منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الشعر المعاصر و مهمة ابتكار جماليات مغايرة

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الشعر المعاصر و مهمة ابتكار جماليات مغايرة  Empty الشعر المعاصر و مهمة ابتكار جماليات مغايرة

    مُساهمة   السبت مايو 14, 2011 4:03 pm



    الشعر المعاصر و مهمة ابتكار جماليات مغايرة معن الطائي و(العابرون نحو غياب مؤجل) *



    ضفاف اإبداع Posted: 27 Apr 2011 01:27 AM PDT



    الشعر المعاصر و مهمة ابتكار جماليات مغايرة  %D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A

    صدر حديثا عن دار نينوى للدراسات والنشر
    في دمشق مجموعة شعرية للشاعر والناقد الأكاديمي العراقي د. معن الطائي.
    تقع المجموعة في 180 صفحات وتضم ثلاث وعشرون قصيدة تتلمس في مجملها
    جماليات معاصرة تؤسس لمشهد شعري مغاير.


    كان موضوع الجماليات هو اشتغال الفلاسفة
    والمفكرين الأبرز على مر العصور. وكانت الإبداعات الفنية والأدبية مادتهم
    الأساسية في محاولاتهم المتكررة لشرح العالم من حولهم ، الأمرالذي أدى في
    النهاية إلى تقديمهم لنماذج وأنظمة تحدد الجمال وتُقيًم الجماليات في الأدب
    والفن والحياة. ولسنا هنا بالطبع بصدد مناقشة مثل هذا الموضوع الهائل بدءً
    من انشغالات الفلاسفة اليونانيين مرورا بفلاسفة الحداثة وجمالياتها وحتى
    الجماليات المعاصرة، ولكننا فقط سنحاول أن نقدم اقتراحاً جمالياً مغايراً :
    ابتكار الجماليات بعيداً عن السياقات الفلسفية التقليدية التي تحدد الجمال
    وتقيمه. جماليات ترتبط بتجربة المبدع وتعرض وجهة نظره الخاصة في الفن
    والحياة.


    وفي الواقع فان أولئك المتورطين في عملية
    الإبداع يدركون حقيقة أن الارتكاز على تعريف محدد أو فكرة واحدة لن يقود
    إلى أي نوع من الإبداع. ولذلك فإننا لن نخوض في مناقشة تعريفات ومفاهيم
    ونظريات جمالية من أي نوع ، ولكننا سنركز على الجماليات التي ابتدعها
    الشاعر معن الطائي من منظوره الخاص لتصل به في النهاية إلى إنجاز يكاد يكون
    خاصاً به أيضاً. من الواضح أن الشاعر يدرك أن تكرار ما يقدمه الآخرون لن
    يكون إبداعا بحال، وأن ابتكار الجماليات المغايرة يعني مغادرة المعايير
    المعدة سلفاً، حتى وإن كانت اشتغالات نظرية أو فلسفية. لذلك فإن ما سنقوم
    به في هذه الدراسة هو البحث عن مكنونات التجربة الجمالية والفنية الخاصة
    للشاعر كما وشت بها نصوصه في إطار سياقات معرفية وفكرية عايشها الشاعر
    فعلاً، ثم مقاربة طريقته الممايزة في ابتكار جماليات مرتبطة بتلك التجارب
    والخبرات الخاصة.


    عايش الشاعر معن الطائي حقبة ما بعد
    الحداثة بتفاصيلها وتشعباتها وتضميناتها الأدبية والفنية والنفسية. فالشاعر
    الذي ولد في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ودرس ودرًس الأدب الانجليزي في
    جامعة بغداد ، كان على صلة وثيقة بالتغيرات والاتجاهات العالمية الفلسفية
    والفكرية والأدبية. على أن ما بعد الحداثة ـ بوصفها موجة فكرية وثقافية
    ولدت وماتت وهي غير محددة الملامح ـ اجتاحت العالم بأكمله بفضل العولمة
    التي كانت رافعتها الأساسية وميزتها الأكثر خصوصية. والأهم هو أن الشاعر
    عايش أيضاً موت ما بعد الحداثة في نهايات القرن الماضي، وعاصر انبثاق ظواهر
    مادية ومعنوية أطاحت بما بعد الحداثة في الدوائر الفكرية والأكاديمية
    أولاً، ليشمل التغير كل مناحي الحياة.


