فلسفة اللغة الشعرية عند الشاعرة فاتن نور دراسة تحليلية بنيوية
توطئة في اشكالية " الشعر النسوي " !!:
كموقف
ادبي لا احبذ هذه التسمية (الادب النسوي او الشعر النسوي) فهذا التخصيص لا
يمثل موقفا واقعيا من الاتجاهات الفكرية والادبية اكثر ما يمثل موقف
تمييزي يفتقر الى المصداقية، ففي هذا الحالة يفترض ان نقول ان هذه المدرسة
تمثل الواقعية النسوية في الشعر وتلك تمثل المثالية النسوية أو التجريدية
النسوية وهكذا. وفي المقابل ذهنيا يفترض ان ندعي بان بقية المدارس الشعرية
انما تمثل شعرا رجوليا (نسبة الى الرجل) وهذا بالتأكيد لا يقدم تفسيرا
منطقيا لطبيعة تلك المدرسة من الناحية التكوينية ولا يميزها من خلال هذا
المنطلق عن غيرها.
وضعت هذه التوطئة لتكون مدخلي الى دراسة
تحليلية وفق منهجي الفلسفي تبحث في تعامل الشاعرة والاديبة الاستاذة (فاتن
نور) مع المفردة الشعرية تعاملا تشريحيا من جانب وتفكيكيا من جانب آخر حتى
تبدو وكأنها تقوم بعملية جراحية داخل جسد القصيدة أو كعالمة آثار تنقب تحت
اكوام الحجارة بحثا عن لقى ثمينة.
قد اختلف مع (فاتن نور)
في العديد من المواقف الفكرية لكني، انطلق هنا من موقفها الشعري، ابحث في
صراعها المستمر في تحقيق خصوصية المفردة الشعرية التي تحاول من خلالها رسم
صورة ذاتية قد لا تكون بالضرورة نسخة متكاملة عنها لكنه بالتأكيد لن تكون
نسخة مشوهة او ناقصة، وهي مع كل ذلك لا تريد ان تبلغ الكمال المجرد، " مع
تقديري انها تحتل مكانة شعرية عالية ساتحدث عنها "، كما انها لا تسعى
للبقاء في حدود ضيقة قد تكون نتاجا للتأثيرات السلبية والايجابية على
السواء للواقع الانساني اليومي.
وقد لفت انتباهي شخصيتها
الشعرية تلك كأنسان خارج مفردة (الانوثة والذكورة) ولا اقول انها محاولة
للتماهي فشخصيتها الانثوية بارزة وقوية في كتاباتها، بل استطيع ان اقول
انها كأمرأة تجمع بين شخصية الانثى والمرأة الناضجة والطفلة الباحثة عن
الحلم واعتقد انها ككاتبة تفرق بين معاني هذه الشخصيات وحالاتها.
إن
البناء الشعري عند فاتن نور تعبير عن البناء النفسي المتفرد، ومن هنا نجد
في قصائدها تلك الخصوصية التي صارت طابع مميزا لشخصية القصيدة لديها.
العلاقة بين الشاعرة والقصيدة:
قد
يبدو الفصل بين الشاعرة وقصيدتها عسيرا عند البعض لكني أرى انها تعيش
قصيدتها أو على الاقل في بعض ملامحها، وهي عندما تسعى لنشر القصيدة فانما
لتقودنا اليها وليس العكس، تعمد (فاتن) الى ان تأخذ بايدينا واقدامنا
لنجتاز حقل الالغام المتفجر مشاعرا واحاسيسا ورؤى لا متناهية، فهي تطيح
بالحلم لتجسد رؤاها بين يدينا، ثم لتقودنا عبر مسالك حسية وغيبية في اعماق
تلافيف فلسفتها اللغوية.
لا يمكن اعتبار قصيدة فاتن نور
(متاهة ميناتور) فهي ليست مطلسمة ولا غير قابلة للتصديق مع كل رمزيتها،
ولكنها تمثل منظورها الفلسفي واللاماورائي، فالبعد الايحائي لديها يمثل
موقفا من الحدث ولكنه لا يستغرقه تماما، وقد تجد في بعض الاحيان صعوبة في
ايصال الفكرة لكنها لا تعجز تماما عن تحقيق هدفها في السياق العام لحركة
التفاعلات المؤدية الى النهاية.
إشكاليات اللغة الحوارية عند فاتن نور:
تتجاوز
اللغة الشعرية عن الشاعرة (فاتن نور) الشكل السردي للحدث لتصبح اقرب الى
التداعي الذاتي مع انها تتجرد من لغة الخطابة، فهي تنشيء في الاغلب حوارا
ذاتيا (ديالوج) يستعرض فكرة او حلم لتعيش بعد ذلك استغراقا واقعيا وربما
تجسيديا حتى لا نكاد ان نجد فرقا بين حدث القصيدة وذاتية الشاعرة، اذ ثمة
انعكاسات لا متناهية لشخصيتها في التركيبة التناغمية للمفردات حتى وكانها
توحي لنا بأنها تقف امام المرآة، تستعرض ذاتها، ثم تجتاز المسافة الى داخل
الصورة فلا نكاد نفرق بينها وبين صورتها في المرآة وصورتها في البعد الاول
بعد ان حدث ذلك التمازج ولا اقول التماهي بين الحقيقة والحلم.
