لقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نقدم - بأكبر قدر من الشمولية -
عرضا لتصورين مختلفين للشخصية داخل النص السردي :
- تصور بروب من خلال كتابه "مورفولوجية الحكاية العجيبة ".
- وتصور لوتمان من خلال كتابه "بنية النص الفني" (الفصل الخاص
بالشخصية).
فمن جهة توصلنا إلى أن بروب يضع
الشخصية في موقعين مختلفين : الموقع الأول هو موقع البنية، أي النص
باعتباره بنية عامة توجد في أساس تشكل النصوص الخاصة. ومن هذا
الموقع، فإن الشخصية تختصر في سلسلة من دوائر الفعل. وهذه الدوائر
نفسها ليست سوى تجميع لسلسلة من الوظائف المصنفة ضمن خانة دلالية
معينة. أما في الموقع الثاني، فإن الشخصية لا تشكل سوى تنويع ثقافي
لفعل أصلي يتجاوز الخاص والمتحقق ويعد عنصرا ثابتا داخل البنية :
الشكل الكوني.
ومن جهة ثانية، سمح لنا عرض
لوتمان باستخراج مجموعة من الخلاصات لعل أهمها أن الشخصية توجد في
أساس تشكل النص كنص ذي مبنى، يضاف إلى هذا وجود بنية دلالية هي
المبرر لوجود النص. فالشخصية ليست وليدة مستوى التجلي كما توهمنا
بذلك القراءة العادية، بل توجد لحظة استشراف بنية مجردة تعود إلى نص
ذي مبنى، أي يملك بعدا تصويريا يعد معادلا محسوسا لحد مجرد.
وسنحاول في الصفحات الآتية أن
نقدم عرضا عن تصور ثالث يعد، بشكل أو بآخر، امتدادا طبيعيا ومتطورا
للتصورين السابقين من حيث المتن الذي تم الاشتغال به، ومن حيث التصور
المعرفي العام الذي يحكم التصورين السابقين.
الوجود المحايث
يجب التذكير منذ البداية بأن الشخصيات باعتبارها مكونا من مكونات
النص السردي، لا تمتلك، في التصور الگريماصي، وجودا مستقلا يسمح
بمقاربتها بعيدا عن مشكلة الدلالية ذاتها. فالتفكير في الشخصيات هو
تفكير في سيرورة إنتاج الدلالة أي التفكير في المسار التوليدي الذي
يسمح للمعنى بالتحول إلى شكل قابل للإدراك. وبناء عليه فإن ما اصطلح
على تسميته بـ"النموذج العاملي" لا يشكل داخل الكون السردي تنظيما
استبداليا لسلسلة من الأدوار تقوم بأدائها كائنات ما فحسب، إنه أكثر
من ذلك. إنه مرحلة محددة داخل مسار يقود من المجرد إلى المحسوس (من
الإدراك المجرد للقيم إلى إدراكها بشكل محسوس ). بل يمكن القول إن
عالم المعنى، بتمنعاته وإغراءاته، لا يدرك إلا من خلال تجسده داخل
أدوار، إما على شكل صفات تحدد كينونة القيمة، وإما على شكل فعل يعد
وجها آخر للقيمة مجسدة داخـل حركة، أي مدرجة ضمن الممارسـة الإنسانية
الفعلية : البعد المعرفي في مقابل البعد البدني.
وعلى هذا الأساس يمكن القول إن كل
القيم المنتشرة في هذا الكون (بغض النظر عن مضامينها الإىجابية أو
السلبية) لا يمكن أن تدرك إدراكا حقيقيا إلا من خلال تجسدها داخل
جهاز، أي إسنادها إلى كائنات تقوم بترجمتها في أفعال أو صفات. ولعل
هذا ما يسمح لنا بالقول إن للقيم نمطين وجوديين مختلفين يقعان ضمن
مستويين مختلفين لإدراك هذا الكون :
- نمط يحدد هذه القيم على شكل ثنائيات، ومن هذا الموقع فإن هذه
القيم تمتلك وجودا مستقلا عن منتجها : أي المجموعة البشرية المنتجة
لكل القيم المادية والروحية ( الاستقلالية هنا استقلالية نسبية
بطبيعة الحال). وهذا يجعلها تشتغل، لحظة تجسدها في سلوك (صفة) أو فعل
(وظيفة) كسلطة لازمنية تمارس على الإنسان.
