منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    بنية اللغة في الخطاب القصصي الجديد

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    بنية اللغة في الخطاب القصصي الجديد Empty بنية اللغة في الخطاب القصصي الجديد

    مُساهمة   الأربعاء أكتوبر 26, 2011 9:50 am

    بنية اللغة في الخطاب القصصي الجديد

    ليلى السيد

    تطرح قصص الجيل الجديد مفهوماً جديداً للإبداع،
    انطلاقاً من رؤيا تثاقفية أسهمت فيها عدة عوامل، فرضتها ساحة الكتابة
    العالمية، لعل أبرزها التمرد على الواقعية النمطية ومحاولة الرجوع إلى
    أفضية الفن الذي "يستجيب لبعد اللانهاية ليحقق فكرة الإبداع، الذي هو
    تعارض، وانقطاع بين الواقع القائم وطموح الذات إلى واقع غير متحقق"1- ولعل
    الأداة التي آزرت قصص هذا الجيل لتحقيق هذا التحول الفني، هي اللغة بكل
    مستوياتها على اعتبار أن الإبداع يفترض التقليد وأحادية التعبير، والنظرة
    إلى اللغة والشكل الفني على أنهما وعاء جاهز، أو مجموعة من المفردات
    القابلة للتكرار.

    أولاً: سيميائية لغة القص

    إن اللغة في قاموس كتاب هذه المجموعات القصصية، أو ممن نشروا بعض أعمالهم
    عبر الجرائد، والمجلات هي الأداة المرتكز الذي يمرر الخطاب "لأن الأنساق
    الدلالية ما كان لها لتكون أنساقاً سميولوجية أو دالة لولا تدخل اللغة التي
    تكسبها صفة النسق السيمائياتي2-.

    "ففي مجموعة أحبارة لجمال فوغالي، تغدو اللغة مهيمنة، ولا يمكن تصور مكان
    وجود مدلولات نسق، أو أشياء خارجها كما يرى السيمائيون ففي قصة "اعترافات
    لامرأة من ضياء3-". تحيلنا اللغة على فضاء سيميائي انزياحي، حيث نجدها تعبر
    عما هو "الأنقى والأخفى، وعن الغامض والشائع المتداول في آن واحد"4-.

    "وتجيئين، الصدر وردة الربيع، المخضل أبداً وتأتين من أقصى الوجود حلماً
    مباركاً، يعمر في السنا شلالاً من ضياء، ونوراً يسبح القلب مطعم بالعذاب
    الدافق خجلاً، طروباً في المدى الساجي المتألق"5-.

    ولمقاربة هذا النص الذي هو أحد متون قصة من قصص هذا الجيل، يبدو أنه لم يعد
    ينتمي إلى صاحبه إلا من حيث كونه نصاً أدبياً. أما من حيث أدبيته فإن
    التركيبة اللغوية التي تشكلت عبر أنسجة متميزة، تعني أن القاص قد استطاع أن
    يسمو بها فوق مفهوم الدال بتفجيره للطاقة التعبيرية الكامنة في صميم
    اللغة، بحيث استطاع أن يخرجها من عالمها المعجم إلى حيز الوجود اللغوي
    "فتكون السمة الأدبية متطابقة مع فكرة الاستعمال اللغوي"6-.

    "يتحرك موكب الضياء اللحظة، سادراً أتبعه، فراشة للخلود، وأغرق حتى الهامة
    الوضيئة في شلاله الخصب أبداً، لا أطلب النجاة، ولا أستصرخ النجدة، أستعذب
    هذا الانتحار"7-.

    إن تحرك موكب الضياء والغرق في شلالة الخصب يعني أن الكاتب يدرك أن اللغة
    تمده بطاقة لا مثيل لها في العبور بعيداً عن محدودية الدال، فهو يضرب
    باللغة ثنائية الدال والمدلول، التي أضحت تعانق ذهنية الثبات "فيسعى إلى
    تمثل فكرة الخرق والتخطي لترسيخ ديناميكية الحركة والصيرورة"8-. حيث يغدو
    اللفظ انزياحاً، لا يمكن القبض على مفهوم موحد له، وهذا ما يضمن له –كما
    يذهب إلى ذلك الأسلوبيون- خلق لغة من لغة أي الانطلاقة من لغة موجودة،
    "فيبعث فيها لغة وليدة هي لغة الأثر الفني9-" ولعل الفكرة نفسها تبدو ماثلة
    في قصص محمد دحو في مجموعته" عندما ينقشع الغيم" حيث اللغة عنده كائن عضوي
    يتنفس ويولد ويمتص طاقات الإنسان وعذابه"10-.

