اللغة الشعرية وتجلياتها في (البحث عن أزمنة بيضاء)
١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان
تُعَبِّرُ
رواية" البحث عن أزمنة بيضاء" عن مرحلة جديدة في مسيرة الروائي الفلسطيني
غريب عسقلاني الحافلة بالعطاء الأدبي، وتكتسب هذه الرواية أهمية خاصة؛ لكون
بنائها الفني أقرب ما يكون إلى رواية السيرة الذاتية؛ التي تنهض على تقديم
شكل سردي حديث تتقاطع فيه الرواية مع السيرة الذاتية، وهي من هذا المنحى
تعد إضافة جديدة إلى ما سبق أن أبدعه الكاتب في السنوات التي مضت، إذ سبق
له أن خاض مثل هذا اللون من الفن الروائي في روايته"جفاف الحلق" التي سجل
فيها طفولته وسيرة أسرته التي طردها المحتلون الصهاينة من موطنها الأصلي
مدينة"عسقلان"،وانتقلت لتعيش في مخيم الشاطئ بغزة، وحكى فيها التفاصيل
الدقيقة لحياة الأسر الفلسطينية التي تعمل في حرفة النسيج(5).
وتكمن أهمية هذه الرواية في كونها واحدة من الروايات التي تمت بوعي
المبدع ودرايته بجماليات الرواية وملامحها العصرية التي يعيد الكاتب فيها
تأليف ماضيه، فهو ماض له خصوصيته ولونه وطعمه؛ ماض يمتد في الماضي، ويستمر
إلى الحاضر، وفيه تطل الذات إطلالة زمنية ومكانية على مساحات بيضاء، وتمر
بمحطات متنوعة، يتشابك فيها الماضي مع الحاضر من خلال بناء روائي متماسك
بعيد عن التتابع الزمني والتسلل المنطقي للأحداث. ولا يكتفي الكاتب فيها
بعرض مشاهد من ماضيه في شكل تسجيل سردي، وإنما يطرحه في سياق روائي جديد
محاولاً إعادة اكتشافه من جديد.
يبحث الكاتب المثقل بالهموم والأحزان، المعذب بالغربة والضياع، المرجوم
باللهاث الدائب عن بعض فصول حكاياته أو أطراف تلك الحكايات والمحطات
الزمنية التي تحمل عبق ذكريات بيضاء مستثمراً في التعبير عن تجاربه الذاتية
ورؤاه الإنسانية جملة من التقنيات الفنية الروائية مثل: أسلوب الاسترجاع
والحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي وأسلوب التقطيع، والترجيعات، والرسائل.
لعل من أهم ما يقف عنده القارئ من محطات بيضاء تلك العلاقة الحميمة التي
ربطته في طفولته الغضة بـ"فارس" ذلك الروائي الشاب البطل الشهيد الذي
تعرّف الكاتب من خلاله إلى أسرة"فارس" المكونة من والده القاضي، وزوج أبيه
(لطيفة)، وأخته (شمس).
ربما كان دافع الكاتب إلى كتابة سيرته الذاتية هذه هو رغبته في العودة
إلى الجذور، وتحقيق ذاته من خلال اشتداد البعد المكاني الذي قد يثير مخاوف
استمرار انقطاعه عن وطنه، فقد كتب هذه الرواية وهو غريب مشرد لاجئ بعيد عن
مسقط رأسه، وهو يري من حوله الكثيرين من أبناء شعبه مشردين، إذ احتل العدو
الصهيوني وطنه، وشرد أبناء شعبه الذين تقطعت بهم السبل، واستحال على الكثير
منهم العودة إلى الوطن، فجاءت روايته تعبيراً عن تجاربه الذاتية بخاصة
وغربة الإنسان الفلسطيني بعامة.
تعد"الشعرية" ملمحاً بارزاً من ملامح الرواية الحديثة، وهي في مفهومها
العام تشير إلى البحث عن الخصائص النوعية والقوانين العامة التي تمنح الأدب
خصوصية مميزة تفصلها عن أنماط التعبير الفنية اللغوية الأخرى، خصوصية
تتميز بأنها تنبثق من الأدب ذاته، وماثلة في أبنيته اللغوية التي تشترك
الرواية فيها مع الشعر (8/ 79).
لم تعد مهمة الشعرية محصورة في النصوص الشعرية فحسب، بل بالنصوص الأدبية
جميعها، لذلك أمكن الحديث عن شعرية الرواية والمسرحية والمقالة والسيرة
الذاتية.
انسرب الأسلوب الشعري إلى ميدان الرواية الحديثة، فلم يعد يقف عند نمط
الرؤية وموقع الراوي، بل تجاوزه إلي شعرية اللغة والسرد والمكان والشخصية
والتناص والتقنيات الأسلوبية.
وفي محاولة الروائيين الجدد لتطوير أدواتهم الفنية الروائية، اتجهوا إلى
إضفاء جو من الشعر على لغة الرواية عن طريق استثمار إمكانات اللغة الثرة،
بوصفها عنصراً أساسياً في تشكيل البنية الفنية للرواية، ودعا بعض النقاد
إلى العناية بلغة الرواية الحديثة عناية تقترب بها من جماليات لغة الشعر،
وطالب أحدهم" بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالية
المستوى وتأسيساً على ذلك(10/ 115).
غدت"اللغة الشعرية" معلماً بارزاً من معالم الحداثة في الرواية العربية،
وتجلى ذلك في اقتراب اللغة في هذه الرواية من لغة الشعر، فاستعارت طرائقه
وتقنياته التي استخدمت هذا النمط من اللغة لسحرها وجماليتها وتوترها؛ بهدف
التأثير في الذات المتلقية، من خلال السحر الذي تمارسه اللغة الشعرية
وتجلياتها في الرواية إلى درجة يمكن النظر إليها، وكأنها نصوص شعرية، وقد
تعددت مظاهر الحضور الشعري فيها ما بين لغة تصويرية ولغة وصفية إيقاعية
ولغة غنائية انفعالية، ولغة رمزية، واستخدام واسع للمجاز وخروج عن المألوف
في أساليب الربط، وتكوين العلاقات، وغير ذلك من سمات الشعر الفنية(1/ 100).
الدارس لرواية"البحث عن أزمنة بيضاء"، يتبين له أنها تنتمي إلى الكتابة
الروائية الجديدة التي تبني حداثتها عبر أصالة فنها، واستكشاف الهوية،
واختلاف الجنس الإبداعي، وقد حظيت من بين الروايات العربية الحديثة بنصيب
وافر من مظاهر اللغة الشعرية وخصائصها الرئيسة، وهذه اللغة تعد الركيزة
الأساسية التي يتكئ عليها الكاتب في روايته، وتأسيساً على ذلك يمكن رصد
وجهين تجسد ت فيهما السمات الأساسية للغة الشعرية، وهما: شعرية العتبات،
واللغة الشعرية في السرد، وسيعنى الباحث بالمقاطع الأكثر شعرية ذات
التعددية الدلالية التي تخلق مساحة أوسع للتأويل دون أن يهمل لغة الرواية
المألوفة المتعددة،
[b]أولاًـ شعرية العتبات.[/b]
يقصد"بالعتبات" مجموعة العلامات التي تعد بمثابة مداخل تسبق المتن
النصي, ولا يكون له دلالة مكتملة إلا بها، ومن هذه العلامات بالإضافة إلي
غلاف الرواية العنوانُ الرئيس، والإهداء، والعناوين الداخلية للفصول،
والمقدمة، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب: كالصورة المصاحبة للغلاف،
وكلمة الناشر على ظهر الغلاف، وكلها عناصر توجه قراءة النصوص الأدبية،
وتسهم بدور كبير في إثراء تأويل الملتقي لها، وسيقف البحث عند ثلاثة عتبات
هي: عتبة العنوان، وعتبة الإهداء، وعتبة الغلاف الخارجي الخلفي للرواية.
أ – شعرية العنوان.
يعد العنوان عنصراً مهماً من عناصر العتبات النصية وملحقاتها الداخلية؛
لكونه مفتاحاً تأويلياًً، يرشد إلى الأبواب التي يمكن الدخول منها إلى متن
النص، وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الدارس للرواية يقف أمام العنوان ليطل
على عالمها، فعنوان الرواية المثبت على الغلاف الخارجي للرواية هو(.. أزمنة
بيضاء)، وقد ورد في صورة جملة اسمية، هي خبر لمبتدأ محذوف دلت علية تقنية
النقاط(..) التي لم يأت بها الكاتب عبثاً، وإنما لغرض فيه قصدية وتعمد، إنه
يشي بأن ثمة كلاماً محذوفاً ؛ الأمر الذي جعل العنوان يعمل في فضاء مفتوح
وموجب, يستثمر الطاقات الدلالية والتصويرية المشحونة بالإيحاءات والخيارات
المتاحة أمام المتلقي لمفردتي العنوان" أزمنة/ بيضاء" وعلى أكثر من مستوى،
التي منها: أن تجارب الكاتب الإنسانية كلها بيضاء، وان ذكرياته التي تنثال
على ذهنه جلها ممتعة مفرحة،، أما مفردة"أزمنة" فقد جاءت في صيغة التنكير
والجمع في آن معاً، أما التنكير، فيوحي في مدلوله بالشمول والاتساع،
وتأكيداً لإحساس الذات الساردة بافتقادها والرغبة في العثور عليها، في حين
أن صيغة جمع التكسير توحي بالتعدد والتنوع، ووصف الأزمنة بأنها بيضاء، يدل
على توظيف الكاتب لدلالات الألوان وإيحاءاتها الخصبة، لا سيما اللون الأبيض
الذي يرمز للأمن والسلام والسعادة والمحبة، ومجيء العنوان على هذه الصيغة
التي تتميز بأعلى اقتصاد لغوي ممكن، ويحمل المتلقي على التأويل، يقوى
شعريته، ويصبغه بطابع الشعرية.
ما إن يطأ القارئ صفحة الغلاف الداخلي، حتى يفاجأ بعنوان جديد ورد على
صورة أخري هي:" البحث عن أزمنة بيضاء"، ومجيء هذا العنوان بهذه الصورة يقوي
من قدرة العنوان على البوح والإفضاء بالمعنى، ويكثف من دلالته، ويبيح في
الوقت ذاته للقارئ أن يسبح في رقعة أوسع من التأويل؛ لاستكشاف تعددية
المعني وتنوع الدلالات، ذلك أن إضافة عبارة" البحث عن" لتحل محل تقنية
النقاط(..) التي سبقت العنوان" أزمنة بيضاء"، وهكذا تجيء هذه الإضافة؛ بقصد
تحميل العنوان دلالات أوسع وإشارات أرحب.
القارئ المتفحص للرواية، يتبين له أن اللون الأبيض ودلالاته هو اللون
الغالب في الرواية جميعها، ويتردد اللون الأبيض بدلالاته المباشرة وغير
المباشرة في غير موضع من متن النص، كما يتضح من هذه الشواهد: (الأيام
البيضاء، الكف البيضاء، الريش الأبيض، الكوفيات البيضاء، لطيفة
بيضاء،الزنابق بيضاء، القط الأبيض، الشراع الأبيض،الهمس الأبيض، المساحات
البيضاء، السرائر البيضاء،والطير الأبيض، الوردة الجورية البيضاء، الطفلة
البيضاء،الفستان الأبيض،النورس الأبيض، الدخان الأبيض، الفضة، الحليب،
الثلج).
يرمز اللون الأبيض إلى انتصار الخير على الشر، والنور الذي يسحق الظلام والعتمة، ويبشر بالأمل والتفاؤل والإشراق.
إن استدعاء الكاتب لـلأزمنة البيضاء في العنوان، يوحي للقارئ بأن تجاربه
وذكرياته ليست كلها ذكريات بيضاء، وأن ثمة أزمنة في حياته غير بيضاء، ولكن
هذا المغزى لم يبح به العنوان مباشرة، بل ظل مستكناً وراء الدوال، وإن
كانت أزمنته كلها بيضاء، فإن بياضها لم يكن نقياً خالصاً، بل كانت تشوبه
شوائب متنوعة، وتعكر صفوه أمور متعددة، وأن أزمنته البيضاء قد اختلطت
بأزمنة أخرى سوداء وحمراء، سلبت منها النقاء والصفاء والود والمحبة
والطهارة والسكينة والطهر والبهجة والهدوء.
أما اللون الأسود، فيمثل طرف المعادلة الثاني (الخير- الشر) أو (الضياء –
الظلام) ويمكن تتبعه بدلالاته المباشرة وغير المباشرة في العبارات الآتية:
:" أنا لست سوداء، متفجرة سوداء، حفر سوداء، الخدود السوداء، الغابة
السوداء، القشرة السوداء،النقطة السوداء، العتمة، الظلمة، الحالكة، الليل،
الليلكي).
يرتبط اللون الأسود بمعاناة الذات الساردة وهمومها ويعكس إحساسها بالفقد
والغربة والتشظي والغياب، فالبطل يبحث في لهاث دائب عن أزمنة وذكريات
بيضاء تضيء الحياة والظلام الحالك.
تكشف القراءة المتأنية للرواية عن انحياز الغلبة التعبيرية إلى اللونين
الأبيض والأسود، وهذا يشير إلى ثنائية الصراع بين الخير والشر، والرؤية
المهيمنة في الرواية تعكس الانتصار على عالم الظلام والعتمة والظلم، وخلق
عالم نوراني مسكون بالضياء والنقاء والشفافية، ويوحي غلبة اللون الأبيض
كذلك إلى تشبث الكاتب بالرجاء والأمل وإيمانه بان الغلبة لا بد أن تكون
للخير أو الضياء أو عالم النقاء.
