منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    مقاربة منهجية وتطبيقية للمعنى السردي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    مقاربة منهجية وتطبيقية للمعنى السردي Empty مقاربة منهجية وتطبيقية للمعنى السردي

    مُساهمة   الثلاثاء مارس 01, 2011 11:23 am

    ليس خافياً أن التحليل البنيوي
    للسرديات الأسطورية القديمة بدأ مع عالم الأنثربولوجيا الشهير كلود ليفي
    شتراوس، الذي كان أول من اعتبر الأساطير البدائية تنويعات على مواضيع
    أساسية، يضمّ نسقها الحكائي بنى كونية ثابتة، تنهض عليها حبكة كلّ قصة
    أسطورية، بمعزل عن منشئها الثقافي والديني والتاريخي. فالأساطير تشكل «لغة»
    مستقلة يمكن تفكيكها إلى مكونات أساسية هي بمثابة قواعد تنظّم مسار حركة
    السرد، وتوجّه بوصلة الأحداث. ناهيك أنها تتمتّع بنوع من الوجود الجمعي،
    المستقل عن التفكير الفردي، وتتآلف بنيوياً في شبكة علاقات رمزية ودلالية،
    لا رابط يجمعها بما يسمّى الواقع أو الحقيقة. إنها، باختصار، تمثل ذاك
    «الخارج» النصّي الذي يملك خطابه وحقيقته وكيانه.
    وكان الشكلاني الروسي فلاديمير بروب سبّاقاً في إرساء دعائم السيميايئة
    السردية، في كتابه (مورفولوجيا الحكاية الفلكلورية)، الصادر عام ,1928 حيث
    اختزل أنواع الحكايات الفلكلورية إلى سبعة نماذج، ورأى أنها محكومة بإحدى
    وثلاثين وظيفة ثابتة، تنظّم متتاليات الحكاية ونسقها السردي. وقد عرّف بروب
    «الوظيفة» بالوحدة الأساسية في اللغة السردية التي تشير إلى فعل من أفعال
    السرد. لكنّ السيميائي الفرنسي جوليان غريماس أراد أن يكسر هذه الوظائف، من
    أجل التأسيس لنحوية «كونية» للسرد، عبر تحليل بنية الجملة السردية،
    واستنباط نحوها وصرفها، وقد شكّل كتابه (السيميائية البنيوية)، الصادر عام
    ,1966 انعطافة هامة على صعيد نقد النص السردي، وإعادة الاعتبار لما يمكن
    تسميته بنية المضمون، أو شكل المحتوى. وأكمل جهد غريماس مواطنه الفرنسي
    جيرار جينيت في كتابه (الخطاب السردي) الصادر عام ,1972 وفيه يقدّم تحليلاً
    شيقاً لرواية مارسيل بروست (البحث عن الزمن الضائع)، ويقيم تمايزاً بارعاً
    بين التسلسل الكرونولوجي للأحداث، وبين النسق البنيوي الذي تقع فيه هذه
    الأحداث، مستبدلاً الثنائية القديمة التي اقترحها الشكلانيون الروس في
    تمييزهم بين الحبكة (plot) والقصة (story)، فالأولى تركّز، فنياً، على مبدأ
    السببية، والثانية على تدفّق الحدث. ويحلل جينيت تعدّد الأصوات السردية في
    رواية بروست، والعلاقة بين السارد والمتلقي، مميزاً بين سارد غائب وآخر
    حاضر، وثالث هو بمثابة سارد حاضر، لكنه أيضاً يلعب دور الشخصية المحورية في
    سرده.
