بنية اللغة الشعرية بين القدماء والمحدثين ـــ د.محمد عبدو فلفل
تمهيد
غنيَّ عن البيان أن الشعر ظاهرة لغوية في وجودها، ولا سبيل إلى التأتي إليها إلا من جهة اللغة التي تتمثل بها عبقرية الإنسان، وتقوم بها ماهية الشعر (1)، أي أن الشعر فعالية لغوية في المقام الأول، فهو فنٌّ أداته الكلمة، لذا فجوهر الشعرية وسرّها في اللغة ابتداءً بالصوت ومروراً بالمفردة وانتهاءً بالتركيب، وإذا كان الشعر تجربة، فالكلام تجلٍّ لتلك التجربة، ولعواطف الشاعر، وأحاسيسه في تلك التجربة، فالشاعر يعي العالم جمالياً، ويعبّر عن هذا الوعي تعبيراً جمالياً، ومن هنا كان الشعر بنيةً لغوية معرفية جمالية، وتحليل بنية اللغة الشعرية يسمح بالكشف عن حيازة الشاعر الجمالية للعالم، أي يسمح بالربط بين اللغة والرؤيا، وإذا كانت اللغة في النثر العادي، أو العلمي، وسيلة للتعبير المباشر عن مقولة نرغب في إيصالها أو توضيحها، فإن اللغة في الشعر غاية فنية بقدر ما هي وسيلة تؤدي معنى، وتخلق فناً(2)، لذا يحرص الخطاب العلمي، أو النثري العادي غاية الحرص على التقيد بما تواضع عليه أهل اللغة في حين يقوم الخطاب الأدبي عامةً، والشعري خاصةً على التخلّي بعض الشيء عن هذه المواضعات متحوّلاً بلغته إلى خلق جديد مغاير لما عليه أصول اللغة في النثر العادي، وهذا ما يعرف لدى نقاد الحداثة وشعرائها بالعدول، أو الانحراف، أو الانزياح الذي يُعدّ الشرط الضروريّ لكل شعر كما يقول جان كوهن(3).
بنية اللغة الشعرية
عند المحدثين:
والمتبصّر بما هو رائجٌ عند نقاد الحداثة الشعرية العربية وشعرائها يدرك أن هذه المقولات انتشرت إليهم انتشار النار في الهشيم، فمن قائل: إن الشعر يقوم على خرق العادة اللغوية مثال لبعض القائلين بهذا، إلى ناقد يدعو في حداثته إلى تدمير أمور عدة، وفي مقدمتها تدمير اللغة(4). ولا تعدم أن تجد من يحدّثك عن قصيدة نثرية حداثية تقوم على تكسير قواعد اللغة القديمة، وتخريب علاقاتها المتداولة، وقوانينها المعروفة(5).
فجمال لغة الشعر كما يقول أدونيس يعود إلى نظام المفردات وعلاقاتها بعضها ببعض، وهو نظام لا يتحكّم فيه النحو، بل الانفعال والتجربة(6) وهذه المقولات ونظائرها فيها من التعميم والمغالاة ما يجعل الانزياح في لغة الشعر دعوى مضلّلةً مالم تتوضّح معالم هذا الانزياح، وحدوده الكمية والنوعية، وإلا تحوّل الشعر تنظيراً على الأقلّ إلى عبث لغوي مقصود لذاته، ولا يندر أن يكون ذلك بدوافع أيديولوجية مغرضة لها من الأهداف مالا يرتضيه المخلصون للغتنا العربية أولاً، و لدور الخطاب الشعري في المشهد الثقافي المعاصر ثانياً، فالانزياح اللغوي في الشعر كما تصوّره الطروح السابقة سلوك يجعل من اللغة الشعرية لغةً مختلفةً الاختلاف كلّه عن لغة الخطاب العادي أو العلمي وذلك بدعوى الحاجة الفنية إلى التوسّع في بنية اللغة الشعرية، وقد أشار إلى الخطر في غموض مفهوم مصطلح التوسع هذا أحد الدارسين قائلاً: (إنه عند التأمل مصطلحٌ رحبٌ وغامضٌ وقابلٌ لأن يمتلئ بأي شيء(7). ولعل هذا الغموض المضلّل في دلالة هذا المصطلح هو الذي نبه كمال أبو ديب على خطورة اندياح دلالة مصطلح الانزياح في اللغة الشعرية، فأكد أن هذا الانزياح لا يصل إلى تحديد الشعرية في إطار الانحراف بلغة الشعر إلى لغة مختلفة مغايرة، لها قواعد نحوها الخاصة(. وغني عن البيان أن الغرض من هذا التحفّظ الذي أبداه أبو ديب إنما هو الإبقاء على التواصل بين المبدع والمتلقّي، وهذا ما يفرض وجود عناصر لغوية مشتركة بين لغة الخطاب النثري العادي وبين لغة الخطاب الشعري إضافةً إلى وجود عناصر منزاحةٍ في الخطاب الشعري عمّا هي عليه العرف اللغوي، فالخطاب الشعريُّ خطابٌ لغوي يفرّغ نفسه في قالب نظام اصطلاحي يشكّل بالضرورة عملية اتصال، وليس هناك من رسالة لا تتضمن عناصر مرجعيةً مهما كانت الرسالة مشحونةً بالقوة التعبيرية(9). وهذه العناصر المرجعية تتآلف والعناصر المنزاحة الباثّة للدفق الشعري إلى عناصر أخرى في النص يسمّيها بعض النقاد عناصر لغويةً محايدةً فنياً حياداً إيجابياً(10). يمكّنها من استقبال الدفق الجمالي أو الشعري، وبثّه في المتلقي، فاللغة الفنية كما يقول أحد النقاد مزيجٌ من الطاقتين التعبيريتين المباشرة والإيحائية(11). وهذا ما يمكن أن نلمحه في قولـه الشاعر سعد الدين كليب(12).
إيه فليبدأ الحلم من حيث شاء
فللحلم إزميله العبقري
فشعرية هذا التركيب فيما توحي به الذائقة تكمن في إسناد كلمة (أزميل) إلى الحلم، وإحلال كلمةٍ أخرى محلّ هذه الكلمة في التركيب يزيل ما فيه من شعرية، أو على الأقل يغيّر البعد الجمالي والدفق الشعري لهذا التركيب، فلو قيل: للحلم أسلوبه العبقري، أو أدواته العبقرية، أو أيّ شيء من هذه البدائل المألوفة في الكلام العادي لافتقد التركيب ما يوحي به الآن من التمرّد على مالا يرتضيه الشاعر من معطيات حياته، ومن الرغبة في تغيير هذه المعطيات بأداة الشعر المعهودة، وهي الحلم، ولكنه هنا حلم ثوري مصرٌّ، وفي كلمة (إزميل) ما يؤيد هذا الذي نذهب إليه، فهو الأداة الحادّة المؤثرة في المواد الصّلبة القادرة على التغيير المؤكدة لثورية حلم الشاعر، وإصراره على التمرد والتغيير، وعدم الاستسلام، ولعل في اكتناه البنية الصوتية لهذه الكلمة ما يساعد على كشف ما نسبناه إليها من شاعرية وجمالية، فمقطعها الأول (إزميل) بهمزته و زايه يوحي بالشدة والإصرار والإزعاج على نحو يذكر بالإزعاج والشدة الكامنين في (تؤزّهم أزّاً) من قوله تعالى (ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزّاً)(13). وكلّ ذلك يوحي بأن جمالية قول الشاعر: فللحلم أزميله العبقري تكمن في الاستخدام غير العادي وغير المألوف المتمثل بإسناد الإزميل إلى الحلم الذي اعتدنا أن ينسب إليه الرّهافة والعطف واللّين والتغضّن والانكسار، وأمّا سائر الوحدات اللغوية في هذا التركيب فعناصر عادية حيادية فنياً، قد تخلو من جماليتها وشاعريتها، أو قد يتغير أفق ذلك إذا ما استبدلنا بكلمة (إزميل) غيرها.
والتحفظ الآخر الذي يُحسُّ به الدارس حيال ما يعرف بالانزياح لدى نقاد الحداثة وشعرائها يتمثل بالتوقّف لدى حديثهم عن الانزياح على المستوى النحوي والصرفي والمستوى الدلالي وضروراته الفنية، فكثيراً ما يكتنف خطابهم النقديّ في هذا الصّدد التعميم وعدم التمييز بين مستويات الانزياح اللغوي في الشعر. فالقصيدة التي تنتحب بالجوع كما يقول الدكتور لطفي عبد البديع لا يرتجى لها أن تكون منظومة كحبّات العقد، فالمجاعة التي تعصف بالأحياء ليست إلا مهلكة تصرفهم من موت إلى موت، فلا وصف لها إلا بلغة تساوق حقيقته المقلوبة الماحقة(14).
والذي يميل إليه المرء أن في هذا المقولة حرصاً ساذجاً على مطابقة الشكل للمضمون، إذ ليس من الضروري أن يعبّر عن واقع مضطرب، أو مختل بلغة مضطربة، أو مختلة حتى يكون التعبير عن هذا الواقع أميناً صادقاً. على أننا إذا كنا نسلم بأن حرص المقولة السابقة على مساوقة لغة القصيدة للواقع الذي تعبّر عنه نابعٌ عن دواعٍ فنية، فإنه لمن السذاجة ألا نعزو إلى دواع أيديولوجية فخر بعض أنصار الحداثة الشعرية بأن يخطئ في اللغة العربية(15)، والجدير بالذكر أن الدكتور صلاح فضل أشار إلى أهمية العلاقات النحوية في تحديد معالم الرؤيا الشعرية، فقال: ندرك أهمية فكرة توظيف العلاقات النحوية على المستوى الدلالي لخلق نماذج الرؤيا الشعرية للعالم، وهذا يكشف خطأ النظرة الأحادية التي تحصر الشعرية في الخواص التصويرية والرمزية للنص متجاهلة بقية الأبنية المؤسّسة للدلالة الكلية، ومن أنشطها البنية النحوية(16) ويشير ناقد آخر إلى أهمية تعرّف البنية النحوية في التعبير عن الرؤيا الشعرية، وفي تعريف معالم هذه الرؤية بقوله: (لابد من تعانق النحو مع النص الأدبي، والانطلاق من النحو في تفسير النص الشعري، إذ إن النص لا يمكن أن يتنصّص إلا بفتل جديلة من البنية النحوية، والمفردات، وهي الجديلة هي التي تخلق سياقاً لغوياً خاصاً بالنص نفسه، وعند محاولة فهم النص وتحليله لابد من فهم بنائه النحوي على مستوى الجملة أولاً، وعلى مستوى النص كلّه ثانياً)(17).