تتمازج الألوان: الأبيض، والأسود، والأحمر، والأزرق في مشهد واحد من
مشاهد الرواية؛ لتعبر عن رؤية الكاتب وموقفه من الواقع(7 / 106)، وهذا يشي
بأن ذكريات الكاتب الموصوفة بالبياض هي مزاج من مشاعر متباينة، وألوان أخري
معتمة رمادية تحمل معني القتامه والعتمة الظلام والألم والعذاب والغربة.
الواقع أن في عنوان الرواية ما يشي باندغام الذاتي بالموضوعي والخاص
بالعام والفردي بالجماعي، إذ تغدو ذكريات الكاتب صورة مصغرة لما حل بوطنه
وشعبه، فالرواية تدور حول ذكريات الكاتب التي تحمل أياماً بيضاء هانئة قبل
أن يبتلي وطنه فلسطين بالاحتلال الصهيوني، الذي حول أيامها وحياة أبنائها
إلي أيام سود مفعمة بالآلام والغربة والضياع والتشرد والتمزق، واللجوء في
المنافي، يقول السارد/ البطل، وهو يتذكر وصية أبيه الذي انتقل إلى الرفيق
الأعلى:
"مرقدي في حضن الجميزة يا غريب"، ويؤكد أبوه أن:"الجميزة قديمة في
عسقلان، وفي عسقلان فقط تطرح سبعة بطون، والجميزة بشرتها لينة مطيعة للخدش،
وتنز حليباً سرعان ما يتخثر عن أثر أزلي، أية أزمان عاشوا؟ وعلى أي طعام
اقتاتوا؟ وأي سرائر بيضاء عاشروا؟"(7 / 14،15).
إن توظيف الروائي للألوان في الرواية يؤدي دوراً تعبيرياً فاعلاً في
السياق، ويسهم في تشكيل صوره الفنية ويجسد تجربته، فضلاً عما يثيره توظيف
هذه الألوان من رموز وإيحاءات وتراسل يتعدى الإطار المعجمي ويثري دلالات
الألفاظ، وينتقل بها من المحسوس إلى ما وراء الظاهر، في الوقت الذي تظل هذه
الألوان مرتبطة بشعرية الرؤية والفكرة المحورية التي ينهض عليها بناء
الرواية الفني، وهو بذلك يدعم شعرية اللغة، ويبرز ملامحها.
أما عناوين الفصول الداخلية في الرواية، فقد جاءت في صورة جمل مكثفه،
وعبارات موحية، إنزياحات مجازية، وجاء ورودها على الترتيب الآتي:
(عود ثقاب، في ظلمة حالكة، قناديل العتمة، رحيل الشهوات، ليل الهجانة
الطويل، ظل القط الأبيض، قبلة على رأس لطيفة، الخروج من براويز الصور، أنا
مَنْ يسكن اسمه، القمر في حضن شمس، المقامات، وهي تتكون من أربعة مقامات
هي:" مقام الاعتراف، مقام الأفول، مقام الحضور، مقام الماء".
الرواية في معمارها الفني تتوزع على عشرة فصول تمثل محطات لأزمنة الكاتب
أو مراحل حياته، وكأنه في كل مشهد من هذه المشاهد يجسد مرحلة من مراحل
تجربته، وعلى الرغم من أن كل فصل في الرواية يحمل عنواناً مستقلاً، ويندرج
تحت كل عنوان عناوين فرعية تتصل بعنوان الفصل، فإن هذه العناوين تبدو
متماسكة مترابطة يلفها وشاح شعوري وفكري واحد، ويربطها حبل مشيمي، لا يمكن
أن ينفصم بعضها عن بعض. هذا التماسك والترابط والتعالق سمة من سمات اللغة
الشعرية التي سعى الكتاب إلى تحقيها في بناء أعمالهم الروائية بناء لغوياً
قائماً على التكثيف والترابط، والوحدة العضوية المتماسكة.
المتصفح لهذه العناوين، يجدها تؤشر إلى مكونات عاطفية ذاتية، فهي في جزء
منها تجسد حالات شعورية قائمة على أسلوب التضاد: الأبيض والأسود، العتمة
والضياء، وهذه المفارقة التصويرية تقوي الإحساس بالفكرة وتعمقها، وتبرز
مكنونات النفس الداخلية، إلى جانب أن الاعتماد على عنصر التضاد اللوني
بالمقابلة بين اللونين: الأبيض والأسود يعد انعكاساً لثنائية الصراع بين
النور والظلام، وكثيراً ما تكون الغلبة لصالح اللون الأبيض في انتصار الأمل
على اليأس.
يلحظ القارئ أن عناوين الفصول قد جاء جلها في صورة جمل اسمية، وقد غابت
عنها الجمل الفعلية؛ ليسود التقرير والثبات على حساب الفعل والحركة
والصراع، والاسمية مهيمنة على كلمات العنوان؛ لقوة دلالتها من ناحية؛
ولأنها أشد تمكناً في النفس، وأخف على الذوق السليم من الدلالة الفعلية من
ناحية أخرى (11 / 65).
الواقع إن العناوين الداخلية تحتمي بالإيحاء الشعري، وفيها حضور شعري
متوهج، وطاقة تحمل رصيداً لا نهائياً من احتمالات التأويل والتحليل، والجمل
في العناوين تتسم بالتكثيف والإيحاء والدلالات والرموز التي توحي بمعان
ومشاعر ودلالات ثرة، وهي منسجمة مع فكرة النص وقضاياه التي تقابل الرواية
من الناحية الدلالية، هذه العناوين تحمل سمات الذاتية والعاطفية، إنها نتاج
إنسان له أشواقه ورؤاه ومواقفه وذكرياته وأحلامه.
ب ـ شعرية الإهــداء.
يعد الإهداء عتبة ثانية بعد عتبة العنوان، وهو يشكل موجهاً رئيساً للنص
الروائي، وقد احتل الإهداء في الرواية موقعاً متميزاً في وسط الصفحة، إذ
جاء مكوناً من أربعة أسطر، موزعة بطريقة معينة، تحاكي نمط مقطعة شعرية فشكل
بذلك خطاباً بصرياً، يقول الروائي غريب عسقلاني في إهدائه:
إهداء إلى
فوزية مهران التي تقرأ في قاموس البحر سيرة ربانها الذي رحل،
وشمس الغافية على ذراع البحر في ظل شراع شاخت ساريته.
امرأتان من عطش,
تعيشان شهوات الأمكنة في أزمنة بيضاء.
بالإضافة إلى الوظيفة التعبيرية التي تكفل الإهداء بها، وهى وظيفة
الإخبار والتبليغ عن علاقة تشابه وتماثل بين المهدى إليهما. فكلتاهما
تتقاسمان الهموم والأحزان والغربة والآلام، ويغمرهما الإحساس بالرحيل
والفقد والشوق والحنين إلى عالم مثالي مجهول.
إن اجتماع هاتين المرآتين(فوزية وشمس) يثير التساؤل حول مقدار التداخل
بين الواقعي والمتخيل، ومقدار التماهي بين شخصية" فوزية" الواقعية،
وشخصية"شمس" المتخيلة، وهل هما شخصية واحدة؟.
بقدر ما حملت (فوزية) من رمز وطهر وعفه وشوق وعذاب، كذلك تحمل" شمس"
دلالات إيحائية اكتنفها هذا الاسم" شمس" الذي يعد من الرموز ذات الكثافة
الدلالية الثرة، فهو مصدر الحياة والقوة والخير والضياء والنور والأمل
والرجاء والنماء والإلهام، وكل ما هو طيب، كما أنها ترمز إلى التسامي
والعقل والإيمان، وقد يحدث التماهي بين الشخصيتين، لكن أيهما أوجد الآخر
(فوزية) تتقمص شخصية (شمس)، وتبرز من خلالها بعض تفصيلاتها في المتن أم أن
شخصية (شمس) تستكمل وتسد ما كان في الواقع من حرمان ونقص وعوائق، فكانت شمس
الجزء الغائب والمشتهي في شخصية (فوزية)، إن التماهي يبلغ ذروته وتكون
(شمس) هي المعادل الموضوعي لشخصية (فوزية) مع ما يستوجبه الخيال الفني
والحبكة الفنية.
بذلك يكون المتن قد اكتمل بحضور شخصيتين هما: (فوزية) و(شمس) المهدى
إليهما، فـ(فوزية) تحيل إلى شمس البطلة المحورية في الرواية، والمُهدي الذي
ليس سوى الراوي الذي يتخفى وراءه (غريب عسقلاني)، وتبرز في متن النص
الروائي العلاقة بين المرسل الباث وبين (فوزية وشمس) قوية واضحة، وهي علاقة
صداقة، والصداقة وما يتولد عنها من مشاعر الود والمحبة والإخاء والتضحية
هي أغلى ما يهيمن على العلاقات الإنسانية، يقول السارد على لسان (شمس):
صديقتي فوزية مهران كانت تبحث عن رجل يحمل اسمين، فوجدته في أسطورة فرعونية، في أي الأساطير أعثر عليكَ يا غريب؟
أم أن السارد أراد الصداقة الأدبية التي تجمع بين المشتغلين بحقل ثقافي
واحد ألا وهو عالم الرواية، حيث يتقاسم معهما هموم القراءة وعذاباتها،
فيكون مجال الاهتمامات الإنسانية والقضايا الفكرية ميداناً أرحب من أي
علاقة أخرى.
هناك في الرواية ما يشير إلى أن العلاقة بين الراوي / الكاتب و(فوزية /
شمس) المهدى إليهما علاقة قوية، فكلتاهما مصدر إلهام للكاتب، ومن حياتهما
استمد مادة رواياته، يقول السارد في حوار مع شمس(7 / 10):
ماذا تكتب هذه الأيام يا غريب؟
أبحث عن موضوع يا شمس.
قد تكون شمس موضوعك الجديد.
وفي أحد مقالاته النقدية يعبر الروائي عسقلاني عن العلاقة التي تربطه بالكاتبة الروائية فوزية مهران بوصفها ملهمة له، يقول:
"وبعد يا صديقتي، ومعلمتي التي شكلت ورفاقها وعي جيلي, فقد حاولت التسلل
إلى قصص معنية، أبحث فيها عن شفرات تأخذ بيدي إلى فضاءات عالمكِِِ
الأثيري, المؤسس على معرفة ثرية بالنفس البشرية..."(6).
يؤدى الإهداء وظيفة جمالية في تشكيل اللغة الشعرية في الرواية، ويتجلى
ذلك من خلال الانزياحات اللغوية، والتراكيب المجازية مثلقاموس البحر،
ذراع البحر،الشراع الذي شاخت ساريته، امرأتان من عطش، شهوات الأمكنة،
الأزمنة البيضاء).
تكشف القراءة أن الإهداء يحتوي على إيماءة خفية توحي إيحاء شفيفاً، لا
يدركها القارئ العادي، وهي أن (قاموس البحر) الذي تقرؤه فوزية يحيل إلي
رواية بهذا الاسم للروائية المصرية فوزية مهران، وأن الربان الذي رحل ما هو
إلا بطل تلك الرواية، الربان العاشق الذي تمخر سفينته عباب الماء إلى
الفنارات المنسية/ الحاضرة لإرشاد سفن الماء حتى لا تقع في شرك الارتطام،
وتعد هذه العبارة استدعاء موحياً ذا دلالات ثرة، جاءت متآزرة مع سياق
الإهداء تغنيه وترسخ مغزاه في النفوس.
إن عتبة الإهداء لم تأت منفصلة عن عنوان الرواية من ناحية، وعن المتن
الأصلي للرواية من ناحية أخرى، بل جاءت عباراته متشظية في غير مكان من متن
النص الروائي، وبذلك يكون الإهداء قد قام بعملية استباقية؛ لتقديم الشخصيات
المحورية في الرواية، وحقق دهشة الشعر وإيحاءاته، وفتح فضاءات رحبة
للإيحاء والبث، يقول السارد:
"كيف سيكون الأمر مع امرأة تنام على ذراع البحر" (7/6).
"شمس هناك غافية على ذراع البحر" (7/ 50).
"لم تحدثني عن عطش الندى.
سأحدثك طويلا عن العطش" (7 / 12).
"رحلت شهواتها بعد رحيله" (7 / 29).
"نساء الماء يصعدن من عميق العمق، يركبن سطح الماء من حولها، يتطهرن، وقاموس البحر لا يعرف فصلاً للدنس والموبقات"(7 / 102، 103).
الواقع أن دوال الإهداء جاءت متميزة، تعبر عن مدلولات وحالات نفسية
متشابهة، وترمز لتجارب إنسانية موَّارة بالعواطف الإنسانية، وهذه الدوال
هي:" الرحيل، البحر، العطش، الشيخوخة، الشراع" فهذه الدوال تشي بالذبول
والغربة والحيرة والضياع والضعف والوهن، فدال"البحر" الذي جاء قاسماً
مشتركاً بين شخصيتي (فوزية وشمس) يرمز للغموض والإبهام والخطر والخوف،
وحضور"الشراع" في قلب الصورة يمثل رمزاً للصراع بين الإنسان والبحر،
وارتباط الإنسان بالبحر كان دائما يثير الكثير من الأحاسيس الغامضة المبهمة
إلي جانب الخوف والصراع من أجل البقاء.