ففي قصيدتها (احبك مازلت تارة تلو تارة)
لا تحاول (فاتن) الانفصال عن ذاتها كإنسانة متمردة أو كموقف متجرد عن
اشكالية الحدث، بل هي مستغرقة في الموقف الشعري سواء جاءت (كليمونة يابسة)،
أو لبست ثوب (جنية) او هطلت كحبة مطر (ثملة) وعندما تختم الموقف في هذا
المقطع تعود بنا لبرائتها الانثوية كـ(يمامة بيضاء كفيفة)، مع ملاحظة مهمة
فالانثى هنا لا تمثل انفصالا عن القيمة الانسانية لها، بل انها كأنسانة
وككيان قد تبدو في النهاية اكثر حضورا من وجودها الانثوي.
تقشر ليمون اليابسة
بشفرة خنوع او تمرد
ولم تغن لي بحنجرة الماء
وانا جنيّة تارة
أرقد بآلهة الخصب،في حبة مطر ثملة
تنفخ في سكون نايك الحزين،
زهو صباحاتك الآفلة
واختبىء تارة، يمامة بيضاء كفيفة كأنني،
في جذوة يقينك الباهتة
هنا
نجد ذلك التنازع بين صورتي الانثى والطفلة الحالمة، فالشاعرة (فاتن) ترفض
ان يبقى الموقف بعيدا عن نقل صورة برائتها الطفولية فهي على الرغم من
نضوجها الانثوي ورؤياها الفكرية تحاول البقاء في ذلك الثوب الطفولي،
فاستغراقها الطفولي هو استغراق في الحلم على الاقل فيما يبدو في هذا المقطع
الشعري، غير ان الانثى تبقى صارخة، وهنا نجد ان موقف الشخصية الانثوية
عندها يمكن ان يتجلى بعنفوان وشجاعة، فان تكون الحمامة كفيفة لا يعني انها
تفقد الاحساس باعتبار ان الجانب الحسي عند الشاعرة (فاتن نور) يبقى واعيا
حد الثمالة، ووعيها لا يسقط في سكرته ولكن انتشائها المعرفي بحقيقتها ينفخ
في جذوة الاحساس بالآتي.
رمزية الموقف الشعري:
أين
يمكن ان أضع الشاعرة فاتن نور؟ كيف يمكن ان اصنفهاا كأنسانة وشاعرة؟
كأمرأة حالمة وروح متطلعة نحو فضاءآت مكتضة بملايين النجوم، كيف اجدها بين
نخلتين سامقتين وشاعرتين رائقتين مثل (نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة)؟
قد تكون المقارنة هنا مجحفة ليس لشهرة الاستاذتين الرائعتين فقط، ولكن
للتفاعل الزمني والتاريخي وتأثير ذلك على ذهنية الشاعر ونفسيته، فالعصر غير
العصر، والتاثيرات الزمانية والمكانية والوجدانية تتباين وحركة التاريخ
هنا قد تتخذ منحا تراجيديا يمزج الحلم بالواقع بشكل عنيف، وقد يبدو ان
الايقاع الشعري عند فاتن اكثر وجعا، كما يبدوا اكثر نرجسية في بعض الاحيان،
لكني من جانب آخر لا أشك في أن الشاعرة فاتن نور قد افردت جناحيها مثل
نورس حلق عاليا في فضاءآت اللامتناهي.
فالقصيدة عند فاتن
موقف فكري في الكثير من الاحيان، بل ان رؤاها واحاسيسها في علاقتها مع
الوجود تنطلق من ايديولوجيتها في فهم حركة العلاقات الانسانية وهو فهم يتبع
نسغا خاصا بها كنوع من التفرد.
في الوهلة الاولى تشعرك
فاتن بانها مستغرقة في رمزية المفردة الشعرية استغراقا مبهما، او أن
مفرداتها ملغمة ومدغمة يصعب حلها كأحجية عتيقة، غير ان القراءة المتفحصة
تكشف عن خبايا غيبية تكون الرمزية فيها مفتاحا للولوج الى رحم الحقيقة،
فالحاضر والماضي يجتمعان على طاولة واحدة، والانا تصبح انت، عبر ديالوجات
متعاقبة تؤكد بتتابع منطقي شخصية القصيدة.
وهنا ووفق ذلك
هل يمكن اعتبار فاتن نور صوفيه؟ هل هي وجدانية اكثر من اللازم؟ هل تتبع
ذبذبات نرجسيتها؟ كيف نصنفها؟ أعتقد انها قد تكون اقرب الى الاحساس الفلسفي
والنقدي في التعامل مع ذاتها، فهي تضع لنفسها قواعد تاريخية مرة او تعيد
فسلجة اللغة عبر الكشف عن حقيقتها البدائية كأنسانة أكثر منها كأنثى، ففي
تسبيحات (حمالة الحطب) تستعيد فاتن الايقاع التاريخي من
موقف رمزي لا يبدو شائكا بقدر ما يبدو متطلعا لما خلف الاستار، ففاتن هنا
امراة عتيقة ومعاصرة في آن وهي لا تستحضر التاريخ بقدر ما تقودنا اليه:
رنين نواقيسي..اختصاراتٌ شائكة
قد تبلل المعنى على بياض الكنيستين : عينيك
ساعة الفصح بقرميد عقاربها ، تحجب قليلا لوحة التكوين/ تلك البائرة خلفها
اكاد لا ارى الأصبع المصلوب يقابل اصبعي المقدس .. لنحت شرارة زرقاء ..