    ".. في الظل كانت الأجسام لوناً ضبابياً لا يستقر له شكل، وحين تأطرت
    الجهات صار كل شيء يبعث عن النشاز، فهل أدركتم سر هذه المعادلات
    الصابونية"11-.

    إن الكاتب في هذه القصة، وفي قصص أخرى تضمنتها المجموعة يبدو مهووساً
    بالتجريب لإيمانه بلا قواعدية النص الأدبي، "وأن الخلق الأدبي العظيم، إنما
    هو تجاوز للقواعد الفنية التقليدية، والتمرد عليها"12-.

    إلا أن التمرد هنا لا يعني الضياع في متاهات الشكلانية المتطرفة، إنما هو
    فك أسر اللغة وجعلها تنطق بأكثر من مدلول، لتشكل خطابها الذي يجب أن تتغلب
    فيه الوظيفة الشعرية.

    "سيجيء على هذه الأمة طوفان يعلمهم، الموت قبل الموت. الواقفون تجهموا،
    والأعين الحلزونية ترسم من خلف الحدقات الذابلة مراسيم أغنية متعبة"13-.

    إن التجريب الذي نصادفه في مستويات المتن القصصي، لا يعني الخروج عن قواعد
    الممارسة الإبداعية، بل أن دخوله لعبة الاختراق والتجريب كما يظهر، إنما هو
    من باب إضافة حياة جديدة للغة حتى تبقى أرضاً للتفاهم، إنه لا ينبغي
    للتجريب أن يلغي مساحة الإصلاح، ولا يلغي حركة الانتظام في تبدلها بل حياة
    اللغة، وتطورها "حيث تولد القيم من ولادة الدلالات، كما تذهب إلى ذلك يمنى
    العيد"14-.

    فبطل قصة "الصمت آخر ما تبقى" من المجموعة نفسها يظهر بكل ما يحمل من أبعاد
    إنسانية يتجاوز المسافات الضيقة ليكون موجوداً في الزمن الماضي، والآتي،
    حيث يضمن له الكاتب هذا البقاء الأزلي، بتخليص الكلمة من قيودها التي
    يكبلها بها الاستعمال، وتطهيرها كذلك مما يتراكم عليها من ضبابية الممارسة،
    فكانت الكلمة حية بعد أن كانت ناضبة.

    "صدى يتردد في أعماقه المسحوقة، يتلوى يعانده، ثم يقبع كقط مطارد والحيرة
    تنخر عظامه، وبقايا الصمت الهاربة إلى دمه المسكون بالعطش، تستفزه تبصق في
    وجهه"15.

    إن المتمعن في هذا المقطع القصصي ليدرك أن الخطاب بمفهومه الأسلوبي، لم يعد
    وصفاً قواعدياً للمفردات المعجمية، أو توليداً لمعان معهودة تبنتها
    البلاغة التقليدية قديماً، بل أضحى تمرداً على المتن الكلاسيكي.

    "ليحقق إضافة بالصياغة على مستوى الدلالات حيث يتشكل في حركة انتظام
    البنية، فتتولد المعاني، ويصبح القول فضاء حجمه في الدلالات التي يولدها
    نهوض التعبير في بنية الجنس الأدبي"16-. فالحيرة التي تنخر العظام، وبقايا
    الصمت الهاربة إلى دم بطله المسكون بالعطش هو فضاء لغوي متكامل، ينتظم في
    بنية أسلوبية تتحكم فيها الصورة التي هي خيط خفي، نحس أنه هو الذي حدد
    أدبية هذا الخطاب كلما خرج فيه الكاتب عن القالب المرسوم، وابتعد عن "اللغة
    التطبيقية للأشكال النحوية الأولية"17- وهو ما يظهر في الآتي:

    المجال المفتوح



    يشير إلى



    الذات المغتربة



    -الأعمال المسحوقة



    -الحيرة تنخر العظام

    -الصمت الهارب

    -الدم المسكون بالعطش

    لقد غدت اللغة في هذه المؤشرات بعيدة عن كونها مجرد قناة لحمولة الدلالات وإنما هي غاية تستوقفنا لذاتها.

