ثمة ما يدعم منطلق الباحث، يشرعنه، ويستجيب لرغبته في
التلويح بالمقصد، بصدد الحقيقة العتباتية المغيَّبة طويلاً، كونها (أصبحت
راهناً منفَّذة بمكر وذكاء كبيرين.. ص7). ليكون الحديث شديد اليقظة، نظراً
لدقة المفهوم وجدته، إذ ثمة تاريخ لا ينكَر، كانت العتبات في حكم المنفي
أو مجهول الاسم، وهذا ما يحاول مقاربته (فإن قضية العتبات ليست بالسهولة
التي كان الناقد التقليدي يتصورها، خصوصاً عندما تتداخل وتتعدد النصوص
والاستراتيجيات.. ص 10).
إن تنامي المعارف وتكاملها، وكذلك التماذج فيما بينها، يستوجب تغيير اتجاه السير والنظر في
كل الاتجاهات، فلا شيء ينفصل عن الطريق، والطريق هذا تكوُّناً، ليس ما يتم
سلوكه، وإنما ما يحيط بالطريق، والأكثر من ذلك، ما يشقه الطريق صعوداً
وهبوطاً، فضاء وجغرافيا أرضية.
لعله التحدي الذي لا بد من وعي ضرورته، وكيف أن ثمة رفضاً منه، لا بل نفوراً من هذا الكائن اللغوي ذي الدلالة
المتناثرة (العتبات)، ومن أكاديميين جامعيين، لأسباب لها صلة بمدي الحاجة
إلي الإحاطة بحيثيات علوم مختلفة (أذكر هنا، أنه قبل عدة سنوات، وفي كلية الآداب، في
جامعة دمشق، قسم اللغة العربية، قدَّم الباحث خالد حسين أطروحة جامعية
لنيل شهادة الدكتوراه لها صلة مباشرة بالعنونة، و" شؤون العتبة النصية"،
فلم يتطرق أي من المناقشين لصلب الموضوع، إلا أن أحدهم ثمَّن الموضوع"
الدكتور خليل الموسي" بغض النظر عن ملاحظاته، وبالمقابل استخف آخر
بالموضوع، ولماذا يُعطي كل هذه الأهمية، والأنكي من ذلك هو تساؤله الغريب
حول السبب الذي دفع بصاحب الأطروحة إلي الاعتماد علي جاك دريدا، بدعوي أنه
ليس أكاديمياً" لم يحصّل رسالة جامعية"، وهذا يعبّر عن جهل فاضح ليس بأهمية
الموضوع وماذا يعني رفضه هو وسواه له، وإنما جهل بدريدا وحضوره الجامعي،
ونبذه لمفهوم الأكاديمية بالمعني الكلاسي (ينظَر حول ذلك: ميشيل فوكو ــ
جاك دريدا: حوارات ونصوص، ترجمة:محمد ميلاد، دار الحوار،
اللاذقية،ط1/2006،ص169، وما بعد..)، وهذا يؤكد جانب الأبوية الطاغية في تحديد الرسالة الجامعية وطريقة مناقشتها، والنظر إلي المستجد فيها، وفي هذا السياق، فإن باحثاً آخر، وهو الصديق ولات محمد، يحضر رسالة جامعية، لها صلة بـ (الاستهلال في الرواية العربية)، نظراً لأن الموضوع يستجيب لأسئلة لما تزل باكورية في مجتمعنا، بقدر ما تفتح أفقاً للنظر داخل أفق المقروء في
النص الأدبي وسواه. ثمة حرم للجامعي هو محمية المعتبر أكاديمياً، وعلي
الطالب هنا مراعاة تحركه باحترام حدود المحمية، وعدم القفز علي السور
العالي..)!
إن الملهم في هذا المجال، هو الفرنسي جيرار جينيت، في
كتابه اللامعرَّف به (seuils)، والذي أبصر النور سنة 1987، فثمة ولادة
حديثة، وتاريخ حديث النشأة أيضاً كما ذكرت، كما هو المعهود (عتبات) كما لو
أن في الصيغة هذه، سياسة تحفيز للنظر في الخفي داخلاً، كأن داخل مفردة (عتبات) الممكن الكشف عنها، عتبات أخري تتطلب جهوداً مكثفة من لدن المنهم بالموضوع من خلال فعل الخافية النافذ، ووجود الإنسان في مدينة تدَّخر بالفراغات والأقنعة، أي أن ثمة نوعاً من التحدي بغية الاكتشاف. فمن يريد معرفة المدينة، عليه بمعرفة حدودها كاملة!