واللافت أن رفض القواعد النحوية هو أحد المفاهيم التي دارت حولها على استحياء الحداثة العربية الأولى، وأوغلت فيه الحداثة الثانية، ثم دفعت هذا المفهوم إلى أقصى درجة تجارب الكتابة الجديدة كما يقول الدكتور نعيم اليافي(18)، أما الدكتور كمال خير بك أحد نقاد الحداثة العربية وروادها فيشير إلى الإهمال الذي يبديه شعراء الحداثة لقواعد النحو، وإلى أنّ هذا الإهمال ناجم عن الجهل بهذه القواعد، وأحياناً عن قصد وإصرار بدعوى أن هذا الإهمال شكل من أشكال الهدم وإعادة البناء الذي يطمح الشاعر الحديث إلى تحريكه في اللغة العربية، لذا ربما وجدت من يدعو إلى التنصّل من قواعد هذه اللغة، وإلى التحدّث بلغة العامة اليومية رغبةً في أن تكون لغة الشعر لغة الحياة النابضة التي يعبّر عنها هذا الشعر(19). وكل ذلك مقولات لا تقوى على الصمود أمام المناقشة وخير دليلٍ على ذلك أن رأس المنظّرين لها في مرحلة من هذا القرن وهو يوسف الخال تراجع عنها فيما بعد لما لاحظه من القطيعة بين المبدع والمتلقي نتيجة التخلي عن القواعد المتواضع عليها، لذلك ينصح الخال نفسه الشاعر الأصيل بأن يعترف بقواعد لغته وأصولها، وبمبادئ الأساليب الشعرية المتأثرة بهذه اللغة المتوارثة في تاريخها الأدبي، وفي الوقت ذاته يأخذ لنفسه قدراً كافياً من الحرية لتطويع هذه القواعد، والأساليب، ونفخ شخصيته فيها(20). والجدير بالذكر أن اضطراب العوالم الداخلية والخارجية التي يصدر عنها الشاعر في تجربته لا يعني بالضرورة أن تكون لغة مضطربة اضطراب هذه العوالم إذا ما كان الشاعر مطبوعاً ممتلكاً لأدوات فنه، فالشاعر المطبوع كما يقول المبرد (285هـ) أشدّ على الكلام اقتداراً، وأكثر تسمّحاً، وأقل معاناةً، وأبطأ معاسرةً(21). ذلك أنه يعتمد على طبعه وحدسه الفني الذي يمكّنه من المضي إلى مراده، ويرشده إلى تشكيل المادة اللغوية وليس من الضرورة كما قلنا أن يكون هذا التشكيل مضطرباً اضطراب العوالم المادية والنفسية التي يصدر عنها الشاعر. فاللغة كما يرى المعنيون بعلم النفس اللغوي لا تشكل شرط التنظيم الإدراكي، ولكنها تنقي هذا التنظيم وتضخمه(22)، وهذا يؤنس بما يُروى من أن بشار بن برد سئل (بِمَ فُقْتَ عمرك، وسبقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأني لم أقل كل ما تورده عليّ قريحتي ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفهم جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها وانتقيت سرّها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت من متكلّفها، ولا والله ما ملك قيادي قطّ الإعجاب بشيء مما آتي به(23). وهذا يعني أن يتعهّد الشاعر خطابه الشعري بضرب من الصيانة اللغوية العفوية المتمثلة بتكوينه المعرفي اللغوي الثقافي العام الذي يصدر عنه، فالصرخة ينطلق بها الصوت اندهاشاً وطرباً، وبينها وبين الشعر وشيجة نسب وثقى، وترجمتها إلى كلام بدلاً من الاكتفاء بها هو الأصل الذي ينبجس منه الشعر(24). على أن هذا لا ينفي أن الشاعر الحقّ المكوّن تكويناً لغوياً وثقافياً ناضجاً لا يتلقّى اللغة كمادة يتصرّف فيها وكأنها معطاة من قبل، بل إنه هو الذي يبدأ بجعلها ممكنة، لأنه أمير الكلام، وإمارته هذه ناجمة عن امتلاكه ناصية لغته، وتمثّله لأسرارها، ولطاقاتها التعبيرية بفعل الدربة المؤازرة للطبع فالطبع مجرد طاقة كامنة تتجلى في شكل تهيؤ للإبداع، وتبقى هذه القدرة مستسرّة مالم تسعفها الدربة التي تمكّن الشاعر من النّفاذ إلى القوانين التوليدية التي ينهض عليها الخطاب الشعري وإذا كان الطبع يمكّن الشاعر من التهيؤ للنفاذ إلى ما في صلب النظام اللغوي من قوانين فإن الدربة هي التي تضع الطبع على عتبات تلك القوانين(25). ولا تقف الدربة عند هذه الحدود، بل تتجاوزها، وتؤدي إلى نتيجة أخرى غاية في الأهمية، إنها تولّد ملكةً جديدةً ترفد الطبع وتبلوره، وتتجلى هذه الملكة بالقدرة على الكتابة الواعية، مما جعل الشاعر حاضراً في نتاجه، إنه قادر على تعديل ذلك النتاج إبّان عملية الخلق ذاتها(26)، فالشعر فعل واعٍ، ولو لم يكن كذلك لكان هذيان المجانين وكلام الحمقى شعراً، والشاعر الحق هو الذي يدرك أن للغة قوانين ونظماً لا تكون اللغة إلا بها، ولا يتمكن من التواصل مع الآخر إلا من خلالها، ولكنه يفطن في الوقت نفسه إلى أن اللغة تسمح من حيث تشمس، وتبيح من حيث تحجر وتحرم، فالنفاذ من الممنوع إلى المباح به يتميز الشاعر عن الشاعر(27).
وفي ضوء ذلك كله يمكن أن نفهم دعوة غير واحد من نقاد الحداثة الشعرية إلى لغة شعرية متّزنة أصيلة مخلصة للعربية بقدر إخلاصها للخطاب الشعري في المشهد الثقافي، فعلى الشاعر كما يرى الدكتور وهب روميه أن يخلق علاقاتٍ لغويةً جديدةً دون أن يُخلّ بقوانين اللغة و أنظمتها، وأن يزلزل التقاليد الأدبية، أو يخلخلها، أو يعدّلها وفق الحاجة(28)، وفي هذا الصدد يقول الدكتور نعيم اليافي: أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية إلى آخر مدى شريطة أن يتم ذلك ضمن خصوصيتي القومية، وتراثي الثقافي، ولغتي العربية(29)، أما نازك الملائكة فتقول: نحن نرفض بقوة وصراحة أن يبيح الشاعر لنفسه أن يلعب بقواعد النحو، إنّ كلّ خروج على القواعد المعتبرة ينقص تعبيرية الشعر(30)، وقريبٌ من ذلك ما سيأتي فيما بعد عن الدكتور محمد غنيمي هلال.
، الدكتور كمال خير بك يشير إلى الإهمال الذي يبديه شعراء الحداثة لقواعد النحو. والإهمال ناجم عن الجهل بهذه القواعد.
واللافت في الحديث عن لغة الشعر الحديث تصوّر أدونيس لعلاقة الألفاظ بدلالاتها، فمن المسلّم به ما يتردد لدى نقاد الحداثة الشعرية، و شعرائها من أن دور الكلمة في القصيدة هو البوح والإيحاء الكلي الاحتمالي، وغير المحدد، وأنها أي الكلمة ليست مطالبة دائماً بالدلالة الواضحة المحددة الأحادية الاتجاه، فاللغة الشعرية ذات طبيعة خاصة تعتمد اعتماداً كبيراً على الألوان والظلال المختلفة التي تثيرها الكلمات، وهذا كلّه مقبول مستساغ على ألاّ تنبتّ الكلمات كلّياً عما يربطها بما لها من الدلالات الثقافية والاجتماعية العرفية العامة و المتنوعة التي اختلفت عليها في تاريخ تطورها الطويل، وإلاّ صارت كلمةً ذات دلالةٍ حادثة كلّياً قائمةً على الاصطلاح مع الذات علماً أن اللغة منظومةٌ اجتماعيةٌ قائمةٌ على المواضعة، وأن التقيد بهذه المواضعة في الخطاب الأدبي عامة، والشعري خاصة يضمر كما هو معروف، وفي هذا السياق يشير أحمد عبد المعطي حجازي إلى مستويين في لغة الإبداع الشعري، المستوى العام المشترك، والمستوى المجازي، فما دام الشاعر يلجأ إلى استخدام الألفاظ والتراكيب التي يستعملها البائع والصحفي فلابد أن تتضمن قصيدته عناصر مشتركة بينه وبين لغة هؤلاء الناس، وأما المستوى الآخر فهو الطبيعة المجازية للغة القصيدة(31)، وغني عن البيان أن كلام حجازي هذا وغيره(32)، ممن حرصوا على تحقيق معادلة تلاحم التجاوزي والنمطي في قصيدة الحداثة قائم على أن الشعر في نهاية المطاف فن أداته اللغة، واللغة منظومة تواضعية، ومتى افتقدت هذه السمة في الخطاب حدثت القطيعة، وتعسر أو تعذر التواصل بين المبدع والمتلقي، ومالم تكن للقصيدة دلالة ما كفّت عن كونها قصيدة لأنها لم تعد لغة(33)، فوجود ميثاق بين المبدع والمتلقي، أو قسطٍ مشترك من التقاليد الأدبية ومن المعاني ضروري لنجاح العملية التواصلية(34) فالشعر مؤسّسة تستمد شرعيتها من التاريخ الثقافي، ولا دلالة لأي نتاج شعري إلا ضمن تاريخ أدبي ثقافي محدد، فالمعنى كما يقول أصحاب نظرية التلقي إنما تحدّده الأعراف والمواضعات التي تحيط بمتلقي النص وقارئه(35)، والجدير بالذكر أنه بغياب هذه المواضعات، أو ذلك القسط المشترك وذلك الميثاق يفسّر جان كوهن الطلاق الذي يشكوه الشعراء المعاصرون، فيقول هناك درجة انزياح حرجة مختلفة دون شك من قارئ إلى آخر، ولكننا نستطيع اعتماداً على الإحصاء تعيين قيمةٍ متوسطة، يتجاوزها تكف القصيدة عن إنجاز وظيفتها باعتبارها لغة دالة وربما كان الطلاق الحاصل بين الشعر المعاصر والجمهور بسبب تجاوز الشعر هذه العتبة بسهولة، ذلك الطلاق الذي يشكو منه الشعراء الشباب المعاصرون(36) وهذا يلاحظ في الشعر التجريدي الذي يقوم على نزع الدلالات المعتادة للكلمات، وإضفاء معانٍ جديدة عليها دون أن يكون لهذه الدلالات مرجعية أخرى سوى التجربة اللغوية الشعرية ذاتها(37) مما يعني أن الشعر التجريدي أداته كلمات تتمتع بنكهة العري كما هو الحال عند رأس هذا الاتجاه أدونيس(38) الذي يقوم أسلوبه كما يقول نقاده على (التحرّر من جملة الأنساق الأيديولوجية سواء أكانت تاريخية أم معاصرة، والعمل على تحضير اللغة بطريقة متميزة يفصلها عن ماضيها الجماعي قدر وسعه(39) يقول أدونيس: أول ما أعمله أفرغ هذه اللغة من محتواها، وأحاول أن أشحنها بدلالات جديدة تخرج عن معناها الأصلي(40) وكلام أدونيس هذا يذكر بتأكيد الناقد يوسف سامي اليوسف غير مرة أن تنظيرات أدونيس مفتعلة لأنها تقوم على المبالغة، وعلى التطرف
(41)،وأن من مواقف أدونيس المفتعلة قوله:إن اللغة التي يريدها لغة بنوّةٍ لا أبوةٍ، لغة آتٍ لا ماضٍ(42) يضاف إلى ما قاله هذا الناقد أن أدونيس مفرط التفاؤل في تنظيره هذا بقدرة الشاعر على التحكم بدلالة ألفاظه وشحنها بالرسالة التي يبغي إيصالها، (فالكاتب يصوغ النصّ حسب معجمه الألسني، وكلّ كلمة في هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً، وعى الكاتب بعضه، وغاب عنه بعضه الآخر، ولكن هذا الغائب، إنما غاب عن ذهن الكاتب، ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخياتها والقارئ حينما يستقبل النص فإنّه يتلقاها حسب معجمه، وقد يمدّه هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفةٍ عن تلك التي وعاها الكاتب حين أبدع نصّه، من هنا تتنوّع الدلالة، وتتضاعف، ويتمكن النصّ من اكتساب قيم جديدة على يد القارئ، وتختلف هذه القيم، وتتنوع بين قارئ وآخر، بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوتة)(43)، وكل هذا يؤدي أنه ليس للشاعر قدرة على التحكم بدلالات ألفاظه على النحو الذي تصوره مقولة أدونيس الآنفة الذكر، والتي يصدر فيها كما يتراءى للدكتور صلاح فضل عن خلاصة رؤيته الخاصة للشعر، والحياة القائمة على التجريد لا على التعبير(44)، وهو ما يدل عليه قول أدونيس نفسه: العالم فنياً إشارة، العالم فنياً إذن ليس موجوداً في العالم، بل فيما وراءه، وهو بالضرورة نوع من التجريد، كلّ مبدعٍ بالكلمة أو بالخطّ لا يُعنى بما يراه إلا بوصفه عتبةً لما لا يراه، ولا تكمن أهمية الصورة في سطحها المرئي، بل في كونها عتبة لمعنىً ما وباباً يقود الناظر إلى ما رواء الغيب أو المجرّد سواء أكان في الذات، أو في الطبيعة(45) ولا شك أن هذا النزوع الصوفي السوريالي المغالي هو الذي أفضى بأدونيس إلى التعامل مع الكلمة الشعرية تعاملاً إلغازياً قريباً من الاصطلاح مع الذات إن لم يكن كذلك تماماً، مما جعله يُغلق باب عالمه الشعري في انتظار قارئ المستقبل الذي قد يجيء كما يقول أحد النقاد(46)، وكل ذلك جعل من أدونيس مؤسس نسق معرفي رؤيوي تجريدي تائه فيما هو حدسي وغرائبي، وميتافيزيقي، قاصر عن وعي الحداثة في نظر صاحب وعي الحداثة(47)، ولا غروَ أن يكون الأمر كذلك لأن الغرض الأساس من الحداثة غرض تنويري، لذا كانت دعوة أدونيس إلى الرؤيا الحدسية والميتافيزيقية، والعمل بهذه الدعوة مدعاةً لنقد الكثير من النقاد والشعراء، ولاسيما القائلين بالواقعية كما يقول الدكتور سعد الدين كليب(48)، فقد رفض هؤلاء هذا الطرح لمفهوم الرؤيا معتبرين أن الرؤيا الاجتماعية الثورية التي تتناغم وحركة الواقع هي الرؤيا الحقيقية التي على شعر الحداثة أن يصدر عنها وأن يعمّقها في الواقع والنصّ معاً، ليس ثمة رؤيا يمكن أن تنفصل عن الرؤية، لهذا فدعوى التجاوز والتخطي التي يدّعيها شعراء الرؤيا ليست في حقيقتها سوى مقولة وهمية، لا أساس لها من الصحة(49) في نظر الدكتور كليب، في السياق نفسه يقول ناقد آخر: لا يدفعني الخطاب الشعريّ عند أدونيس تنظيراً على الأقل للتعاطف مع قضية الغموض التي تقودنا للوقوف عندما نسمع شاعراً مثل أدونيس يعترف بأنه يتعمد الإكثار من الانزياحات اللغوية، وأنه يدخل خطابه الشعري إلى الغموض محمّلاً القارئ، أو المتلقي مسؤولية عدم الارتقاء لمستوى الوصول إلى الدلالات المطلوبة في النص(50).
