتلقي المرتبط اشد الارتباط بثنائية النطق والاستماع.
وقد انبثقت الدراسات السردية حول (المروي له) انطلاقاً من مبدأ لساني،حدده (جاكوبسن) مفاده إن الإرسالية اللغوية تنطوي علي ثلاثة أركان هي المرسل، الرسالة، المرسل إليه. والتقط البحث السردي هذا المبدأ وحوله إلي (الراوي ــ المروي ــ المروي له). فعدت (المروي) ملفوظاً ل (الراوي)ورسالته إلي (المروي له). ويعود الفضل إلي (جيرالد برنس) في وضع حجز الزاوية لدراسة المروي له بصفته هذه وإعادة تركيب الإرسالية السردية واكتمال أركان البنية السردية للرواية.
وتتشكل صورة المروي له من خلال كلام الراوي الذي هو رسالة موجهة بصفته، المروي له سواء؟ أكان يقرؤها أم يصغي إليها، فالراوي شخص خيالي لا يمكن إن تكون صورة مطابقة لنا لان طبيعته خيالية أساسا داخل النص، وبالنسبة لهويته الفريدة ومزاجه الخاص أو بالنسبة للعلاقات المتعددة والمتشابكة التي تربطه بالراوي وبشخصيات الحكاية أو بغيره من المروي لهم.
إن هذا التعلق الموجود بين صورتي الراوي والمروي له يثبته القانون السميولجي العام المتعلق بضميري (أنا) و(أنت) المتقابلين داخل النص، ومن هنا لا يمكن إن يكون سرد بدون رواية أو بدون مروي له. غير إن تعلقهما يمكن إن يكون متبيناً وشديد الوضوح، ويمكن إن يكون ضعيفاً أو ضمنياً(10)، وعكس تحديد المروي له ايضاً من خلال مقارنة وتمييز صورته عن صورة الراوي من خلال نص أدبي سواء أكان ذلك من خلال نوع العلاقة التي يربطها الراوي معه، (تهكم، احترام، استخلاف، احتقار). أو من خلال البعد الثقافي والاجتماعي والأخلاقي و الحكائي الذي يفصل بينهما، ومن خلال مقارنته بشخصيات الحكاية أو بغيره من المروي لهم، وتأسيساً علي ذلك علينا إن نفرق بين المروي له وغيره من أصناف القراء المتعددين والذين يمكن حصرهم في ثلاثة أصناف من دون إن نخلط مفاهيمهم بمفهوم المروي له ، وهم (القارئ الفعلي، القارئ الافتراضي، المجرد، القارئ المثالي). وهذا ما يعيدنا إلي نظرية التواصل الحكائي الذي يقوم علي عدة مستويات تواصلية خطابية متداخلة(11):
مستوي المؤلف الفعلي/ القارئ: الفعلي.
مستوي المؤلف المجرد/ القارئ المجرد.
مستوي الراوي الخيالي/ القارئ الخيالي (المروي له).
مستوي الشخصيات الحكائية.
الراوي والمستقبل
إن هذا الطرح المتبني لوجهة نظر سيميولوجية، يجعلنا ننظر إلي النص الأدبي علي انه علامة مرسل ــ هذه العلامة هي المؤلف الفعلي والمرسلة إليه هو القارئ الفعلي (القراء) ــ وداخل هذه العلامة (النص) يوجد مرسل أخر، وهو المؤلف المجرد الذي يخلف (النص) لقارئ افتراضي، مجرد هو ايضاً، ويضم عالم النص بدوره مرسل هو (الراوي) الذي يبعث بعلامة أخري (المروي) إلي مرسل إليه، هو (المروي له)، المتعلق به(12).
ــ علامات المروي له:
هنالك عدة علامات قادرة علي تصوير المروي له وهو متنوعة إلي حد بعيد، وعلي الرغم من ذلك فان صورة المروي له تنشأ، قبل كل شيء، من السرد الموجه إليه، وإذا ما اعتبرنا إن أي سرد يتألف من سلسلة من العلامات الموجهة إلي المروي له، فأننا يمكن إن نميز صنفين أساسيين للعلامات. فمن جهة أولي، ثمة علامات لا تتضمن ذكراً للمروي له، ومن جهة ثانية، ثمة علامات تحدد بعينها الراوي للمروي له بكلمات مثل (القارئ أو مصغي) وبتعبيرات مثل (عزيزي أو صديقي أو ياسيدي). وثمة فقرات تومئ إلي المروي له وتصفه علي الرغم من أنها غير مكتوبة بصيغة مثل (علاوة علي ذلك، وفي اغلب الأحيان، نحن لانمكث في البيت، نحن ذهبنا لنتمشي) فان (نحن) تتضمن المروي له. وعن طريق استخدام صيغة لا شخصية أو ضمير عام، فانه غالباً ما يمكن للضمير (نحن) إن يشير إلي المروي له.