    إن نقطة التحول الأكثر ترددا و التي
    نشهدها اليوم هي التحول من ما بعد الحداثة إلى حقبة ما بعد الألفية الجديدة
    التي غادرت جماليتها جماليات ما بعد الحداثة وبدأت تتلمس طرائق أخرى شكلاً
    وضموناً. ولأن الشاعر ـ ونحن معه بطبيعة الحال ـ كنا شهود عيان على هذا
    التحول الجمالي الهام، ولأن جماليات الحقبة السابقة لازالت حية في ذاكرتنا،
    فإن تحديد جماليات الحقبتين في قصائد الشاعر سيكون مهمة لا تخلو من المشقة
    والمتعة في آن واحد. إذ أنها ستكون بمثابة مثال على استكشاف العلاقة بين
    مرحلتين لا زالتا في طور الاشتباك الجمالي والفني حتى وإن افترقتا تاريخياً
    وفكرياً وفلسفياً. فضلا عن أنها ستكون أيضا تطبيقا ملموساً لاقتراحنا
    السابق، ابتكار الجماليات بعيداً عن السياقات الفلسفية التي تحدد الجمال
    وتقيمه.


    كان التشكيك بالموضوع والسرديات الكبرى
    هي أحد أهم مميزات الجماليات ما بعد الحداثية، تمثلت في ميلها لإنكار
    الأصالة ، وتفضيل الاقتباس من المصادر التاريخية المتنوعة. وهذا ما يفسر
    الشك ومحاولة تأجيل الخاتمة. لقد ساد هاجس وجوب تجنب الأخروية بأي ثمن،
    وهذا ما جعل السرد المتكامل محدد النهاية غير مرغوب على الإطلاق. وكانت
    النهاية أو الغلق الشكلي لأي عمل فني يُقوَض باستمرار في ما بعد الحداثة
    بوساطة الأدوات السردية أو المرئية التي تخلق حالة متأصلة لا مفر منها من
    اللاقدرة على الحسم. لقد ثيمت أشعار و سرديات ما بعد الحداثة صراحة قضية
    الترابط المنطقي في كل سردياتها، وانتصرت للتشظي وعدم الترابط بالمطلق.
    وادعت أن ما تفعله هو إدخال قلق الوجود وفوضاه إلى سردياتها في محاولة
    لتحدي الأنظمة القائمة التي رأت فيها أساس كل قمع أو بلاء. وبالرغم من
    ذلك، فقد اعترف شعراء مرحلة ما بعد الحداثة بأن القصيدة بوصفها بناء لغوي
    لا مفر لها من درجة معينة من الترتيب والتماسك، ولكنهم أقحموا قصائدهم في
    نوع من الفوضى ـ التي بدت أحيانا قسرية ـ تماشيا مع ثيمة اللاتماسك
    السردي الما بعد حداثي الذي تتعامل مع أجزاء القصيدة بوصفها جزء من كل
    مفقود أو إطار بلا مركز وبتعبير منظر السرد الما بعد حداثي برايان ماكهيل
    ـ فقد كان العالم الذي تتناوله قصائد ما بعد الحداثة عالم متقطع
    الأوصال، متشظياً يتحرك جيئة وذهابا دونما غرض واضح. هذا فضلا عن التهكم
    الساخر وتوظيف تقانات جماليات التفكيكdeconstruction والمعارضة الأدبية
    pastiche، وإعادة التعبير أو الإرداف parataxis، والانعكاسية الذاتية
    المفرطة.


    وبعد هذه اللمحة الموجزة عن جماليات ما بعد
    الحداثة، سنحاول تقصي الجماليات المغايرة شكلاً ومضموناً في قصائد
    الشاعر معن الطائي والتي تستشرف حقبة فنية وأدبية مغايرة أيضاً:


    أولاً: انحياز الشاعر إلى القصيدة
    المتماسكة بنية ومعنى. فقصائده كلها مرتبة ترتيباً منطقياً، حتى وإن أوغلت
    في الترميز والتكثيف، وإن بدت رموزها غريبة أحيانا. فكانت الأناقة
    والترتيب المنطقي السمة الجمالية المغايرة الأولى التي طغت على أغلب قصائد
    المجموعة. نقرأ في قصيدة “قرنفلة حمراء“:


    القرنفلة الحمراء على الصدغ

    تطلق لحنا عاطفيا حزينا

    و المرأة المستلقية على جانبها الأيمن

    لا تبدو مبالية بانكشاف ساقها الأيسر

    بينما القرنفلة الحمراء تحاول مد ساقها إلى الأرض

    و تدفع بخيط أحمر رفيع عبر الجبهة ثم الأنف

    لتلامس الإسفلت الأسود و تغوص فيه ….المجموعة :60

    يدهشنا الترتيب المنطقي لقصيدة موغلة في
    الرمزية. وعلى الرغم من ارتباط القرنفلة الحمراء بالدم والشهداء في قاموس
    الترميز العربي المعاصر إلا أن توظيف الشاعر بدا مغايرا وملفتاً للنظر.
    ويدهشنا أيضا هدوء الشاعر وهو يرسم بالقرنفل مشهدا دمويا مروعاً تسحق فيه
    الحياة/المرأة تحت أقدام الطغاة فلا يعود هناك فرق بين الدم والقرنفل وبين
    الحياة والموت.


    وإذا كانت ما بعد الحداثة قد وظفت
    اللاتماسك لتقحم فوضى الوجود في سردياتها، فإن الشاعر قد وظف الترتيب
    المنطقي والتماسك ـ إذ لا مكان لحقيقة نسبية أو وجهات نظر أو نهايات
    مفتوحة في القرنفلة الحمراءـ ليرفض فوضى الوجود الذي أورثتنا إياه ما بعد
    الحداثة قبل أن تولى أدبارها تحت أنات البشرية التي ضاقت ذرعاً بطروحاتها
    البائسة.


    ثانياً : بروز ظاهرة التصوير السينمائي في الشعر في قصائد الشاعر، أو سينمائية الشعر إن جاز التعبير.

    فقصائد الطائي عبارة عن جمل بصرية ناتجة عن
    تفاعل اللغة المحكمة للصورة، التي هي في الحقيقة مرآة الواقع المادي،
    وتجريد اللغة الشعرية. وتبعا لذلك فان القصائد تعتمد على قوة الصورة التي
    تعمل بوصفها مرآة تحث القارئ على النظر أبعد من الكلمة المكتوبة والمنطق
    ليدخل في لعبة التأويلات الشخصية للصور المعروضة بدلا من تأويل الكلمات.
    لذلك يمكننا القول أنها قصائد صور لا تحكي الكثير بالكلمات حتى وإن تضمنت
    صوتا لشخصية ما فانه ـ صوت الشخصيةـ غالبا ما يكون خافتا باهتا مقارنة
    بوضوح الصورة وحدتها وضجيج الموسيقى التصويرية المصاحبة.


    تبدو الصور السينمائية أكثر حدة ووضوحا في قصيدة “العابرون نحو غياب مؤجل”، نقرأ في بداية القصيدة:

    شارع

    و رصيف.

    نافذة مضاءة

    ظل امرأة على الرصيف

    يمتد إلى الشارع

    تدوسه أقدام المارة

    العابرين نحو غياب مؤجل…..المجموعة :67

    يبدو الشاعر وكأنه يهيئ مسرحه أو يجهز ديكوراته لعرض ما. بل أن الصور السابقة تذكرنا تحديدا بديكورات فيلم (دوغفيل)
    للارس فون ترير الغريبة. صور متتالية بكاميرا تتحرك من الأعلى إلى الأسفل
    ثم إلى الأعلى مرة أخرى لنحيط بكل جوانب المشهد المادي العادي الذي نتوقع
    انه مكان لحدث أو أحداث سيسردها الشاعر لاحقاً. ولكن الغريب أن الشاعر
    يستمر مصوراً سينمائيا للتتابع صورة السينمائية بأقل تعبيرات لغوية ممكنة:


    الطائرة

    في سماء المدينة

    معطلة عن الحركة

    كغيمة زائدة

    عن الضرورة

    في لوحة انطباعية

    السماء مرايا

    تعكس أضواء المدينة.

    المارون

    يرون رؤوسهم

    بدون قبعات……

    وتستمر القصيدة على هذا المنوال من رصف
    الصور المادية الواقعية دون أن يخبرنا معن الشاعر ـ أو ربما الرجل الذي
    يمثل الشخصية الرئيسية في الفيلم / القصيدة ـ ما الذي يريد أن يقوله ويترك
    لنا كما قلنا مهمة تأويل الصور لا الكلمات. إنها كاميرا السينمائي تتحرك
    في فضاء القصيدة.