أنا امرأة من زحافات عصورك الحجرية
بدائيةٌ آيلةٌ للدفء
أدعك حاستين فقط .. لأشعل نار طقوسك الباردة.
لا
يقيد استغراق الشاعرة فاتن نور في الموقف الرمزي من أن تسمح لاعماقها ان
تطفو على سطح لتكشف عن تضاريس وجهها في حالة من الكبرياء، ولتقول لنا انها
قد تقود تاريخها ولا يقودها، ففي (خربشات آخر دهشة) تقول:
لسحرك عطرٌ نديم
يصطاف على وجهي
كيف تجعد إذن
هنا
نجد فاتن امرأة واقعية حتى في رمزيتها استطاعت أن تعود من ايقاع الرؤيا
الى واقعها كأمرأة لاتخشى الزمن بل تسمح له ان يتحسس وجهها وربما ليترك
انفاسه عليه، فالموقف هنا لا يمثل حالة من الجرأة التي سنراها في قصائد
اخرى بل نوعا من التسامح مع الذات وإدراك الحقيقة كما هي كموقف فلسفي يعكس
طبيعتها الشعرية.
فلسفة القصيدة:
تجمع
فاتن اطراف القصيدة في نسيج يحاكي البناء الهندسي لكنها من جانب آخر تحمل
مشرطا لتشق نسيج الفكرة وعندما يحدث هذا الامر تظهر الرؤية الفلسفية عند
الشاعرة وكأنها جوهرة ثمينة مخبوءة مع انها واضحة.
في المقطع الاخير من (زفير التبغ الرديء):
سلاماً!.. تغتسلُ روحُ العقيقِ بسواقٍ من "عسى"
عمتَ ُ!..
أنا المرصوفُ ، مُذ ْ طردتُ من رحمِ أمي..
في بلاط ٍمستعار،
وطمثِ رحمٍ صُفِّدتْ نجائبه ُ
لا تجيئهُ .. من بذارِ الغاشياتِ
آية ٌ آخرى.. من مخاضْ.
تعيد
الشاعرة فاتن رصف الموقف الشعري عبر تشريح المفردة في رؤية تكوينية من
خلال مخاضات لا متناهية تعكس منظورها لمار وراء الانا، فالانا هنا ليست
انعكاسا نفسيا على الواقع فقط، بل هي تداعيات مستمرة لموقفها في المطلع
الاول لتشكل تكاملا متوازيا بين ذاتيتها وانبعاثات الرؤية:
نثيلة ُبئرِ الوجيبِ غبرةُ الشفقِ ِ،
ورعدةٌ ماجنةُ الأيض ِ
كأنما الفجرُ رافداً يمتدَّ ُ.. لسرِّ إنبلاجِ الشائعاتِ
شرفةُ الصليعاء من نسلِ دهري
وقحاً.. كلما عذبوه .. تمادى
صقيلَ الملوحةِ.. ماءُ الزمنِ.. والجسد.
لكن
هل كان عليها ان تبدأ من نهاية القصيدة؟ لا شك في انه لا يمكن لغير الباحث
في تلافيف ذاكرة فاتن ان يستشعر منظورها الميتافيزيقي لتطور الوعي في
البناء الشعري، فالتقطيع في جسد المفردة الشعرية تمثل ايحاءا بتداخل
الحقيقة والحلم في مساحة ضيقة تحصرها غائية الفكرة، ففي الوقت الذي يفترض
فيه ان تعرض الشاعرة نظرتها بشكل اوسع ليحتل وديانا متعددة نجدها تجمع كل
تلك الاحاسيس والمواقف في مفردات محددة قد تبدو لنا قاسية لكنها تكفي وبشكل
حاد لان تكون اجمالا لقضية الحدث لديها.
ديالوج الحزن النقي:
في لحظة تطلق فاتن نور زفرات تشبه انفاس سكائر مقطعة لتبني من دخانها غرفا شعرية تستقر مرة وترحل اخرى، كما في (قطوع مكافئة)
فالعنوان ذو ملامح هندسية لكنها تستعرض عبره منظورا بصريا للديالوج، وهي
تستحضر موقفها الحواري عبر شخصيات اخرى وكأنها تقدم لنا نصا مسرحيا متعدد
الاشكال.
(مماس الملاحة)
همـَدَ الماءُ فقالَ: أنا حـزينٌ فقط
لرمادي أتحـدّى أناةَ البحرِ
أن ترسمَ زورقـا.
وملاحٌ شهَدَ النسخِ يقول: نادَمَـني الذبولُ فصرتُ راهباً
أركبُ الحـزنَ وأذريـِـه
بفارغ الشبق.
