عناصر الثبات والتغير في تجربة جمال فايز القصصية
من
الرقص علي حافة الجرح إلي الرحيل والميلاد
بقلم: صالح هويدي
ينتمي القاص
جمال فايز الي ما يعرف في الخطاب النقدي تجوزا ب جيل الثمانينات بعد ان صدرت له
ثلاث مجموعات قصصية يرجع زمن كتابة بعض قصصها الي منتصف الثمانينيات، وان كان هذا
التاريخ لا يمثل الولادة الفنية لهذا الصوت القصصي، بقدر ما يمثل الجانب التاريخي
التوثيقي لتجربة القاص.
من هنا فإنه يمكن القول ان مرحلة التسعينيات هي المرحلة التي تمثل الولادة الحقيقية للقاص. وقد لا نبعد عن الصواب اذا قلنا ان تتبع الخطاب النقدي العربي للمسيرة الادبية المعاصرة شعرا وسردا وتقسيمه لها الي مراحل فنية ما يزال يمثل اشكالية حقيقية، ليس في قطر ودول الخليج وحدها، وانما في الوطن العربي كله. | |
لقد تجنب
الخطاب النقدي العربي المهمة الشاقة التي تستدعي منه التوفر، في كل بلد من بلدان
الوطن العربي، علي متونه الأدبية بغية قراءتها قراءة نقدية ترصد عناصر الثبات
والتغير في مسيرتها فنا ورؤية ، وتستقريء أبرز ملامحها، وصولا الي اجتراح رؤية
نقدية لمراحل تطور هذه المسيرة أو تلك.
ان غياب هذه
التقاليد عن الخطاب النقدي هو الذي حدا به الي الدعة والركون الي ممارسة لون من
التقسيم النقدي لا ينطلق من واقع البنية الفنية للنصوص، بقدر ما ينطلق من افتراضات
نقدية واهمة، تري ان بامكان الخطاب النقدي ان يتلمس متغيرات مرحلة جديدة في مسيرة
هذا الأدب كل عشر سنوات!. من هنا كان الحديث عن شعر سبعيني عراقي أو يمني، وعن قصة
ثمانينية مصرية او خليجية، وعن رواية تسعينية مغربية أو سورية.. الخ.
ان تقسيم
الخطاب النقدي مسيرة الشعر والقصة والرواية العربية الي مراحل، يعتمد فيها علي
معيار العقد الزمني، بقدر ما يمثل حالة من الدعة والاستكانة، فإنه لا يعبر تعبيرا
دقيقا عن الدلالة الفنية أو الزمنية لمصطلح الجيل!.
وإذا كانت
مسيرة الفن السردي المعاصر في دول الخليج قد تأخرت في ظهورها عنها في كثير من الدول
العربية، فإن هذه المسيرة قد شهدت في دولة قطر تلكؤها وعدم تبلورها علي النحو الذي
شهدته بعض تجارب دول الخليج العربية نفسها. لكن هذه الرؤية العامة لم تحل دون ظهور
عدد من القصاصين المبدعين الذين وقفوا في ما قدموه من عطاء ابداعي جنبا الي جنب مع
اقرانهم القصاصين في دول الخليج او في الدول العربية الأخري.
ولعل من
نافلة القول التوكيد علي حقيقة واضحة في مسيرة القاص جمال فايز، تلك هي سعيه الدائب
نحو امتلاك عناصر الجدة والتغير، وبما يضمن له تطورا لا تخطئه عين القاريء الجاد في
مجاميعه القصصية الثلاث التي صدرت له.
ففي الوقت
الذي شكلت مجموعته القصصية الأولي (سارة والجراد) محاولة لامتلاك صوت قصصي وتجربة
نحو بلورة هوية سردية لم يكتب لها التوفيق الكامل، بعد ان ضاعت بين تخوم فنيّ القصة
والمقالة من جهة، والوعظ والابداع من جهة اخري، حتي ليصبح اطلاق مصطلح المقاصة الذي
سبق للقاص فؤاد التكرلي ان اطلقه علي بعض تجارب كتابة القصة في العراق في مراحلها
المبكرة.
في المجموعة
الثانية للقاص جمال فايز الرقص علي حافة الجرح (1) ثمة متغيرات يلمسها قاريء
المجموعة علي مستوي اللغة والوظيفة والرؤية والأداة. وهو تغير يمثل درجة من التطور
الفني وان خالطها بعض مظاهر المجموعة السابقة، ولم تكن تمثل نقلة نوعية في مسيرة
القاص. فعلي مستوي اللغة بدت التراكيب والأسلوب جميعا اكثر طواعية وألفة للقاريء،
مما جعلها تبدو ذات دور وظيفي بعيد عن آفات الاستخدام المقصود لذاته.
