ونتابع معـ ..
4- طرفة بن العبد:
حوار مع الموت ، هكذا كان لقاء درويش بطرفة بن العبد :
" أيها الموت انتظرني خارج الأرض
انتظرني في بلادك ريثما أنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي
قرب خيمتك ، انتظرني ريثما أنهي
قراءة طرفة بن العبد" (27)
يستمر نص الجدارية في حوار مع الموت والمرء لا يحاور إلا من كان حاضراً
ماثلاً أمامه وهكذا كان الموت لمحمود درويش ماثلاً أمامه حتى لنكاد نشتم
رائحة ألفة ما في صيغة هذا الحوار والخطاب للموت، هذا الزائر الذي لامفر
منه والقدر المحتوم الذي يتربص بالجميع يبلغ اقترابه من نفس الشاعر حد
الاعتياد والألفة، وكما مر على طرفة وغيره من قبل وطواهم فإن الشاعر يبدو
على أهبة الاستعداد لامتطاء صهوته ، إن محمود درويش في هذه الأسطر يبدو
وكأنه يتلو صك الموت ويمسكه بين يديه تماماً كما حدث لطرفة بن العبد حين
كان يمسك بيده أمر قتله سائراً إلى حتفه، استلهم درويش هذه الحادثة ببراعة
مثيراً مشاعر العظمة والشفقة المتناقضة وفي آن واحد... عظمة السير بخطى
ثابتة نحو النهاية، والشفقة على الإقبال على الموت مخدوعاً، كما أن ذكره
قراءة طرفة يستحضر إلى الأذهان معلقة طرفة بن العبد التي أكثر فيها من ذكر
الموت وندب نفسه، لقد منح الشاعر فكرة الموت في تناصه مع طرفة إيحاءات
كبيرة حين ربط بين ذاته وبين ذاك الشاعر الجاهلي بأكثر من رابط وصلة :
أولها أن لكل منها معلقة وفي كل معلقة حضور طاغي للموت وعامل مواجهة الموت
بثبات، وقد وفق درويش ببراعة في هذا التناص وإذابته في جسد قصيدته بشكل
تقاطرت فيه قوافل الموت من أيام طرفة حتى ساعات درويش الأخيرة مع صراعه.
***
5- لبيد بن أبي ربيعة:
يبلغ اليأس واليقين مداه في مقطع آخر من الجدارية ويتدثر الشاعر بعباءة الحكيم مردداً:
" باطلٌ باطلُ الأباطيل....باطلْ
كل شيء على البسيطة زائــلْ" (28)
ويقرر ثلاثاً بأن كل شيء باطل مضمناً مقولته الحكيمة هذه رائحة الأسلاف
الحكماء الذين خبروا الدنيا وأهدونا خلاصة تجاربهم يمثلهم في هذا الموطن
لبيد بن أبي ربيعة الذي يرن صدى بيته:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
فحين يذكر درويش الحكمة في مقطع ما في قصيدته يختمها ببيت لبيد الحكيم على
مدى أربعة مرات على مدار القصيدة، فهذا البيت ذو صلة وطيدة بالنص حيث يصب
هو الآخر في فكرة الخلود التي يطرحها الشاعر في نصه، وحين يورد هذه
الحكمة يعلو الإيمان واليقين المطلق بأن الدنيا فانية مباهجها زائلة وأن
كل ما عليها فانٍ فإنه بذلك يشهد ويقر بهذه الحقيقة الأزلية وكأنه يلوذ
بإيمانه وبالحكمة خلف بيت لبيد ليواسي نفسه - رغم تماسكه أمام الموت -
مردداً خلف لبيد بيته موصلا هذه الحقيقة التي استشعرها بعمق للآخرين.
يتبعـ معـ
التناص الأسطوري
في رعاية الله