ج - شعرية الغلاف الخارجي الخلفي.
يعد غلاف الرواية عتبة أساسية للدخول إلي النص، وتشكل موجهاً مهماً، لا
يمكن للقارئ أن يتجاهله؛ لما له من دلالة تساهم في توجيه توقع القارئ ورسم
أفق انتظاره؛ لذا فإن أي مقاربة للوحة الغلاف الخلفي من قبل قارئ عادي تبقى
قاصرة عن سبر أغوارها واستكناه دلالاتها.
احتوي الغلاف الخلفي فقرات متتالية وردت في متن النص الروائي، وجاءت
بطريقة مقصودة من قبل المبدع؛ لتكون مفتاحاً تأويلياً لمضمون الرواية،
ويبدو أن الناشر قد قرأ الرواية قراءة جيدة، أو أصغى إلى كاتبها الذي أوعز
إليه بأن يختار كلمته التي يريد أن يضعها على الغلاف الخلفي للرواية من هذا
المقتطف من الرواية؛ بوصفه يمثل بؤرة الرواية ومحورها المركزي، ويعد من
أبرز سماتها وخصائص أسلوبها الفني. يقول السارد/ البطل مناجياً
معشوقته"شمس":
"هل تورّد فيكِ الامتلاء فيض شهوة غسلت أديم جلدك بالعرق؟ وهل تذوقت
روائح وسادة من أثير؟ وهل تمرغت على حشايا من ندى؟ وهل ما زلت تنتظرين
فارسك النبيل؟ أم أخذتكِ القطارات إلى غير مراعيكِِ، جذبتكِ روائح الفتيان
في قاع المدينة، والمدينة تأكل المستور خلف أردية النساء، وأنتِ عارية كوجه
الله لم تأخذي بلعبة الأقنعة.
ماذا تطلبين من مدينة خائنة لعوب، تفقأ بؤبؤ القلب في صدر الوليف.
والوليف يرتدي قميص جلده، يتزود بالأغاني والأهازيج الرخيمة، لم ينل شبعاً،
ولا رطب ريق قلبه من جفاف. يتساوى عنده لفح نار الصيف مع برد الشتاء.
ابتنى كوخاً على طرف الزمان وتسلي وتعرى وتعرف كيف يسكن اللحظة موتاً خلف
ريق الأسئلة.
همه الأوحد مرقد في مقلتيك، يا امرأة ما بعد الفصول. والذي أنا هو، وأنا
الغريب، طيّرتُ أغنيتي على جناح رنة صوتك المغناج، وأغنيتي تقول:
خارج مدار الروح لا يأتي القطار.
وأنا على رصيف الانتظار طالت وقفتي/ غربتي.
فهل يا شمس، يأتينا القطار؟(7 / 47، 48).
من يقرأ هذه الفقرات المجتزأة من متن النص، يدرك أنها أسطر من قصيدة
نثرية، ضلت طريق الشعر، فارتمت في أحضان النثر، وقد تجلى فيها كثير من سمات
تلك القصيدة التي تبدت في لغتها الشعرية بما تحتويه من دوال منتقاة مترعة
بالإيحاءات والإيماءات النفسية، وصور استعارية، وإيقاعاءات نغمية،
وإنزياحات بلاغية، ولغة انفعالية متوترة، بالإضافة إلى هيمنة جو صوفي
روحاني على أجواء هذه القطعة الشعرية النثرية.
فالتساؤلات التي تقاطرت في النص الروائي، تكشف عن قلق الذات وتوترها
الداخلي، وتعبر عن ظمئها ورغبتها في إشباع حاجة النفس إلى معرفة موقف
المحبوبة من فارسها النبيل، وتسعى الذات الساردة جاهدة عبر صيغة سؤال
المحبوبة(شمس) المسكون بالحيرة والتوجس إلى معرفة كنه العلاقة التي تربط
السارد/ البطل بالمحبوبة، هذه العلاقة ظلت الهاجس الشاغل للوليف:
هل تورّد فيكِ الامتلاء فيض شهوة غسلت أديم جلدك بالعرق؟
وهل تذوقت روائح وسادة من أثير؟
وهل تمرغت على حشايا من ندى؟
فهل يا شمس، يأتينا القطار؟
ويأتي السؤال بصيغة التسوية(أم)"وهل ما زلت تنتظرين فارسك النبيل؟ أم
أخذتكِ القطارات إلى غير مراعيكِِ، جذبتكِ روائح الفتيان في قاع المدينة"،
تعبيراً عن ضبابية الرؤية، واختلاط الأشياء، وعدم قدرة الذات على الحسم
والاختيار.
هذه المناجاة الحرَّى بوحٌ شعري وجداني صادر عن عاشق موله، يحيل القارئ
إلى فضاءات واسعة من التأويل، تجعله يتساءل: مَنْ تكون"شمس" التي يناجيها
السارد / البطل ؟ إذ ليس ثمة ما يشير إلي ما يحدد هويتها وملامح شخصيتها،
وهنا تحدث الدهشة والمفاجأة، وهما عماد اللغة الشعرية، وركيزة من ركائزها
الأساسية.
هل هي فتاة ما محددة الملامح والقسمات والهوية؟ أم أنها رمز للحب الذي
يطمح الروائي إلى تحقيقه بما فيه من نقاء وطهارة، ومحبة وألفة؟ وما المدينة
كذلك إلا رمز للآثام والأحزان والقهر والمعاصي والموبقات، وتلك نظرة
مثالية، تجسد الهروب من الواقع البائس إلى عالم الحب الرحب الذي تمتزج فيه
القداسة بالبراءة. وقد أشار الكاتب إلى هذا المغزى في غير مكان من روايته،
يقول واصفاً (شمس):
"لم تقترب من سيرة فسق أو فجور أو خيانة، تريد أجندتها نظيفة من كل رجس"(7/ 21).
" لم َتدُر يوماً على أعتاب حانات المدينة، والمدينة لوثتها المواخير
وخطايا الساقطات، لم تكن يوماً حديثاً بين أشداق السكارى والمغنين على دلع
الأراجيل الرخيصة"(7 / 70).
إنها مناجاة مترعة بالإفضاء والبوح والكشف، مضمخة بعبق الشوق والحنين،
وما يمور بمكنونات النفس الداخلية من أحاسيس وانفعالات وشوق الوليف إلى
محبوبته.
إن اللغة الشعرية في هذا المقتطف بما تمتلك من إمكانات نغمية تولدت من
التساؤلات المتلاحقة، قد أدت دوراً مؤثراً في الكشف عن توتر الذات وحيرتها
وقلقها وصراعها، وجلت أبعاد العلاقة بين السارد البطل ومحبوبته (شمس)
وتجلياتها. فالوليف يركض وراء المحبوبة ويمارس طقوس العشق في حضور قوي
يؤكده ضمير الغائب (هو) المندغم بضمير المتكلم (أنا)، المتشبث بالأفعال
المتعاقبة(يرتدي، يتزود، ابتنى، تسلى، تعرى، تعرف، طيّر)، لغة انفعالية
متوترة تؤثر في المتلقي وتحقق المشاركة الوجدانية بين الذات الساردة والذات
المتلقية.
[b]ثانياً ـ اللغة الشعرية في السرد.[/b]
ما إن يتخطى المتلقي عتبات الرواية: العنوان، والإهداء، وكلمة الغلاف
الخارجي الخلفي، حتى يلتقي السردَ الروائي الذي تهيمن عليه أجواء لغة تقترب
من شواطئ الشعر، وتلامس حدوده، وتستوعب بعض ملامحه، ومن هذه الملامح:
انتقاء المفردات والكلمات العامرة بالإيحاء، والدلالات الغنية، والقوة
المجازية، وانفتاح الدلالة وتعددها، والصور الفنية المبنية التجسيد
والتشخيص، وتراسل مدركات الحس، واللغة الشديدة التكثيف والاختزال، ومثل هذه
اللغة تحتاج من المتلقي قدراً كبيراً من التروي والتأمل والإدراك حتى
يتمكن من فض مغاليق النص(9 / 43).
المتصفح للرواية يجد أن معظمها يعتمد على اللغة الشعرية، وأن هذه اللغة
تتجلي في جملة من المكونات التي تتوزع في الفضاء الروائي ومن بينها: مستوي
الجمل والعبارات والتراكيب، ومستوي الصور الفنية الوصفية والإيقاعية،
والرمزية.
من سمات اللغة الشعرية التي تجلت في السرد الروائي الصورُ الفنية
المبنية على المجاز والاستعارات والكنايات والرمز، والصور ذات الدلالات
الحسية من حركية وسمعية وشمية وبصرية، وقد برز ذلك من خلال الجمل والتراكيب
الآتية:
"عود ثقابٍ يذهب للموت قبل أن يرضع طعم الحقيقة، إلا من حقيقة لهبٍ تمتصه
إسفنجة العتمة"(7 / 5).
"فتيل القنديل يرضع من زيت القلب. يتوهج ولا يحترق"(7 / 6).
" العشاق يسترشدون بقناديل قلوبهم في العتمة"(7 / 6).
"أوراق دفاترها سهول وأنهار وجداول وصحارى"(7 / 11).
" أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغبٌ ناعس يمتصُّ ندى الفجر"(7 / 25).
" أبحث عن فصولي... ألملم بقاياها من الطرقات، ومن أصداف الشواطئ... أمارس جنون الخلق"(7 / 7).
" اليوم أنت امرأة صغيرة تسكنك العصافير...تمضغين بعضاً من حكاية.. امرأة أصبحت تمارسين اللهاث"(7 / 49).
" اجدلي يا شمس فتيلا من ضفيرة القمر، وازرعيه في بطن قناديلك، وأشعليها بزيت من ينتظرونك، والليل طويل"(7 / 79).
"صوتك يا شمس له طعم الياسمين"(7 / 43).
المتابع للجمل والتراكيب السابقة، يدرك مدى اتكاء الكاتب على عناصر
التشخيص والتجسيد وتراسل الحواس، ويجد قارئُ الرواية أنها تسير حتى نهايتها
على هذا النسق السردي في اللغة، إذ تقترب هذه اللغة من لغة الصورة
الشعرية، وتعتمد على الإيحاء والتكثيف الفني وتراسل الحواس، والتراكيب غير
المألوفة للسياق اللغوي، مثل:"يرضع طعم الحقيقة"،"اللهب تمتصه إسفنجة
العتمة" قناديل القلوب"،" أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغبٌ ناعس
يمتصُّ ندى الفجر"،"الصوت له طعم الياسمين".
إن مثل هذه الصياغة اللغوية قد أعانت الكاتب على تجسيد المغزى الكامن
وراء تلك العبارات التي أشاعت في كثير من مقاطعها روحاً من الشعر، تمكنت من
السيطرة على نفوس المتلقين، وحققت شرط الشعرية في الرواية.
من أبرز سمات السرد الشعري أن الكاتب في مقاطع كثيرة من الرواية كان
يروم رسم صور فنية ولوحات شعرية متكاملة للشخصيات والأمكنة والأحداث،
يتداخل فيها السرد الشعري بالتشكيل الفني، فيغدو المقطع كأنه لم يكتب
بالقلم، وإنما بفرشاة فنان، ومن الصور الفنية ذات الصبغة الشاعرية ما رسمه
الكاتب من لوحة وصفية حية لأبعاد محبوبته (شمس) التي يناجيها، قائلاً:
"يا امرأةً ـ امتطت مياه أنهاري، أمسكت بلجام لهاثي، حصان أنا يمضي إلى
محطة وصول، وأنت لا قيد يزمل فيك وهج الرغبات ولا لجام يتمطى بين فكيك يعود
بك إلى مرابط الخيول"(7 / 53).
وفي لوحة أخرى يقول:
" ما الذي اعرف فيك يا شمس أبعد من امرأة تكتب نفسها صباح مساء وتعجن
رغيف يومها من لحمها ولا تقدر على مضغة، فتعيده من جديد وتشكله رواية أو
قصة؟" (7 / 53).
"إني أراك وقد تعلقت بضفيرة الشمس امرأة من شوق، لا أحد غيري يرى امرأة من أشواق تتشكل لحماً وعظماً ونبضات بدن"(7 / 54)..
"
شمس امرأة تعيش الأرق..تحمل غربتها، تصبح أوسع من مساحات الأجندات
والتواريخ، يومها يتوزع بين ابتسام وعبوس... أوراق دفاترها سهول وأنهار
وجداول وصحارى, امرأةٌُ تدخل المذبح كل يوم وتخرج عفيةً تبحث عن نقاهةٍ من
جور التفاهة"(7 / 10، 11).
"
شمس صوتها مشروخ مثل مرآة قلبي، تشطر الصورة صورتين، صورة تدب على الأرض
من لحم ودم، صورة أخرى تأخذ العين إلى الوهم كأنه صلب الحقيقة"(7 / 78).
تكتسب التعبيرات في هذه الفقرات أبعاداً ذاتية انفعالية تتمثل في
المفردات والتراكيب والجمل، فالكاتب مثلاً يجنح لاستخدام أسلوب النداء" يا
شمس، يا امرأة" ليعكس إحساسه بالوحدة والغربة والفقد، وحاجته إلى من يشاركه
هموم هذه الحياة وأعباءها، إنه يريد التوحد والاندغام مع معشوقته (شمس)؛
لأن همهما واحد، وغربتهما واحدة، ورغبتهما في العودة إلى الوطن واحدة، إنها
امرأة من دم ولحم، امرأة حقيقية..