لكن ما يلحظ
علي قصص الرقص علي حافة الجرح طغيان الوظيفة الوعظية عليها، وهي نبرة ساعد علي
بروزها اندراج جل هذه القصص - إن لم يكن كلها - ضمن رؤية الواقعية النقدية التي بدت
المجموعة وفية في التعبير عنها.
ولعل هذا ما
قاد ايضا الي وقوع اجواء قصص المجموعة تحت طائلة أجواء الرؤية المعتمة، بما فيها من
فشل واحباط ونهايات سلبية، مأساوية.
وعلي مستوي
رؤية الراوي السوداوية وعلاقتها بالمنظور القصصي، فإننا لا نجد من بين قصص المجموعة
القصصية الاثنتي عشرة سوي قصة واحدة قدم فيها السارد رؤيته من خلال ما يعرف بالراوي
المشارك هي قصة الركض في الوحل ، التي بدا فيها واحدا من شخصياتها، لا يملك سلطة
المعرفة المطلقة شأن الراوي العليم، أو أكثر مما تعرفه سائر الشخصيات القصصية. في
حين انصرفت قصص المجموعة المتبقية الي استخدام صيغة الراوي المحايد تارة، والراوي
كليّ العلم اخري، في شكل حضور لضمير الغائب وليس لضمير المتكلم كما هو الحال في
القصة السابقة الركض في الوحل .
اما علي
مستوي التوظيف الفني لوحدة الزمان في مجموعة الرقص علي حافة الجرح ، فإن ثمة نمطين
يمكن للقاريء تلمسهما، الأول: ويندرج ضمن التوظيف التقليدي للزمن، اذ تسير احداث
القصة فيه في شكل تصاعد خطي بدءا وانتهاء متابعة بذلك الترتيب المنطقي لها، من
الماضي الي الحاضر. وقد مثلت هذا اللون التقليدي سبع قصص من قصص المجموعة.
اما التوظيف
الثاني للزمن، فيمثله الحضور غير المنتظم وغير التقليدي لترتيب الاحداث، وفي هذا
الاخير يمكن للقصة ان تبدأ بالزمن الحاضر ثم ترتد الي الماضي لتعود الي الحاضر
مجددا، في شكل تداخل زمني للأحداث او مناوبة لمعطياتها الزمنية، وقد مثلت هذا اللون
من التوظيف المتداخل خمس قصص فقط من المجموعة هي: فحيح العاصفة، وفئران وحجارة،
وتوحد، وحطام المسافات البعيدة، ويوم الحصاد. أما علي مستوي الثيمة المهيمنة علي
اجواء المجموعة، فيمكن ملاحظة طغيان العظة القصصية التي تهدف الي تعرية سلوك الجيل
الجديد ممثلا في الشاب الذي رفض دخول الكهل غرفة الطبيب قبله لتلقي العلاج في قصة
الكهل الصغير . علي الرغم من كبر سنه وتداعيه وشدة حاجته للعلاج، فضلا عن تعرية
الراوي لظاهرة تخلي المجتمع عن دوره في رعاية الأبناء والعناية بهم، بدلا من تركهم
يموتون بين أيدي الخدم. مثلما تجلت العظة في سلوك الابن العاق تجاه ابيه الذي يدخل
صافعا الباب وراءه، دونما اكتراث لوجود الأب في قصة حطام المسافات البعيدة . ومثلها
قصة فحيح العاصفة التي نلمس العظة فيها من خلال موقف الابن العاق الذي يهمل وراءه
اباه الذي يفترش رصيف المسجد تاركا إياه لعبث الصبية واذاهم، وتتجلي هذه العظة في
ضياع الأرض وموت حاميها في قصة فئران وحجارة . كما تتجلي في قصة الرقص علي حافة
الجرح في تعري الأمتعة التي يتخفي وراءها الناس في مجتمعاتنا كما هو الحال في شخصية
المرأة المنقبة، وتعريتها التباين الطبقي الفاحش في قصة تابوت من لحم ما بين ثراء
فاحش وعجوز لا يحصل علي قوت يومه.