المروي له المعلن
(الداخل ــ حكائي)
إن المروي له ينتمي إلي مستوي الراوي دائماً، وهو علي صلة مباشرة به، ويبرز ذلك من خلال مناداة الراوي له واستدعاؤه إلي النص، ومن خلال توجيه كلام إليه، ومعني ذلك إن المروي عليه إن يؤدي سلسلة من الوظائف الفنية، وليس منها الاعتماد علي الضمير في تحديد المروي له ، لان الضمائر في السرد غالباً ما تتنازع وتتبادل أدوارها، وفي حركة دائماً تصعب مهمة اعتمادها كوسيلة للتحديد، إذ لا تتصف بالثبات. وفي مجموعة (ضوء العشب) لأنور عبد العزيز، نجد المروي له بارزاً في موضع وغير بارز في مواضع أخر.
ولقد لعب المروي له في قصة (الحكاية الأخيرة لأحمد سيد صادق) وظيفتين أساسيتين:
الأولي: تشمل كل ما يتعلق بالجانب الدلالي وعلي مجموعة القيم والأفكار التي يتبناها القاص: ((مات إذن وانتهي كل شيء كل حي يموت ويندثر، يعرفون ذلك ويحزنون وترعبهم وتشقيهم هذه الحقيقة)) (13)
الثانية: مجموعة الوظائف الفنية الجمالية، لعل أهم تلك الوظائف هو التلقي والتأويل، حيث يمتلك المروي له شخصية فكرية ومجموعة قيم ومعتقدات يؤمن بها، وله صوته الخاص والمتميز((أنت ستخرج بعد أيام وان طالت فلأشهر، وأنا مثبت راسخ مدقوق هنا كمسمار ــ بحكم مؤبد ولنهاية العمر، هو بيتي ومأواي...))(14)، إذا تستجيب الأنا الساردة لمتطلبات التحول المأساوي الذي يبرز واضحاً/ أنا مثبت راسخ مدقوق هنا كمسمار.
إن التنازع هنا ما بين الضمائر (أنت/ أنا) يدعو إلي حضور الأنا (الراوي) الذي يفترض بالضرورة أل...(أنت) أمامه فيري له، وان اختلفت درجة حضور الأخر
(المروي له)، فربما تزيد الدرجة زيادة تؤثر بدورها علي بناء الخطاب السردي.
إن الكاتب في هذا التشكيل اللغوي، إنما يستعير من الفضاء الشعري صفاءه، وكأن اللغة تأخذ علي طبيعتها الأسطورية لمحاورة الذات، التي لا ترضي بالمكشوف، فهو لا يروض اللغة للمضمون، بل يجعل منها أداة لمسائلته بوعي وإدراك لان ((المحكي التخيلي عندما يعي خصوصيته يعد ضرورياً لقراءة المهمل والهامشي والمتشكل عبر ثنايا الجدلية الحياتية)) (15). فالمتن القصصي عند أنور عبد العزيز يتعدي المظهر التصنيفي إلي التقاط تفاصيل الأمكنة والحركات (السجن ــ البيت)، والي استبطان ما يصطرع في الأعماق من مشاعر مضادة لما هو قائم حولها، حيث تغدو الاشارية وكثافة البعد الشعري هي المحرك لدينامية الأحداث كما يصبح التأويل ضرورة للقبض علي حيثيات المضمون.
ولعل الملاحظ في هذه القصة، هو إن السرد يبدأ عبر نقطة ضيقة، وغالباً مع الضمير ــ أنا ــ ثم يتنوع مع تنوع الضمائر مما يمد الحدث بانفتاحية اكبر، ويعود الراوي إلي نقطة البداية، وهكذا...