    يتركنا الشاعر نحاول تأويل المشاهد
    السينمائية أو سلسلة الصور المصحوبة بحد أدنى من الكلمات والانطباعات وهي
    تجربة ليست سائدة في الشعر العربي على الأقل. فيمكننا القول مثلا، بوحي من
    عنوان القصيدة البالغ الدلالة، إنها تحمل هم الوجود، ثنائية الموت
    والحياة. فصوت الرجل الخافت في القصيدة هو التعبير عن القلق الوجودي. فنحن
    جميعا عابرون إلى غياب مؤجل حيث الطائرات هي الموت الذي يقلنا إلى ذلك
    الغياب دون جوازات سفر أو معابر وما الحياة إلا ظلالا ندوسها بأقدمنا فيما
    نحن في مطارات الانتظار/ الحياة ننتظر طائرات الرحيل إلى الغياب.


    ثالثاً: الإنتصار للتفاؤلية الميتافيزيقية
    وتحرير النفس من عذاباتها بعيداً عن التدميرية العدمية التي أصبحت ـ كما
    كانت دائما ـ خارج التاريخ إلا في عهد ما بعد الحداثة البائس. ذلك أن نقطة
    التوجيه الميتافيزيقية لم تعد هي ـ كما روجت لها ما بعد الحداثةـ الموت
    ووكلائه (الفراغ، الغياب، إفراغ الذات، والعجز، الاختلال الوظيفي)، ولكنها
    أصبحت ـ بدلا من ذلك ـ الحالات المختبرة نفسيا أو المؤطرة تخيليا للسمو
    والارتقاء ( العبور إلى السلام الداخلي، والحب، و التطهير، والإشباع،…….).
    نقرأ في “شجرة السرو القديمة”:


    قلبك يتسع…

    و المدينة تضيق…

    و تضيق.

    ترتبين قلقك

    بعناية

    و تطوينه

    قبل أن تلقي به

    في سلة المهملات……المجموعة :101

    رابعاً: التركيز على التعالقات البينية
    Metaxis بين أجزاء النص في محاولة لخلق كلانية و واحدية تغادر سياقات
    التشظي والتفكيك الما بعد الحداثية التي لم تعد قادرة على شرح الميول و
    الإتجاهات المتحولة إلى الكلانية التي تعبر عن أمل حذر و إخلاص يلمح إلى
    بناء آخر من المشاعر، ويبشر بخطاب جديد.


    فاللغة بالنسبة للشاعر أداة مكثفة تخدم
    الموضوع. وتبعاً لذلك فان سلسلة العلامات التي تسقط الشاعر والقصيدة
    والقارئ جميعا في هوة الإحالة إلى مرجعيات لا تمتلك نقطة محددة ثابتة أو
    هدفا أو مركزا تعد ـ في قاموس الجماليات المستقبلية ـ الهاءً غير ذي صلة.
    وتبعاً لذلك فلا بد من تحجيمها بقدر الإمكان بحيث يعكس الموضوع كماله و
    واحديته.


    وتظهر آلية الشاعر للوصول إلى كلانية وواحدية موضوعية في قصيدة “موسيقى الجاز”،
    حين يوظف أقل عدد ممكن من العلامات والخطابات المتناغمة فيما بينها داخليا
    والمتسقة مع السياقات خارج القصيدة بحيث لا يعود للاضطراب الإدراكي
    والإلهاء (غير ذي الصلة ) مكانا في النص .


    يوظف الشاعر في القصيدة علامتين أساسيتين
    (الفراشة) و(موسيقى الجاز) ويمكننا القول أن موسيقى الجاز هي الإطار الذي
    يفصل القصيدة عن الخطابات خارجها، ولكنها في الوقت ذاته المكان الداخلي
    الخارجي حيث يلتقي النص والسياق بطريقة حاسمة لتركيب وترتيب العمل. أما
    العلامة الأخرى الداخلية فهي (الفراشة) التي تشير إلى الفناء والزوال وقصف
    العمر بفعل العنف الذي يعيشه الناس بحيث أصبح جزءً لا يتجزأ من حياتهم
    اليومية. ترتبط العلامتان ارتباطا وثيقا فالأولى ، موسيقى الجاز، تمهد
    للقضاء على الثانية وبذلك شكلت العلامتان وحدانية و كلانية ربطت أجزاء النص
    بدلاً من تفكيكه إلى سلسلة لا نهاية لها من الدلالات والمدلولات.