ربما كان هذا المفهوم الموجود قديماً، والمستحدث من خلال العمل بموجبه، يندرج في خانة إنجازات العلوم الحديثة، ومنها العلوم الإنسانية، وما يخص باشلار صاحب (جماليات المكان)، ما يخص بلاغة المكان وتفرعاته، والمكتشَف الدوسوسيري اللغوي في العلاقة بين التزمن والتزامن حيث العتبة أكثر من مفهوم ثابت رغم حضورها المكاني، إنها تاريخ وجغرافيا معاً..
والباحث يعاين في مسلك الناقد العربي حتي عهد قريب جانب الريبة في الموقف من العتبة، في
أكثر من نقطة، ومن ذلك قوله (اعتبر الناقد العربي عتبات النص الروائي
نصوصاً صماء، غير ناطقة إلا بما يريد الناقد أن تنطق به.. ص19)، وهو إذ
يمارس كشفاً/ مسحاً تاريخياً بالجهود التي تخدم ما تهيَّأ له، فإنه قلق من
الحصيلة، ثمة فراغات تتقاسم المنتَج في هذا المضمار، دون التقليل من أهمية المؤلَّف هنا، كما الحال عند كيليطو، عمر حلي، عبدالنبي ذاكر…الخ(ص25).
لاحقاً يفصح عما يمكن القيام به من باب الضرورة، لتكون الرواية
أكثرقابلية للقراءة، واعتماداً علي جينيت بصورة رئيسة، فنقرأ ما يخص
(التناصية: تداخل نصين علي الأقل)، و (النصية المحاذية: العنوان، العنوان
التحتي، المقدمات..)، و (النصية الواصفة: علاقة بين نص وآخر… الخ، ص29)، ثم
يكون هناك تعريف وتكثيف في
التعريف بالعتبات، بغية القبض علي معرفة أتم ولو باختصار تخصها، وباستخدام
المقابل الأجنبي: الفرنسي خصوصاً، والإحالة علي المصدر الأجنبي للاستفادة
منه حيث نكون إزاء (العتبات والنصوص المحيطة: خارجية" العنوان واسم المؤلف
وصورة الغلاف…"، وداخلية" الإهداء، الخطاب التقديمي، التذييل.. ص39) وثمة
(نصوص محاذية لاحقة)، وهي توضح صلة الكاتب بما يكتب، وموقفه من الوارد فيه..(ص40).
ويمكن التنويه بأهمية المقابل الأجنبي وخصوصاً للباحث في أمور معرفية مصطلحية تحديداً، حاول تثبيتها، والإشارة إلي عدم الوضوح في بعض النقاط، من ناحية الدقة، وخاصة في
العلاقة القائمة بين كل من (نص محاذ) مقابلparatexte، و(نص محيط)
مقابلpژritexte (ص36)، كما يقترح هو طبعاً، بينما يضع (عنصر نصي محاذ)
لاحقاً مقابلpژritextuelle (ص69)، وفي المسرد العربي ــ الفرنسي، يضع محيط (نص) كما في الحالة الأولي(ص262).
ومن الصعب في هذا المسعي الإحاطة بكل ما يدخل في نطاق العتبات من عناوين فرعية، وتوضيح مفاهيم جزئية أو فرعية، أو ما يخص العبارات المشدَّد عليها، وكيفية إيرادها، فهي ذاتها يمكن اعتبارها عتبات، تؤازر القارئ في معرفة جانباً مثيراً مما يخص الباحث نفسه، في طريقة الكتابة وكيفية سرد الأفكار، وتبويبها أو تسلسلها، وكيف ينطلق بها، وأين يختم..لاحقاً ثمة إغراء مستوجَب في قراءة المتعلق بالرواية العربية، وكيفية كتابتها، وماذا يأتي في
البداية، أي ما يخص (الخطاب التقديمي) والمتعلق بما يعتبر مقصد الكاتب وهو
مختلَف عليه، فثمة من يراهن عليه (ص60)، وثمة من يعتبره (عتبة قد تشوش علي
طبيعة النص الإبداعية.. ص63).