ومن خصائص هذا النمط من المروي لهم إن يكون بارزاً في السرد بصفة كبيرة أو ضعيفة، متأثرا بمسار الحكاية تأثر بليغاً أو ضعيفاً، إذ غالباً ما ينمو المروي له: الشخصية ويتغير من خلال تعاقب الأحداث المروية.
المروي له الخفي
(الخارج ــ الحكائي)
يتموضع المروي له داخل النص أو الفعل السردي، إلا انه قد يظل خارج الحكاية، وهي حالة المروي له (الخارج ــ 0 حكائي) ويكون شخصية مشاركة في تحريك أحداث السرد، وهي حالة (الداخل ــ حكائي) حيث يلعب فضلاً عن دوره الأصلي (تلقي السرد) أو يلعب أدوارا أخري، أهمها مشاركته الوظيفية في بناء الحكاية. ويحقق المروي له وجوده من خلال الخطاب الحكائي الموجه إليه، كيفما كان الحال. ومن طرف الراوي، فهو طفل أو شيخ، امرأة أو رجل، مثقف أو أمي، قروي أو حضري....فلابد لنا إن نعثر علي أدلة تؤكد انتماء المروي له لحقل ثقافي معين، أو تؤكد الصعوبات اللغوية التي يعاني منها أو تشدد علي ما يعانيه من نسيان، أو تلك التي توضح لنا معرفته بالمشكلة التي نتحدث عنها الخ...
وثمة فقرات داخل النص القصصي لا تشير صراحة إلي المروي له، بل تؤمي إليه علي الرغم من كونها تستخدم الضمير العام (نحن) التي تتضمن المروي له. كما يمكن إن يستخدم الراوي الأسئلة أو شبه الأسئلة التي تتضمن ايضاً المروي له. وكذلك استخدام الإنكار حتي وان كان انكاراً الهامياً. ويمكن للراوي إن يستخدم المسوغات المفرطة ليدل علي المروي له، وهذه المسوغات هي التي تعطينا تفصيلات مشوقة لمعرفة شخصية المروي له(16) ، وكذلك يمكن الكشف عن المروي له في الخارج ــ حكائي عن طريق التعليقات التي يذكرها الراوي وكذلك من خلال تذكر الراوي في العملية السردية.
ففي قصة (مرثية الفئران) يقول الراوي: ((لا ادري لم صار هذا البيت مرتعاً ومرعي للفئران برغم بؤسه وخلوه من الطعام، برميل الفضلات العتيق المبعوج القابع.
أمام الدار يظل خاوياً ولا يمتلئ إلا بعد أسابيع، وبرميل جاري الغني الأنيق يطفح بها كل يوم وليلة مغرقاً لامعاً بالدهون السائلة وبقشور الموز والتفاح والبيض وبذيول وحراشف الأسماك...وأغلفة وأكياس ملونة لسكا ير وحلويات ومرطبات.... لكن الفئران وكأنها عميت وماتت ذائقتها وانشلت حاسة الشم القوية الملتهبة فيها، فجرت ذلك المطبخ المترف وتلك الأطعمة الدسمة ــ لتغزو بيتي لا تتشمم فيه غير رائحة الأرض الممسوحة ونثار الجص الرطب المتعفن المتساقط من سقوف غرفة جدرانها)) (17) .