    واستكمالاً لهذا الجهد النقدي، نشر الناقد الفرنسي جوزيف كورتيس كتابه
    (مدخل إلى السيميائية السردية والخطابية)، المترجم حديثاً إلى العربية،
    والصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون (2007)، بترجمة الباحث الجزائري
    جمال حضري. وتكمن أهمية الكتاب في أنه جاء ليشكّل حلقة وصل بين بنيوية
    شتراوس وسيميائية غريماس. ويعتبر المؤلف كورتيس من أهم أعضاء مدرسة باريس
    السيميائية، حيث تتلمذ على يد غريماس نفسه، الذي زوّد الكتاب بمقدمة مفصلة
    تشرح مراحل تطور النقد السيميائي، والدور الذي اضطلع به بروب في تحليل
    البنى السردية. أما مقدمة الترجمة العربية فأعدّها الناقد المغربي جميل
    حمداوي الذي يرى أنّ كورتيس كرس جهده النقدي لدراسة منحى صعب في اللسانيات
    وهو المدلول أو جانب المعنى، عبر استكشاف القوانين والقواعد الثاوية التي
    تتحكم في توليد النصوص. والحق أن كورتيس في هذا الكتاب، يقدم دراسة منهجية
    وتطبيقية مركّزة، تنصرف في جزئها الأول إلى تقديم مسح شامل للأفق السيميائي
    النقدي، وإبراز أهم المفاهيم والمصطلحات التي تؤسس للرؤيا السيميائية،
    انطلاقاً من الأشكال الخطابية الممكنة، كالحكايات المكتوبة والشفوية،
    محدداً أهم القوانين التي تؤسس لما يسمّيه «فعل الحكي» في حياتنا. ويغلب
    على مقاربته المنهجية الطابع الاستقرائي، إذ يسعى إلى رصد حضور المعنى،
    ووصف مساراته، أفقياً وعمودياً، والابتعاد عن المقاربات التقليدية،
    البلاغية والنفسية والذاتية، محدداً نقطة انطلاقه من اللسانيات الفرنسية
    التي بمقتضاها «يُعتبر اللسان فعلاً اجتماعياً»، عكس أبحاث الأميركي نعوم
    تشومسكي، الذي يقف إلى جانب الفرد المتكلم. من هنا تحديده القصة الشعبية
    كمثال للمنتج الجمعي الذي يتشابك فيه التعبير مع المحتوى، ويكون الخطاب
    مشروطاً دائماً بوجود المعنى. هنا يحدّد كورتيس، وعلى غرار أستاذه غريماس،
    مستوى المحتوى كحقل للتحليل، فالعمل السيميائي يهمل مستوى الشكل اللساني،
    من أجل العمل داخل حقل المدلول ذاته. ويصنف كورتيس مستوى المحتوى إلى
    عنصرين: «نحوي» يسمح بتركيب وربط الملفوظات السردية، و«دلالي» يوافق
    استثمار الانتظام الشكلي. وانطلاقاً من هذين المكونين، يجري تحلليه في
    اتجاهين: الأول يواجه جوهر المحتوى، والثاني يعالج شكله الذي يشتمل بدوره
    على جوهر أعمق، في دراسة جدلية لعلاقة الوحدات النحوية بالوحدات الدلالية.
    ويستنتج كورتيس أن العلاقات النحوية ليست شكلاً محضاً، بل تدخل في عملية
    التكييف الدلالي بحيث يصعب الفصل بين المفردات وما تنتجه من علاقات دلالية.
    هكذا، ومن أجل استكشاف المحتوى، يفرد الباحث فصلين مستقلين لدراسة كلّ من
    المكونين الصرفي والتركيبي، متبعاً أسلوب البحث السيميائي الدقيق، الذي
    يقترب من طريقة التحليل الرياضي، في تفسير وإيضاح العلاقة الملتبسة بين
    الشكل المضمون، ومركزاً بوجه خاص على البنية السردية والخطابية. وفي نهاية
    هذا الجزء، يتطرق الباحث إلى الخصائص الشكلية للحكاية، حيث ينظر إليها
    «كنظام وإجراء» في آن واحد، ففي المستوى العميق ثمة نظام تصنيفي للقيم
    المستثمرة داخل الحكاية، قابلة للتكون داخل الدائرة السيميائية، كما أن ثمة
    مستوى سطحياً، يُفهم كتمثيل مؤنسن للمستوى العميق. ولا يكتفي كورتيس
    بالوقوف عند ثنائية المرسِل والمرسَل إليه لدراسة المعنى الثاوي، أو دراسة
    الدوال وطريقة عملها، بل يهتم أيضاً «بالفعل الإنساني للتواصل»، من خلال
    دمج هذا الفعل كلياً داخل إطار النحو السردي.
    القصة الشعبية الفرنسية
    وفي الجزء الثاني من الكتاب، يقدّم الناقد قراءة تطبيقية شاملة للقصة
    الشعبية الفرنسية المعروفة (سوندريون)، وهي المدونة الصغيرة التي تعيد سرد
    قصة سندريلا الشهيرة، الفتاة الفقيرة التي تتعرض للقمع، على يد شقيقاتها
    وزوجة والدها، لكنها سرعان ما تجد نفسها طريدة أمير غني يسعى للزواج منها.