بنية اللغة الشعرية عند القدماء:
، يقول اليافي أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية شريطة أن يتم ذلك ضمن خصوصيتي القومية.
والذي أود أن أعرض له فيما سيأتي من هذا البحث هو أن ما لاحظناه في الحداثة الشعرية العربية المعاصرة من الدعوة إلى خصوصية اللغة الشعرية المتمثلة بالانزياح دعوى حديثة وافدة قد يكون لها من المعطيات التي اكتنفت ظروف نشأتها في مواطنها ما قد يفسّر هذا التطرّف وتلك المغالاة المتمثلين بعدم رعاية حرمة قواعد اللغة بقصد أو بغير قصد على الاختلاف مستوياتها، وحداثة هذه الدعوى، ووفادتها فيما أقصد تتمثلان بهذا التطرف، وتلك المغالاة فقط، فخصوصية اللغة الشعرية من انفعالية، وتوليد وتجديد، وما لذلك من أثر في بنية اللغة أمر مألوف عند القدماء ممارسة وتنظيراً، لذلك تجد من يحدثك عما للأقسام العروضية في الوزن السداسي من أثر في البنية المروفولوجية لكلمات البيت في إلياذة هوميروس(51) ونقف على شيء من ذلك في الفكر اللغوي عند العرب، فهذا حمزة بن الحسن الأصبهاني(350هـ) يرى أن الشعراء (لابدّ أن يدفعهم استيفاء حقوق الصنعة إلى عسف اللغة بفنون الحيلة لما يدخلونه من الحذف عنها، أو الزيادة فيها، ومرةً بتوليد الألفاظ على حسب ما تسمو إليه همهم عند قرض الأشعار(52) وأما ابن السراج(316هـ) فيرى أنه ربما وجدت الشاعر من القدماء الفصحاء يحوجه الوزن إلى قلب البناء، أو يحتاج إلى المعنى، فيشتق له لفظاً يلتئم به شعره(53) ويخبرنا ابن جني (392هـ) أن أصحابه كانوا يتعقّبون رؤبة وأباه، ويقولون: تهضّما اللغة، وولّداها، وتصرّفا فيها غير تصرف الأقحاح فيها (54) يضاف إلى ذلك أن الضرورة الشعرية في تراثنا على ما للباحث من تحفّظاتٍ(55) على دواعي نشأتها، وعلى أصول عمل معظمهم بها تمثّل عند بعض أئمة العربية خاصة من خواصّ اللغة الشعرية، فهي ليست دائماً أمراً معيباً، بل ربما كانت مظهراً من مظاهر الاقتدار الفني(56) وهي نزوع لغوي موظّفٌ خاص بالشعر، ولعل هذا ما يفهم من قول سيبويه(178هـ): (وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً(57) وربما اتضحت معالم الوجه الذي يحاوله الشاعر في الضرورة أكثر عند ابن جني (392هـ) حيث يقول: (متى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه، وإن دل على جوره وتعسفه فإنه من وجهٍ آخر مؤذن بصياله وتخمّطه، وليس بقاطع دليلٍ على ضعف لغته، ولا قصوره على اختيار الوجه الناطق بفصاحته، بل مثله في ذلك عندي مثل مجري الجموح بلا لجام، ووارد الحرب الضّروس حاسراً من غير احتشام، فهو وإن كان ملوماً في عنفه وتهالكه فإنه مشهود له بشجاعته، وفيض منته، ألا تراه لا يجهل أن لو تكفّر في سلاحه، أو اعتصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن الملحاة، لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله إدلالاً بقوة طبعه، ودلالةً على شهامة نفسه، ومثله سواء ما يحكى عن بعض الأجواد أنه قال: أيرى البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم، إننا نرى في الثناء بإنفاقها عوضاً من حفظها بإمساكها(58).
فابن جني في هذا النص لا يرى إتيان الشاعر بما يسمّى ضرورة معلماً من معالم الضعف اللغوي، بل يرى ارتكاب الشاعر للضرورة مغامرة لغوية تصوّره ثائراً منفعلاً بما يعتمل في نفسه غير عابئ بما تمنعه أصول اللغة، وما تبيحه إذا ما كان في ذلك ما يوحي بصدق تجربته، وعميق تأزمه النفسي، فالمغامرة اللغوية الممثّلة بالضرورة الشعرية كما تتراءى لابن جني تجلو ملابسات التجربة، وتحمل أبعادها النفسية، وتشبع نوازع هذه الأبعاد عند الشاعر كما تشبع المغامرة الحربية نوازع الفارس الشجاع إلى الظهور والإدلال بالشجاعة والقوة، وكما يشبع الجود بالمال رغبة الجواد في المدح والثناء، وكل أولئك لا يندر أن يتجاوزوا الحدود المرعية فيما يمارسونه بغية نوازع نفسية خاصة بكل منهم، ولم يربط ابن جني المغامرة اللغوية المتمثّلة بالضرورة الشعرية بإنجازها النفسي فحسب، بل وظفها في خدمة المعنى وتوضيح المراد، لذا تراه بعد أن عرض ما عرض في هذا الصدد يقول: (فاعرف بما ذكرنا حال ما يرد في معناه وأن الشاعر إذا أورد منه شيئاً فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً، ولا جشم إلا أمماً، وافق ذلك قابلاً له، أو صادف غير آنس به، إلا أنه قد استرسل واثقاً، وبنى الأمر على أنه ليس ملتبساً(59) فابن جني يرى أن الشاعر في الضرورة يأتي بما يوحي بالمعنى المراد إيصاله سواءٌ أجاء هذا المعنى بقالب يُرضي المعنيين باللغة، أم لم يجيء، وكأني بابن جني في موقفه هذا يمهد الطريق لظهور مذهب في تراثنا لا يفسّر الضرورة بالحاجة إلى المحافظة على الوزن والقافية، بل بما يتطلبه المعنى المراد التعبير عنه، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي (790هـ): (قد يكون للمعنى عبارتان أو أكثر: واحدة تلزم فيها الضرورة، إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ولا شك أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة، لأن اعتناءهم بالمعنى أشدّ من اعتناءهم باللفظ(60)، ويبدو بوضوح ما أشرنا إليه قبل قليل من أن الضرورة الشعرية عند بعضهم ضرب من الاقتدار الفني فيما يراه بهاء الدين السبكي (763هـ) من أن الضعف في الكلام نسبي، فالسبكي يرى أن (الضعف ربما كان في النثر دون الشعر، لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز قد تقوي ما هو ضعيف، فعلى البياني أن يعتبر ذلك فربما كان الشيء فصيحاً في الشعر غير فصيح في النثر(61).
وقد عرض فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية إلى خصوصية اللغة الشعرية، فقد قسّم أبو النصر الفارابي اللغة إلى قسمين، اللغة النمطية: وهي لغة البرهان أو العلم، واللغة التجاوزية: وهي لغة الخطابة أولاً ثم الشعر(62)، ويردّ ابن سينا الحيل في لغة الشعر إلى نسب بين الأجزاء(63)، فاللغة ذات الألفاظ الحقيقية المستولية تخالف اللغة الشعرية، إذ إن لغة الشعر ليست للتفهيم، بل للتعجيب كما يقول ابن سينا، أما ابن رشد فيرى أن فضيلة القول الشعري العفيفي أن يكون مؤلّفاً من الأسماء المستولية، ومن تلك الأنواع الأخر المنقولة الغربية والمغيّرة، والشاعر حيث يريد الإيضاح يأتي بالأسماء المستولية، وحيث يريد التعجب والإلذاذ يأتي بالصنف الآخر من الأسماء، وكأن الشاعر يجب ألا يفرط في الأسماء غير المستولية فيخرج إلى حدّ الرمز، وألا يفرط في الأسماء المستولية، فيخرج عن طريق الشعر إلى الكلام المتعارف(64).
وبعد فلابد من الإشارة إلى أن خصوصية اللغة الشعرية، أو مغايرتها مألوف الكلام المنثور العادي سواء أأسميناها ضرورية، أو انزياحاً، أو عدولاً أو انحرافاً (مظهر واضح تتجلى فيه الفردية الفنية بشكل بارز(65) ومهمة النقد الكشف عن البعد الجمالي، أو الفني لهذه المغايرة التي إذا لم يكن لها فاعلية فنية عُدّت قصوراً في تمثّل الشاعر للغته، وفي قدراته على توظيفها، وحسن استثمارها فنياً جمالياً.
نماذج تطبيقية:
وهذه يقتضينا أن نحسن الظن ما أمكن بالشعراء المتمرسين، وألا ننظر إليهم دائماً بمنظار التصويب والتخطئة، بل نحاول استكشاف أسرار تراكيبهم التي تبدو من وجهة نظرنا مخالفةً لما هو مألوف، فربما عمدوا إلى هذه التراكيب سعياً وراء معنى متساوقٍ مع المعنى الشعري للقصيدة(66) وقد يكون من ذلك ما نقف عليه أحياناً عند الشعراء من حذف للفاعل مع أنه عمدة، لا تقوم الجملة الفعلية إلا به، ومع ذلك حذفوه، وهذا الحذف يفسّر أحياناً بعدم تعلّق عرض الشاعر بذكر من قام بالفعل الذي يخبرنا به، فيرى البلاغة في حذف ما لا غرض له في ذكره، وربّ حذف أبلغ من ذكر كما يقول عبد القاهر الجرجاني(67)، وهذا ما يمكن أن نلمسه في قول النابغة الذبياني(68):
يا دار مية بالعلياء، فالسَّند
أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وَقَفْتُ فيها أصيلاً كي أسائلَها
عَيَّتْ جواباً، وما بالربع من أحدِ
إلا أواريَ لأياً ما أبيِّنُها
والنؤيُ كالحوض بالمظلومة الجَلَدِ
رَدَّتْ عليه أقاصيْه ولَبَّده
ضَرْبُ الوليدةِ بالمسحاة في الثَّأدِ
، من مواقف أدونيس المفتعلة قولـه: إن اللغة التي يريدها لغة بنوّة لا أبوة. لغة آتٍ لا ماضٍ.
ففي البيت الأخير روي (ردّت)(69) بالمبنى للمعلوم، ونصب (أقاصيه) بفتحة مقدرة، وفي ذلك محظوران من حيث النحو، أولهما إسكان حرف الإعراب المفتوح وهو الياء في (أقاصيه) وهذه ضرورة، وثانيهما إضمار فاعل (ردّت) وجعله ضميراً غير مفسر باسم ظاهر متقدم، وهذا فيما أميل إليه حذف للفاعل لا إضمار له، وجعله ضميراً مستتراً مفسّراً باسم ظاهر مقدّرٍ احتيال من النحاة لأنهم لا يجيزون حذف الفاعل، لأن الجملة صناعياً لا تقوم إلا به، لذا يرون أن فاعل (ردّت) هنا ضمير تقديره هي يعود على الأمة المحذوفة لأنها معروفة، والذي أميل إليه أن الفاعل لم يحذف في هذا البيت لأنه معروف، بل لأن الشاعر معنيّ هنا بالحدث لا بمن قام به، أي معنى بالرد، لا بالراد، لأنه معني بوصف حال هذه الآثار، وما آل إليه أمرها، لا بمن آل بها إلى ذلك، لذا حذف الراد لكي ينصرف اهتمام السامع إلى ما يهتم به الشاعر، وهو الرد، فحذف الشاعر الفاعل لأن غرضه لا يتعلق به، فذكره فضول، لذا آثر بلاغة الحذف والإيجار، يؤيد صحة هذا التسويغ لحذف الفاعل في هذا البيت روايته الأخرى (ردّت عليه أقاصيه) بالمبني للمجهول، فمعروف أن أحد الأسباب الرئيسة لاستعمال المبني للمجهول، هو عدم تعلّق غرض المتكلم بالفاعل المحدث، بل بالحدث نفسه، وهو ما يعبّر عنه المبني للمجهول.