ألمحنا
الى ان الشاعرة فاتن نور تؤسس منظومتها الحوارية من خلال تداعيات الحدث
على الشخصية الشعرية لتبني موقفا تسلسليا يطرح تساؤلات تشكل الاجابة عنها
فهما للحالة. فالحوار الذاتي كفن قائم بذاته تحركه داخل اطار بيني باعتبار
انه يمثل انفعالات النفس او استدراكا لها، لكن الشاعر فاتن تقدم لنا عبر
نصها الشعري شخصيات اخرى لتقدم لنا هذه الشخصية رؤاها وموقفها من الحدث او
من انعكاساته في ديالوج (الماء) و(الملاح) شخصيات شعرية تقف على مسرح فاتن
نور لتقدم لنا عرضا وجدانيا في حوار ذاتي.
(ريّ البؤرة)
غـُرِسَ الوريـدُ ثم استوى
على بياضِ العشبِ يلهو بـه
فأينعت في ردهةِ النبضِ
غصاتٌ باسقات.
هكذا أنسلَّ شاعرٌ من بذرتـِه
ذارفـاً ضبابـَهُ العنيـد.
على
الرغم من ان التأثير الهندسي واضح في هذا المقطع الذي يفترض به ان يضعنا
في موقف هندسي فيزيائي، غير ان الشاعرة فاتن ترفض جمود المعادلة الرياضية
كأتجاه لتفسير خلفية الحدث الشعري، ولهذا تعود لتشكل منظورا بصريا يحمل في
تكوينه واقعية الخروج شيئية الوجود، فاني اتصورها كأنسان بين يديه كيانات
في هيئة دقائق صغيرة (miniatures) يستكشفها من خلال عدسة مكبرة، فالبؤرة
هنا لا تعني فقط مركز تجمع الضوء بقدر ما تعني مركزا لا نبعاث الحياة او
لتشكيل رؤية جديدة.
(بزل الدليل)
عـرّبَ حاطــِبُ النسلِِ فأسَهُ
لـغواياتِ الطريق
شفتاهُ كرزتانِ من حُباقِ النبتِ.. والنصلُ بينهما
عليكَ أن لا تجـوعَ غـداً
رَفـَأتُ عينـي بنصلِهِ.. فخـذها ملاذاً
لمرافىء الجـوع.
عرّف وريـدي وعرّب وصيّةَ الماء
واشتهيني كما ينبغي.
(ريع المخروط)
تخاصرَ طـينُ الزّوالِ بأحْـدابـهِ ولمّـا يسترح.
ظـفرٌ.. لا تـُختـَمُ طقوسُ جبايتهِ
هذا الدويُّ يحسمُ عطسةَ الفجـر،
ويـَغورُ في أقاصي المعركة
أستحيكَ صاخبا تنثني، لمـذراةِ عشقِكَ الفاخـر
ما خشَّ الأرجوانُ أنداءَ خديـهِ.. وقالَ للبحرِ كن
مَنْ يُلملِم أشتاتَ اقماحٍِ
عن نارٍ نيّئـة.
التتابع
التشكيلي في هذه القصيدة يفرض نفسه عبر استدعائها لكنايات متعددة تستفرغ
من خلالها كم الايحاءآت المتناثرة على اسفح الحوار. المفردة الشعرية تمر
هنا باستحالات متعددة كمراحل التنامي الجنيني عبر تطور نسيج الفكرة لتحدث
الولادة في ايقاع معقول وان كان لا يسير في خط مستقيم اكثر الاحيان. وككل
الاجنة فثمة تباين يعتمد على اصل الفكرة كما لايمكن الجزم بالوصو اللا حد
الكمال فلابد من ظهور بعض الخفاقات هنا وهناك وان كانت هذه لا تعتبر حالة
سلبية بقد ما تكشف عن واقعية الحس الانساني الذي ينجح هنا ويخفق هناك كحالة
طبيعية لاشكاليات الحياة.
خاتمة الموقف:
وبعد
فان الشاعرة فاتن نور تمثل مسارا خاصا ومتفردا في الشعر الرمزي، وهي تحاول
تقديم منظورا فكريا معاصرا للمرأة وقد كنت أود لو تمكنت من أن أقرأ لها
اعمالا تسبق تاريخ عام (2008م)، واعتقد انها تدرك ان المعرفة عملية تراكمية
وهي عبر هذه السنوات التي قرأت لها تحاول باستمرار ان تقدم ما يمثل
اتجاهها فلسفيا وما ورائيا في تفسير الموقف الحياتي والانساني والطبيعة
الخاصة للعلاقات الانسانية والفكرية المتابية، ويمكن القول ان تجربتها
الشعرية في عملية نظوج مستمر ولو انني وجدت ان بعض اعمالها في السنوات
السابقة كانت اكثر تعبيرية من اعمال لحقتها وربما يعود ذلك لطبيعى تأثرها
بالحدث الذي يقود قصيدتها ويؤسس لها.
ربما لو كتبت عن
تجربتها هذه بعد بضعة سنوات ساجد موقفا آخر ورؤية أخرى على الرغم من انني
حاولت جاهدا ان انظر لاعمالها بشكل متجرد خاصة ان لم تتح لي الفرصة ان
التقي بفاتن نور لكن من خلال دراساتي البيلوغرافية كنت اؤكد دائما على
اهمية المعاصرة بين الكاتب وصاحب السيرة حيث ان للمعايشة اليومية والتفاعل
المتابدل نوع من المحاثة في تكوين تصور عقلاني وواقعي عن الفكرة.