وأحياناً أخرى يضفي الكاتب على ملامح(شمس) دلالات أسطورية، فيبرزها في
صورة المعشوقة التي تعلو فوق البشر، وتسمو فوق المخلوقات، وهذا البعد
الأسطوري لشخصية شمس يعكس نظرة الكاتب إلى محبوبته، فيقول:
"الطفلة خرجت من كهف الرحم إلى نور الحقيقة، دون صراخ، وأنها خرجت قبل أن
تشتد آلام المخاض. قالت لطيفة إن ريحاً من أثير سكنتها عند ميلاد شمس، وهي
تعجب من طفلة لم تصدر عنها"كغكغة" الصغار، كل ما تأتيه تقصف في الشفتين عند
الشبع أو عند حالات الوجع"(7 / 90).
"شمس ذات العينيين اللتين تطلان من كهف العتمة إلى بهاء الضياء"(7 / 54).
هذه هي شمس لم تكن ولادتها كما الآخرين، شمس كانت تتعلم من أمها فنون
السباحة بعد الميلاد عارية كالحقيقة، بيضاء كلون النقاء الأزلي: (7 / 53).
وفي لوحة أخرى يجد المتلقى صورة (شمس) محفوفة بهالة قدسية أو علوية،
وتقترن مناجاته لها بالرهبة والتجريد، وتحمل سمات أهل التصوف أهل العشق
الإلهي، فهو يصل إلى قمة الحلول الصوفي حين يسألها:
"من أنتِ يا شمس؟
أنا روحٌ يبدأ جسدي من يدي التي تكتب، وينتهي عندها !" (7 / 11).
ويقول في مناجاة مفعمة بالشوق والهيام وقد اكتسبت طابعاً صوفياً:
"أنت في أوردتي صهيل مهرة رشفت ماء الجداول، أطلقت فيّ جنون البوادي.
"ما الذي تفعله رنة صوتك في بدني، رجفة رعشة تأخذني إلى مقامات الحلول، روحك ترحل فيّ"(7 / 46).
"هذا الصباح رأيت صوتك أخضر يا شمس، أقسم أني رأيته أخضر، وعَبَرَتني
سكينة، واغتسلت بشلال راحة، وكنت تعبرين سهولاً، وتفيضين مثل ساقية عذراء،
ترهفين لوشوشات عصافير نقرت قشر البيض لتوها، تطل من كهف العتمة إلى بهاء
الضياء"(7 / 44).
وفي مشهد آخر يقول الكاتب مناجياً محبوبته (شمس):
هذا الصباح أنت شجرة تعطي وتختال، وأنا على الطرف الآخر أدخل حالة شفيفة مثل ندى الفجر" (7 / 45).
إن هذه الصفات التي أضفاها الكاتب على أبعاد صورة محبوبته(شمس)، جعلته
يقترب في رسم صورة المحبوبة(شمس) وملامحها من التجارب الروحية للمتصوفة،
فنظر إلى المحبوبة تلك النظرة الروحية التي ملؤها الإجلال والضياء والطهر
والقداسة، وارتفع بها إلى آفاق علوية سامية، واستغرق في محبوبته استغراق
الصوفي في معبودته، فرآها: كالملاك الرقيق الطاهر الشفاف، أو الروح الجميل
الذي صاغه الله، أو الشجرة التي هي مصدر الخير والعطاء.
وكما توحد السارد/العاشق بمحبوبته(شمس)، واندمج معها، فقد جعل المحبوبة
هي الأخرى تندمج بالطبيعة، فتجلت كالشجرة (أنت شجرة تعطي وتختال) بما
تكتنزه من دلالات نفسية غنية توحي بالخصوبة والخير والنماء.
امتاح الكاتب عناصر هذه الصورة الصوفية، ومادتها الأصلية من الحقول
الدلالية للغة المتصوفة، ونظرتهم المثالية إلى المرأة، فقد ترددت في هذه
المشاهد الدوال والتراكيب المستوحاة من الأجواء المحيطة بالتجربة الصوفية
مثل:" الروح، الجسد، الأوردة، مقامات الحلول، الروح الراحلة، الصوت الأخضر،
العبور، الفيض، كهف العتمة، بهاء الضياء، الصباح، الحالة الشفيفة".
تكشف القراءة أن ثمة عناصر عديدة قد ساهمت في رسم هذه اللوحة الفنية
الصوفية: منها الوظيفة الإيحائية التي أداها اللون الأخضر بمستوييه:
المباشر والدلالي، وما فيه من ارتباط بأجواء التجربة الصوفية التي يتنفس
فيها الروائي، وبما أشاعه من هذا اللون من دلالات تجذرت في الوجدان الصوفي،
وما أوحى به من رموز النعيم والجنان، وفي هذا السياق امتزج الصوت والضياء
المنبعث من الصباح بالخضرة، ورمزا لـ"أحوال" و"مقامات" تدنو منها الذات
الساردة تبعاً لحالتها النفسية.
إن مثل هذه الصورة المتنوعة لمحبوبة السارد / البطل (شمس)، لا بد أن
تستثير الذهن، وتبعث على الحيرة، وتفجر السؤال عن كنه صاحبتها وحقيقتها، هل
هي حقيقة أم خيال أم كلتاهما معاً؟ هل هي رمز لحب مثالي صوفي بلغ قمة
الحلول الصوفي، واتسم بالطهارة والنقاء والقداسة؟، هل هي" صورة تحمل كل
رموز الوطن، يتوحد معها السارد/ البطل غير عابئ بالبعد الجغرافي؟، هل هي
شخصية أسطورية ود الكاتب" أن يجعل من(شمس) أسطورة جديدة لأفروديت، أم أنه
كان يرغب في أن يجعلها كأسطورة إيزيس الفرعونية التي كتب عليها ان تجمع
أشلاء أوزوريس لتعيده إلى الحياة من جديد هل أراد بهذه الأسطورة ان يستعيد
أشلاءه المبعثرة في الأرجاء بواسطة شمس..."(4).
يغلب على هذه الفقرات المقتطفة من الرواية الطابع الشعري الذي لا يقل
روعة وبهاء عن كثير من القصائد الشعرية، ويتجلى ذلك من خلال اتكاء الكاتب
على الصور البيانية التشبيهية ذات الدلالات الموحية والإيماءات المكتنزة
بالظلال والمعاني التي تتعانق مع الحالة العاطفية والنفسية للذات الساردة،
فهي صورة لا تقوم على التماثل بين طرفي التشبيه، وإنما تظل العلاقة مفتوحة
لمزيد من التأويل والتفسير،(أنت في أوردتي صهيل مهرة، أنت شجرة، أنت روح،
أنت ساقية عذراء)، وهي لغة تعتمد على البوح والإفضاء والكشف، لغة مشحونة
بالذاتية وشظايا الأنا والانكسار الذاتي. لغة شفيقة تنساب عذوبة ورونقاً،
تعبر عن العالم الداخلي للشخصية بكل أبعادها النفسية من شوق وحنين.
وفي مشهد آخر يرسم الكاتب لوحة وصفي فنية جسّد فيها أبعاد شخصية (رجال
الهجانة السودانيين الذين تنسب إليهم (تلة السودانية) التي تقع شمال مدينة
غزة) وملامحهم الخارجية والداخلية، يقول السارد واصفاً تلك التلة، وما يتصل
بها من فضاء مكاني:
" تلة رملية شقراء تركب الشاطئ وهي جزء منه, وخيمة كبيرة عميقة الأوتاد
تصمد أمام الريح، تنتظر النوّات بتوجس محسوب، ومراح جِمال ناخت تجتر ما
تختزنه من عليق فقير، تلوك الجمال أسرار الصحاري،رجال الهجانة على الهوادج
العالية، يشقون الهواء بضربات الكرابيج، يتألم الهواء بحاتٍ قصيرة، الهجانة
خدودهم سوداء مشروطة عن جروح قديمة، يلفون رؤوسهم بكوفيات بيضاء ناصعةٌ
نظيفة. جاءوا من بعيد البعيد، صامتون، لا يخالطون الناس، قلما
يتحدثون،..سيرتهم بين الناس كرابيج تحفر على الظهور خطوطاً من نار محقونة
بآلام تسري تحت الجلد.السود طيبون، تركوا الأهل والوليف والولد، يعيشون
الاشتياق في الليل وعند الفجر، يطيرون أغاني ومواوييل حزينة"(7/ 33).
اعتمد الكاتب في تشكيل هذه اللوحة على عناصر متعددة: كالصور اللونية،
والدوال ذات الإيماءات الموحية، والانزياحات البلاغية المجسدة للرؤى
والمضامين، والجمل القصيرة المتوترة، المكتنزة بالإيحاءات مع الاستغناء عن
الروابط بين الجمل، والاتكاء على الجمل الاسمية التي ترمي إلى تقرير
المعنى، وتثبيته في الذهن، وكلها عناصر تصويرية فنية تشد القارئ إلي أحياز
اللغة الشعرية، بالتضافر مع الإيقاع الصوتي المنبعث من التراكيب اللغوية
مثل: (بعيد البعيد)، والصيغ المتماثلة في بناء هيئتها الصرفية نظير:
(يخالطون ـ يتحدثون ـ يطيرون ـ يغيبون ـ يلعبون). إن انتهاء هذه الصيغ
الصرفية بصوت (الواو) وهو من الأصوات الصائتة و(النون) ينسجم مع المغزى
الذي يريد الكاتب التعبير عنه، ويعمق الصورة الإيقاعية في النص الروائي
ويثريه، ويجعله وسيلة تعبير وبناء في آن واحد.
اتكأ الكاتب في الصورة الوصفية السابقة على توظيف عنصر النعت في صياغته
اللغوية، والذي يعد مظهراً أساسياً للغة الشعرية من خلال الانزياحات
السياقية، سواء على مستوى اللون أم المكان أم الشخصيات مثل:"تلة رملية
شقراء، خيمة كبيرة عميقة الأوتاد صامدة، توجس محسوب، عليق فقير، الهوادج
العالية، بحاتٍ قصيرة، خدودهم سوداء مشروطة، جروح قديمة، كوفيات بيضاء
ناصعةٌ نظيفة، خطوطاً من نار محقونة بآلام سارية، أغاني ومواوييل حزينة".
أدت النعوت هنا دوراً مهماً في تكثيف الدلالة، والإيحاء بالمغزى الكامن
وراءها، ذلك أن الكلمة في النص الروائي الذي يتصف بطابع الشعرية تتحول إلى
إشارة، لا لتدل على معنى، وإنما لتثير في الذهن إشارات أخرى، وتجلب إلى
داخلها صوراً لا يمكن حصرها(3 /232).
استغل الكاتب لوحة(رجال الهجانة) التي جسد فيها ملامحهم النفسية، وما
يعتلج في صدورهم من أحاسيس الشوق والحنين إلى أهلهم وأوطانهم؛ ليكون
معادلاً نفسياً، لمشاعر الغربة والفقد التي تضطرم في أعماق نفس القاضي الذي
اضطر للرحيل عن مسقط رأسه مدينة الخليل إلى مدينة غزة بسبب مواقفه
الوطنية، ويعكس موقف القاضي في الوقت ذاته ما يعانيه أبناء الشعب الفلسطيني
من هموم الغربة والفرقة وآلام البعد عن وطنهم وأهليهم، وقد جسد الكاتب ذلك
في الحوار الذي دار بين القاضي وزوجه(لطيفة) التي سألته عن حداء القافلة
الذي يرسل مواويلَ حزينة، فأجابها قائلاً:
الحادي يناجي وليفه بعيده، وأولاد كبروا وأم وأب ربما غادروا، وهو ما زال يعيش الغربة.
بأي لغة يغني؟
لغة الأشواق واحدة يا لطيفة.
هل تعرف لغتهم؟
المجاريح يتعرفون إلى سر ألم الفراق والغربة(7 / 37).
من يتأمل بناء الصور الوصفية في الرواية، يجد أن الكاتب كان أميل إلى
استخدام اللغة الشعرية منه إلى اللغة العادية المباشرة المألوفة، وقد تجلى
ذلك في تحديد ملامح عدد من الشخصيات الروائية، وتحليل نوازعها الداخلية
ومشاعرها من مثل شخصية: شمس، ولطيفة، وفارس، والسارد نفسه.
الحقيقة أن ليس ثمة لغة أقدر على نقل أبعاد هذه الصورة الموحية المكتنزة
بالدلالات والرموز مثل اللغة الشعرية بدوالها وتراكيبها العامرة بالغنائية
والرهافة والإيحاءات والألوان والظلال. فاللغة الشعرية تسعى إلى أن تكون
الصور الوصفية مؤثرة من جهة ما تؤدي من دور مهم في إخراج المتلقي من نمطية
اللغة الواضحة المحددة المباشرة، إلى نمط أخر يستفز القارئ ويمتحن مقدرته
في الربط بين الأشياء وإقامة العلاقات بينها.