    إن الكاتب هنا يكسر نمطية دال/مدلول، ويتمرد على هذه المعادلة التي قيدت
    حقل الإبداع طويلاً. ويخضع متنه لخطاب انزياحي يعتبره "ريفاتير" خرقاً
    لقواعد اللغة حيناً، ولجوءاً إلى ما ندر من الصيغ حيناً آخر. إلا أن هذه
    الصيغ، عند محمد دحو تبدو أنها كانت صادرة عن وعي وإدراك، لأن الصورة لا
    يمكن لها أن تمد ظلالها الجمالية إلا إذا كان وسيطها اللغة متمثلة بوعي في
    ذهن المبدع، كما يوضح ذلك الشكل:

    مبدع (واع بخصوصيات اللغة)



    (اللغة الوسيط)





    (صورة ذات أبعاد جمالية)



    وباعتبار اللغة كذلك "أوسع من أن تنحصر في حدود الواقع المعطي، فإن فيها
    بعد الدلالة اللانهائية في مجال التعبير الذي يستجيب لبعد اللانهاية في
    مجال المعرفة"18-.

    "وتغنين، فيجيء صوتك صاعداً من كهوف الأعماق القصية الكسيرة حاملاً دفئه الحار مشتعلاً بالأنين الكاوي"19-.

    هكذا تبدو اللغة في هذا المتن القصصي لجمال فوغالي أوسع من أن يحاصرها
    الواقع. إنها تتمرد عليه مع أنها تبدأ من حيث يبدأ، فقصة "مالياً" لا تضع
    أمامنا دلالة واضحة بعينها بل تجعلنا نقف أمام حقول من الدلالات هذه اللغة
    تخلصنا من مماثلة الأسلوب للمضمون وتقربنا من مقولة "مالرو" من أن المصدر
    الرئيسي للفن ليس هو الحياة، وإنما هو الفن المسبق والمجدد بالبحث الداخلي
    عن الأسلوب، البحث عن الأسلوب هو حياة الفن الذي نريده هو صنع عالم غريب عن
    الواقعية"20-.

    وبالفعل، فقد استطاع جيل هذا العقد، أن يشكل لنفسه عالماً موحداً، لا ينفي
    الواقع ولكنه يتجاوزه. فاللغة التي بلوروا بها مثلاً جمالية، أضفوا بها على
    المتن القصصي طابعاً تجريبياً "تتولد اللغة فيه وتتناسل من جديد وتكتسب
    أبعاداً ورموزاً عبر الخلق الفني"21-. فكأني بتجربة هذا الجيل، قد التفت
    فيها إلى اللغة وما فيها من أبعاد فنية، بحيث تتحول اللفظة إلى إشارة"
    تتخلى عن شطرها الآخر المتمثل في التصور الذهني ليتحقق لها الانعتاق وحرية
    الحركة مما يمكنها من أحداث الأثر الحر، وتنويعه مع كل قراءة"22-.

    ففوغالي في "ماليا" "يقيم حواراً مع اللغة أقرب ما يكون إلى حوار العاشق مع
    معشوقته"23-. فتصبح شيئاً فشيئاً تبتعد عن دورها الوظيفي القريب من الحياة
    إلى دور فني جمالي. ولعل "يوسف سعداني" يعمق هذا المفهوم في قصته "عودة
    المهدي" حيث نجد اللغة بإجراءاتها الأسلوبية قادرة على خلق سياقات خاصة،
    وبالتالي جاء النص متحركاً وغير قار من الناحية الأسلوبية"24-.

    "عند البحر الذي يلف خاصرة المدنية المطعونة بخنجر، كان الأطفال يجلسون على
    الصخور والرمال يرقبون نقطة اتصال البحر بالسماء، وفي قلوبهم الصغيرة
    الزئبقية كان الحلم يورق وكان الفارس الذي ينتظرون قادماً مع الريح والموج
    والسحاب"25-.

    إن اللغة في هذا المقطع القصصي ليوسف سعداني تبدو رافضة التموقع في أفق
    المحدودية تلوك مفرداتها القاموسية، بل أنها دخلت، وبكل جسارة في مجازفة
    الكشف والتأويل "فتخطت المظهرية الخارجية وسياقات البداهة الجاهزة لتنفذ
    إلى محصلة العمق، أي لتنضد ماهو جوهري"26-.