في
هذا السياق، ثمة مستويات متفاوتة القيمة له، تتطلب توضيحاً رغم الاستفادة
من غيره، حيث يتداخل التصدير والمقدمة والمدخل، وثمة فرق قائم (التصدير من
وضع شخص آخر ــ المقدمة: كل نص يتموقع في صدارة الكتاب ــ المدخل: توطئة لعرض أفكار الكاتب.. ص68)..
ولكل مستوي مجال بحث ومتابعة، ففي المقدمة، ومن قبل من يحبذها، لدينا (يوسف السباعي ــ عبدالكريم غلاب..) ولكل منهما رؤيته ورهانه الفكريان أو الفنيان..أما في روايات" الحساسية الجديدة"، وبعض هذه المقدمات في خطابها (تظل متفاعلة مع أسئلة الراهن.. ص87)، كما في حال فاضل العزاوي، وذلك في (الديناصور الأخير)، وعبدالله العروي في (أوراق)، وقد توقف الباحث مطولاً عند مقدمة المصري صنع الله ابراهيم في
روايته (تلك الرائحة).. وهي التي أثارت ضجة كبيرة ولافتة، نظراً لأهميتها
الفنية، وصلتها بأعمال أخري للكاتب (اللجنة) سابقاً، و (بيروت بيروت)
لاحقاً، وكونها طبعت أكثر من مرة، وفي أمكنة مختلفة، ومن ضمن ما يراه الباحث في عمل صنع الله هذا، هو أن محنته (بعد كتابته لـ" تلك الرائحة" خلقت شكلاً روائياً جديداً في الرواية العربية وأغنت مضامينه)، أما أهمية الخطاب التقديمي، فيمكن (اعتباره وثيقة تحدد طبيعة الممارسة السياسية والأدبية في مرحلة محددة من تاريخ مصر خاصة، والعالم العربي عامة.. ص116)، ويتعرض مطولاً لاحقاً لمفهوم (الخطاب الافتتاحي التخييلي)، في رواية عزالدين التازي (مغارات)، وكذلك ما يخص مقدمات ثلاث روايات لحنا مينة (المصابيح الزرق) الرواية الأولي له، و (الدقل)، و (الشمس في يوم غائم)، حيث التقريظ هو المعتمد أكثر فيها، كما هو ممكن تلمسه في استنتاجاته (ص139 ــ 140).. أما الفصل الثاني، فيركز علي (النصوص التوجيهية في الرواية العربية)، أي ما يحاول الكاتب الظهور به، وما يطلبه من قارئه قبل قراءته لروايته. لدينا مثلاً، إميل حبيبي، في مستهل روايته المعروفة (إخطية)، وهو ينفي علاقته بأي تشابه بين أحداث لها وما يجري في الواقع، وهناك أيضاً عبدالمجيد طوبيا، في روايته (هؤلاء)، وبالعكس فإن ثمة من يشدد علي التشابه كما في حال يوسف القعيد، في روايته (يحدث في مصر الآن)، وهاني الراهب، في (ألف ليلة وليلتان)، وثمة ما يتخذ موقفاً وسطاً، كما الحال مثلاً في رواية (ترابها زعفران) لادوار الخراط)..
وقد نعثر علي (الخطاب الافتتاحي الشاعري وأفق القراءة التناصية)، حيث إن الاستشهاد الشعري يمثل في جانب منه (نوعاً من التصادي بين أكثر من نص… ص174)،وقد قيل في ذلك الكثير من قبل جينيت، ادوارد سعيد، كيليطو.. ومن ذلك ما يخص رواية (إخطية) السالفة الذكر، أو رواية (وليمة لأعشاب البحر) لحيدر حيدر، وقد توقف الباحث مطولاً نسبياً عند (شاعرية الخطاب الافتتاحي في
" يا بنات إسكندرية" لدوار الخراط")، نظراً لغناه (ص187). تلك تكون
خياراته ونوعية خطابه التأويلي للنصوص التي اعتبرها أقرب إليه من سواها، أو
تلمَّس فيها ما يبحث عنها، وليس لأنها أفضل من غيرها بالمطلق، وهو سعي الذات إلي المثير والمنير لها!