وتتمثل العظة
في قصة المكافأة في تعرية حالة النفاق التي يجسدها زملاء الشخصية المحورية حيال رب
العمل، مثلما تتمثل في سلوك الأب التحكمي إزاء الابن وما ادي اليه من لجوء الأخير
الي مغادرة البلاد والرحيل عنه في قصة يوم الحصاد .
وتتجلي هذه
العظة في قصة إظلام في جحود الأبناء لأمهم، كما تتمثل في تفرق ارادات الاخوة الذي
ادي الي ضياع الأخت الحسناء في الركض في الوحل ، وفي اقامة الفوارق بين بني الانسان
علي أساس من اللون في قصة توحد .
ان الموت
والتردد وضياع الأم تارة والأب أخري والتنكر للأب ورحيل الابن والتمييز بين الناس
علي اساس من اللون وضياع الأرض، كل تلك نهايات سلبية ومصائر مأساوية حاول القاص
اشاعتها في نسيج البنية السردية، في مهمة اشبه بدق جرس الانذار اشعارا بامكان
حدوثها.
واذا كان
الحس المأساوي والنغمة السوداوية هما اللذان يميزان العالم السردي لمجموعة الرقص
علي حافة الجرح من جهة، وهيمنة تكنيك القصة - العظة، فإن ملمح تكثيف البنية
السردية، تكثيفا ملحوظا يبدو واضحا هو الآخر، حتي ان عددا من هذه القصص لا يمكن
تصنيفه إلا ضمن النمط المعروف بالقصة القصيرة جدا. وهو التكنيك الذي سنلحظ امتداده
في قصص مجموعة القاص الثالثة الرحيل والميلاد بالقدر نفسه من الحرص.
في مجموعة
القاص الثالثة الرحيل والميلاد (2) نلحظ عددا من المتغيرات في مسيرته القصصية فضلا
عن احتفاظ هذه المسيرة ببعض مظاهر البنية الفنية التي عبرت عنها مجموعتاه
السابقتان، فنيا ومضمونيا.
فعلي مستوي
الشكل الفني للبنية القصصية نلحظ استمرار النهج المتمركز حول التكثيف القصصي الذي
يجعل القصة لدي القاص تراوح بين بنيتي القصة والقصة القصيرة جدا. كما نلحظ استمرار
اسلوب تقطيع المبني الحكائي الي عدد من الفقرات التي تحمل كل منها رقما، وهو اسلوب
ينبغي للقاص اعادة النظر في استخدامه. فليست كل قصة بحاجة الي مثل هذا التكنيك، وان
الاصرار عليه يجعل من المبني الحكائي متشابها وخاضعا لمنطق واحد، وربما اعتباطيا،
فضلا عن ان اللجوء اليه في كل قصة من شأنه اعطاء انطباع لدي القاريء بقصر نفس القاص
عن اقامة حبكة قصصية مقنعة وحدث متنام، والاستعاضة عنه بالتقطيع الذي يتخذ دور
العكاز الذي يتكيء عليه القاص.
وبعبارة
اخري، فإن لتكنيك التقطيع مسوغات فنية يفرضها واقع النسيج الفني للقصة وتطور الحدث
النائي فيها.
وعلي مستوي
المنظور القصصي للراوي نلحظ تغليبا لمنظور رؤية الراوي المحايد الذي يتخذ من
استخدام ضمير الغائب وسيلة فنية تتيح له مراقبة تطور الحدث القصصي ومواقف شخوص
القصة عن بعد في مقابل انكماش الرؤية المحدودة للراوي المشارك المعبر عنه بضمير
المتكلم، الي قصتين اثنتين من بين ست عشرة قصة ضمتها مجموعة الرحيل والميلاد هما
قصتا: وما تبقي من شظايا المحار ، و جذور الكرسي المتحرك .
وإذا كانت
المجموعة الأخيرة للقاص شهدت طغيان منظور الراوي المحايد، فإن التوظيف الفني للزمان
التقليدي الذي يتجلي في هيئة تصاعد خطي يعتمد التسلسل المنطقي للزمن، بدءا بالماضي،
فالحاضر، فالمستقبل، هو الذي استحكم بالبنية الفنية للقصص جميعا، فلم نر التفاتا
لأسلوب الارتجاع او التناوب الزمني في طريقة سرد الاحداث.
لكن الخطوة
الفنية الأكثر حضورا وتقدما في مسيرة القاص جمال فايز تتمثل في تخلصه من ملامح
البنية الوعظية التي هيمنت علي جل قصص مجموعته السابقة الرقص علي حافة الجرح وحدت
من تمثلها للوظيفة الجمالية لفن القصة، بمعناها الحداثي.