والانحراف اللغوي الآخر اللافت في رواية هذا البيت بالمبني للمعلوم، هو إسكان حرف الإعراب المنصوب، وهو (ياء) أقاصيه وهذا الإسكان استجابةٌ لغرض فني يتمثل بالانسجام الموسيقي للبيت الناجم عن وزنه علماً أن الإسكان هنا لا يخل بالمعنى، لأن المعنى مفهوم من السياق عامة، لا من الحركة الإعرابية، يؤنس بذلك أن المعنى في اللغة العربية لا يتوقف دائماً على ظهور الحركة الإعرابية، وفي هذه الحال تتمثّل وظيفة الإعراب بالمحافظة على سلاسة البنية الإيقاعية للجملة العربية(70)، وانسجامها فقط، وإذا كان هذا الانسجام يتحقق في سياق تركيبي ما كان في البيت السابق بإسكان حرف الإعراب يضحى الشاعر بالحركة الإعرابية في سبيل هذا الانسجام الصوتي الفني خاصة إذا لم يترتب على هذا الإسكان غموض في دلالة التركيب، وربما كان حذف الفاعل على النحو السابق ناجماً عن وضوح المعنى كأن تدلّ عليه قرينة ما، مما يجعل التصريح به فضول قول لا يليق بالنص الشعري، فيعدل إلى بلاغة الحذف إيجازاً، وإعجازاً، وذلك نحو قول الشاعرة(71):
لقد علم الضيف والمرملون
إذا اغبرَّ أُفْقٌ، وهَبَّت شمالا
ففاعل (هبّت) هي الريح، ولم يجر لها ذكر، ولكنَّ ذكر، الهبوب، وجهته، واغبرار الأفق قرائن استعمالية كفيلة بالبوح بالفاعل، وكأنه مصرح به، لذا كان حذفه هنا متفقاً وطبيعة لغة الشعر القائمة على البوح والإيحاء. ومن الانزياحات النحوية الموظفة ما عيب على المتنبي من إثبات هاء السكت وتحريكها وصلا في قوله(72):
واحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم.
فقط(73) عيب على المتنبي إثبات هاء السكت وتحريكها في/واحر قلباه/، فهذه الهاء عند البصريين لا تثبت إلا في الوقف، ثم إن ثبتت، فهي ساكنة دائماً، لذا عابوا على المتنبي إثباتها وصلا وتحريكها، والجديد بالذكر أن إلقاء الضوء على الموقف الانفعالي الذي قيلت فيه قصيدة هذا البيت يوحي بملائمة هذا الانزياح لانفعالية الموقف، كما يوحي بقدرته على التعبير عن مشاعر الغضب اللاهبة، وعن الألم النفسي الحاد الذي عاشه المتنبي نتيجة إيقاع خصومه بينه وبين سيف الدولة، فكان أن عاتب المتنبي سيف الدولة بقصيدته هذه محمّلاً إياها عتاباً له، فجاءت قصيدة لاهبة حارة، وذلك في موقف انفعالي مضى يتصاعد بالتصادم بين المتنبي وخصومه، وقد مثل ذروة هذا الموقف الانفعالي(74) قول المتنبي: واحر قلباه، ذلك التشكيل النحوي الذي أعطى به الشاعر مالا سبيل إلى إعطائه بصياغة أخرى ترضي النقاد اللغويين(75) يؤذن بذلك النظر إلى هذا التشكيل النحوي في ضوء إحساس المتنبي العميق بالألم والذبول والجفاف، تلك المشاعر التي تنضح بها بعمق وأسى شديدين هاء (قلباه) العميقة في المخرج، والمسبوقة بألف بلغت مداها في المد، إنه مقطع يتصف باندياح في الصوت، وعمق في المخرج، يناسبان عمق أحاسيس الألم والغضب واندياحها، إنه التفجير المبدع لطاقات البنية اللغوية المنجزة لهذه التجربة. ومن الانزياحات اللغوية الموظفة فنياً في لغة الشعر إشباع الفتحة، وجعلها ألفاً في قول سعد الدين كليب(76):
قد كان يعرفني الطَّلُّ
تعرف خطوي الأزقة
والياسمين وتلك الملاك
تمر كمر الندى
يلفح القلبَ منها اشتهاءُ
تغمغم: (دعنا نراك)
فاللافت في هذا النص قول الشاعر: (دعنا نراك) بإطلاق ألف (نراك) والظاهر نحوياً حذف هذه الألف، فالفعل مجزوم بكونه جواب الطلب ويمكن أن يفسر عدم حذف الألف بالضرورة الشعرية كما يمكن أن يوجّه التركيب على غير وجه، والمناسب أن يفسّر هذا الانزياح بما للألف من القدرة على البوح بالمشاعر والأحاسيس العميقة المعتملة في نفس هذه الملاك التائقة لرؤية من تحب، نقول ذلك لما لاحظه النقاد من أن شعرنا الحديث حافل بتوظيف الحركات الطويلة في حمل المشاعر الممتدة والأحاسيس العميقة(77).
خاتمة المطاف
وبعد فما أود أن أختم به حديثي هذا هو أن خصوصية اللغة الشعرية التي تترك معالمها الواضحة على نتاج هذا الشاعر أو ذلك الجيل من الشعراء مهما بالغنا في بيان معالمها وفي بيان أثرها وأهميتها تبق استعمالاتٍ فردية تمثّل خصوصية الشاعر الفنية واللغوية، ولكنها لا تقوى على إحداث تغيير ذي بال في بنية اللغة المشتركة، لأن التغيير اللغوي المجتمعي نتاج فعل المجتمع لا الفرد، فاللغة ظاهرة مجتمعية أولاً وآخراً، على أن ذلك كلّه لا ينفي أن يترك هذا الشاعر أو ذاك بصماتٍ لغويةً خاصةً في شعر شاعر، أو جيل من الشعراء مما يوجد أحياناً تقاليد أدبية لغوية تطغى في عصر دون آخر، (فقد احتفظت لغة الشعر كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال على مر العصور بمقومات فنية ما زالت تنمو بفضل عباقرة الشعراء، والنقاد في مختلف الآداب، وانتهت إلى العصر الحديث وأثرت في أدبنا نحن، في صياغته ومعانيه، ولا ينال هذا التأثير في شيء من اللغة؛ ألفاظها، وقواعدها، فهذا مالم يقل به أحد من المجددين الذين يُعتدُّ بهم في أدبنا العربي، أو في الآداب العالمية الأخرى، ولم يدر في خلد هؤلاء المجددين أن ينالوا من اللغة أو يهوّنوا من شأن المعرفة الدقيقة لأساليبها ومعانيها(78).
هوامش وإحالات:
1-التركيب اللغوي للأدب ص(5) للدكتور لطفي عبد البديع، ط1، القاهرة، 1970.
2-شعرنا القديم والنقد الجديد ص25-26 للدكتور وهب رومية، ط1، الكويت، 1996 وانظر الحداثة في حركة الشعر العربي المعاصر ص(97) للدكتور خليل الموسى، ط1، دمشق 1991.
3-انظر بنية اللغة الشعرية ص(21) لجان كوهن ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، ط1، الدار البيضاء، 1986.
4-انظر آراء في الحداثة، مقال عبد العزيز الراشد، مجلة البيان الكويتية، ص125-284، لعام 1997.
5-انظر أوهاج الحداثة ص33، 105-108 للدكتور نعيم اليافي، ط1، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1993.
6-انظر: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر ص(148) للدكتور كمال خير بك، وانظر: الحداثة الشعرية ص35-36 لمحمد عزام، ط، اتحاد الكتاب العرب، 1995.
7-اللغة والشعر في ديوان أبي تمام ص(53) لحسين الواد. ط، دار الجنوب للنشر تونس، 1997.
8-في الشعرية ص(17) لكمال أبو ديب. ط1، بيروت، 1987.
9-اكتساب اللغة ص120 لمارك رشل ترجمة الدكتور كمال بكداش، ط1، بيروت، 1984.
10-يشير الدكتور صلاح فضل إلى تمييز العناصر اللغوية المحايدة من آليات التعبير التقني للأساليب الشعرية. انظر كتابه،
أساليب الشعرية المعاصرة ص(11)، ط1، بيروت، 1996.
11-هو الدكتور مصطفى السعدني في كتابه، البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث، 1116، ط، الاسكندرية، 1990.
12-ديوانه، وأشهد هاك اعترافي ص(14) ط1، دار الينابيع دمشق، 1993.
13-مريم، 19/83.
14-التركيب اللغوي للأدب ص(10).
15-انظر أوهاج الحداثة 112، 122 حيث يذكر الدكتور نعيم أن بعض أنصار الحداثة الشعرية العربية يفخر إذ يخطئ باللغة العربية.
16-أساليب الشعرية المعاصرة، 138.
17-اللغة وبناء الشعر ص(7) للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف ط1، القاهرة، 1992.
18-انظر: أوهاج الحداثة /227/.
19-هو الدكتور كمال خير بك في كتاب حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ص149، 150، ط2، بيروت، 1986.
20-انظر: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر (116-117)، والحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، مقال الدكتور عبد الله أحمد المهنا، المنشور في مجلة عالم الفكر ص(5-46) ولاسيما ص(29-30) العدد (3) المجلد التاسع لعام 1998.
21-الكامل لأبي العباس المبرد ص(60) ط، دار المعارف، بيروت، د.ت.
22-اكتساب اللغة ص(121).
23-زهر الآداب، وثمر الألباب 1/110. لأبي إسحاق إبراهيم بن علي البجاوي، ط2، الباب الحلبي وشركاه.
24-اللغة والشعر في ديوان أبي تمام: 78.
25-الشعر والشعرية: 137-138. للدكتور محمد لطفي اليوسف ط1 –الدار العربية للكتاب. تونس 1992.
26-الشعر والشعرية، 39.
27-اللغة والشعر في ديوان أبي تمام 190.
28-شعرنا القديم والنقد الجديد 181، وإلى مثل ذلك ذهب الدكتور محمد مفتاح في كتابه (تحليل الخطاب الشعري) 40-41، ط1، الدار البيضاء، 1986.
29-أوهاج الحداثة 115، وانظر: 110 منه.
30-قضايا الشعر المعاصر، 322. لنازك الملائكة ط5، 1978.
31-انظر: الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، مجلة عالم الفكر الكويتية، 4-3 التاسع (23).
32-انظر: ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث (24-26) لعلاء الدين رمضان السيد ط1 اتحاد الكتاب العرب، دمشق ،1996.
33-بنية اللغة الشعرية 21.
34-تحليل الخطاب الشعري 135.
35-نظرية التلقي: 243 لروبرت هولب ترجمة الدكتور عز الدين اسماعيل ط1.
36-بنية اللغة الشعرية 31.
37-أساليب الشعرية المعاصرة 192.
38-انظر: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر 131.
39-أساليب الشعرية المعاصرة 187.
40-أسئلة الشعر لمنير العكش ط1 بيروت 1979.
41-الشعر العربي المعاصر ص 227، 231. ليوسف سامي اليوسف ط1، اتحاد الكتاب العرب –دمشق، 1980.
42-الشعر العربي المعاصر ص232 وانظر زمن الشعر ص114، 115 لأدونيس دار الفكر- بيروت 1986.
43-الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية ص(79) وانظر (57) للدكتور عبد الله محمد الغذامي ط1- النادي الأدبي الثقافي –جدة 1985.
44-أساليب الشعرية المعاصرة 193.
45-الصوفية السوريالية 202-203 لأدونيس ط بيروت 1992.
46-هو الدكتور مختار علي أبو غالي. انظر كتابه المدينة في الشعر العربي المعاصر ص364 سلسلة عالم المعرفة الكويت العدد 196 للعام 1995.
47-هو الدكتور سعد الدين كليب في ص (19-20) من كتابه المذكور ط1 اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1997.
48-المرجع نفسه ص 19.
49-المرجع نفسه.
50-ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث ص127.
51-الشفاهية والكتابية ص22 لوالترج أونج. ترجمة الدكتور حسن البنا عز الدين سلسلة عالم المعرفة –الكويت- العدد- 182 للعام 1994.
52-التنبيه على حدوث التصحيف 147-158 لحمزة الأصبهاني تح. محمد آل ياسين ط بغداد 1967.
53-رسالة الاشتقاق ص28. لابن السرّاج. تح. مصطفى الحدري ط1، دمشق 1973.
54-الخصائص 3/298 لابن جني تح. محمد علي النجار ط2 دار الهدى للطباعة بيروت.
55-تتمثل هذه التحفّظات بأن حديث أئمة العربية عن الضرورة الشعرية في مرحلة النشأة خاصةً كان ناجماً عن حاجتهم إلى ما يسوّغون به خروج بعض الأبيات على أصولهم لا عن الوعي بالخصوصية الفنية الانفعالية للغة الشعر. انظر مقال (منزلة الشاهد الشعري عند النحاة) للدكتور محمد عبدو فلفل. مجلة جامعة البعث ص(107) عن أبي هريرة قال (13) عام 1994.
56-انظر مقال (الضرورة الشعرية ومفهوم الانزياح) لأحمد محمد ويس. مجلة التراث العربي ص117-118 (68) اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1997.
57-الكتاب 1/32 لسيبويه. تح. عبد السلام محمد هارون ط عالم الكتب –بيروت.
58-الخصائص 2/392.
59-الخصائص 2/393.
60-انظر خزانة الآداب 1/34 لعبد القادر البغدادي عبد السلام هارون ط 1979.
61-عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح 1/99 طبع مع مختصر السعيد التفتازاني على تخليص المفتاح- المطبعة الأميرية- ببولاق 1317هـ.
62-كتاب أرسطو طاليس في الشعر ص198 تح وتر. د. شكري محمد عياد د.ت.