أ د. وليد سعيد البياتي
توطئة في اشكالية " الشعر النسوي " !!:
كموقف
ادبي لا احبذ هذه التسمية (الادب النسوي او الشعر النسوي) فهذا التخصيص لا
يمثل موقفا واقعيا من الاتجاهات الفكرية والادبية اكثر ما يمثل موقف
تمييزي يفتقر الى المصداقية، ففي هذا الحالة يفترض ان نقول ان هذه المدرسة
تمثل الواقعية النسوية في الشعر وتلك تمثل المثالية النسوية أو التجريدية
النسوية وهكذا. وفي المقابل ذهنيا يفترض ان ندعي بان بقية المدارس الشعرية
انما تمثل شعرا رجوليا (نسبة الى الرجل) وهذا بالتأكيد لا يقدم تفسيرا
منطقيا لطبيعة تلك المدرسة من الناحية التكوينية ولا يميزها من خلال هذا
المنطلق عن غيرها.
وضعت هذه التوطئة لتكون مدخلي الى دراسة
تحليلية وفق منهجي الفلسفي تبحث في تعامل الشاعرة والاديبة الاستاذة (فاتن
نور) مع المفردة الشعرية تعاملا تشريحيا من جانب وتفكيكيا من جانب آخر حتى
تبدو وكأنها تقوم بعملية جراحية داخل جسد القصيدة أو كعالمة آثار تنقب تحت
اكوام الحجارة بحثا عن لقى ثمينة.
قد اختلف مع (فاتن نور)
في العديد من المواقف الفكرية لكني، انطلق هنا من موقفها الشعري، ابحث في
صراعها المستمر في تحقيق خصوصية المفردة الشعرية التي تحاول من خلالها رسم
صورة ذاتية قد لا تكون بالضرورة نسخة متكاملة عنها لكنه بالتأكيد لن تكون
نسخة مشوهة او ناقصة، وهي مع كل ذلك لا تريد ان تبلغ الكمال المجرد، " مع
تقديري انها تحتل مكانة شعرية عالية ساتحدث عنها "، كما انها لا تسعى
للبقاء في حدود ضيقة قد تكون نتاجا للتأثيرات السلبية والايجابية على
السواء للواقع الانساني اليومي.
وقد لفت انتباهي شخصيتها
الشعرية تلك كأنسان خارج مفردة (الانوثة والذكورة) ولا اقول انها محاولة
للتماهي فشخصيتها الانثوية بارزة وقوية في كتاباتها، بل استطيع ان اقول
انها كأمرأة تجمع بين شخصية الانثى والمرأة الناضجة والطفلة الباحثة عن
الحلم واعتقد انها ككاتبة تفرق بين معاني هذه الشخصيات وحالاتها.
إن
البناء الشعري عند فاتن نور تعبير عن البناء النفسي المتفرد، ومن هنا نجد
في قصائدها تلك الخصوصية التي صارت طابع مميزا لشخصية القصيدة لديها.
العلاقة بين الشاعرة والقصيدة:
قد
يبدو الفصل بين الشاعرة وقصيدتها عسيرا عند البعض لكني أرى انها تعيش
قصيدتها أو على الاقل في بعض ملامحها، وهي عندما تسعى لنشر القصيدة فانما
لتقودنا اليها وليس العكس، تعمد (فاتن) الى ان تأخذ بايدينا واقدامنا
لنجتاز حقل الالغام المتفجر مشاعرا واحاسيسا ورؤى لا متناهية، فهي تطيح
بالحلم لتجسد رؤاها بين يدينا، ثم لتقودنا عبر مسالك حسية وغيبية في اعماق
تلافيف فلسفتها اللغوية.
لا يمكن اعتبار قصيدة فاتن نور
(متاهة ميناتور) فهي ليست مطلسمة ولا غير قابلة للتصديق مع كل رمزيتها،
ولكنها تمثل منظورها الفلسفي واللاماورائي، فالبعد الايحائي لديها يمثل
موقفا من الحدث ولكنه لا يستغرقه تماما، وقد تجد في بعض الاحيان صعوبة في
ايصال الفكرة لكنها لا تعجز تماما عن تحقيق هدفها في السياق العام لحركة
التفاعلات المؤدية الى النهاية.
إشكاليات اللغة الحوارية عند فاتن نور:
تتجاوز
اللغة الشعرية عن الشاعرة (فاتن نور) الشكل السردي للحدث لتصبح اقرب الى
التداعي الذاتي مع انها تتجرد من لغة الخطابة، فهي تنشيء في الاغلب حوارا
ذاتيا (ديالوج) يستعرض فكرة او حلم لتعيش بعد ذلك استغراقا واقعيا وربما
تجسيديا حتى لا نكاد ان نجد فرقا بين حدث القصيدة وذاتية الشاعرة، اذ ثمة
انعكاسات لا متناهية لشخصيتها في التركيبة التناغمية للمفردات حتى وكانها
توحي لنا بأنها تقف امام المرآة، تستعرض ذاتها، ثم تجتاز المسافة الى داخل
الصورة فلا نكاد نفرق بينها وبين صورتها في المرآة وصورتها في البعد الاول
بعد ان حدث ذلك التمازج ولا اقول التماهي بين الحقيقة والحلم.