    الموسيقى تنساب بهدوء

    و تدور في فضاء الصالة

    كفراشة

    النادلات يتجولن

    كفراشات

    العاشقان يتعانقان

    كفراشتين

    أجلس و حيداً و أفتح ذراعي

    كفراشة

    المغنية السمراء تغلق عينيها على صورة قديمة

    و تطوح برأسها المخمور

    كفراشة

    الحزن زهرة كبيرة…..المجموعة :62

    تتتابع الصور المتجاورة بحرية وتسلسل في
    السرد وتتصرف بوصفها تخوما عائمة frontiers، صورة النادلات في المقهى،
    والعاشقان، والشاعر، والمغنية المخمورة، ضمن إطار داخلي تمثله الفراشة،
    وإطار خارجي تمثله موسيقى الجاز. ثم تتوالى صور أخرى في مكان آخر من
    العالم:


    يتحدث عن نهارات مشمسة

    و بلاد بعيدة بأسماء غريبة

    بيوت متجاورة لا تغلق أبوابها

    رائحة الخبز و رنين ملاعق الشاي الصغيرة

    لون القرنفل و قامات النخيل……

    تختفي الفراشة من مشهد مجموعة الصور
    الثانية لفظاً لكنها تحوم فوق الصور على حافتي الحزن. لتنتهي القصيدة
    بمجموعة ثالثة من الصور المتسلسلة التي تتشابك مضموناً مع الإطارين
    الداخلي (الفراشة /الزوال) والخارجي (موسيقى الجاز/العنف). نقرأ:


    ثم العصف يقتلع أشجار الألفة

    الصخب يعلو…

    الصخب يعلو…

    و الروح ترتجف

    النائمون يمضون في أحلامهم بعيداً…

    الزجاج يخوض عميقا في اللحم الغض

    للنهارات رائحة الفولاذ

    الأطفال يمضغون الهواء

    النساء مشبعات باليورانيوم

    وجوه تتكسر على رخام الذاكرة …

    إن الصور والكلمات في القصيدة لم تترابط
    بسبب تشابهها وإنما بفضل التجاور المتسلسل الذي خلق إمكانية التشابه أولاً
    ثم بفضل الاقتصار على علامتين بارزتين أساسيتين وظفتا توظيفا جيدا لإحداث
    تشابك منطقي بين عالم النص والعالم الخارجي. والمغزى من الاستفاضة في شرح
    قصيدة قد تبدو الأبسط بين مجمل قصائد الشاعر هو توضيح أن الجماليات الفنية
    لا ترتبط على الإطلاق بالتعقيد الشكلي أو الفكري ولا بالأساليب الشاذة شكلا
    ومعنى. وأن تناول اليومي والبسيط والمفهوم يحمل جمالياته الخاصة التي ربما
    ستكون جماليات حقبة مستقبلية بدأت تلوح تباشيرها في أعمال فنية وروائية
    وسينمائية وشعرية عالمية غادرت تخوم الغموض والتشظي والنهايات المفتوحة إلى
    سهول الواحدية والكلانية والغلق الشكلي والترابط الموضوعي والاقتصار على
    الحد الأدنى من العلامات والخطابات ضمن النص الواحد .


    خامساًً: بناء الهوية الذاتية للمثقف
    والفنان والإنسان العصري في عصر العولمة على أساس فكرة النوماد أو الإنسان
    الرحالة. فقد كان القرن الماضي قرن الهجرات والترحال والاقتلاع بلا منازع.
    وقد توجت العولمة بأساطينها الفكرية ووسائطها المادية هذا الترحال
    والاقتلاع في العقود الأخيرة من القرن الماضي. وكان لابد للمثقف والفنان أن
    يبتدع هوية تناسب واقع الحال وتستنفذ إمكانياته. وعلى الرغم من أن فكرة
    الترحال Nomadism ليست حديثة ولا طارئة على البشرية، فقد مارسها الفلاسفة
    والمفكرين على مر العصور، كما نظًَر لها وتبناها شعراء وفلاسفة ومفكرون
    ومؤرخون ومبشرون ومستكشفون و وعاظ وزهاد في الشرق والغرب، إلا أن عودتها في
    الألفية الثالثة تحمل سمات مغايرة: إنها نظرة ايجابية للفوضى والتعقيد.
    وليست نوعاً مرعباً من الزمن الذي يسير في حلقات لولبية وفقاً لما بعد
    الحداثة. كما أنه ليس رؤية خطية حتمية للتاريخ مثلما ادعت الحداثة.
    ولكنها خبرة ايجابية عن التوهان عبر صيغة فنية تكشف كل أبعاد الحاضر،
    وتتبع خيوط الزمان والمكان في كل الاتجاهات. إنها موجة عظيمة من التشرد
    الطوعي، والترحال، والترجمة، والهجرة للأشخاص والأشياء بحيث يتحول المثقف
    إلى متجول متشرد مستكشف. ويجب التأكيد على أن مفهوم الرحالة هنا لا يعني
    التشرد أو التهجير القسري من مكان، بقدر ما أنه خيار الفنان الذي يهجر كل
    رغبة أو فكرة أو حنين إلى الثبات والجمود. إنه الإنسان الذي يفكر ويتحرك
    عبر تصنيفات ومستويات متعددة من الخبرات تستلزم الترحال ولا يمكن أن يوفرها
    له الثبات. وهكذا يصبح النوماد نموذجا فكرياً يمثل المثقف الذي يحمل
    انتماءاته معه في كل مكان يذهب إليه ويكون قادراً على إعادة خلق أو تشكيل
    قاعدته الخاصة في البيئات المتنوعة .