ثمة لوحات وصفية أخري يشخص فيها الكاتب عناصر الطبيعة، ويخلع عليها
صفات إنسانية، فيحيلها إلى كائنات حية تشارك الإنسان أحزانه وعذاباته من
جهة وأفراحه ومسراته من جهة ثانية، فمع مطلع بعض فصول الرواية لا تلبث
الطبيعة تعلن عن وجودها الفاعل، وتتجلي في لوحات نابضة بالحياة والحيوية
مثل قول السارد:
"الري
١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان
تُعَبِّرُ
رواية" البحث عن أزمنة بيضاء" عن مرحلة جديدة في مسيرة الروائي الفلسطيني
غريب عسقلاني الحافلة بالعطاء الأدبي، وتكتسب هذه الرواية أهمية خاصة؛ لكون
بنائها الفني أقرب ما يكون إلى رواية السيرة الذاتية؛ التي تنهض على تقديم
شكل سردي حديث تتقاطع فيه الرواية مع السيرة الذاتية، وهي من هذا المنحى
تعد إضافة جديدة إلى ما سبق أن أبدعه الكاتب في السنوات التي مضت، إذ سبق
له أن خاض مثل هذا اللون من الفن الروائي في روايته"جفاف الحلق" التي سجل
فيها طفولته وسيرة أسرته التي طردها المحتلون الصهاينة من موطنها الأصلي
مدينة"عسقلان"،وانتقلت لتعيش في مخيم الشاطئ بغزة، وحكى فيها التفاصيل
الدقيقة لحياة الأسر الفلسطينية التي تعمل في حرفة النسيج(5).
وتكمن أهمية هذه الرواية في كونها واحدة من الروايات التي تمت بوعي
المبدع ودرايته بجماليات الرواية وملامحها العصرية التي يعيد الكاتب فيها
تأليف ماضيه، فهو ماض له خصوصيته ولونه وطعمه؛ ماض يمتد في الماضي، ويستمر
إلى الحاضر، وفيه تطل الذات إطلالة زمنية ومكانية على مساحات بيضاء، وتمر
بمحطات متنوعة، يتشابك فيها الماضي مع الحاضر من خلال بناء روائي متماسك
بعيد عن التتابع الزمني والتسلل المنطقي للأحداث. ولا يكتفي الكاتب فيها
بعرض مشاهد من ماضيه في شكل تسجيل سردي، وإنما يطرحه في سياق روائي جديد
محاولاً إعادة اكتشافه من جديد.
يبحث الكاتب المثقل بالهموم والأحزان، المعذب بالغربة والضياع، المرجوم
باللهاث الدائب عن بعض فصول حكاياته أو أطراف تلك الحكايات والمحطات
الزمنية التي تحمل عبق ذكريات بيضاء مستثمراً في التعبير عن تجاربه الذاتية
ورؤاه الإنسانية جملة من التقنيات الفنية الروائية مثل: أسلوب الاسترجاع
والحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي وأسلوب التقطيع، والترجيعات، والرسائل.
لعل من أهم ما يقف عنده القارئ من محطات بيضاء تلك العلاقة الحميمة التي
ربطته في طفولته الغضة بـ"فارس" ذلك الروائي الشاب البطل الشهيد الذي
تعرّف الكاتب من خلاله إلى أسرة"فارس" المكونة من والده القاضي، وزوج أبيه
(لطيفة)، وأخته (شمس).
ربما كان دافع الكاتب إلى كتابة سيرته الذاتية هذه هو رغبته في العودة
إلى الجذور، وتحقيق ذاته من خلال اشتداد البعد المكاني الذي قد يثير مخاوف
استمرار انقطاعه عن وطنه، فقد كتب هذه الرواية وهو غريب مشرد لاجئ بعيد عن
مسقط رأسه، وهو يري من حوله الكثيرين من أبناء شعبه مشردين، إذ احتل العدو
الصهيوني وطنه، وشرد أبناء شعبه الذين تقطعت بهم السبل، واستحال على الكثير
منهم العودة إلى الوطن، فجاءت روايته تعبيراً عن تجاربه الذاتية بخاصة
وغربة الإنسان الفلسطيني بعامة.
تعد"الشعرية" ملمحاً بارزاً من ملامح الرواية الحديثة، وهي في مفهومها
العام تشير إلى البحث عن الخصائص النوعية والقوانين العامة التي تمنح الأدب
خصوصية مميزة تفصلها عن أنماط التعبير الفنية اللغوية الأخرى، خصوصية
تتميز بأنها تنبثق من الأدب ذاته، وماثلة في أبنيته اللغوية التي تشترك
الرواية فيها مع الشعر (8/ 79).
لم تعد مهمة الشعرية محصورة في النصوص الشعرية فحسب، بل بالنصوص الأدبية
جميعها، لذلك أمكن الحديث عن شعرية الرواية والمسرحية والمقالة والسيرة
الذاتية.
انسرب الأسلوب الشعري إلى ميدان الرواية الحديثة، فلم يعد يقف عند نمط
الرؤية وموقع الراوي، بل تجاوزه إلي شعرية اللغة والسرد والمكان والشخصية
والتناص والتقنيات الأسلوبية.
وفي محاولة الروائيين الجدد لتطوير أدواتهم الفنية الروائية، اتجهوا إلى
إضفاء جو من الشعر على لغة الرواية عن طريق استثمار إمكانات اللغة الثرة،
بوصفها عنصراً أساسياً في تشكيل البنية الفنية للرواية، ودعا بعض النقاد
إلى العناية بلغة الرواية الحديثة عناية تقترب بها من جماليات لغة الشعر،
وطالب أحدهم" بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالية
المستوى وتأسيساً على ذلك(10/ 115).
غدت"اللغة الشعرية" معلماً بارزاً من معالم الحداثة في الرواية العربية،
وتجلى ذلك في اقتراب اللغة في هذه الرواية من لغة الشعر، فاستعارت طرائقه
وتقنياته التي استخدمت هذا النمط من اللغة لسحرها وجماليتها وتوترها؛ بهدف
التأثير في الذات المتلقية، من خلال السحر الذي تمارسه اللغة الشعرية
وتجلياتها في الرواية إلى درجة يمكن النظر إليها، وكأنها نصوص شعرية، وقد
تعددت مظاهر الحضور الشعري فيها ما بين لغة تصويرية ولغة وصفية إيقاعية
ولغة غنائية انفعالية، ولغة رمزية، واستخدام واسع للمجاز وخروج عن المألوف
في أساليب الربط، وتكوين العلاقات، وغير ذلك من سمات الشعر الفنية(1/ 100).
الدارس لرواية"البحث عن أزمنة بيضاء"، يتبين له أنها تنتمي إلى الكتابة
الروائية الجديدة التي تبني حداثتها عبر أصالة فنها، واستكشاف الهوية،
واختلاف الجنس الإبداعي، وقد حظيت من بين الروايات العربية الحديثة بنصيب
وافر من مظاهر اللغة الشعرية وخصائصها الرئيسة، وهذه اللغة تعد الركيزة
الأساسية التي يتكئ عليها الكاتب في روايته، وتأسيساً على ذلك يمكن رصد
وجهين تجسد ت فيهما السمات الأساسية للغة الشعرية، وهما: شعرية العتبات،
واللغة الشعرية في السرد، وسيعنى الباحث بالمقاطع الأكثر شعرية ذات
التعددية الدلالية التي تخلق مساحة أوسع للتأويل دون أن يهمل لغة الرواية
المألوفة المتعددة،
[b]أولاًـ شعرية العتبات.[/b]
يقصد"بالعتبات" مجموعة العلامات التي تعد بمثابة مداخل تسبق المتن
النصي, ولا يكون له دلالة مكتملة إلا بها، ومن هذه العلامات بالإضافة إلي
غلاف الرواية العنوانُ الرئيس، والإهداء، والعناوين الداخلية للفصول،
والمقدمة، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب: كالصورة المصاحبة للغلاف،
وكلمة الناشر على ظهر الغلاف، وكلها عناصر توجه قراءة النصوص الأدبية،
وتسهم بدور كبير في إثراء تأويل الملتقي لها، وسيقف البحث عند ثلاثة عتبات
هي: عتبة العنوان، وعتبة الإهداء، وعتبة الغلاف الخارجي الخلفي للرواية.
أ – شعرية العنوان.
يعد العنوان عنصراً مهماً من عناصر العتبات النصية وملحقاتها الداخلية؛
لكونه مفتاحاً تأويلياًً، يرشد إلى الأبواب التي يمكن الدخول منها إلى متن
النص، وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الدارس للرواية يقف أمام العنوان ليطل
على عالمها، فعنوان الرواية المثبت على الغلاف الخارجي للرواية هو(.. أزمنة
بيضاء)، وقد ورد في صورة جملة اسمية، هي خبر لمبتدأ محذوف دلت علية تقنية
النقاط(..) التي لم يأت بها الكاتب عبثاً، وإنما لغرض فيه قصدية وتعمد، إنه
يشي بأن ثمة كلاماً محذوفاً ؛ الأمر الذي جعل العنوان يعمل في فضاء مفتوح
وموجب, يستثمر الطاقات الدلالية والتصويرية المشحونة بالإيحاءات والخيارات
المتاحة أمام المتلقي لمفردتي العنوان" أزمنة/ بيضاء" وعلى أكثر من مستوى،
التي منها: أن تجارب الكاتب الإنسانية كلها بيضاء، وان ذكرياته التي تنثال
على ذهنه جلها ممتعة مفرحة،، أما مفردة"أزمنة" فقد جاءت في صيغة التنكير
والجمع في آن معاً، أما التنكير، فيوحي في مدلوله بالشمول والاتساع،
وتأكيداً لإحساس الذات الساردة بافتقادها والرغبة في العثور عليها، في حين
أن صيغة جمع التكسير توحي بالتعدد والتنوع، ووصف الأزمنة بأنها بيضاء، يدل
على توظيف الكاتب لدلالات الألوان وإيحاءاتها الخصبة، لا سيما اللون الأبيض
الذي يرمز للأمن والسلام والسعادة والمحبة، ومجيء العنوان على هذه الصيغة
التي تتميز بأعلى اقتصاد لغوي ممكن، ويحمل المتلقي على التأويل، يقوى
شعريته، ويصبغه بطابع الشعرية.
ما إن يطأ القارئ صفحة الغلاف الداخلي، حتى يفاجأ بعنوان جديد ورد على
صورة أخري هي:" البحث عن أزمنة بيضاء"، ومجيء هذا العنوان بهذه الصورة يقوي
من قدرة العنوان على البوح والإفضاء بالمعنى، ويكثف من دلالته، ويبيح في
الوقت ذاته للقارئ أن يسبح في رقعة أوسع من التأويل؛ لاستكشاف تعددية
المعني وتنوع الدلالات، ذلك أن إضافة عبارة" البحث عن" لتحل محل تقنية
النقاط(..) التي سبقت العنوان" أزمنة بيضاء"، وهكذا تجيء هذه الإضافة؛ بقصد
تحميل العنوان دلالات أوسع وإشارات أرحب.
القارئ المتفحص للرواية، يتبين له أن اللون الأبيض ودلالاته هو اللون
الغالب في الرواية جميعها، ويتردد اللون الأبيض بدلالاته المباشرة وغير
المباشرة في غير موضع من متن النص، كما يتضح من هذه الشواهد: (الأيام
البيضاء، الكف البيضاء، الريش الأبيض، الكوفيات البيضاء، لطيفة
بيضاء،الزنابق بيضاء، القط الأبيض، الشراع الأبيض،الهمس الأبيض، المساحات
البيضاء، السرائر البيضاء،والطير الأبيض، الوردة الجورية البيضاء، الطفلة
البيضاء،الفستان الأبيض،النورس الأبيض، الدخان الأبيض، الفضة، الحليب،
الثلج).
يرمز اللون الأبيض إلى انتصار الخير على الشر، والنور الذي يسحق الظلام والعتمة، ويبشر بالأمل والتفاؤل والإشراق.
إن استدعاء الكاتب لـلأزمنة البيضاء في العنوان، يوحي للقارئ بأن تجاربه
وذكرياته ليست كلها ذكريات بيضاء، وأن ثمة أزمنة في حياته غير بيضاء، ولكن
هذا المغزى لم يبح به العنوان مباشرة، بل ظل مستكناً وراء الدوال، وإن
كانت أزمنته كلها بيضاء، فإن بياضها لم يكن نقياً خالصاً، بل كانت تشوبه
شوائب متنوعة، وتعكر صفوه أمور متعددة، وأن أزمنته البيضاء قد اختلطت
بأزمنة أخرى سوداء وحمراء، سلبت منها النقاء والصفاء والود والمحبة
والطهارة والسكينة والطهر والبهجة والهدوء.
أما اللون الأسود، فيمثل طرف المعادلة الثاني (الخير- الشر) أو (الضياء –
الظلام) ويمكن تتبعه بدلالاته المباشرة وغير المباشرة في العبارات الآتية:
:" أنا لست سوداء، متفجرة سوداء، حفر سوداء، الخدود السوداء، الغابة
السوداء، القشرة السوداء،النقطة السوداء، العتمة، الظلمة، الحالكة، الليل،
الليلكي).
يرتبط اللون الأسود بمعاناة الذات الساردة وهمومها ويعكس إحساسها بالفقد
والغربة والتشظي والغياب، فالبطل يبحث في لهاث دائب عن أزمنة وذكريات
بيضاء تضيء الحياة والظلام الحالك.
تكشف القراءة المتأنية للرواية عن انحياز الغلبة التعبيرية إلى اللونين
الأبيض والأسود، وهذا يشير إلى ثنائية الصراع بين الخير والشر، والرؤية
المهيمنة في الرواية تعكس الانتصار على عالم الظلام والعتمة والظلم، وخلق
عالم نوراني مسكون بالضياء والنقاء والشفافية، ويوحي غلبة اللون الأبيض
كذلك إلى تشبث الكاتب بالرجاء والأمل وإيمانه بان الغلبة لا بد أن تكون
للخير أو الضياء أو عالم النقاء.