ففي قصيدتها (احبك مازلت تارة تلو تارة)
لا تحاول (فاتن) الانفصال عن ذاتها كإنسانة متمردة أو كموقف متجرد عن
اشكالية الحدث، بل هي مستغرقة في الموقف الشعري سواء جاءت (كليمونة يابسة)،
أو لبست ثوب (جنية) او هطلت كحبة مطر (ثملة) وعندما تختم الموقف في هذا
المقطع تعود بنا لبرائتها الانثوية كـ(يمامة بيضاء كفيفة)، مع ملاحظة مهمة
فالانثى هنا لا تمثل انفصالا عن القيمة الانسانية لها، بل انها كأنسانة
وككيان قد تبدو في النهاية اكثر حضورا من وجودها الانثوي.
تقشر ليمون اليابسة
بشفرة خنوع او تمرد
ولم تغن لي بحنجرة الماء
وانا جنيّة تارة
أرقد بآلهة الخصب،في حبة مطر ثملة
تنفخ في سكون نايك الحزين،
زهو صباحاتك الآفلة
واختبىء تارة، يمامة بيضاء كفيفة كأنني،
في جذوة يقينك الباهتة
هنا
نجد ذلك التنازع بين صورتي الانثى والطفلة الحالمة، فالشاعرة (فاتن) ترفض
ان يبقى الموقف بعيدا عن نقل صورة برائتها الطفولية فهي على الرغم من
نضوجها الانثوي ورؤياها الفكرية تحاول البقاء في ذلك الثوب الطفولي،
فاستغراقها الطفولي هو استغراق في الحلم على الاقل فيما يبدو في هذا المقطع
الشعري، غير ان الانثى تبقى صارخة، وهنا نجد ان موقف الشخصية الانثوية
عندها يمكن ان يتجلى بعنفوان وشجاعة، فان تكون الحمامة كفيفة لا يعني انها
تفقد الاحساس باعتبار ان الجانب الحسي عند الشاعرة (فاتن نور) يبقى واعيا
حد الثمالة، ووعيها لا يسقط في سكرته ولكن انتشائها المعرفي بحقيقتها ينفخ
في جذوة الاحساس بالآتي.
رمزية الموقف الشعري:
أين
يمكن ان أضع الشاعرة فاتن نور؟ كيف يمكن ان اصنفهاا كأنسانة وشاعرة؟
كأمرأة حالمة وروح متطلعة نحو فضاءآت مكتضة بملايين النجوم، كيف اجدها بين
نخلتين سامقتين وشاعرتين رائقتين مثل (نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة)؟
قد تكون المقارنة هنا مجحفة ليس لشهرة الاستاذتين الرائعتين فقط، ولكن
للتفاعل الزمني والتاريخي وتأثير ذلك على ذهنية الشاعر ونفسيته، فالعصر غير
العصر، والتاثيرات الزمانية والمكانية والوجدانية تتباين وحركة التاريخ
هنا قد تتخذ منحا تراجيديا يمزج الحلم بالواقع بشكل عنيف، وقد يبدو ان
الايقاع الشعري عند فاتن اكثر وجعا، كما يبدوا اكثر نرجسية في بعض الاحيان،
لكني من جانب آخر لا أشك في أن الشاعرة فاتن نور قد افردت جناحيها مثل
نورس حلق عاليا في فضاءآت اللامتناهي.
فالقصيدة عند فاتن
موقف فكري في الكثير من الاحيان، بل ان رؤاها واحاسيسها في علاقتها مع
الوجود تنطلق من ايديولوجيتها في فهم حركة العلاقات الانسانية وهو فهم يتبع
نسغا خاصا بها كنوع من التفرد.
في الوهلة الاولى تشعرك
فاتن بانها مستغرقة في رمزية المفردة الشعرية استغراقا مبهما، او أن
مفرداتها ملغمة ومدغمة يصعب حلها كأحجية عتيقة، غير ان القراءة المتفحصة
تكشف عن خبايا غيبية تكون الرمزية فيها مفتاحا للولوج الى رحم الحقيقة،
فالحاضر والماضي يجتمعان على طاولة واحدة، والانا تصبح انت، عبر ديالوجات
متعاقبة تؤكد بتتابع منطقي شخصية القصيدة.
وهنا ووفق ذلك
هل يمكن اعتبار فاتن نور صوفيه؟ هل هي وجدانية اكثر من اللازم؟ هل تتبع
ذبذبات نرجسيتها؟ كيف نصنفها؟ أعتقد انها قد تكون اقرب الى الاحساس الفلسفي
والنقدي في التعامل مع ذاتها، فهي تضع لنفسها قواعد تاريخية مرة او تعيد
فسلجة اللغة عبر الكشف عن حقيقتها البدائية كأنسانة أكثر منها كأنثى، ففي
تسبيحات (حمالة الحطب) تستعيد فاتن الايقاع التاريخي من
موقف رمزي لا يبدو شائكا بقدر ما يبدو متطلعا لما خلف الاستار، ففاتن هنا
امراة عتيقة ومعاصرة في آن وهي لا تستحضر التاريخ بقدر ما تقودنا اليه:
رنين نواقيسي..اختصاراتٌ شائكة
قد تبلل المعنى على بياض الكنيستين : عينيك
ساعة الفصح بقرميد عقاربها ، تحجب قليلا لوحة التكوين/ تلك البائرة خلفها
اكاد لا ارى الأصبع المصلوب يقابل اصبعي المقدس .. لنحت شرارة زرقاء ..