63-الحروف ص(141) للفارابي. نقلاً عن كتاب (ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث) ص35.
تمهيد
غنيَّ عن البيان أن الشعر ظاهرة لغوية في وجودها، ولا سبيل إلى التأتي إليها إلا من جهة اللغة التي تتمثل بها عبقرية الإنسان، وتقوم بها ماهية الشعر (1)، أي أن الشعر فعالية لغوية في المقام الأول، فهو فنٌّ أداته الكلمة، لذا فجوهر الشعرية وسرّها في اللغة ابتداءً بالصوت ومروراً بالمفردة وانتهاءً بالتركيب، وإذا كان الشعر تجربة، فالكلام تجلٍّ لتلك التجربة، ولعواطف الشاعر، وأحاسيسه في تلك التجربة، فالشاعر يعي العالم جمالياً، ويعبّر عن هذا الوعي تعبيراً جمالياً، ومن هنا كان الشعر بنيةً لغوية معرفية جمالية، وتحليل بنية اللغة الشعرية يسمح بالكشف عن حيازة الشاعر الجمالية للعالم، أي يسمح بالربط بين اللغة والرؤيا، وإذا كانت اللغة في النثر العادي، أو العلمي، وسيلة للتعبير المباشر عن مقولة نرغب في إيصالها أو توضيحها، فإن اللغة في الشعر غاية فنية بقدر ما هي وسيلة تؤدي معنى، وتخلق فناً(2)، لذا يحرص الخطاب العلمي، أو النثري العادي غاية الحرص على التقيد بما تواضع عليه أهل اللغة في حين يقوم الخطاب الأدبي عامةً، والشعري خاصةً على التخلّي بعض الشيء عن هذه المواضعات متحوّلاً بلغته إلى خلق جديد مغاير لما عليه أصول اللغة في النثر العادي، وهذا ما يعرف لدى نقاد الحداثة وشعرائها بالعدول، أو الانحراف، أو الانزياح الذي يُعدّ الشرط الضروريّ لكل شعر كما يقول جان كوهن(3).
بنية اللغة الشعرية
عند المحدثين:
والمتبصّر بما هو رائجٌ عند نقاد الحداثة الشعرية العربية وشعرائها يدرك أن هذه المقولات انتشرت إليهم انتشار النار في الهشيم، فمن قائل: إن الشعر يقوم على خرق العادة اللغوية مثال لبعض القائلين بهذا، إلى ناقد يدعو في حداثته إلى تدمير أمور عدة، وفي مقدمتها تدمير اللغة(4). ولا تعدم أن تجد من يحدّثك عن قصيدة نثرية حداثية تقوم على تكسير قواعد اللغة القديمة، وتخريب علاقاتها المتداولة، وقوانينها المعروفة(5).
فجمال لغة الشعر كما يقول أدونيس يعود إلى نظام المفردات وعلاقاتها بعضها ببعض، وهو نظام لا يتحكّم فيه النحو، بل الانفعال والتجربة(6) وهذه المقولات ونظائرها فيها من التعميم والمغالاة ما يجعل الانزياح في لغة الشعر دعوى مضلّلةً مالم تتوضّح معالم هذا الانزياح، وحدوده الكمية والنوعية، وإلا تحوّل الشعر تنظيراً على الأقلّ إلى عبث لغوي مقصود لذاته، ولا يندر أن يكون ذلك بدوافع أيديولوجية مغرضة لها من الأهداف مالا يرتضيه المخلصون للغتنا العربية أولاً، و لدور الخطاب الشعري في المشهد الثقافي المعاصر ثانياً، فالانزياح اللغوي في الشعر كما تصوّره الطروح السابقة سلوك يجعل من اللغة الشعرية لغةً مختلفةً الاختلاف كلّه عن لغة الخطاب العادي أو العلمي وذلك بدعوى الحاجة الفنية إلى التوسّع في بنية اللغة الشعرية، وقد أشار إلى الخطر في غموض مفهوم مصطلح التوسع هذا أحد الدارسين قائلاً: (إنه عند التأمل مصطلحٌ رحبٌ وغامضٌ وقابلٌ لأن يمتلئ بأي شيء(7). ولعل هذا الغموض المضلّل في دلالة هذا المصطلح هو الذي نبه كمال أبو ديب على خطورة اندياح دلالة مصطلح الانزياح في اللغة الشعرية، فأكد أن هذا الانزياح لا يصل إلى تحديد الشعرية في إطار الانحراف بلغة الشعر إلى لغة مختلفة مغايرة، لها قواعد نحوها الخاصة(. وغني عن البيان أن الغرض من هذا التحفّظ الذي أبداه أبو ديب إنما هو الإبقاء على التواصل بين المبدع والمتلقّي، وهذا ما يفرض وجود عناصر لغوية مشتركة بين لغة الخطاب النثري العادي وبين لغة الخطاب الشعري إضافةً إلى وجود عناصر منزاحةٍ في الخطاب الشعري عمّا هي عليه العرف اللغوي، فالخطاب الشعريُّ خطابٌ لغوي يفرّغ نفسه في قالب نظام اصطلاحي يشكّل بالضرورة عملية اتصال، وليس هناك من رسالة لا تتضمن عناصر مرجعيةً مهما كانت الرسالة مشحونةً بالقوة التعبيرية(9). وهذه العناصر المرجعية تتآلف والعناصر المنزاحة الباثّة للدفق الشعري إلى عناصر أخرى في النص يسمّيها بعض النقاد عناصر لغويةً محايدةً فنياً حياداً إيجابياً(10). يمكّنها من استقبال الدفق الجمالي أو الشعري، وبثّه في المتلقي، فاللغة الفنية كما يقول أحد النقاد مزيجٌ من الطاقتين التعبيريتين المباشرة والإيحائية(11). وهذا ما يمكن أن نلمحه في قولـه الشاعر سعد الدين كليب(12).
إيه فليبدأ الحلم من حيث شاء
فللحلم إزميله العبقري
فشعرية هذا التركيب فيما توحي به الذائقة تكمن في إسناد كلمة (أزميل) إلى الحلم، وإحلال كلمةٍ أخرى محلّ هذه الكلمة في التركيب يزيل ما فيه من شعرية، أو على الأقل يغيّر البعد الجمالي والدفق الشعري لهذا التركيب، فلو قيل: للحلم أسلوبه العبقري، أو أدواته العبقرية، أو أيّ شيء من هذه البدائل المألوفة في الكلام العادي لافتقد التركيب ما يوحي به الآن من التمرّد على مالا يرتضيه الشاعر من معطيات حياته، ومن الرغبة في تغيير هذه المعطيات بأداة الشعر المعهودة، وهي الحلم، ولكنه هنا حلم ثوري مصرٌّ، وفي كلمة (إزميل) ما يؤيد هذا الذي نذهب إليه، فهو الأداة الحادّة المؤثرة في المواد الصّلبة القادرة على التغيير المؤكدة لثورية حلم الشاعر، وإصراره على التمرد والتغيير، وعدم الاستسلام، ولعل في اكتناه البنية الصوتية لهذه الكلمة ما يساعد على كشف ما نسبناه إليها من شاعرية وجمالية، فمقطعها الأول (إزميل) بهمزته و زايه يوحي بالشدة والإصرار والإزعاج على نحو يذكر بالإزعاج والشدة الكامنين في (تؤزّهم أزّاً) من قوله تعالى (ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزّاً)(13). وكلّ ذلك يوحي بأن جمالية قول الشاعر: فللحلم أزميله العبقري تكمن في الاستخدام غير العادي وغير المألوف المتمثل بإسناد الإزميل إلى الحلم الذي اعتدنا أن ينسب إليه الرّهافة والعطف واللّين والتغضّن والانكسار، وأمّا سائر الوحدات اللغوية في هذا التركيب فعناصر عادية حيادية فنياً، قد تخلو من جماليتها وشاعريتها، أو قد يتغير أفق ذلك إذا ما استبدلنا بكلمة (إزميل) غيرها.
والتحفظ الآخر الذي يُحسُّ به الدارس حيال ما يعرف بالانزياح لدى نقاد الحداثة وشعرائها يتمثل بالتوقّف لدى حديثهم عن الانزياح على المستوى النحوي والصرفي والمستوى الدلالي وضروراته الفنية، فكثيراً ما يكتنف خطابهم النقديّ في هذا الصّدد التعميم وعدم التمييز بين مستويات الانزياح اللغوي في الشعر. فالقصيدة التي تنتحب بالجوع كما يقول الدكتور لطفي عبد البديع لا يرتجى لها أن تكون منظومة كحبّات العقد، فالمجاعة التي تعصف بالأحياء ليست إلا مهلكة تصرفهم من موت إلى موت، فلا وصف لها إلا بلغة تساوق حقيقته المقلوبة الماحقة(14).
والذي يميل إليه المرء أن في هذا المقولة حرصاً ساذجاً على مطابقة الشكل للمضمون، إذ ليس من الضروري أن يعبّر عن واقع مضطرب، أو مختل بلغة مضطربة، أو مختلة حتى يكون التعبير عن هذا الواقع أميناً صادقاً. على أننا إذا كنا نسلم بأن حرص المقولة السابقة على مساوقة لغة القصيدة للواقع الذي تعبّر عنه نابعٌ عن دواعٍ فنية، فإنه لمن السذاجة ألا نعزو إلى دواع أيديولوجية فخر بعض أنصار الحداثة الشعرية بأن يخطئ في اللغة العربية(15)، والجدير بالذكر أن الدكتور صلاح فضل أشار إلى أهمية العلاقات النحوية في تحديد معالم الرؤيا الشعرية، فقال: ندرك أهمية فكرة توظيف العلاقات النحوية على المستوى الدلالي لخلق نماذج الرؤيا الشعرية للعالم، وهذا يكشف خطأ النظرة الأحادية التي تحصر الشعرية في الخواص التصويرية والرمزية للنص متجاهلة بقية الأبنية المؤسّسة للدلالة الكلية، ومن أنشطها البنية النحوية(16) ويشير ناقد آخر إلى أهمية تعرّف البنية النحوية في التعبير عن الرؤيا الشعرية، وفي تعريف معالم هذه الرؤية بقوله: (لابد من تعانق النحو مع النص الأدبي، والانطلاق من النحو في تفسير النص الشعري، إذ إن النص لا يمكن أن يتنصّص إلا بفتل جديلة من البنية النحوية، والمفردات، وهي الجديلة هي التي تخلق سياقاً لغوياً خاصاً بالنص نفسه، وعند محاولة فهم النص وتحليله لابد من فهم بنائه النحوي على مستوى الجملة أولاً، وعلى مستوى النص كلّه ثانياً)(17).