أما الفصل الثالث (الإهداء في الرواية العربية)، فهو بدوره لا يخلو من متعة وإثارة بحثيتين، من خلال تتبع مستفيض أحياناً في نشأة الإهداء ومستوياته، وصلة الإهداء هذا بالشخص المهدي إليه، وطريقة الصياغة، والمتضمَّن في الإهداء ومن يكون الروائي في الحالة هذه، وما يكون خاصاً وعاماً، والبعد الذاتي في الإهداء، وكذلك جملة القضايا التي يثيرها، وما أكثر ما يثار في هذا المنحدر الوعر.. لماذا؟ كون الإهداء (بوابة حميمة دافئة من بوابات النص الأدبي.. ص199).
ومما يجدر ذكره هنا هو أن الباحث أهدي كتابه
الأول، إلي ولديه أولاً فزوجته، أما الثاني فإلي العائلة التي ينتسب إليها،
وإن لم تُسمَّ تماماً، حيث تأتي الأم فالأب ومن يليهما مقاماً عائلياً،
وهذا له شأنه ودلالته، خلاف التحديد بالاسم والموقع، وصلة الباحث بكل اسم،
وطريقة الصياغة..
الكتابة الواحدة
ثمة بلبلة في الموضوع إذاً بالنسبة لمفهوم (الإهداء) ومن يتعامل معه أو يعتمده دون مساءلة البنية الدلالية، لها صلة بالتنوع والتعدد في المقاصد والنوايا، أي بالمزاجية، وما لم يدرس كما يجب، لهذا، فـ (إن المطلوب في هذا المجال هو الانخراط الجاد في إخراج مثل هذه التوقيعات من الغياب إلي الشهادة، من الكمون إلي الفعل، وذلك بتجميعها في متن محدد. ص252)..
ولتكون خاتمة الكتاب، باعتبارها إحدي العتبات دعوة
إلي ضرورة التيقظ أكثر، والالتفاتة إلي ما بحثه، أي (لفت الانتباه إلي
نظير هذه الظواهر النصية المسكوت عنها… ص255).. إن ما يمكن قوله بداية
كتأثر، هو أن أول ما يعمده قارئ كتاب كهذا، إلي اعتماده هو ضبط اقتصاد
الكلام، ضبط اتجاه الكتابة، والنظر في مفهوم الإهداء وكيف يمكن استثماره في كتابته.
مما لا شك فيه أن قراءة المسافة الفاصلة من حيث المبحث والمقصد، بين الكتابين، رغم اختلاف العنوان والمتضمَّن في كل منهما، تظهر الكثير مما هو عالق في تينك المسافة. إنها مسافة قائمة ولماحة، لكنها مسافة رؤية أكثر من كونها مسافة فصل أو فك ارتباط علي صعيد التفارق..
ربما أمكن القول أن الباحث في كتابه الأول، لم يكن يفكّر في أن كتابه التالي، سيكون الذي تمت تسميته، والتعرض لجوانب مختلفة فيه
ولو اختصاراً،ً لافتاً، ولكن القراءة تفصح عن رؤية حداثية للباحث، عن جانب
التأثر بالأدبيات الحداثية، وهو مؤكّدة لقيمتها الذوقية والكشفية للعالم.
إن الانطلاق من ــ إلي، في عنوان الكتاب الأول، ينخرط في مسعي التنوع البحثي، وليس الإرشادي، أي ما يميط اللثام عما هو خفي أو يخفي في ذات الكاتب، عما يتم تقزيمه في نوع واحد، فالحديث عن (أهمية التفاعل الإيجابي بين كل من خطاب السيرة والبعد التخييلي، وهو التفاعل الذي نجد له أكثر من تجل في الأدب العربي الحديث.. ص5)، وحيث تتداخل الأجناس الأدبية في السيرة الذاتية وتتواشج في نسيج النص ولو شفاهاً في التقدير الأول لها، باعتبارها رواية وقصة وسيرة..، كما جاء في الخاتمة(ص 140)، نجد ما يقابل ذلك [url=http://www.maktoobblog.co