    فهذه القلوب الزئبقية، والفارس القادم مع الريح والموج والسحاب، والمدينة
    المطعونة بالخنجر في منظور الأسلوبيين الحداثيين وثبة باللغة، وتجاوز
    لنمطية المحنط والساكن وحرية لها لرفض التحجر، على اعتبار أن الألفاظ تخلق
    كما يخلق كل شيء" وهي تكتسب بمرور السنين جموداً يسبغه عليها التكرار،
    فتفقد معانيها، ويصبح لها معنى واحداً محدوداً يشل عاطفة الأديب ويحول دونه
    والأدبية"27-.

    فإذا فك المبدع أسر اللغة، خرق بها قاعدة الساكن، وهو ما يبدو جلياً عند
    "يوسف سعداني" الذي نحس أنه أمد متنه القصصي بدم جديد، حيث فجر في لغته قوة
    الحياة الكامنة، ولم يكتف بقيمة اللفظة في حد ذاتها، بل سعى إلى قيمتها
    السياقية، حتى لتغدو "ضمة من الأضواء الهاربة تثير في النفس تداعيات
    تجريدية، أو صوراً لا حد لها"28-.

    ولذا لا يمكن لقارئ قصص يوسف سعداني أن يكتفي بجمل مستقطعة ليحصل على ما
    يسمى بلذة النص، بل عليه أن يراعي ذلك الكل المشع ليقف على تجليات الجمال،
    أو بتعبير آخر فإن أدبية المتن القصصي عند هذا الكاتب، أو غيره ممن
    أخضعناهم للدراسة، لا يكمن إلا في هذا التفاعل العضوي هذا الفضاء الذي
    يتطلب وعياً جمالياً كمعادل موضوعي من المتلقي، ليشارك المبدع هذا التصور
    التشكيلي، بحيث تكون "اللغة هي الجوهر والوسيلة في آن واحد لا بالعودة إلى
    المعني الضيق الذي يعني مجموعة من القواعد"29-.

    فالإدراك الجمالي يتشكل وفقاً لتشكل اللغة لأنها ترضخ إلى تفاعل عضوي
    بموجبه تتراوح الألفاظ تبعاً لسياقاتها في الاستعمال عن معانيها الوضعية،
    "وهذا الإدراك هو تعامل دلالي جديد خرج بالبنى من الدائرة التقليدية
    المتعارف عليها بين الناس إلى دائرة واسعة ندت عن الدلالة المعجمية الميتة
    وتولجت في عالم الدلالة الشعرية التي ليس لها حدود"30-. ويتضح ذلك مع
    الكاتب نفسه وفي القصة ذاتها.

    "لحظتها سكن الغضب تقاسيم وجه المدينة وكانت الشمس تصعد مدورة، فوارة مبددة
    طبقات الجليد، وصقيع تلك الأماني القاسية الوجه… وكان الناس، وكان المهدي
    يسكب أنشودته المخملية اللحن تسابيح في آذان البحر والأفق الأزرق…"31-.

    فبعودة المهدي –هنا- تعود اللغة إلى انزياحها فتتمرد عن كونها مجرد تعبير
    أفقي إلى لعبة المخيلة، فتمتزج مع مرجعية الكاتب التخييلية لتصبح فيما بعد
    أداته الفنية الخاصة، فيعمد إلى تفجير الإمكانيات اللانهائية لها من خلال
    كشف الطواعية الجمالية للكلمات، وامتلاك ناصيتها، "وهي طواعية تنظر إلى هذه
    الكلمات، أو المفردات اللغوية على أنها كائنات قابلة فنياً لأن تنتظم في
    سياق من العلاقات الجمالية"32-.

    إن هذا التشكيل الجمالي الذي بين معماره يوسف سعداني من خلال هذا المقطع
    القصصي لا يمكن أن يسكب فينا هذه اللذة الجمالية، لولا براعته في تشكيل هذا
    الكل الهائل من الألفاظ، ووعيه التام بطرائق التوظيف الفنية، فجاءت جمله
    القصصية تتجاوز مجرد الوسيلة في الأداء إلى لبنة من لبنات الدلالة في النص
    حيث تغدو قيمتها في ما توحي به، لا فيما تخبر عنه، وكذلك فيما تولد في النص
    من أوضاع جديدة لا فيما توضع له في الأصل. فهذا المتن القصصي، ونحن نقرأه
    مرات، يخضع –حتماً- لإجراءات توليد معان تتجاوز البعد الدلالي الموحد.."
    ولذا كانت اللغة نسيجاً من الإشارات ذات دلالات متميزة ومتشابكة معاً"33-.

    فحين الوقوف قراءة عند قوله: "… كان المهدي يسكب أنشودته المخملية اللحن تسابيح في آذان البحر والأفق الأزرق…"34-.