تتمازج الألوان: الأبيض، والأسود، والأحمر، والأزرق في مشهد واحد من
مشاهد الرواية؛ لتعبر عن رؤية الكاتب وموقفه من الواقع(7 / 106)، وهذا يشي
بأن ذكريات الكاتب الموصوفة بالبياض هي مزاج من مشاعر متباينة، وألوان أخري
معتمة رمادية تحمل معني القتامه والعتمة الظلام والألم والعذاب والغربة.
الواقع أن في عنوان الرواية ما يشي باندغام الذاتي بالموضوعي والخاص
بالعام والفردي بالجماعي، إذ تغدو ذكريات الكاتب صورة مصغرة لما حل بوطنه
وشعبه، فالرواية تدور حول ذكريات الكاتب التي تحمل أياماً بيضاء هانئة قبل
أن يبتلي وطنه فلسطين بالاحتلال الصهيوني، الذي حول أيامها وحياة أبنائها
إلي أيام سود مفعمة بالآلام والغربة والضياع والتشرد والتمزق، واللجوء في
المنافي، يقول السارد/ البطل، وهو يتذكر وصية أبيه الذي انتقل إلى الرفيق
الأعلى:
"مرقدي في حضن الجميزة يا غريب"، ويؤكد أبوه أن:"الجميزة قديمة في
عسقلان، وفي عسقلان فقط تطرح سبعة بطون، والجميزة بشرتها لينة مطيعة للخدش،
وتنز حليباً سرعان ما يتخثر عن أثر أزلي، أية أزمان عاشوا؟ وعلى أي طعام
اقتاتوا؟ وأي سرائر بيضاء عاشروا؟"(7 / 14،15).
إن توظيف الروائي للألوان في الرواية يؤدي دوراً تعبيرياً فاعلاً في
السياق، ويسهم في تشكيل صوره الفنية ويجسد تجربته، فضلاً عما يثيره توظيف
هذه الألوان من رموز وإيحاءات وتراسل يتعدى الإطار المعجمي ويثري دلالات
الألفاظ، وينتقل بها من المحسوس إلى ما وراء الظاهر، في الوقت الذي تظل هذه
الألوان مرتبطة بشعرية الرؤية والفكرة المحورية التي ينهض عليها بناء
الرواية الفني، وهو بذلك يدعم شعرية اللغة، ويبرز ملامحها.
أما عناوين الفصول الداخلية في الرواية، فقد جاءت في صورة جمل مكثفه،
وعبارات موحية، إنزياحات مجازية، وجاء ورودها على الترتيب الآتي:
(عود ثقاب، في ظلمة حالكة، قناديل العتمة، رحيل الشهوات، ليل الهجانة
الطويل، ظل القط الأبيض، قبلة على رأس لطيفة، الخروج من براويز الصور، أنا
مَنْ يسكن اسمه، القمر في حضن شمس، المقامات، وهي تتكون من أربعة مقامات
هي:" مقام الاعتراف، مقام الأفول، مقام الحضور، مقام الماء".
الرواية في معمارها الفني تتوزع على عشرة فصول تمثل محطات لأزمنة الكاتب
أو مراحل حياته، وكأنه في كل مشهد من هذه المشاهد يجسد مرحلة من مراحل
تجربته، وعلى الرغم من أن كل فصل في الرواية يحمل عنواناً مستقلاً، ويندرج
تحت كل عنوان عناوين فرعية تتصل بعنوان الفصل، فإن هذه العناوين تبدو
متماسكة مترابطة يلفها وشاح شعوري وفكري واحد، ويربطها حبل مشيمي، لا يمكن
أن ينفصم بعضها عن بعض. هذا التماسك والترابط والتعالق سمة من سمات اللغة
الشعرية التي سعى الكتاب إلى تحقيها في بناء أعمالهم الروائية بناء لغوياً
قائماً على التكثيف والترابط، والوحدة العضوية المتماسكة.
المتصفح لهذه العناوين، يجدها تؤشر إلى مكونات عاطفية ذاتية، فهي في جزء
منها تجسد حالات شعورية قائمة على أسلوب التضاد: الأبيض والأسود، العتمة
والضياء، وهذه المفارقة التصويرية تقوي الإحساس بالفكرة وتعمقها، وتبرز
مكنونات النفس الداخلية، إلى جانب أن الاعتماد على عنصر التضاد اللوني
بالمقابلة بين اللونين: الأبيض والأسود يعد انعكاساً لثنائية الصراع بين
النور والظلام، وكثيراً ما تكون الغلبة لصالح اللون الأبيض في انتصار الأمل
على اليأس.
يلحظ القارئ أن عناوين الفصول قد جاء جلها في صورة جمل اسمية، وقد غابت
عنها الجمل الفعلية؛ ليسود التقرير والثبات على حساب الفعل والحركة
والصراع، والاسمية مهيمنة على كلمات العنوان؛ لقوة دلالتها من ناحية؛
ولأنها أشد تمكناً في النفس، وأخف على الذوق السليم من الدلالة الفعلية من
ناحية أخرى (11 / 65).
الواقع إن العناوين الداخلية تحتمي بالإيحاء الشعري، وفيها حضور شعري
متوهج، وطاقة تحمل رصيداً لا نهائياً من احتمالات التأويل والتحليل، والجمل
في العناوين تتسم بالتكثيف والإيحاء والدلالات والرموز التي توحي بمعان
ومشاعر ودلالات ثرة، وهي منسجمة مع فكرة النص وقضاياه التي تقابل الرواية
من الناحية الدلالية، هذه العناوين تحمل سمات الذاتية والعاطفية، إنها نتاج
إنسان له أشواقه ورؤاه ومواقفه وذكرياته وأحلامه.
ب ـ شعرية الإهــداء.
يعد الإهداء عتبة ثانية بعد عتبة العنوان، وهو يشكل موجهاً رئيساً للنص
الروائي، وقد احتل الإهداء في الرواية موقعاً متميزاً في وسط الصفحة، إذ
جاء مكوناً من أربعة أسطر، موزعة بطريقة معينة، تحاكي نمط مقطعة شعرية فشكل
بذلك خطاباً بصرياً، يقول الروائي غريب عسقلاني في إهدائه:
إهداء إلى
فوزية مهران التي تقرأ في قاموس البحر سيرة ربانها الذي رحل،
وشمس الغافية على ذراع البحر في ظل شراع شاخت ساريته.
امرأتان من عطش,
تعيشان شهوات الأمكنة في أزمنة بيضاء.
بالإضافة إلى الوظيفة التعبيرية التي تكفل الإهداء بها، وهى وظيفة
الإخبار والتبليغ عن علاقة تشابه وتماثل بين المهدى إليهما. فكلتاهما
تتقاسمان الهموم والأحزان والغربة والآلام، ويغمرهما الإحساس بالرحيل
والفقد والشوق والحنين إلى عالم مثالي مجهول.
إن اجتماع هاتين المرآتين(فوزية وشمس) يثير التساؤل حول مقدار التداخل
بين الواقعي والمتخيل، ومقدار التماهي بين شخصية" فوزية" الواقعية،
وشخصية"شمس" المتخيلة، وهل هما شخصية واحدة؟.
بقدر ما حملت (فوزية) من رمز وطهر وعفه وشوق وعذاب، كذلك تحمل" شمس"
دلالات إيحائية اكتنفها هذا الاسم" شمس" الذي يعد من الرموز ذات الكثافة
الدلالية الثرة، فهو مصدر الحياة والقوة والخير والضياء والنور والأمل
والرجاء والنماء والإلهام، وكل ما هو طيب، كما أنها ترمز إلى التسامي
والعقل والإيمان، وقد يحدث التماهي بين الشخصيتين، لكن أيهما أوجد الآخر
(فوزية) تتقمص شخصية (شمس)، وتبرز من خلالها بعض تفصيلاتها في المتن أم أن
شخصية (شمس) تستكمل وتسد ما كان في الواقع من حرمان ونقص وعوائق، فكانت شمس
الجزء الغائب والمشتهي في شخصية (فوزية)، إن التماهي يبلغ ذروته وتكون
(شمس) هي المعادل الموضوعي لشخصية (فوزية) مع ما يستوجبه الخيال الفني
والحبكة الفنية.
بذلك يكون المتن قد اكتمل بحضور شخصيتين هما: (فوزية) و(شمس) المهدى
إليهما، فـ(فوزية) تحيل إلى شمس البطلة المحورية في الرواية، والمُهدي الذي
ليس سوى الراوي الذي يتخفى وراءه (غريب عسقلاني)، وتبرز في متن النص
الروائي العلاقة بين المرسل الباث وبين (فوزية وشمس) قوية واضحة، وهي علاقة
صداقة، والصداقة وما يتولد عنها من مشاعر الود والمحبة والإخاء والتضحية
هي أغلى ما يهيمن على العلاقات الإنسانية، يقول السارد على لسان (شمس):
صديقتي فوزية مهران كانت تبحث عن رجل يحمل اسمين، فوجدته في أسطورة فرعونية، في أي الأساطير أعثر عليكَ يا غريب؟
أم أن السارد أراد الصداقة الأدبية التي تجمع بين المشتغلين بحقل ثقافي
واحد ألا وهو عالم الرواية، حيث يتقاسم معهما هموم القراءة وعذاباتها،
فيكون مجال الاهتمامات الإنسانية والقضايا الفكرية ميداناً أرحب من أي
علاقة أخرى.
هناك في الرواية ما يشير إلى أن العلاقة بين الراوي / الكاتب و(فوزية /
شمس) المهدى إليهما علاقة قوية، فكلتاهما مصدر إلهام للكاتب، ومن حياتهما
استمد مادة رواياته، يقول السارد في حوار مع شمس(7 / 10):
ماذا تكتب هذه الأيام يا غريب؟
أبحث عن موضوع يا شمس.
قد تكون شمس موضوعك الجديد.
وفي أحد مقالاته النقدية يعبر الروائي عسقلاني عن العلاقة التي تربطه بالكاتبة الروائية فوزية مهران بوصفها ملهمة له، يقول:
"وبعد يا صديقتي، ومعلمتي التي شكلت ورفاقها وعي جيلي, فقد حاولت التسلل
إلى قصص معنية، أبحث فيها عن شفرات تأخذ بيدي إلى فضاءات عالمكِِِ
الأثيري, المؤسس على معرفة ثرية بالنفس البشرية..."(6).
يؤدى الإهداء وظيفة جمالية في تشكيل اللغة الشعرية في الرواية، ويتجلى
ذلك من خلال الانزياحات اللغوية، والتراكيب المجازية مثلقاموس البحر،
ذراع البحر،الشراع الذي شاخت ساريته، امرأتان من عطش، شهوات الأمكنة،
الأزمنة البيضاء).
تكشف القراءة أن الإهداء يحتوي على إيماءة خفية توحي إيحاء شفيفاً، لا
يدركها القارئ العادي، وهي أن (قاموس البحر) الذي تقرؤه فوزية يحيل إلي
رواية بهذا الاسم للروائية المصرية فوزية مهران، وأن الربان الذي رحل ما هو
إلا بطل تلك الرواية، الربان العاشق الذي تمخر سفينته عباب الماء إلى
الفنارات المنسية/ الحاضرة لإرشاد سفن الماء حتى لا تقع في شرك الارتطام،
وتعد هذه العبارة استدعاء موحياً ذا دلالات ثرة، جاءت متآزرة مع سياق
الإهداء تغنيه وترسخ مغزاه في النفوس.
إن عتبة الإهداء لم تأت منفصلة عن عنوان الرواية من ناحية، وعن المتن
الأصلي للرواية من ناحية أخرى، بل جاءت عباراته متشظية في غير مكان من متن
النص الروائي، وبذلك يكون الإهداء قد قام بعملية استباقية؛ لتقديم الشخصيات
المحورية في الرواية، وحقق دهشة الشعر وإيحاءاته، وفتح فضاءات رحبة
للإيحاء والبث، يقول السارد:
"كيف سيكون الأمر مع امرأة تنام على ذراع البحر" (7/6).
"شمس هناك غافية على ذراع البحر" (7/ 50).
"لم تحدثني عن عطش الندى.
سأحدثك طويلا عن العطش" (7 / 12).
"رحلت شهواتها بعد رحيله" (7 / 29).
"نساء الماء يصعدن من عميق العمق، يركبن سطح الماء من حولها، يتطهرن، وقاموس البحر لا يعرف فصلاً للدنس والموبقات"(7 / 102، 103).
الواقع أن دوال الإهداء جاءت متميزة، تعبر عن مدلولات وحالات نفسية
متشابهة، وترمز لتجارب إنسانية موَّارة بالعواطف الإنسانية، وهذه الدوال
هي:" الرحيل، البحر، العطش، الشيخوخة، الشراع" فهذه الدوال تشي بالذبول
والغربة والحيرة والضياع والضعف والوهن، فدال"البحر" الذي جاء قاسماً
مشتركاً بين شخصيتي (فوزية وشمس) يرمز للغموض والإبهام والخطر والخوف،
وحضور"الشراع" في قلب الصورة يمثل رمزاً للصراع بين الإنسان والبحر،
وارتباط الإنسان بالبحر كان دائما يثير الكثير من الأحاسيس الغامضة المبهمة
إلي جانب الخوف والصراع من أجل البقاء.