أنا امرأة من زحافات عصورك الحجرية
بدائيةٌ آيلةٌ للدفء
أدعك حاستين فقط .. لأشعل نار طقوسك الباردة.
لا
يقيد استغراق الشاعرة فاتن نور في الموقف الرمزي من أن تسمح لاعماقها ان
تطفو على سطح لتكشف عن تضاريس وجهها في حالة من الكبرياء، ولتقول لنا انها
قد تقود تاريخها ولا يقودها، ففي (خربشات آخر دهشة) تقول:
لسحرك عطرٌ نديم
يصطاف على وجهي
كيف تجعد إذن
هنا
نجد فاتن امرأة واقعية حتى في رمزيتها استطاعت أن تعود من ايقاع الرؤيا
الى واقعها كأمرأة لاتخشى الزمن بل تسمح له ان يتحسس وجهها وربما ليترك
انفاسه عليه، فالموقف هنا لا يمثل حالة من الجرأة التي سنراها في قصائد
اخرى بل نوعا من التسامح مع الذات وإدراك الحقيقة كما هي كموقف فلسفي يعكس
طبيعتها الشعرية.
فلسفة القصيدة:
تجمع
فاتن اطراف القصيدة في نسيج يحاكي البناء الهندسي لكنها من جانب آخر تحمل
مشرطا لتشق نسيج الفكرة وعندما يحدث هذا الامر تظهر الرؤية الفلسفية عند
الشاعرة وكأنها جوهرة ثمينة مخبوءة مع انها واضحة.
في المقطع الاخير من (زفير التبغ الرديء):
سلاماً!.. تغتسلُ روحُ العقيقِ بسواقٍ من "عسى"
عمتَ ُ!..
أنا المرصوفُ ، مُذ ْ طردتُ من رحمِ أمي..
في بلاط ٍمستعار،
وطمثِ رحمٍ صُفِّدتْ نجائبه ُ
لا تجيئهُ .. من بذارِ الغاشياتِ
آية ٌ آخرى.. من مخاضْ.
تعيد
الشاعرة فاتن رصف الموقف الشعري عبر تشريح المفردة في رؤية تكوينية من
خلال مخاضات لا متناهية تعكس منظورها لمار وراء الانا، فالانا هنا ليست
انعكاسا نفسيا على الواقع فقط، بل هي تداعيات مستمرة لموقفها في المطلع
الاول لتشكل تكاملا متوازيا بين ذاتيتها وانبعاثات الرؤية:
نثيلة ُبئرِ الوجيبِ غبرةُ الشفقِ ِ،
ورعدةٌ ماجنةُ الأيض ِ
كأنما الفجرُ رافداً يمتدَّ ُ.. لسرِّ إنبلاجِ الشائعاتِ
شرفةُ الصليعاء من نسلِ دهري
وقحاً.. كلما عذبوه .. تمادى
صقيلَ الملوحةِ.. ماءُ الزمنِ.. والجسد.
لكن
هل كان عليها ان تبدأ من نهاية القصيدة؟ لا شك في انه لا يمكن لغير الباحث
في تلافيف ذاكرة فاتن ان يستشعر منظورها الميتافيزيقي لتطور الوعي في
البناء الشعري، فالتقطيع في جسد المفردة الشعرية تمثل ايحاءا بتداخل
الحقيقة والحلم في مساحة ضيقة تحصرها غائية الفكرة، ففي الوقت الذي يفترض
فيه ان تعرض الشاعرة نظرتها بشكل اوسع ليحتل وديانا متعددة نجدها تجمع كل
تلك الاحاسيس والمواقف في مفردات محددة قد تبدو لنا قاسية لكنها تكفي وبشكل
حاد لان تكون اجمالا لقضية الحدث لديها.
ديالوج الحزن النقي:
في لحظة تطلق فاتن نور زفرات تشبه انفاس سكائر مقطعة لتبني من دخانها غرفا شعرية تستقر مرة وترحل اخرى، كما في (قطوع مكافئة)
فالعنوان ذو ملامح هندسية لكنها تستعرض عبره منظورا بصريا للديالوج، وهي
تستحضر موقفها الحواري عبر شخصيات اخرى وكأنها تقدم لنا نصا مسرحيا متعدد
الاشكال.
(مماس الملاحة)
همـَدَ الماءُ فقالَ: أنا حـزينٌ فقط
لرمادي أتحـدّى أناةَ البحرِ
أن ترسمَ زورقـا.
وملاحٌ شهَدَ النسخِ يقول: نادَمَـني الذبولُ فصرتُ راهباً
أركبُ الحـزنَ وأذريـِـه
بفارغ الشبق.