في هذا النص يظهر المروي له من خلال الأسئلة التي يطرحها الراوي (لاأدري لم صار هذا البيت مرتعاً ومرعي للفئران)، إذا يتوق القارئ إلي معرفة أي نوع من القراء يريد النص، كما يطمح إلي اكتشاف الطريقة التي يستعملها المؤلف النموذجي من اجل تسريب معلوماته، إذا ما أتيحت له فرصة التو هان في غابة السرد، وفي النهاية ينجح معظم القراء في الوصول إلي ممارسة يسميها (سلا توف) القراءة الجيدة مهما استزرع القاص علامات مضللة، لأنهم ــ القراء ــ يفعلون ذلك تعاطفاً مع أو تقرباً مما يظهر أخيرا علي انه هدف الكاتب الضمني أو الوجود الإنساني في العمل الأدبي، وعليه فان لحظة الذروة في القصة، بما هي لحظة فهم الأحداث تكمن في تشاطر المعني في النص بين القاص كمرسل، والقارئ كمرسل إليه. فالقارئ مدعو لفهم حقيقة النص والحكم عليه. كما يفعل القاص أنور عبد العزيز في قصته (مرثية الفئران) عندما عقد مقارنة بين الراوي في هذه القصة والقارئ الضمني لهذا النص. مما دعاه لاستدعاء المروي له للحكم علي هذه المقارنة بين (بيت الفقير الذي تسكنه الفئران) و(بيت الغني الذي لا تدخل إليه الفئران) وهكذا تدخل الراوي في هذا النص من اجل استدعاء المروي له للحكم. كما يقدم لنا النص ايضاً تعليقات الراوي فيقول: ((فهل يشكو عاقل من كثرتها وهي منذ قديم الزمان ومنذ اهراءات نبي الله يوسف ومخازن الحبوب وخوابي الحنطة والصوامع التي احتاط بها لسنوات القحط والجدب، كانت رموزاً للخير والبركة والوفرة والثراء...))(18)
لقد قدم لنا الراوي صورة معكوسة لهذه الفئران..صورة رمزية.. إذ ان قلة الفئران تعني خلو الدار من أنواع الأطعمة والاشربة بينما نراها ــ الفئران ــ موجودة بكثرة في داره الخالية منها، وهذه مفارقة تدعو للسخرية. كما إن عنوان القصة (مرثية الفئران) فيه مفارقة وهذه لعبة من القاص ذكية إذ قدم الفئران للسخرية من الواقع الاجتماعي الذي جعل من الفئران تأكل مصائد الموت بنفسها بعد إن لا تجد ما تأكله: ((فئران هذا البيت أكلت نفسها وأكلتني، فبعد إن التهمت تراب البيت و الجص المنثور والزوان اقتحمت ــ وقد ألهب جنونها الجوع ــ مصائد الموت.))(19). إن صيغة الخطاب المعروض غير المباشر: وهي اقل مباشرة من المعروض المباشر، لأننا نجد فيه مصاحبات الخطاب المعروض التي تظهر لنا من خلال تداخلات الراوي قبل العرض أو من خلاله أو بعده، وفيه نجد المتحكم يتحدث إلي أخر، والراوي من خلال تدخلاته يؤشر للمتلقي غير المباشر. فإذا كنا في المسرود الذاتي أمام متكلم يحاور ذاته عن أشياء تمت في الماضي، فإننا هنا نجده يتحدث إلي ذاته عن فعل يعيشه وقت انجاز الكلام. وهذا الخطاب (الذاتي) يتم عندما يتحدث المتكلم عن ذاته واليها عن أشياء تمت في الماضي، أي إن هناك مسافة بينه وبين ما يتحدث عنه.
كشف التعالق بين
المخيلة والذات
تتميز بنية الخطاب السردي في قصص أنور عبد العزيز في مجموعة (ضوء العشب) بطابعها الحداثي الذي تجلي في تعدد الأزمنة وتداخل أنساقها، وان كانت الهيمنة للزمن الاستذكاري، بفعل اشتغال الكاتب علي فعل التذكر في استعادة مراحل من تاريخ أناه الوجودي الذي يتعالق واناه الجماعي لتاريخ الموصل الحديث والمعاصر.
كشف تعالق الروائي/التخييلي، والسير ذاتي/ المرجعي، في قصص أنور عبد العزيز، وتفاعلها في تشكيل عوالم ألحكي، التي كشفها (المروي له).
أنتج تنوع الصيغ خطابات متعددة يتقاطع فيها الذاتي والموضوعي، الواقعي والعجائبي، الشعري والصوفي، وهي خطابات أغنت بنية خطاب هذه المجموعة القصصية جمالياً ودلالياً وشكلت تنويعات له. كشف بنية الخطاب السردي عند أنور عبد العزيز علي منطق التعاقب في الأحداث، علامة دالة في اشتغال الكاتب المكثف علي الذاكرة، فضلاً عن كون الذات تشكل موضوع التبئير والسرد في آن. أعطي الكاتب أنور عبد العزيز (للمروي له) مساحة صغيرة في نتاجه القصصي، كون الكاتب قد اعتمد علي السرد ألتتابعي في بناء الحدث.
http://www.alefyaa.com/index.asp?fna...torytitle=بنية الخطاب السردي في قصص أنور عبد العزيز