واللافت أن رفض القواعد النحوية هو أحد المفاهيم التي دارت حولها على استحياء الحداثة العربية الأولى، وأوغلت فيه الحداثة الثانية، ثم دفعت هذا المفهوم إلى أقصى درجة تجارب الكتابة الجديدة كما يقول الدكتور نعيم اليافي(18)، أما الدكتور كمال خير بك أحد نقاد الحداثة العربية وروادها فيشير إلى الإهمال الذي يبديه شعراء الحداثة لقواعد النحو، وإلى أنّ هذا الإهمال ناجم عن الجهل بهذه القواعد، وأحياناً عن قصد وإصرار بدعوى أن هذا الإهمال شكل من أشكال الهدم وإعادة البناء الذي يطمح الشاعر الحديث إلى تحريكه في اللغة العربية، لذا ربما وجدت من يدعو إلى التنصّل من قواعد هذه اللغة، وإلى التحدّث بلغة العامة اليومية رغبةً في أن تكون لغة الشعر لغة الحياة النابضة التي يعبّر عنها هذا الشعر(19). وكل ذلك مقولات لا تقوى على الصمود أمام المناقشة وخير دليلٍ على ذلك أن رأس المنظّرين لها في مرحلة من هذا القرن وهو يوسف الخال تراجع عنها فيما بعد لما لاحظه من القطيعة بين المبدع والمتلقي نتيجة التخلي عن القواعد المتواضع عليها، لذلك ينصح الخال نفسه الشاعر الأصيل بأن يعترف بقواعد لغته وأصولها، وبمبادئ الأساليب الشعرية المتأثرة بهذه اللغة المتوارثة في تاريخها الأدبي، وفي الوقت ذاته يأخذ لنفسه قدراً كافياً من الحرية لتطويع هذه القواعد، والأساليب، ونفخ شخصيته فيها(20). والجدير بالذكر أن اضطراب العوالم الداخلية والخارجية التي يصدر عنها الشاعر في تجربته لا يعني بالضرورة أن تكون لغة مضطربة اضطراب هذه العوالم إذا ما كان الشاعر مطبوعاً ممتلكاً لأدوات فنه، فالشاعر المطبوع كما يقول المبرد (285هـ) أشدّ على الكلام اقتداراً، وأكثر تسمّحاً، وأقل معاناةً، وأبطأ معاسرةً(21). ذلك أنه يعتمد على طبعه وحدسه الفني الذي يمكّنه من المضي إلى مراده، ويرشده إلى تشكيل المادة اللغوية وليس من الضرورة كما قلنا أن يكون هذا التشكيل مضطرباً اضطراب العوالم المادية والنفسية التي يصدر عنها الشاعر. فاللغة كما يرى المعنيون بعلم النفس اللغوي لا تشكل شرط التنظيم الإدراكي، ولكنها تنقي هذا التنظيم وتضخمه(22)، وهذا يؤنس بما يُروى من أن بشار بن برد سئل (بِمَ فُقْتَ عمرك، وسبقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأني لم أقل كل ما تورده عليّ قريحتي ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفهم جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها وانتقيت سرّها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت من متكلّفها، ولا والله ما ملك قيادي قطّ الإعجاب بشيء مما آتي به(23). وهذا يعني أن يتعهّد الشاعر خطابه الشعري بضرب من الصيانة اللغوية العفوية المتمثلة بتكوينه المعرفي اللغوي الثقافي العام الذي يصدر عنه، فالصرخة ينطلق بها الصوت اندهاشاً وطرباً، وبينها وبين الشعر وشيجة نسب وثقى، وترجمتها إلى كلام بدلاً من الاكتفاء بها هو الأصل الذي ينبجس منه الشعر(24). على أن هذا لا ينفي أن الشاعر الحقّ المكوّن تكويناً لغوياً وثقافياً ناضجاً لا يتلقّى اللغة كمادة يتصرّف فيها وكأنها معطاة من قبل، بل إنه هو الذي يبدأ بجعلها ممكنة، لأنه أمير الكلام، وإمارته هذه ناجمة عن امتلاكه ناصية لغته، وتمثّله لأسرارها، ولطاقاتها التعبيرية بفعل الدربة المؤازرة للطبع فالطبع مجرد طاقة كامنة تتجلى في شكل تهيؤ للإبداع، وتبقى هذه القدرة مستسرّة مالم تسعفها الدربة التي تمكّن الشاعر من النّفاذ إلى القوانين التوليدية التي ينهض عليها الخطاب الشعري وإذا كان الطبع يمكّن الشاعر من التهيؤ للنفاذ إلى ما في صلب النظام اللغوي من قوانين فإن الدربة هي التي تضع الطبع على عتبات تلك القوانين(25). ولا تقف الدربة عند هذه الحدود، بل تتجاوزها، وتؤدي إلى نتيجة أخرى غاية في الأهمية، إنها تولّد ملكةً جديدةً ترفد الطبع وتبلوره، وتتجلى هذه الملكة بالقدرة على الكتابة الواعية، مما جعل الشاعر حاضراً في نتاجه، إنه قادر على تعديل ذلك النتاج إبّان عملية الخلق ذاتها(26)، فالشعر فعل واعٍ، ولو لم يكن كذلك لكان هذيان المجانين وكلام الحمقى شعراً، والشاعر الحق هو الذي يدرك أن للغة قوانين ونظماً لا تكون اللغة إلا بها، ولا يتمكن من التواصل مع الآخر إلا من خلالها، ولكنه يفطن في الوقت نفسه إلى أن اللغة تسمح من حيث تشمس، وتبيح من حيث تحجر وتحرم، فالنفاذ من الممنوع إلى المباح به يتميز الشاعر عن الشاعر(27).
وفي ضوء ذلك كله يمكن أن نفهم دعوة غير واحد من نقاد الحداثة الشعرية إلى لغة شعرية متّزنة أصيلة مخلصة للعربية بقدر إخلاصها للخطاب الشعري في المشهد الثقافي، فعلى الشاعر كما يرى الدكتور وهب روميه أن يخلق علاقاتٍ لغويةً جديدةً دون أن يُخلّ بقوانين اللغة و أنظمتها، وأن يزلزل التقاليد الأدبية، أو يخلخلها، أو يعدّلها وفق الحاجة(28)، وفي هذا الصدد يقول الدكتور نعيم اليافي: أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية إلى آخر مدى شريطة أن يتم ذلك ضمن خصوصيتي القومية، وتراثي الثقافي، ولغتي العربية(29)، أما نازك الملائكة فتقول: نحن نرفض بقوة وصراحة أن يبيح الشاعر لنفسه أن يلعب بقواعد النحو، إنّ كلّ خروج على القواعد المعتبرة ينقص تعبيرية الشعر(30)، وقريبٌ من ذلك ما سيأتي فيما بعد عن الدكتور محمد غنيمي هلال.
، الدكتور كمال خير بك يشير إلى الإهمال الذي يبديه شعراء الحداثة لقواعد النحو. والإهمال ناجم عن الجهل بهذه القواعد.
واللافت في الحديث عن لغة الشعر الحديث تصوّر أدونيس لعلاقة الألفاظ بدلالاتها، فمن المسلّم به ما يتردد لدى نقاد الحداثة الشعرية، و شعرائها من أن دور الكلمة في القصيدة هو البوح والإيحاء الكلي الاحتمالي، وغير المحدد، وأنها أي الكلمة ليست مطالبة دائماً بالدلالة الواضحة المحددة الأحادية الاتجاه، فاللغة الشعرية ذات طبيعة خاصة تعتمد اعتماداً كبيراً على الألوان والظلال المختلفة التي تثيرها الكلمات، وهذا كلّه مقبول مستساغ على ألاّ تنبتّ الكلمات كلّياً عما يربطها بما لها من الدلالات الثقافية والاجتماعية العرفية العامة و المتنوعة التي اختلفت عليها في تاريخ تطورها الطويل، وإلاّ صارت كلمةً ذات دلالةٍ حادثة كلّياً قائمةً على الاصطلاح مع الذات علماً أن اللغة منظومةٌ اجتماعيةٌ قائمةٌ على المواضعة، وأن التقيد بهذه المواضعة في الخطاب الأدبي عامة، والشعري خاصة يضمر كما هو معروف، وفي هذا السياق يشير أحمد عبد المعطي حجازي إلى مستويين في لغة الإبداع الشعري، المستوى العام المشترك، والمستوى المجازي، فما دام الشاعر يلجأ إلى استخدام الألفاظ والتراكيب التي يستعملها البائع والصحفي فلابد أن تتضمن قصيدته عناصر مشتركة بينه وبين لغة هؤلاء الناس، وأما المستوى الآخر فهو الطبيعة المجازية للغة القصيدة(31)، وغني عن البيان أن كلام حجازي هذا وغيره(32)، ممن حرصوا على تحقيق معادلة تلاحم التجاوزي والنمطي في قصيدة الحداثة قائم على أن الشعر في نهاية المطاف فن أداته اللغة، واللغة منظومة تواضعية، ومتى افتقدت هذه السمة في الخطاب حدثت القطيعة، وتعسر أو تعذر التواصل بين المبدع والمتلقي، ومالم تكن للقصيدة دلالة ما كفّت عن كونها قصيدة لأنها لم تعد لغة(33)، فوجود ميثاق بين المبدع والمتلقي، أو قسطٍ مشترك من التقاليد الأدبية ومن المعاني ضروري لنجاح العملية التواصلية(34) فالشعر مؤسّسة تستمد شرعيتها من التاريخ الثقافي، ولا دلالة لأي نتاج شعري إلا ضمن تاريخ أدبي ثقافي محدد، فالمعنى كما يقول أصحاب نظرية التلقي إنما تحدّده الأعراف والمواضعات التي تحيط بمتلقي النص وقارئه(35)، والجدير بالذكر أنه بغياب هذه المواضعات، أو ذلك القسط المشترك وذلك الميثاق يفسّر جان كوهن الطلاق الذي يشكوه الشعراء المعاصرون، فيقول هناك درجة انزياح حرجة مختلفة دون شك من قارئ إلى آخر، ولكننا نستطيع اعتماداً على الإحصاء تعيين قيمةٍ متوسطة، يتجاوزها تكف القصيدة عن إنجاز وظيفتها باعتبارها لغة دالة وربما كان الطلاق الحاصل بين الشعر المعاصر والجمهور بسبب تجاوز الشعر هذه العتبة بسهولة، ذلك الطلاق الذي يشكو منه الشعراء الشباب المعاصرون(36) وهذا يلاحظ في الشعر التجريدي الذي يقوم على نزع الدلالات المعتادة للكلمات، وإضفاء معانٍ جديدة عليها دون أن يكون لهذه الدلالات مرجعية أخرى سوى التجربة اللغوية الشعرية ذاتها(37) مما يعني أن الشعر التجريدي أداته كلمات تتمتع بنكهة العري كما هو الحال عند رأس هذا الاتجاه أدونيس(38) الذي يقوم أسلوبه كما يقول نقاده على (التحرّر من جملة الأنساق الأيديولوجية سواء أكانت تاريخية أم معاصرة، والعمل على تحضير اللغة بطريقة متميزة يفصلها عن ماضيها الجماعي قدر وسعه(39) يقول أدونيس: أول ما أعمله أفرغ هذه اللغة من محتواها، وأحاول أن أشحنها بدلالات جديدة تخرج عن معناها الأصلي(40) وكلام أدونيس هذا يذكر بتأكيد الناقد يوسف سامي اليوسف غير مرة أن تنظيرات أدونيس مفتعلة لأنها تقوم على المبالغة، وعلى التطرف
(41)،وأن من مواقف أدونيس المفتعلة قوله:إن اللغة التي يريدها لغة بنوّةٍ لا أبوةٍ، لغة آتٍ لا ماضٍ(42) يضاف إلى ما قاله هذا الناقد أن أدونيس مفرط التفاؤل في تنظيره هذا بقدرة الشاعر على التحكم بدلالة ألفاظه وشحنها بالرسالة التي يبغي إيصالها، (فالكاتب يصوغ النصّ حسب معجمه الألسني، وكلّ كلمة في هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً، وعى الكاتب بعضه، وغاب عنه بعضه الآخر، ولكن هذا الغائب، إنما غاب عن ذهن الكاتب، ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخياتها والقارئ حينما يستقبل النص فإنّه يتلقاها حسب معجمه، وقد يمدّه هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفةٍ عن تلك التي وعاها الكاتب حين أبدع نصّه، من هنا تتنوّع الدلالة، وتتضاعف، ويتمكن النصّ من اكتساب قيم جديدة على يد القارئ، وتختلف هذه القيم، وتتنوع بين قارئ وآخر، بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوتة)(43)، وكل هذا يؤدي أنه ليس للشاعر قدرة على التحكم بدلالات ألفاظه على النحو الذي تصوره مقولة أدونيس الآنفة الذكر، والتي يصدر فيها كما يتراءى للدكتور صلاح فضل عن خلاصة رؤيته الخاصة للشعر، والحياة القائمة على التجريد لا على التعبير(44)، وهو ما يدل عليه قول أدونيس نفسه: العالم فنياً إشارة، العالم فنياً إذن ليس موجوداً في العالم، بل فيما وراءه، وهو بالضرورة نوع من التجريد، كلّ مبدعٍ بالكلمة أو بالخطّ لا يُعنى بما يراه إلا بوصفه عتبةً لما لا يراه، ولا تكمن أهمية الصورة في سطحها المرئي، بل في كونها عتبة لمعنىً ما وباباً يقود الناظر إلى ما رواء الغيب أو المجرّد سواء أكان في الذات، أو في الطبيعة(45) ولا شك أن هذا النزوع الصوفي السوريالي المغالي هو الذي أفضى بأدونيس إلى التعامل مع الكلمة الشعرية تعاملاً إلغازياً قريباً من الاصطلاح مع الذات إن لم يكن كذلك تماماً، مما جعله يُغلق باب عالمه الشعري في انتظار قارئ المستقبل الذي قد يجيء كما يقول أحد النقاد(46)، وكل ذلك جعل من أدونيس مؤسس نسق معرفي رؤيوي تجريدي تائه فيما هو حدسي وغرائبي، وميتافيزيقي، قاصر عن وعي الحداثة في نظر صاحب وعي الحداثة(47)، ولا غروَ أن يكون الأمر كذلك لأن الغرض الأساس من الحداثة غرض تنويري، لذا كانت دعوة أدونيس إلى الرؤيا الحدسية والميتافيزيقية، والعمل بهذه الدعوة مدعاةً لنقد الكثير من النقاد والشعراء، ولاسيما القائلين بالواقعية كما يقول الدكتور سعد الدين كليب(48)، فقد رفض هؤلاء هذا الطرح لمفهوم الرؤيا معتبرين أن الرؤيا الاجتماعية الثورية التي تتناغم وحركة الواقع هي الرؤيا الحقيقية التي على شعر الحداثة أن يصدر عنها وأن يعمّقها في الواقع والنصّ معاً، ليس ثمة رؤيا يمكن أن تنفصل عن الرؤية، لهذا فدعوى التجاوز والتخطي التي يدّعيها شعراء الرؤيا ليست في حقيقتها سوى مقولة وهمية، لا أساس لها من الصحة(49) في نظر الدكتور كليب، في السياق نفسه يقول ناقد آخر: لا يدفعني الخطاب الشعريّ عند أدونيس تنظيراً على الأقل للتعاطف مع قضية الغموض التي تقودنا للوقوف عندما نسمع شاعراً مثل أدونيس يعترف بأنه يتعمد الإكثار من الانزياحات اللغوية، وأنه يدخل خطابه الشعري إلى الغموض محمّلاً القارئ، أو المتلقي مسؤولية عدم الارتقاء لمستوى الوصول إلى الدلالات المطلوبة في النص(50).