ألمحنا
الى ان الشاعرة فاتن نور تؤسس منظومتها الحوارية من خلال تداعيات الحدث
على الشخصية الشعرية لتبني موقفا تسلسليا يطرح تساؤلات تشكل الاجابة عنها
فهما للحالة. فالحوار الذاتي كفن قائم بذاته تحركه داخل اطار بيني باعتبار
انه يمثل انفعالات النفس او استدراكا لها، لكن الشاعر فاتن تقدم لنا عبر
نصها الشعري شخصيات اخرى لتقدم لنا هذه الشخصية رؤاها وموقفها من الحدث او
من انعكاساته في ديالوج (الماء) و(الملاح) شخصيات شعرية تقف على مسرح فاتن
نور لتقدم لنا عرضا وجدانيا في حوار ذاتي.
(ريّ البؤرة)
غـُرِسَ الوريـدُ ثم استوى
على بياضِ العشبِ يلهو بـه
فأينعت في ردهةِ النبضِ
غصاتٌ باسقات.
هكذا أنسلَّ شاعرٌ من بذرتـِه
ذارفـاً ضبابـَهُ العنيـد.
على
الرغم من ان التأثير الهندسي واضح في هذا المقطع الذي يفترض به ان يضعنا
في موقف هندسي فيزيائي، غير ان الشاعرة فاتن ترفض جمود المعادلة الرياضية
كأتجاه لتفسير خلفية الحدث الشعري، ولهذا تعود لتشكل منظورا بصريا يحمل في
تكوينه واقعية الخروج شيئية الوجود، فاني اتصورها كأنسان بين يديه كيانات
في هيئة دقائق صغيرة (miniatures) يستكشفها من خلال عدسة مكبرة، فالبؤرة
هنا لا تعني فقط مركز تجمع الضوء بقدر ما تعني مركزا لا نبعاث الحياة او
لتشكيل رؤية جديدة.
(بزل الدليل)
عـرّبَ حاطــِبُ النسلِِ فأسَهُ
لـغواياتِ الطريق
شفتاهُ كرزتانِ من حُباقِ النبتِ.. والنصلُ بينهما
عليكَ أن لا تجـوعَ غـداً
رَفـَأتُ عينـي بنصلِهِ.. فخـذها ملاذاً
لمرافىء الجـوع.
عرّف وريـدي وعرّب وصيّةَ الماء
واشتهيني كما ينبغي.
(ريع المخروط)
تخاصرَ طـينُ الزّوالِ بأحْـدابـهِ ولمّـا يسترح.
ظـفرٌ.. لا تـُختـَمُ طقوسُ جبايتهِ
هذا الدويُّ يحسمُ عطسةَ الفجـر،
ويـَغورُ في أقاصي المعركة
أستحيكَ صاخبا تنثني، لمـذراةِ عشقِكَ الفاخـر
ما خشَّ الأرجوانُ أنداءَ خديـهِ.. وقالَ للبحرِ كن
مَنْ يُلملِم أشتاتَ اقماحٍِ
عن نارٍ نيّئـة.
التتابع
التشكيلي في هذه القصيدة يفرض نفسه عبر استدعائها لكنايات متعددة تستفرغ
من خلالها كم الايحاءآت المتناثرة على اسفح الحوار. المفردة الشعرية تمر
هنا باستحالات متعددة كمراحل التنامي الجنيني عبر تطور نسيج الفكرة لتحدث
الولادة في ايقاع معقول وان كان لا يسير في خط مستقيم اكثر الاحيان. وككل
الاجنة فثمة تباين يعتمد على اصل الفكرة كما لايمكن الجزم بالوصو اللا حد
الكمال فلابد من ظهور بعض الخفاقات هنا وهناك وان كانت هذه لا تعتبر حالة
سلبية بقد ما تكشف عن واقعية الحس الانساني الذي ينجح هنا ويخفق هناك كحالة
طبيعية لاشكاليات الحياة.
خاتمة الموقف:
وبعد
فان الشاعرة فاتن نور تمثل مسارا خاصا ومتفردا في الشعر الرمزي، وهي تحاول
تقديم منظورا فكريا معاصرا للمرأة وقد كنت أود لو تمكنت من أن أقرأ لها
اعمالا تسبق تاريخ عام (2008م)، واعتقد انها تدرك ان المعرفة عملية تراكمية
وهي عبر هذه السنوات التي قرأت لها تحاول باستمرار ان تقدم ما يمثل
اتجاهها فلسفيا وما ورائيا في تفسير الموقف الحياتي والانساني والطبيعة
الخاصة للعلاقات الانسانية والفكرية المتابية، ويمكن القول ان تجربتها
الشعرية في عملية نظوج مستمر ولو انني وجدت ان بعض اعمالها في السنوات
السابقة كانت اكثر تعبيرية من اعمال لحقتها وربما يعود ذلك لطبيعى تأثرها
بالحدث الذي يقود قصيدتها ويؤسس لها.
ربما لو كتبت عن
تجربتها هذه بعد بضعة سنوات ساجد موقفا آخر ورؤية أخرى على الرغم من انني
حاولت جاهدا ان انظر لاعمالها بشكل متجرد خاصة ان لم تتح لي الفرصة ان
التقي بفاتن نور لكن من خلال دراساتي البيلوغرافية كنت اؤكد دائما على
اهمية المعاصرة بين الكاتب وصاحب السيرة حيث ان للمعايشة اليومية والتفاعل
المتابدل نوع من المحاثة في تكوين تصور عقلاني وواقعي عن الفكرة.
أ د. وليد سعيد البياتي