ج - شعرية الغلاف الخارجي الخلفي.
يعد غلاف الرواية عتبة أساسية للدخول إلي النص، وتشكل موجهاً مهماً، لا
يمكن للقارئ أن يتجاهله؛ لما له من دلالة تساهم في توجيه توقع القارئ ورسم
أفق انتظاره؛ لذا فإن أي مقاربة للوحة الغلاف الخلفي من قبل قارئ عادي تبقى
قاصرة عن سبر أغوارها واستكناه دلالاتها.
احتوي الغلاف الخلفي فقرات متتالية وردت في متن النص الروائي، وجاءت
بطريقة مقصودة من قبل المبدع؛ لتكون مفتاحاً تأويلياً لمضمون الرواية،
ويبدو أن الناشر قد قرأ الرواية قراءة جيدة، أو أصغى إلى كاتبها الذي أوعز
إليه بأن يختار كلمته التي يريد أن يضعها على الغلاف الخلفي للرواية من هذا
المقتطف من الرواية؛ بوصفه يمثل بؤرة الرواية ومحورها المركزي، ويعد من
أبرز سماتها وخصائص أسلوبها الفني. يقول السارد/ البطل مناجياً
معشوقته"شمس":
"هل تورّد فيكِ الامتلاء فيض شهوة غسلت أديم جلدك بالعرق؟ وهل تذوقت
روائح وسادة من أثير؟ وهل تمرغت على حشايا من ندى؟ وهل ما زلت تنتظرين
فارسك النبيل؟ أم أخذتكِ القطارات إلى غير مراعيكِِ، جذبتكِ روائح الفتيان
في قاع المدينة، والمدينة تأكل المستور خلف أردية النساء، وأنتِ عارية كوجه
الله لم تأخذي بلعبة الأقنعة.
ماذا تطلبين من مدينة خائنة لعوب، تفقأ بؤبؤ القلب في صدر الوليف.
والوليف يرتدي قميص جلده، يتزود بالأغاني والأهازيج الرخيمة، لم ينل شبعاً،
ولا رطب ريق قلبه من جفاف. يتساوى عنده لفح نار الصيف مع برد الشتاء.
ابتنى كوخاً على طرف الزمان وتسلي وتعرى وتعرف كيف يسكن اللحظة موتاً خلف
ريق الأسئلة.
همه الأوحد مرقد في مقلتيك، يا امرأة ما بعد الفصول. والذي أنا هو، وأنا
الغريب، طيّرتُ أغنيتي على جناح رنة صوتك المغناج، وأغنيتي تقول:
خارج مدار الروح لا يأتي القطار.
وأنا على رصيف الانتظار طالت وقفتي/ غربتي.
فهل يا شمس، يأتينا القطار؟(7 / 47، 48).
من يقرأ هذه الفقرات المجتزأة من متن النص، يدرك أنها أسطر من قصيدة
نثرية، ضلت طريق الشعر، فارتمت في أحضان النثر، وقد تجلى فيها كثير من سمات
تلك القصيدة التي تبدت في لغتها الشعرية بما تحتويه من دوال منتقاة مترعة
بالإيحاءات والإيماءات النفسية، وصور استعارية، وإيقاعاءات نغمية،
وإنزياحات بلاغية، ولغة انفعالية متوترة، بالإضافة إلى هيمنة جو صوفي
روحاني على أجواء هذه القطعة الشعرية النثرية.
فالتساؤلات التي تقاطرت في النص الروائي، تكشف عن قلق الذات وتوترها
الداخلي، وتعبر عن ظمئها ورغبتها في إشباع حاجة النفس إلى معرفة موقف
المحبوبة من فارسها النبيل، وتسعى الذات الساردة جاهدة عبر صيغة سؤال
المحبوبة(شمس) المسكون بالحيرة والتوجس إلى معرفة كنه العلاقة التي تربط
السارد/ البطل بالمحبوبة، هذه العلاقة ظلت الهاجس الشاغل للوليف:
هل تورّد فيكِ الامتلاء فيض شهوة غسلت أديم جلدك بالعرق؟
وهل تذوقت روائح وسادة من أثير؟
وهل تمرغت على حشايا من ندى؟
فهل يا شمس، يأتينا القطار؟
ويأتي السؤال بصيغة التسوية(أم)"وهل ما زلت تنتظرين فارسك النبيل؟ أم
أخذتكِ القطارات إلى غير مراعيكِِ، جذبتكِ روائح الفتيان في قاع المدينة"،
تعبيراً عن ضبابية الرؤية، واختلاط الأشياء، وعدم قدرة الذات على الحسم
والاختيار.
هذه المناجاة الحرَّى بوحٌ شعري وجداني صادر عن عاشق موله، يحيل القارئ
إلى فضاءات واسعة من التأويل، تجعله يتساءل: مَنْ تكون"شمس" التي يناجيها
السارد / البطل ؟ إذ ليس ثمة ما يشير إلي ما يحدد هويتها وملامح شخصيتها،
وهنا تحدث الدهشة والمفاجأة، وهما عماد اللغة الشعرية، وركيزة من ركائزها
الأساسية.
هل هي فتاة ما محددة الملامح والقسمات والهوية؟ أم أنها رمز للحب الذي
يطمح الروائي إلى تحقيقه بما فيه من نقاء وطهارة، ومحبة وألفة؟ وما المدينة
كذلك إلا رمز للآثام والأحزان والقهر والمعاصي والموبقات، وتلك نظرة
مثالية، تجسد الهروب من الواقع البائس إلى عالم الحب الرحب الذي تمتزج فيه
القداسة بالبراءة. وقد أشار الكاتب إلى هذا المغزى في غير مكان من روايته،
يقول واصفاً (شمس):
"لم تقترب من سيرة فسق أو فجور أو خيانة، تريد أجندتها نظيفة من كل رجس"(7/ 21).
" لم َتدُر يوماً على أعتاب حانات المدينة، والمدينة لوثتها المواخير
وخطايا الساقطات، لم تكن يوماً حديثاً بين أشداق السكارى والمغنين على دلع
الأراجيل الرخيصة"(7 / 70).
إنها مناجاة مترعة بالإفضاء والبوح والكشف، مضمخة بعبق الشوق والحنين،
وما يمور بمكنونات النفس الداخلية من أحاسيس وانفعالات وشوق الوليف إلى
محبوبته.
إن اللغة الشعرية في هذا المقتطف بما تمتلك من إمكانات نغمية تولدت من
التساؤلات المتلاحقة، قد أدت دوراً مؤثراً في الكشف عن توتر الذات وحيرتها
وقلقها وصراعها، وجلت أبعاد العلاقة بين السارد البطل ومحبوبته (شمس)
وتجلياتها. فالوليف يركض وراء المحبوبة ويمارس طقوس العشق في حضور قوي
يؤكده ضمير الغائب (هو) المندغم بضمير المتكلم (أنا)، المتشبث بالأفعال
المتعاقبة(يرتدي، يتزود، ابتنى، تسلى، تعرى، تعرف، طيّر)، لغة انفعالية
متوترة تؤثر في المتلقي وتحقق المشاركة الوجدانية بين الذات الساردة والذات
المتلقية.
[b]ثانياً ـ اللغة الشعرية في السرد.[/b]
ما إن يتخطى المتلقي عتبات الرواية: العنوان، والإهداء، وكلمة الغلاف
الخارجي الخلفي، حتى يلتقي السردَ الروائي الذي تهيمن عليه أجواء لغة تقترب
من شواطئ الشعر، وتلامس حدوده، وتستوعب بعض ملامحه، ومن هذه الملامح:
انتقاء المفردات والكلمات العامرة بالإيحاء، والدلالات الغنية، والقوة
المجازية، وانفتاح الدلالة وتعددها، والصور الفنية المبنية التجسيد
والتشخيص، وتراسل مدركات الحس، واللغة الشديدة التكثيف والاختزال، ومثل هذه
اللغة تحتاج من المتلقي قدراً كبيراً من التروي والتأمل والإدراك حتى
يتمكن من فض مغاليق النص(9 / 43).
المتصفح للرواية يجد أن معظمها يعتمد على اللغة الشعرية، وأن هذه اللغة
تتجلي في جملة من المكونات التي تتوزع في الفضاء الروائي ومن بينها: مستوي
الجمل والعبارات والتراكيب، ومستوي الصور الفنية الوصفية والإيقاعية،
والرمزية.
من سمات اللغة الشعرية التي تجلت في السرد الروائي الصورُ الفنية
المبنية على المجاز والاستعارات والكنايات والرمز، والصور ذات الدلالات
الحسية من حركية وسمعية وشمية وبصرية، وقد برز ذلك من خلال الجمل والتراكيب
الآتية:
"عود ثقابٍ يذهب للموت قبل أن يرضع طعم الحقيقة، إلا من حقيقة لهبٍ تمتصه
إسفنجة العتمة"(7 / 5).
"فتيل القنديل يرضع من زيت القلب. يتوهج ولا يحترق"(7 / 6).
" العشاق يسترشدون بقناديل قلوبهم في العتمة"(7 / 6).
"أوراق دفاترها سهول وأنهار وجداول وصحارى"(7 / 11).
" أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغبٌ ناعس يمتصُّ ندى الفجر"(7 / 25).
" أبحث عن فصولي... ألملم بقاياها من الطرقات، ومن أصداف الشواطئ... أمارس جنون الخلق"(7 / 7).
" اليوم أنت امرأة صغيرة تسكنك العصافير...تمضغين بعضاً من حكاية.. امرأة أصبحت تمارسين اللهاث"(7 / 49).
" اجدلي يا شمس فتيلا من ضفيرة القمر، وازرعيه في بطن قناديلك، وأشعليها بزيت من ينتظرونك، والليل طويل"(7 / 79).
"صوتك يا شمس له طعم الياسمين"(7 / 43).
المتابع للجمل والتراكيب السابقة، يدرك مدى اتكاء الكاتب على عناصر
التشخيص والتجسيد وتراسل الحواس، ويجد قارئُ الرواية أنها تسير حتى نهايتها
على هذا النسق السردي في اللغة، إذ تقترب هذه اللغة من لغة الصورة
الشعرية، وتعتمد على الإيحاء والتكثيف الفني وتراسل الحواس، والتراكيب غير
المألوفة للسياق اللغوي، مثل:"يرضع طعم الحقيقة"،"اللهب تمتصه إسفنجة
العتمة" قناديل القلوب"،" أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغبٌ ناعس
يمتصُّ ندى الفجر"،"الصوت له طعم الياسمين".
إن مثل هذه الصياغة اللغوية قد أعانت الكاتب على تجسيد المغزى الكامن
وراء تلك العبارات التي أشاعت في كثير من مقاطعها روحاً من الشعر، تمكنت من
السيطرة على نفوس المتلقين، وحققت شرط الشعرية في الرواية.
من أبرز سمات السرد الشعري أن الكاتب في مقاطع كثيرة من الرواية كان
يروم رسم صور فنية ولوحات شعرية متكاملة للشخصيات والأمكنة والأحداث،
يتداخل فيها السرد الشعري بالتشكيل الفني، فيغدو المقطع كأنه لم يكتب
بالقلم، وإنما بفرشاة فنان، ومن الصور الفنية ذات الصبغة الشاعرية ما رسمه
الكاتب من لوحة وصفية حية لأبعاد محبوبته (شمس) التي يناجيها، قائلاً:
"يا امرأةً ـ امتطت مياه أنهاري، أمسكت بلجام لهاثي، حصان أنا يمضي إلى
محطة وصول، وأنت لا قيد يزمل فيك وهج الرغبات ولا لجام يتمطى بين فكيك يعود
بك إلى مرابط الخيول"(7 / 53).
وفي لوحة أخرى يقول:
" ما الذي اعرف فيك يا شمس أبعد من امرأة تكتب نفسها صباح مساء وتعجن
رغيف يومها من لحمها ولا تقدر على مضغة، فتعيده من جديد وتشكله رواية أو
قصة؟" (7 / 53).
"إني أراك وقد تعلقت بضفيرة الشمس امرأة من شوق، لا أحد غيري يرى امرأة من أشواق تتشكل لحماً وعظماً ونبضات بدن"(7 / 54)..
"
شمس امرأة تعيش الأرق..تحمل غربتها، تصبح أوسع من مساحات الأجندات
والتواريخ، يومها يتوزع بين ابتسام وعبوس... أوراق دفاترها سهول وأنهار
وجداول وصحارى, امرأةٌُ تدخل المذبح كل يوم وتخرج عفيةً تبحث عن نقاهةٍ من
جور التفاهة"(7 / 10، 11).
"
شمس صوتها مشروخ مثل مرآة قلبي، تشطر الصورة صورتين، صورة تدب على الأرض
من لحم ودم، صورة أخرى تأخذ العين إلى الوهم كأنه صلب الحقيقة"(7 / 78).
تكتسب التعبيرات في هذه الفقرات أبعاداً ذاتية انفعالية تتمثل في
المفردات والتراكيب والجمل، فالكاتب مثلاً يجنح لاستخدام أسلوب النداء" يا
شمس، يا امرأة" ليعكس إحساسه بالوحدة والغربة والفقد، وحاجته إلى من يشاركه
هموم هذه الحياة وأعباءها، إنه يريد التوحد والاندغام مع معشوقته (شمس)؛
لأن همهما واحد، وغربتهما واحدة، ورغبتهما في العودة إلى الوطن واحدة، إنها
امرأة من دم ولحم، امرأة حقيقية..