بنية اللغة الشعرية عند القدماء:
، يقول اليافي أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية شريطة أن يتم ذلك ضمن خصوصيتي القومية.
والذي أود أن أعرض له فيما سيأتي من هذا البحث هو أن ما لاحظناه في الحداثة الشعرية العربية المعاصرة من الدعوة إلى خصوصية اللغة الشعرية المتمثلة بالانزياح دعوى حديثة وافدة قد يكون لها من المعطيات التي اكتنفت ظروف نشأتها في مواطنها ما قد يفسّر هذا التطرّف وتلك المغالاة المتمثلين بعدم رعاية حرمة قواعد اللغة بقصد أو بغير قصد على الاختلاف مستوياتها، وحداثة هذه الدعوى، ووفادتها فيما أقصد تتمثلان بهذا التطرف، وتلك المغالاة فقط، فخصوصية اللغة الشعرية من انفعالية، وتوليد وتجديد، وما لذلك من أثر في بنية اللغة أمر مألوف عند القدماء ممارسة وتنظيراً، لذلك تجد من يحدثك عما للأقسام العروضية في الوزن السداسي من أثر في البنية المروفولوجية لكلمات البيت في إلياذة هوميروس(51) ونقف على شيء من ذلك في الفكر اللغوي عند العرب، فهذا حمزة بن الحسن الأصبهاني(350هـ) يرى أن الشعراء (لابدّ أن يدفعهم استيفاء حقوق الصنعة إلى عسف اللغة بفنون الحيلة لما يدخلونه من الحذف عنها، أو الزيادة فيها، ومرةً بتوليد الألفاظ على حسب ما تسمو إليه همهم عند قرض الأشعار(52) وأما ابن السراج(316هـ) فيرى أنه ربما وجدت الشاعر من القدماء الفصحاء يحوجه الوزن إلى قلب البناء، أو يحتاج إلى المعنى، فيشتق له لفظاً يلتئم به شعره(53) ويخبرنا ابن جني (392هـ) أن أصحابه كانوا يتعقّبون رؤبة وأباه، ويقولون: تهضّما اللغة، وولّداها، وتصرّفا فيها غير تصرف الأقحاح فيها (54) يضاف إلى ذلك أن الضرورة الشعرية في تراثنا على ما للباحث من تحفّظاتٍ(55) على دواعي نشأتها، وعلى أصول عمل معظمهم بها تمثّل عند بعض أئمة العربية خاصة من خواصّ اللغة الشعرية، فهي ليست دائماً أمراً معيباً، بل ربما كانت مظهراً من مظاهر الاقتدار الفني(56) وهي نزوع لغوي موظّفٌ خاص بالشعر، ولعل هذا ما يفهم من قول سيبويه(178هـ): (وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً(57) وربما اتضحت معالم الوجه الذي يحاوله الشاعر في الضرورة أكثر عند ابن جني (392هـ) حيث يقول: (متى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه، وإن دل على جوره وتعسفه فإنه من وجهٍ آخر مؤذن بصياله وتخمّطه، وليس بقاطع دليلٍ على ضعف لغته، ولا قصوره على اختيار الوجه الناطق بفصاحته، بل مثله في ذلك عندي مثل مجري الجموح بلا لجام، ووارد الحرب الضّروس حاسراً من غير احتشام، فهو وإن كان ملوماً في عنفه وتهالكه فإنه مشهود له بشجاعته، وفيض منته، ألا تراه لا يجهل أن لو تكفّر في سلاحه، أو اعتصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن الملحاة، لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله إدلالاً بقوة طبعه، ودلالةً على شهامة نفسه، ومثله سواء ما يحكى عن بعض الأجواد أنه قال: أيرى البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم، إننا نرى في الثناء بإنفاقها عوضاً من حفظها بإمساكها(58).
فابن جني في هذا النص لا يرى إتيان الشاعر بما يسمّى ضرورة معلماً من معالم الضعف اللغوي، بل يرى ارتكاب الشاعر للضرورة مغامرة لغوية تصوّره ثائراً منفعلاً بما يعتمل في نفسه غير عابئ بما تمنعه أصول اللغة، وما تبيحه إذا ما كان في ذلك ما يوحي بصدق تجربته، وعميق تأزمه النفسي، فالمغامرة اللغوية الممثّلة بالضرورة الشعرية كما تتراءى لابن جني تجلو ملابسات التجربة، وتحمل أبعادها النفسية، وتشبع نوازع هذه الأبعاد عند الشاعر كما تشبع المغامرة الحربية نوازع الفارس الشجاع إلى الظهور والإدلال بالشجاعة والقوة، وكما يشبع الجود بالمال رغبة الجواد في المدح والثناء، وكل أولئك لا يندر أن يتجاوزوا الحدود المرعية فيما يمارسونه بغية نوازع نفسية خاصة بكل منهم، ولم يربط ابن جني المغامرة اللغوية المتمثّلة بالضرورة الشعرية بإنجازها النفسي فحسب، بل وظفها في خدمة المعنى وتوضيح المراد، لذا تراه بعد أن عرض ما عرض في هذا الصدد يقول: (فاعرف بما ذكرنا حال ما يرد في معناه وأن الشاعر إذا أورد منه شيئاً فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً، ولا جشم إلا أمماً، وافق ذلك قابلاً له، أو صادف غير آنس به، إلا أنه قد استرسل واثقاً، وبنى الأمر على أنه ليس ملتبساً(59) فابن جني يرى أن الشاعر في الضرورة يأتي بما يوحي بالمعنى المراد إيصاله سواءٌ أجاء هذا المعنى بقالب يُرضي المعنيين باللغة، أم لم يجيء، وكأني بابن جني في موقفه هذا يمهد الطريق لظهور مذهب في تراثنا لا يفسّر الضرورة بالحاجة إلى المحافظة على الوزن والقافية، بل بما يتطلبه المعنى المراد التعبير عنه، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي (790هـ): (قد يكون للمعنى عبارتان أو أكثر: واحدة تلزم فيها الضرورة، إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ولا شك أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة، لأن اعتناءهم بالمعنى أشدّ من اعتناءهم باللفظ(60)، ويبدو بوضوح ما أشرنا إليه قبل قليل من أن الضرورة الشعرية عند بعضهم ضرب من الاقتدار الفني فيما يراه بهاء الدين السبكي (763هـ) من أن الضعف في الكلام نسبي، فالسبكي يرى أن (الضعف ربما كان في النثر دون الشعر، لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز قد تقوي ما هو ضعيف، فعلى البياني أن يعتبر ذلك فربما كان الشيء فصيحاً في الشعر غير فصيح في النثر(61).
وقد عرض فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية إلى خصوصية اللغة الشعرية، فقد قسّم أبو النصر الفارابي اللغة إلى قسمين، اللغة النمطية: وهي لغة البرهان أو العلم، واللغة التجاوزية: وهي لغة الخطابة أولاً ثم الشعر(62)، ويردّ ابن سينا الحيل في لغة الشعر إلى نسب بين الأجزاء(63)، فاللغة ذات الألفاظ الحقيقية المستولية تخالف اللغة الشعرية، إذ إن لغة الشعر ليست للتفهيم، بل للتعجيب كما يقول ابن سينا، أما ابن رشد فيرى أن فضيلة القول الشعري العفيفي أن يكون مؤلّفاً من الأسماء المستولية، ومن تلك الأنواع الأخر المنقولة الغربية والمغيّرة، والشاعر حيث يريد الإيضاح يأتي بالأسماء المستولية، وحيث يريد التعجب والإلذاذ يأتي بالصنف الآخر من الأسماء، وكأن الشاعر يجب ألا يفرط في الأسماء غير المستولية فيخرج إلى حدّ الرمز، وألا يفرط في الأسماء المستولية، فيخرج عن طريق الشعر إلى الكلام المتعارف(64).
وبعد فلابد من الإشارة إلى أن خصوصية اللغة الشعرية، أو مغايرتها مألوف الكلام المنثور العادي سواء أأسميناها ضرورية، أو انزياحاً، أو عدولاً أو انحرافاً (مظهر واضح تتجلى فيه الفردية الفنية بشكل بارز(65) ومهمة النقد الكشف عن البعد الجمالي، أو الفني لهذه المغايرة التي إذا لم يكن لها فاعلية فنية عُدّت قصوراً في تمثّل الشاعر للغته، وفي قدراته على توظيفها، وحسن استثمارها فنياً جمالياً.
نماذج تطبيقية:
وهذه يقتضينا أن نحسن الظن ما أمكن بالشعراء المتمرسين، وألا ننظر إليهم دائماً بمنظار التصويب والتخطئة، بل نحاول استكشاف أسرار تراكيبهم التي تبدو من وجهة نظرنا مخالفةً لما هو مألوف، فربما عمدوا إلى هذه التراكيب سعياً وراء معنى متساوقٍ مع المعنى الشعري للقصيدة(66) وقد يكون من ذلك ما نقف عليه أحياناً عند الشعراء من حذف للفاعل مع أنه عمدة، لا تقوم الجملة الفعلية إلا به، ومع ذلك حذفوه، وهذا الحذف يفسّر أحياناً بعدم تعلّق عرض الشاعر بذكر من قام بالفعل الذي يخبرنا به، فيرى البلاغة في حذف ما لا غرض له في ذكره، وربّ حذف أبلغ من ذكر كما يقول عبد القاهر الجرجاني(67)، وهذا ما يمكن أن نلمسه في قول النابغة الذبياني(68):
يا دار مية بالعلياء، فالسَّند
أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وَقَفْتُ فيها أصيلاً كي أسائلَها
عَيَّتْ جواباً، وما بالربع من أحدِ
إلا أواريَ لأياً ما أبيِّنُها
والنؤيُ كالحوض بالمظلومة الجَلَدِ
رَدَّتْ عليه أقاصيْه ولَبَّده
ضَرْبُ الوليدةِ بالمسحاة في الثَّأدِ
، من مواقف أدونيس المفتعلة قولـه: إن اللغة التي يريدها لغة بنوّة لا أبوة. لغة آتٍ لا ماضٍ.
ففي البيت الأخير روي (ردّت)(69) بالمبنى للمعلوم، ونصب (أقاصيه) بفتحة مقدرة، وفي ذلك محظوران من حيث النحو، أولهما إسكان حرف الإعراب المفتوح وهو الياء في (أقاصيه) وهذه ضرورة، وثانيهما إضمار فاعل (ردّت) وجعله ضميراً غير مفسر باسم ظاهر متقدم، وهذا فيما أميل إليه حذف للفاعل لا إضمار له، وجعله ضميراً مستتراً مفسّراً باسم ظاهر مقدّرٍ احتيال من النحاة لأنهم لا يجيزون حذف الفاعل، لأن الجملة صناعياً لا تقوم إلا به، لذا يرون أن فاعل (ردّت) هنا ضمير تقديره هي يعود على الأمة المحذوفة لأنها معروفة، والذي أميل إليه أن الفاعل لم يحذف في هذا البيت لأنه معروف، بل لأن الشاعر معنيّ هنا بالحدث لا بمن قام به، أي معنى بالرد، لا بالراد، لأنه معني بوصف حال هذه الآثار، وما آل إليه أمرها، لا بمن آل بها إلى ذلك، لذا حذف الراد لكي ينصرف اهتمام السامع إلى ما يهتم به الشاعر، وهو الرد، فحذف الشاعر الفاعل لأن غرضه لا يتعلق به، فذكره فضول، لذا آثر بلاغة الحذف والإيجار، يؤيد صحة هذا التسويغ لحذف الفاعل في هذا البيت روايته الأخرى (ردّت عليه أقاصيه) بالمبني للمجهول، فمعروف أن أحد الأسباب الرئيسة لاستعمال المبني للمجهول، هو عدم تعلّق غرض المتكلم بالفاعل المحدث، بل بالحدث نفسه، وهو ما يعبّر عنه المبني للمجهول.