    نقرأ في “نوماد “:

    كان من الصعب تذكر

    أسمائي العديدة

    عند كل نقطة حدودية

    تكلمت العديد من اللغات

    حتى نسيت لغتي الأم

    لم تعد تقلقني كثيراً

    مسألة الهوية

    لم أعد أتعرف على ذاتي

    حتى عندما أصادفني

    في المرايا.

    كل الوجوه في الصور

    على جوازات السفر

    أنا

    و لا أحد. …..المجموعة : 97

    وفي النهاية يمكننا القول أن معن الطائي ـ
    ومجايليه بالطبع ـ الذي عاصر ما بعد الحداثة منذ بداياتها الأولى كان
    الأجدر والأصدق في التعبير عن إنسانها الذي قطعته إربا جسديا وعاطفيا
    ونفسيا وماديا وتاريخيا ثم تركته وغادرت عند منعطف الألفية الثالثة، ليبدأ
    مثقفو ومفكرو وكتاب وفلاسفة العصر في النهوض من جديد لتأسيس فكر ومذاهب
    قادرة على التعامل مع إنسان بعد ما بعد الحداثة الذي يلج مرحلة جديدة مثقلا
    بفلسفات الضياع ونظريات التشظي والانشطار وفلسفة النهايات والموت، موت
    الإله والإنسان والتاريخ والمؤلف والميتافيزيقات ….الخ ، وانتشاله من
    فلسفات النهايات السوداوية من ناحية، وإدخاله في فلسفات تفاؤلية تؤسس
    لجماليات مغايرة حيث الوحدة والتكامل والغلق الشكلي والنهايات المحددة
    والتفاؤل الميتافيزيقي والرومانسيات العائدة والواحدية الكلانية.


    وعليه فقد جاءت قراءتنا لقصائد معن الطائي
    قراءة لإنسان بعد ما بعد الحداثة الذي يستشرف حقبة جمالية وفلسفية وثقافية
    مغايرة. جماليات قد يكون عنوانها (من دون لماذا) ، جماليات تختصرها قصيدة
    “وردة سيليزيوس”:


    أجمل ما فيك أنك

    كوردة سيليزيوس

    من دون لماذا

    تأتين إذ

    يشرق حضورك

    فجأة

    و إذ تذهبين

    تغرقين في الغياب

    و لا تتركين في الذاكرة أية خدوش ….المجموعة :94

    حيث لا لغة وراء اللغة، ولا أسرار تختبئ
    تحت الممحاة، وحيث صوتنا هو صوتنا لا صوت الآخرين، والحياة لحظة معلقة بين
    موتين ولا شيء آخر. نقرأ رصف الجماليات المستقبلية في هذه القصيدة:


    لا تشبهين أقمارنا الفضية الحزينة

    و لا نسمع في صوتك

    إلا صوتك

    لا تحتويك اللغة و لا المرايا

    تعبرين فينا كما الحياة

    لحظة معلقة بين موتين

    و تمشين بلا ظل خلفك

    تحت شمس لوعتنا الحارقة..



    هوامش :

    * معن الطائي شاعر وناقد أكاديمي عراقي.
    حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الانكليزي و المقارن. عمل لسنوات أستاذا
    للأدب الانكليزي في جامعة بغداد. و يقيم حاليا في دولة الإمارات العربية
    المتحدة . صدرت مجموعته الشعرية الأولى (العابرون نحو غياب مؤجل ) عن دار
    نينوى للنشر والتوزيع ، دمشق 2011 .
















    ا

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد نوفمبر 24, 2024 6:16 am