ان نأيا
واضحا عن الثيمة الوعظية المهيمنة علي البنية الفنية قد اسهم في احراز نص القاص
موقفا فنيا متقدما ووظيفة جمالية افتقدتها مجموعته السابقة.
فلم يعد
القاص معنيا بأن تفصح قصته عن عبرة او توصل عظة الي القاريء، بقدر ما بدت قصته
مشحونة بطاقات ايحائية او مستخدمة وسائل رمزية تستدعي تأملا وتدعو القاريء الي
المشاركة في اعادة انتاج الدلالة الكامنة في معظم هذه النصوص التي لم تعد نصوصا
واضحة او ذات ابعاد مباشرة.
ففي قصة وما
تبقي من شظايا المحار يصبح لتغير شكل الموال الذي تتغني به الشخصية المحورية معني
ذا دلالة خاصة، مثلما تكتسب الاشارة الي تكبيل السفينة القديمة بالسلاسل الحديدية
وسير الشاحنات صوب جهة الغرب طاقة ايحائية تنداح ضمن الجو العام للقصة الذي تعمقه
الاشارة الي احتباس المطر برغم اكتظاظ السماء بالغيم وادعاء الناس بالسقيا.
ولا ينفصل عن
هذا التوظيف الفني المحتشد بطاقة ايحائية لم نألفها من قبل في قصص القاص، ذلك
المشهد الذي اختتمت به القصة وبدأت الشخصية المحورية فيه، بعد ان فقدت وسائل عيشها
وجردت من نسقها الحي، تتواري في أمواج البحر وتغيب قامتها لتوحي من ثم بأن المحاولة
ربما تكون الخيار النهائي للشخصية الذي قد لا تظهر بعده.
وتتضافر
لوحات المشهد القصصي النامي نموا عضويا ناجحا في قصة دويبات الباب الخشبي من خلال
تكرار ابناء الرجل ومن بعدهم احفاده طرق بابه، سنوات طويلة لاقناعه عبثا ببيع
البيت، لتنتهي بحدث وقوفهم الاخير عند الباب، يطرقونه من دون ان ينفتح لهم، في
محاولة للايحاء بالنهاية القدرية التي وضعت حدا لمحاولات اولاد الرجل واحفاده في
الضغط عليه.
وتكتسب قصة
ضجيج الصمت أكثر من مستوي للايحاء بسلوك الشخصية التي تبدو شديدة الانهماك بواجبها
حتي في أسوأ ظروفها كما في حدث استمراره في اداء عمله ساعة تلقي نبأ موت ابيه
وادارته الاجتماع.
وشبيه بهذه
القصة قصة الصقر الذي عري من ريشه فجأة دونما سبب ظاهر وكف عن تناول ما تلتقطه
الطيور التي معه من طعام وهزل جسده ووهنت صحته، وهو المدرب علي الانقضاض علي
فريسته.
ولا تخلو قصة
وباء الفؤاد من مستوي تعبيري موح بما حل بالعرب من هوان، وما يشهدونه من مظاهر وقيم
حالت دون تحقيقهم المستوي اللائق بهم، في حين تختط قصة قرابين مياه البحر لها نهجا
متفردا يبدو فيه الراوي متأملا لعالم البحر وسطوته ومجاهيله، ضمن اسلوب من التناول
بدا مستفيدا من معطيات الفن التشكيلي وأسلوب مزج ألوان اللوحة التشكيلية.
ان التأمل
المستمر لدي القاص لواقع تجربته القصصية وتقدير عناصرها الناضجة، والنأي عما لا
يخدم مسيرته الحداثية، هو وحده ما يضمن تحقيق القاص التجاوز الابداعي في مسيرته
القصصية وبروزه صوتا متميزا، ليس في التجربة القصصية القطرية وحدها، وإنما في
المنجز القصصي العربي المعاصر.
=========
المصادر:
(1) انظر
جمال فايز: الرقص علي حافة الجرح، مجموعة قصصية، الدوحة، دار الشرق للطباعة/1997.
(2)انظر
جمال فايز: الرحيل والميلاد، مجموعة قصصية، الدوحة، ط ،1 المجلس الوطني للثقافة
والفنون والتراث/ 2003.
_________
نشرت في جريدة الراية القطرية ، صفحة ثقافة وأدب ، بقلم صالح هـويدي ، العدد
(8011) ، 13/4/2004م
|