والانحراف اللغوي الآخر اللافت في رواية هذا البيت بالمبني للمعلوم، هو إسكان حرف الإعراب المنصوب، وهو (ياء) أقاصيه وهذا الإسكان استجابةٌ لغرض فني يتمثل بالانسجام الموسيقي للبيت الناجم عن وزنه علماً أن الإسكان هنا لا يخل بالمعنى، لأن المعنى مفهوم من السياق عامة، لا من الحركة الإعرابية، يؤنس بذلك أن المعنى في اللغة العربية لا يتوقف دائماً على ظهور الحركة الإعرابية، وفي هذه الحال تتمثّل وظيفة الإعراب بالمحافظة على سلاسة البنية الإيقاعية للجملة العربية(70)، وانسجامها فقط، وإذا كان هذا الانسجام يتحقق في سياق تركيبي ما كان في البيت السابق بإسكان حرف الإعراب يضحى الشاعر بالحركة الإعرابية في سبيل هذا الانسجام الصوتي الفني خاصة إذا لم يترتب على هذا الإسكان غموض في دلالة التركيب، وربما كان حذف الفاعل على النحو السابق ناجماً عن وضوح المعنى كأن تدلّ عليه قرينة ما، مما يجعل التصريح به فضول قول لا يليق بالنص الشعري، فيعدل إلى بلاغة الحذف إيجازاً، وإعجازاً، وذلك نحو قول الشاعرة(71):
لقد علم الضيف والمرملون
إذا اغبرَّ أُفْقٌ، وهَبَّت شمالا
ففاعل (هبّت) هي الريح، ولم يجر لها ذكر، ولكنَّ ذكر، الهبوب، وجهته، واغبرار الأفق قرائن استعمالية كفيلة بالبوح بالفاعل، وكأنه مصرح به، لذا كان حذفه هنا متفقاً وطبيعة لغة الشعر القائمة على البوح والإيحاء. ومن الانزياحات النحوية الموظفة ما عيب على المتنبي من إثبات هاء السكت وتحريكها وصلا في قوله(72):
واحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم.
فقط(73) عيب على المتنبي إثبات هاء السكت وتحريكها في/واحر قلباه/، فهذه الهاء عند البصريين لا تثبت إلا في الوقف، ثم إن ثبتت، فهي ساكنة دائماً، لذا عابوا على المتنبي إثباتها وصلا وتحريكها، والجديد بالذكر أن إلقاء الضوء على الموقف الانفعالي الذي قيلت فيه قصيدة هذا البيت يوحي بملائمة هذا الانزياح لانفعالية الموقف، كما يوحي بقدرته على التعبير عن مشاعر الغضب اللاهبة، وعن الألم النفسي الحاد الذي عاشه المتنبي نتيجة إيقاع خصومه بينه وبين سيف الدولة، فكان أن عاتب المتنبي سيف الدولة بقصيدته هذه محمّلاً إياها عتاباً له، فجاءت قصيدة لاهبة حارة، وذلك في موقف انفعالي مضى يتصاعد بالتصادم بين المتنبي وخصومه، وقد مثل ذروة هذا الموقف الانفعالي(74) قول المتنبي: واحر قلباه، ذلك التشكيل النحوي الذي أعطى به الشاعر مالا سبيل إلى إعطائه بصياغة أخرى ترضي النقاد اللغويين(75) يؤذن بذلك النظر إلى هذا التشكيل النحوي في ضوء إحساس المتنبي العميق بالألم والذبول والجفاف، تلك المشاعر التي تنضح بها بعمق وأسى شديدين هاء (قلباه) العميقة في المخرج، والمسبوقة بألف بلغت مداها في المد، إنه مقطع يتصف باندياح في الصوت، وعمق في المخرج، يناسبان عمق أحاسيس الألم والغضب واندياحها، إنه التفجير المبدع لطاقات البنية اللغوية المنجزة لهذه التجربة. ومن الانزياحات اللغوية الموظفة فنياً في لغة الشعر إشباع الفتحة، وجعلها ألفاً في قول سعد الدين كليب(76):
قد كان يعرفني الطَّلُّ
تعرف خطوي الأزقة
والياسمين وتلك الملاك
تمر كمر الندى
يلفح القلبَ منها اشتهاءُ
تغمغم: (دعنا نراك)
فاللافت في هذا النص قول الشاعر: (دعنا نراك) بإطلاق ألف (نراك) والظاهر نحوياً حذف هذه الألف، فالفعل مجزوم بكونه جواب الطلب ويمكن أن يفسر عدم حذف الألف بالضرورة الشعرية كما يمكن أن يوجّه التركيب على غير وجه، والمناسب أن يفسّر هذا الانزياح بما للألف من القدرة على البوح بالمشاعر والأحاسيس العميقة المعتملة في نفس هذه الملاك التائقة لرؤية من تحب، نقول ذلك لما لاحظه النقاد من أن شعرنا الحديث حافل بتوظيف الحركات الطويلة في حمل المشاعر الممتدة والأحاسيس العميقة(77).
خاتمة المطاف
وبعد فما أود أن أختم به حديثي هذا هو أن خصوصية اللغة الشعرية التي تترك معالمها الواضحة على نتاج هذا الشاعر أو ذلك الجيل من الشعراء مهما بالغنا في بيان معالمها وفي بيان أثرها وأهميتها تبق استعمالاتٍ فردية تمثّل خصوصية الشاعر الفنية واللغوية، ولكنها لا تقوى على إحداث تغيير ذي بال في بنية اللغة المشتركة، لأن التغيير اللغوي المجتمعي نتاج فعل المجتمع لا الفرد، فاللغة ظاهرة مجتمعية أولاً وآخراً، على أن ذلك كلّه لا ينفي أن يترك هذا الشاعر أو ذاك بصماتٍ لغويةً خاصةً في شعر شاعر، أو جيل من الشعراء مما يوجد أحياناً تقاليد أدبية لغوية تطغى في عصر دون آخر، (فقد احتفظت لغة الشعر كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال على مر العصور بمقومات فنية ما زالت تنمو بفضل عباقرة الشعراء، والنقاد في مختلف الآداب، وانتهت إلى العصر الحديث وأثرت في أدبنا نحن، في صياغته ومعانيه، ولا ينال هذا التأثير في شيء من اللغة؛ ألفاظها، وقواعدها، فهذا مالم يقل به أحد من المجددين الذين يُعتدُّ بهم في أدبنا العربي، أو في الآداب العالمية الأخرى، ولم يدر في خلد هؤلاء المجددين أن ينالوا من اللغة أو يهوّنوا من شأن المعرفة الدقيقة لأساليبها ومعانيها(78).
هوامش وإحالات:
1-التركيب اللغوي للأدب ص(5) للدكتور لطفي عبد البديع، ط1، القاهرة، 1970.
2-شعرنا القديم والنقد الجديد ص25-26 للدكتور وهب رومية، ط1، الكويت، 1996 وانظر الحداثة في حركة الشعر العربي المعاصر ص(97) للدكتور خليل الموسى، ط1، دمشق 1991.
3-انظر بنية اللغة الشعرية ص(21) لجان كوهن ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، ط1، الدار البيضاء، 1986.
4-انظر آراء في الحداثة، مقال عبد العزيز الراشد، مجلة البيان الكويتية، ص125-284، لعام 1997.
5-انظر أوهاج الحداثة ص33، 105-108 للدكتور نعيم اليافي، ط1، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1993.
6-انظر: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر ص(148) للدكتور كمال خير بك، وانظر: الحداثة الشعرية ص35-36 لمحمد عزام، ط، اتحاد الكتاب العرب، 1995.
7-اللغة والشعر في ديوان أبي تمام ص(53) لحسين الواد. ط، دار الجنوب للنشر تونس، 1997.
8-في الشعرية ص(17) لكمال أبو ديب. ط1، بيروت، 1987.
9-اكتساب اللغة ص120 لمارك رشل ترجمة الدكتور كمال بكداش، ط1، بيروت، 1984.
10-يشير الدكتور صلاح فضل إلى تمييز العناصر اللغوية المحايدة من آليات التعبير التقني للأساليب الشعرية. انظر كتابه،
أساليب الشعرية المعاصرة ص(11)، ط1، بيروت، 1996.
11-هو الدكتور مصطفى السعدني في كتابه، البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث، 1116، ط، الاسكندرية، 1990.
12-ديوانه، وأشهد هاك اعترافي ص(14) ط1، دار الينابيع دمشق، 1993.
13-مريم، 19/83.
14-التركيب اللغوي للأدب ص(10).
15-انظر أوهاج الحداثة 112، 122 حيث يذكر الدكتور نعيم أن بعض أنصار الحداثة الشعرية العربية يفخر إذ يخطئ باللغة العربية.
16-أساليب الشعرية المعاصرة، 138.
17-اللغة وبناء الشعر ص(7) للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف ط1، القاهرة، 1992.
18-انظر: أوهاج الحداثة /227/.
19-هو الدكتور كمال خير بك في كتاب حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ص149، 150، ط2، بيروت، 1986.
20-انظر: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر (116-117)، والحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، مقال الدكتور عبد الله أحمد المهنا، المنشور في مجلة عالم الفكر ص(5-46) ولاسيما ص(29-30) العدد (3) المجلد التاسع لعام 1998.
21-الكامل لأبي العباس المبرد ص(60) ط، دار المعارف، بيروت، د.ت.
22-اكتساب اللغة ص(121).
23-زهر الآداب، وثمر الألباب 1/110. لأبي إسحاق إبراهيم بن علي البجاوي، ط2، الباب الحلبي وشركاه.
24-اللغة والشعر في ديوان أبي تمام: 78.
25-الشعر والشعرية: 137-138. للدكتور محمد لطفي اليوسف ط1 –الدار العربية للكتاب. تونس 1992.
26-الشعر والشعرية، 39.
27-اللغة والشعر في ديوان أبي تمام 190.
28-شعرنا القديم والنقد الجديد 181، وإلى مثل ذلك ذهب الدكتور محمد مفتاح في كتابه (تحليل الخطاب الشعري) 40-41، ط1، الدار البيضاء، 1986.
29-أوهاج الحداثة 115، وانظر: 110 منه.
30-قضايا الشعر المعاصر، 322. لنازك الملائكة ط5، 1978.
31-انظر: الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، مجلة عالم الفكر الكويتية، 4-3 التاسع (23).
32-انظر: ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث (24-26) لعلاء الدين رمضان السيد ط1 اتحاد الكتاب العرب، دمشق ،1996.
33-بنية اللغة الشعرية 21.
34-تحليل الخطاب الشعري 135.
35-نظرية التلقي: 243 لروبرت هولب ترجمة الدكتور عز الدين اسماعيل ط1.
36-بنية اللغة الشعرية 31.
37-أساليب الشعرية المعاصرة 192.
38-انظر: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر 131.
39-أساليب الشعرية المعاصرة 187.
40-أسئلة الشعر لمنير العكش ط1 بيروت 1979.
41-الشعر العربي المعاصر ص 227، 231. ليوسف سامي اليوسف ط1، اتحاد الكتاب العرب –دمشق، 1980.
42-الشعر العربي المعاصر ص232 وانظر زمن الشعر ص114، 115 لأدونيس دار الفكر- بيروت 1986.
43-الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية ص(79) وانظر (57) للدكتور عبد الله محمد الغذامي ط1- النادي الأدبي الثقافي –جدة 1985.
44-أساليب الشعرية المعاصرة 193.
45-الصوفية السوريالية 202-203 لأدونيس ط بيروت 1992.
46-هو الدكتور مختار علي أبو غالي. انظر كتابه المدينة في الشعر العربي المعاصر ص364 سلسلة عالم المعرفة الكويت العدد 196 للعام 1995.
47-هو الدكتور سعد الدين كليب في ص (19-20) من كتابه المذكور ط1 اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1997.
48-المرجع نفسه ص 19.
49-المرجع نفسه.
50-ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث ص127.
51-الشفاهية والكتابية ص22 لوالترج أونج. ترجمة الدكتور حسن البنا عز الدين سلسلة عالم المعرفة –الكويت- العدد- 182 للعام 1994.
52-التنبيه على حدوث التصحيف 147-158 لحمزة الأصبهاني تح. محمد آل ياسين ط بغداد 1967.
53-رسالة الاشتقاق ص28. لابن السرّاج. تح. مصطفى الحدري ط1، دمشق 1973.
54-الخصائص 3/298 لابن جني تح. محمد علي النجار ط2 دار الهدى للطباعة بيروت.
55-تتمثل هذه التحفّظات بأن حديث أئمة العربية عن الضرورة الشعرية في مرحلة النشأة خاصةً كان ناجماً عن حاجتهم إلى ما يسوّغون به خروج بعض الأبيات على أصولهم لا عن الوعي بالخصوصية الفنية الانفعالية للغة الشعر. انظر مقال (منزلة الشاهد الشعري عند النحاة) للدكتور محمد عبدو فلفل. مجلة جامعة البعث ص(107) عن أبي هريرة قال (13) عام 1994.
56-انظر مقال (الضرورة الشعرية ومفهوم الانزياح) لأحمد محمد ويس. مجلة التراث العربي ص117-118 (68) اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1997.
57-الكتاب 1/32 لسيبويه. تح. عبد السلام محمد هارون ط عالم الكتب –بيروت.
58-الخصائص 2/392.
59-الخصائص 2/393.
60-انظر خزانة الآداب 1/34 لعبد القادر البغدادي عبد السلام هارون ط 1979.
61-عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح 1/99 طبع مع مختصر السعيد التفتازاني على تخليص المفتاح- المطبعة الأميرية- ببولاق 1317هـ.
62-كتاب أرسطو طاليس في الشعر ص198 تح وتر. د. شكري محمد عياد د.ت.
63-الحروف ص(141) للفارابي. نقلاً عن كتاب (ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث) ص35.