    ويدرس كورتيس هذه القصة من منظورين اثنين هما السّردية والخطابية، مفككاً
    أدق عناصر الحكاية، ومنشئاً معجماً سردياً مستقلاً، حافلاً بالرموز
    والمصطلحات والمفاهيم. ويرى كورتيس أن الحكاية موزّعة بين عنصري الإرادة
    والفعل، وبينهما سلسلة لا تنتهي من الوصلات العاطفية، تُوزّع فيها الأدوار،
    وتنقلب الوظائف أو تتحوّل. ويسوق مقاطع من حكاية سوندريون للتدليل على
    ذلك. فالأمير جلب الحذاء لأبيه، الملك، وقصّ عليه كل ما جرى، وأعلن له أنه
    يحبّ فتاة الحفلة، وبأنه لن يتزوج غيرها. ويرى كورتيس أن «إرادة» الزواج
    أُعطيت للأمير بطريق غير مباشر، من خلال الجنية التي أعلمت سوندريون عن
    المشروع القاتل لزوجة الأب، فالمعرفة التي أعطيت للبطلة تصبح بالنسبة
    للأمير شرطاً للقدرة، وتالياً لوقوع الفعل. وللحذاء في الحكاية وظيفتان
    مختلفتان ومتضادتان، فهو، من جهة، يمثل عنصراً مكوناً للزينة، ويظهر كجزء
    من صورة «القناع»، ومن جهة ثانية، يمثل علامة سيميائية باعتباره يلائم
    كينونةَ جسم الأميرة. هنا يتجاوز كورتيس نظرية التواصل التي أسسها فرديناند
    دو سوسير، قافزاً فوق الشكل اللغوي للخطاب السردي، باتجاه بحث علمي ومنطقي
    عن البنى الثابتة التي تولّد الدلالات، على نقيض اللسانيات الوصفية التي
    تهتم بالدال وحده. ويعترف كورتيس في نهاية تحليله التطبيقي أنه لم يحتفظ من
    هذه الحكاية إلا بالعناصر التي بدت ملائمة لشرح السيميائية السردية
    والخطابية التي اعتمدها، مبرزاً المعنى النصي من زاويتين أساسيتين: المكوّن
    السردي، الذي ينظم تتابع الشخصيات وحالاتها، والمكون الخطابي الذي يتحكّم
    في تسلسل الصور وأصداء المعنى، دارساً، على المستوى السطحي، البرنامج
    السردي ومكوناته الأساسية، كالتحفيز والكفاءة والإنجاز والتقويم، وعلى
    المستوى العميق، المكون الدلالي، عبر استقراء «الكيفيات» المضمرة والظاهرة
    لآلية عمل النص، وتشخيص علاقات التضاد والتناقض التي تحكم الفعل السردي في
    هذه القصة الشعبية الشهيرة.
    إنّ الجديد في القراءة السيميائية (semiotics) التي يعتمدها كورتيس هو
    تركيزه على أهمية تحليل المحتوى، منطقياً وعلمياً، وضرورة رسم خريطة
    تطبيقية للكيفية التي تتشكّل فيها الدلالات النصية، على عكس ما تقوم به
    السيميولوجيا الحديثة (semiology) التي تُعنى بالتصورات النظرية لعلم
    العلامات فحسب. وقد لجأ كورتيس إلى تفكيك عناصر المعنى النصّي، مستفيداً من
    نظريات شتراوس وبروب وغريماس، ومضيفاً إليها رؤى ومعايير نقدية جديدة.
    وبالرغم من كثرة المعادلات والجداول والرموز التي حفل بها الكتاب، والتي قد
    تحول دون تفاعل القارئ معها بسهولة، إلاّ أن كورتيس ينجح بتجاوز المقاربة
    البنيوية الصارمة، ليقدّم تشريحاً دقيقاً للسّرد النصي. وتجدر الإشارة إلى
    أن رولان بارث كان أول من أدرك عقم المغامرة البنيوية، بعد أن اصطدم بحائط
    البنية، وأعلن موت المؤلف، ليعود ويوقظ الحسّ الجمالي والبلاغي في قراءة
    الأدب، مستنهضاً ما أسماه «لذّة النص»، متجاوزاً بذلك ثنائية الدال
    والمدلول، أو ازدواجية اللغة والكلام، التي كان اقترحها اللغوي فرديناند دو
    سوسير في مطلع القرن المنصرم، والتي لا تزال تهيمن على حقل الدراسات
    اللسانية والبنيوية حتى وقتنا الراهن.






      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 2:52 am