وأحياناً أخرى يضفي الكاتب على ملامح(شمس) دلالات أسطورية، فيبرزها في
صورة المعشوقة التي تعلو فوق البشر، وتسمو فوق المخلوقات، وهذا البعد
الأسطوري لشخصية شمس يعكس نظرة الكاتب إلى محبوبته، فيقول:
"الطفلة خرجت من كهف الرحم إلى نور الحقيقة، دون صراخ، وأنها خرجت قبل أن
تشتد آلام المخاض. قالت لطيفة إن ريحاً من أثير سكنتها عند ميلاد شمس، وهي
تعجب من طفلة لم تصدر عنها"كغكغة" الصغار، كل ما تأتيه تقصف في الشفتين عند
الشبع أو عند حالات الوجع"(7 / 90).
"شمس ذات العينيين اللتين تطلان من كهف العتمة إلى بهاء الضياء"(7 / 54).
هذه هي شمس لم تكن ولادتها كما الآخرين، شمس كانت تتعلم من أمها فنون
السباحة بعد الميلاد عارية كالحقيقة، بيضاء كلون النقاء الأزلي: (7 / 53).
وفي لوحة أخرى يجد المتلقى صورة (شمس) محفوفة بهالة قدسية أو علوية،
وتقترن مناجاته لها بالرهبة والتجريد، وتحمل سمات أهل التصوف أهل العشق
الإلهي، فهو يصل إلى قمة الحلول الصوفي حين يسألها:
"من أنتِ يا شمس؟
أنا روحٌ يبدأ جسدي من يدي التي تكتب، وينتهي عندها !" (7 / 11).
ويقول في مناجاة مفعمة بالشوق والهيام وقد اكتسبت طابعاً صوفياً:
"أنت في أوردتي صهيل مهرة رشفت ماء الجداول، أطلقت فيّ جنون البوادي.
"ما الذي تفعله رنة صوتك في بدني، رجفة رعشة تأخذني إلى مقامات الحلول، روحك ترحل فيّ"(7 / 46).
"هذا الصباح رأيت صوتك أخضر يا شمس، أقسم أني رأيته أخضر، وعَبَرَتني
سكينة، واغتسلت بشلال راحة، وكنت تعبرين سهولاً، وتفيضين مثل ساقية عذراء،
ترهفين لوشوشات عصافير نقرت قشر البيض لتوها، تطل من كهف العتمة إلى بهاء
الضياء"(7 / 44).
وفي مشهد آخر يقول الكاتب مناجياً محبوبته (شمس):
هذا الصباح أنت شجرة تعطي وتختال، وأنا على الطرف الآخر أدخل حالة شفيفة مثل ندى الفجر" (7 / 45).
إن هذه الصفات التي أضفاها الكاتب على أبعاد صورة محبوبته(شمس)، جعلته
يقترب في رسم صورة المحبوبة(شمس) وملامحها من التجارب الروحية للمتصوفة،
فنظر إلى المحبوبة تلك النظرة الروحية التي ملؤها الإجلال والضياء والطهر
والقداسة، وارتفع بها إلى آفاق علوية سامية، واستغرق في محبوبته استغراق
الصوفي في معبودته، فرآها: كالملاك الرقيق الطاهر الشفاف، أو الروح الجميل
الذي صاغه الله، أو الشجرة التي هي مصدر الخير والعطاء.
وكما توحد السارد/العاشق بمحبوبته(شمس)، واندمج معها، فقد جعل المحبوبة
هي الأخرى تندمج بالطبيعة، فتجلت كالشجرة (أنت شجرة تعطي وتختال) بما
تكتنزه من دلالات نفسية غنية توحي بالخصوبة والخير والنماء.
امتاح الكاتب عناصر هذه الصورة الصوفية، ومادتها الأصلية من الحقول
الدلالية للغة المتصوفة، ونظرتهم المثالية إلى المرأة، فقد ترددت في هذه
المشاهد الدوال والتراكيب المستوحاة من الأجواء المحيطة بالتجربة الصوفية
مثل:" الروح، الجسد، الأوردة، مقامات الحلول، الروح الراحلة، الصوت الأخضر،
العبور، الفيض، كهف العتمة، بهاء الضياء، الصباح، الحالة الشفيفة".
تكشف القراءة أن ثمة عناصر عديدة قد ساهمت في رسم هذه اللوحة الفنية
الصوفية: منها الوظيفة الإيحائية التي أداها اللون الأخضر بمستوييه:
المباشر والدلالي، وما فيه من ارتباط بأجواء التجربة الصوفية التي يتنفس
فيها الروائي، وبما أشاعه من هذا اللون من دلالات تجذرت في الوجدان الصوفي،
وما أوحى به من رموز النعيم والجنان، وفي هذا السياق امتزج الصوت والضياء
المنبعث من الصباح بالخضرة، ورمزا لـ"أحوال" و"مقامات" تدنو منها الذات
الساردة تبعاً لحالتها النفسية.
إن مثل هذه الصورة المتنوعة لمحبوبة السارد / البطل (شمس)، لا بد أن
تستثير الذهن، وتبعث على الحيرة، وتفجر السؤال عن كنه صاحبتها وحقيقتها، هل
هي حقيقة أم خيال أم كلتاهما معاً؟ هل هي رمز لحب مثالي صوفي بلغ قمة
الحلول الصوفي، واتسم بالطهارة والنقاء والقداسة؟، هل هي" صورة تحمل كل
رموز الوطن، يتوحد معها السارد/ البطل غير عابئ بالبعد الجغرافي؟، هل هي
شخصية أسطورية ود الكاتب" أن يجعل من(شمس) أسطورة جديدة لأفروديت، أم أنه
كان يرغب في أن يجعلها كأسطورة إيزيس الفرعونية التي كتب عليها ان تجمع
أشلاء أوزوريس لتعيده إلى الحياة من جديد هل أراد بهذه الأسطورة ان يستعيد
أشلاءه المبعثرة في الأرجاء بواسطة شمس..."(4).
يغلب على هذه الفقرات المقتطفة من الرواية الطابع الشعري الذي لا يقل
روعة وبهاء عن كثير من القصائد الشعرية، ويتجلى ذلك من خلال اتكاء الكاتب
على الصور البيانية التشبيهية ذات الدلالات الموحية والإيماءات المكتنزة
بالظلال والمعاني التي تتعانق مع الحالة العاطفية والنفسية للذات الساردة،
فهي صورة لا تقوم على التماثل بين طرفي التشبيه، وإنما تظل العلاقة مفتوحة
لمزيد من التأويل والتفسير،(أنت في أوردتي صهيل مهرة، أنت شجرة، أنت روح،
أنت ساقية عذراء)، وهي لغة تعتمد على البوح والإفضاء والكشف، لغة مشحونة
بالذاتية وشظايا الأنا والانكسار الذاتي. لغة شفيقة تنساب عذوبة ورونقاً،
تعبر عن العالم الداخلي للشخصية بكل أبعادها النفسية من شوق وحنين.
وفي مشهد آخر يرسم الكاتب لوحة وصفي فنية جسّد فيها أبعاد شخصية (رجال
الهجانة السودانيين الذين تنسب إليهم (تلة السودانية) التي تقع شمال مدينة
غزة) وملامحهم الخارجية والداخلية، يقول السارد واصفاً تلك التلة، وما يتصل
بها من فضاء مكاني:
" تلة رملية شقراء تركب الشاطئ وهي جزء منه, وخيمة كبيرة عميقة الأوتاد
تصمد أمام الريح، تنتظر النوّات بتوجس محسوب، ومراح جِمال ناخت تجتر ما
تختزنه من عليق فقير، تلوك الجمال أسرار الصحاري،رجال الهجانة على الهوادج
العالية، يشقون الهواء بضربات الكرابيج، يتألم الهواء بحاتٍ قصيرة، الهجانة
خدودهم سوداء مشروطة عن جروح قديمة، يلفون رؤوسهم بكوفيات بيضاء ناصعةٌ
نظيفة. جاءوا من بعيد البعيد، صامتون، لا يخالطون الناس، قلما
يتحدثون،..سيرتهم بين الناس كرابيج تحفر على الظهور خطوطاً من نار محقونة
بآلام تسري تحت الجلد.السود طيبون، تركوا الأهل والوليف والولد، يعيشون
الاشتياق في الليل وعند الفجر، يطيرون أغاني ومواوييل حزينة"(7/ 33).
اعتمد الكاتب في تشكيل هذه اللوحة على عناصر متعددة: كالصور اللونية،
والدوال ذات الإيماءات الموحية، والانزياحات البلاغية المجسدة للرؤى
والمضامين، والجمل القصيرة المتوترة، المكتنزة بالإيحاءات مع الاستغناء عن
الروابط بين الجمل، والاتكاء على الجمل الاسمية التي ترمي إلى تقرير
المعنى، وتثبيته في الذهن، وكلها عناصر تصويرية فنية تشد القارئ إلي أحياز
اللغة الشعرية، بالتضافر مع الإيقاع الصوتي المنبعث من التراكيب اللغوية
مثل: (بعيد البعيد)، والصيغ المتماثلة في بناء هيئتها الصرفية نظير:
(يخالطون ـ يتحدثون ـ يطيرون ـ يغيبون ـ يلعبون). إن انتهاء هذه الصيغ
الصرفية بصوت (الواو) وهو من الأصوات الصائتة و(النون) ينسجم مع المغزى
الذي يريد الكاتب التعبير عنه، ويعمق الصورة الإيقاعية في النص الروائي
ويثريه، ويجعله وسيلة تعبير وبناء في آن واحد.
اتكأ الكاتب في الصورة الوصفية السابقة على توظيف عنصر النعت في صياغته
اللغوية، والذي يعد مظهراً أساسياً للغة الشعرية من خلال الانزياحات
السياقية، سواء على مستوى اللون أم المكان أم الشخصيات مثل:"تلة رملية
شقراء، خيمة كبيرة عميقة الأوتاد صامدة، توجس محسوب، عليق فقير، الهوادج
العالية، بحاتٍ قصيرة، خدودهم سوداء مشروطة، جروح قديمة، كوفيات بيضاء
ناصعةٌ نظيفة، خطوطاً من نار محقونة بآلام سارية، أغاني ومواوييل حزينة".
أدت النعوت هنا دوراً مهماً في تكثيف الدلالة، والإيحاء بالمغزى الكامن
وراءها، ذلك أن الكلمة في النص الروائي الذي يتصف بطابع الشعرية تتحول إلى
إشارة، لا لتدل على معنى، وإنما لتثير في الذهن إشارات أخرى، وتجلب إلى
داخلها صوراً لا يمكن حصرها(3 /232).
استغل الكاتب لوحة(رجال الهجانة) التي جسد فيها ملامحهم النفسية، وما
يعتلج في صدورهم من أحاسيس الشوق والحنين إلى أهلهم وأوطانهم؛ ليكون
معادلاً نفسياً، لمشاعر الغربة والفقد التي تضطرم في أعماق نفس القاضي الذي
اضطر للرحيل عن مسقط رأسه مدينة الخليل إلى مدينة غزة بسبب مواقفه
الوطنية، ويعكس موقف القاضي في الوقت ذاته ما يعانيه أبناء الشعب الفلسطيني
من هموم الغربة والفرقة وآلام البعد عن وطنهم وأهليهم، وقد جسد الكاتب ذلك
في الحوار الذي دار بين القاضي وزوجه(لطيفة) التي سألته عن حداء القافلة
الذي يرسل مواويلَ حزينة، فأجابها قائلاً:
الحادي يناجي وليفه بعيده، وأولاد كبروا وأم وأب ربما غادروا، وهو ما زال يعيش الغربة.
بأي لغة يغني؟
لغة الأشواق واحدة يا لطيفة.
هل تعرف لغتهم؟
المجاريح يتعرفون إلى سر ألم الفراق والغربة(7 / 37).
من يتأمل بناء الصور الوصفية في الرواية، يجد أن الكاتب كان أميل إلى
استخدام اللغة الشعرية منه إلى اللغة العادية المباشرة المألوفة، وقد تجلى
ذلك في تحديد ملامح عدد من الشخصيات الروائية، وتحليل نوازعها الداخلية
ومشاعرها من مثل شخصية: شمس، ولطيفة، وفارس، والسارد نفسه.
الحقيقة أن ليس ثمة لغة أقدر على نقل أبعاد هذه الصورة الموحية المكتنزة
بالدلالات والرموز مثل اللغة الشعرية بدوالها وتراكيبها العامرة بالغنائية
والرهافة والإيحاءات والألوان والظلال. فاللغة الشعرية تسعى إلى أن تكون
الصور الوصفية مؤثرة من جهة ما تؤدي من دور مهم في إخراج المتلقي من نمطية
اللغة الواضحة المحددة المباشرة، إلى نمط أخر يستفز القارئ ويمتحن مقدرته
في الربط بين الأشياء وإقامة العلاقات بينها.
ثمة لوحات وصفية أخري يشخص فيها الكاتب عناصر الطبيعة، ويخلع عليها
صفات إنسانية، فيحيلها إلى كائنات حية تشارك الإنسان أحزانه وعذاباته من
جهة وأفراحه ومسراته من جهة ثانية، فمع مطلع بعض فصول الرواية لا تلبث
الطبيعة تعلن عن وجودها الفاعل، وتتجلي في لوحات نابضة بالحياة والحيوية
مثل قول السارد:
"الري