- ونمط يحدد هذه القيم على شكل ممارسة فعلية ( من الفعل )، وما
نعنيه بالممارسة الفعلية هو استحضار السياق الثقافي باعتباره لحظة
زمنية تقوم بتخصيص هذه القيم زمانيا من خلال إدراجهـا ضمن مرحلة
تاريخية معينة ( تاريخانية القيم الإنسانية ) وباعتبارها مضمونا من
خلال صبها داخل وعاء نص الثقافة الذي يقوم بتحديد تلوينها الخاص.
إن التجسيد هو المدخل الرئيس نحو
خلق سلسلة من الأنساق التي تقوم بتنظيم مجموعة القيم في أشكال محددة
في الزمان وفي المكان. وهذا التنظيم يتيح لهذه القيم بالدخول مع
بعضها البعض في شبكة من علاقات التشابه أوالتقابل أو الضد. ولعل هذه
العلاقات المتنوعة هي ما يحكم نمط إدراكنا للعالم، "فنحن لا ندرك إلا
الاختلافات، وبفضل هذا الإدراك يتخذ هذا العالم أمامنا ولنا شكلا
...] ذلك أن الدلالة تفترض وجود العلاقة، إن ظهور العلاقة بين الحدود
هو الشرط الضروري للدلالة."(1)
إن الأمـر لا يختلف مع النصوص
الفنية. فبما أنه لا يمكن الحديث عن منتوج ما ماديا كان أم روحيا
خارج حدود القيـم بإرغاماتها وعلاقاتها وأشكال تحققها، فإن العمل
الأدبي، كما يرى ذلك تودوروف، يمكن النظر إليه باعتباره تمظهرا لبنية
مجردة بالغة التعميم، ولا يشكل هذا العمل، داخل هذه البنية، سوى تحقق
خاص ضمن تحققات أخرى ممكنة. وبعبارة أخرى إننا ندرك العمل الأدبي
باعتباره جزءا من نص عام هو نص الثقافة.
من هنا كان تصور گريماص للسردية
ولاشتغال النص السردي قائما أساسا على وجود مستوى محايث محدد في بنية
دلالية مجردة ( أو محور دلالي ) تنتظم داخلها سلسلة من القيم
المضمونية المتمفصلة في سلسلة من العلاقات الموجهة. ومن هذه الزاوية
بالضبط سنحاول قراءة مشروع گريماص، وخاصة الجانب المتعلق ببناء
الشخصية وبنمط اشتغالها داخل النص السردي.
لقد أشرنا فيما سبق إلى أنه لا
يمكن أن نتحدث عن الشخصيات في التصور الگريماصي دون التساؤل عن كيفية
إنتاج المعنى والتحكم فيه. ذلك أن هذا العالم يمثل أمامنا على شكل
كيان متصل، أي مادة مضمونية تحتاج - لكي تدرك - إلى عملية مفصلة
تمنحها شكلا للوجود. فالنموذج العاملي - إحدى المقولات الهامة داخل
النموذج التحليلي الذي يقدمه گريماص - لا يمكن فصله عن النموذج
التكويني باعتبار أنهما يحتلان نفس الموقع داخل المستوى المحايث، أي
الشكل التنظيمي الأولي لعالم قابل للتحقق.
وبناء عليه سنتناول بالتحليل
بعدين رئيسيين داخل المسار التوليدي :
1 -البعد الأول يعود إلى النموذج العاملي وموقعه داخل هذا المسار.
2 -البعد الثاني يخص بنية الممثلين وموقعها أيضا داخل هذا المسار.
واستنادا إلى هذا، سنحاول ضبط
عملية التحول من العامل إلى الممثل، وارتقاء الممثل إلى موقع عامل
ضمن عملية جدلية تربط محطات المسار التوليدي بعضها ببعض. وهذا الربط
بين المستويات والانتقال من مستوى إلى آخـر داخل المسار التوليدي
المسؤول عن إنتـاج وتداول المعنى هو ما حاولت نظرية گريماص إنجازه
عبر الاعتماد على تصور يجعل من الدلالة كيانا لا يعبأ بمادة تمظهره.
ومن " أجل الوصول إلى ذلك كان على هذه النظرية أن تعمق - انطلاقا من
أعمال بروب - بنية التنظيم العاملي / الحدثي، واختصار التدليل اللفظي
في علاقات عاملية على نفس القدر من التجريد الذي تتميز به التمفصلات
المعنمية التي تقوم، إجمالا، بمراقبة التقطيع التوزيعي. ( 2 )
1 - المسار التوليدي وبناء الشخصية.
وهكذا يقترح گريماص، في أفق إنتاج
الدلالة والإمساك بها، ثلاثة مستويات داخل المسار التوليدي، وكل
مستوى من هذه المستويات يشتمل على مكونين :
- مكون دلالي
- ومكون تركيبي
وكل مكون يقود إلى الآخر ضمن سيرورة منتظمة تقود إلى تحديد
الدلالة داخل كون مـا. إن المكون الدلالي داخل المستوى الأول يتشكل
مما يسميه گريماص بالدلالة الأصولية المدركة كبنية دلالية أولية.
وتتميز هذه البنية بطابعها المنطقي اللازمني. إننا أمام كتلة فكرية
عديمة الشكل غير قابلة للإدراك، إلا إذا انفجرت في قيم متحققة على
شكل مسارات مشخصة في المستوى السردي. وبما أن الأمر كذلك فإن "وصف
هذه البنية، في استقلال عن استعمالها، أو في استقلال عن القدرة في
التحكم فيها تركيبيا، سيختصر في تحيين مفصلة، أو تقطيع شكلي في وحدات
دلالية مختلفة. " (3) وسنكون مع هذه البنية، أمام سلسلة من الثنائيات
من نوع :
أبيض (م) أسود
طويل (م) قصير
حرية (م) استعباد الخ
وهذه الثنائيات غير قابلة، في ذاتها - لإنتاج دلالة ما إلا إذا
دخلت في شبكة من العلاقات تمنحها وجها إجرائيـا. وهذا الوجه الاجرائي
هو ما يشكل المكون التركيبي داخل المستوى الأول. ولا نقوم - داخل هذا
المستوى - إلا بنقل البنية من وضع إلى وضع، من حالة إلى حالة أخرى.
من حالة السكون والثبات إلى حالة الحركة والزمنية. إن الوجه التركيبي
للبنية الدلالية يقتضي طرح سلسلة من العلاقات يجملها گريماص في :
- علاقات ضدية
- علاقات تناقضية
- علاقات اقتضائية
وهذه العلاقات هي ما يشكل المربع السميائي، أو النموذج التكويني.
ذلك أننا نقوم بعملية إسقاط لحدود المقولة المعنمية التامة
(المحورالدلالي ) كـ : "حجم" على المربع السميائي لنحصل على الترسيمة
التالية :
فمن أجل انتقاء العنصر الضدي يجب إسقاط العنصر المناقض. وبناء
عليه فإن إسقاط المحور الاستبدالي على المحور التوزيعي معناه استخراج
العمليات من صلب العلاقات. فإذا كان النص السردي ينطلق من حالة بدئية
إلى حالة نهائية ضمن سيرورة خطية معطاة من خلال التجلي السطحي، فإن
هذا يفترض أننا ننتقل من طرح حالة من أجل نفيها للوصول إلى طرح حالة
من أجل إثباتها. فما بين الحالة الأولى والحالة النهائية، تتسرب حالة
لا يمكن أن تتطابق لا مع الحالة الأولى، ولا مع الحالة النهائية.
إنها لحظة سردية تستوعب داخلها إمكانيات النفي والإثبات (ما يشكل،
على المستوى التركيبي، دائرة التحول) . "فعندما يتم إنجاز عملية من
هذا النوع على حدود مستثمرة قيميا، فإن ذلك سيؤدي إلى تحويل
للمضامين: نفي المضامين المطرحة وإثبات أخرى. (4)
أما المستوى الثاني فيتكون هو الآخر
من مكون تركيبي ومن مكون دلالي. فإذا كان التركيب في المستوى الأول
هو عملية قلب تجعل من العلاقات تشتغل كعمليات (عوض أن ننظر إلى
المربع السميائي كسلسلة من العلاقات ذات الطابع اللازمني، سننظر إليه
باعتباره سلسلة من العمليات )، فإن التركيب في المستوى الثاني يقتضي
عملية قلب جديدة تُجرى هذه المرة على العمليات ذاتها. وهذا القلب لن
يتم إلا من خلال تحويل العمليات إلى فعل تركيبي يستدعي دخول ذات
الخطاب كشرط ضروري لتحريك المربع السميائي. ويطلق گريماص على هـذه
العملية : التسريد ( narrativisation) . (5)