    نحس أننا أمام طاقة لغوية، تذهب بنا بعيداً، بل تأخذ بخيالاتنا إلى فضاء
    الرمز فيصبح الذهن وقد تفاعل مع هذا السرد السيميائي يغامر في عملية
    تفكيكية عله يجيب عن تساؤلات الجمالية التي تؤسسها اللغة في هذا التشكيل
    الإنزياحي، "حيث أضحت وسيلة للإيحاء، ولم تعد أداة لنقل معان محددة، وهنا
    يكمن الفرق بين المعنى العقلي للكلمات والمعنى التخييلي لها"35-.

    لأن المعنى العقلي يحبس الكلمة ويجعلها قيد المعاني المتوارثة، والسياقات
    التي تعاقبت عليها بينما الأديب الحق" هو من يحرر الكلمة من قيد التصور
    الذهني ويطلقها حرة معتقة تسبح في خيال المتلقي"36-.

    إن التجربة القصصية الجديدة تحاول أن تخترق حركة المحور العمودي للغة،
    لتولد منها دلالات تسمو فوق مستوى الدلالة الصريحة للنص. ففي مجموعة علال
    سنقوقة "ليل وحلم ونوارس" تظهر اللغة في وظيفتها الفنية حاملة لهموم الناس
    كما يحمل الناس هموم اللغة ويتجلى ذلك في القصص: ليل وحلم ونوارس، والصمت
    لغة أخرى ومواويل امرأة حزينة. ففي القصة الأولى نصادف هذا المقطع: "…
    النوارس كانت تغني على السطح وتسرق الأسماك، تلعب، تلهو مع السمك والبحر
    والفصول. النوارس كانت أيضاً تجري باتجاهي تحمل لي الراية البيضاء لأواصل
    الجري"37- ثم يواصل: "النوارس البيضاء كانت تمارس الحب قريباً مني، وكانت
    تبحث عن شيء لعله الوطن"38-.

    إن الكاتب في هذه القصة يتخطى لغة الوصف إلى لغة الكشف، ووقف الاختناق
    فيخضعها إلى المنزع الجمالي، وفضاء التخييل، فيتحول صوت الفعل القصصي إلى
    ابتكار دائم للرمز والتأويلية، فهو أبداً لن يظل –الفعل اللغوي- مقتصراً
    على دلالات الاصطلاح الذي يقتل روح النص"39- ويحرمه من ظلال المعاني
    الانزياحية التي تجابه القارئ بتجليات الابتكار المتجدد." … النهار خريف
    كله… الشمس الخجلي وراء الغيم والعصافير والأشجار والتينات النائمة في
    الزمن العصيب في هذا الحي المغمور خريف من لا يحتمله

    قلب"40-.

    إن سنقوقة يساير إيهام اللغة، ويذهب بها إلى حد التماثل، يتركها تلامس
    المضمون ولا تفصح عنه، بل يحررها لتكشف عن طاقتها. "وحدي أنا في شوارع
    المدينة، عفواً، كنت رفيق الشمس والغبار… والدنيا النائمة في أهداب امرأة
    سكيرة"41-.

    فالمتن القصصي عند الكاتب يتشكل من تلاحم اللغة وتفاعل أصواتها، بل وانسجام
    المعنى الجمالي لإبراز الأدبية، لذا فالسمة الأدبية عند هذا الكاتب تشمل
    الهيكل الكلي للنص حتى يصبح هو نفسه أداة من أدوات التخاطب متميزة عن
    الأداة اللغوية"42-.

    فكيف يمكن لنا اقتناص معنى موحد ذا دلالة ثابتة من هذه الثنائيات كنت رفيق
    الشمس، الدنيا نائمة في أهداب امرأة سكيرة لا شك في أن التشكيل اللغوي هنا
    قد ذهب بنا إلى سياق التأويل وإلى تذوق جمالي مكمنه شعرية الخطاب وأدبيته
    "لأن الذي يميزه هو كثافة الإيحاء وتقلص التصريح"43-.

    فأدبية النص القصصي عند هذا الجيل من الكتاب كانت مبتغى قادهم إلى اللغة
    التي طوعوها، خصوصاً، وقد تخلصوا، "أو بددوا الدجنة الكثيفة
    للأيديولوجيا"44-. ولكونهم أيضاً، توحدت رؤاهم في أن الأدب ليس شيئاً آخر
    "سوى تقنية الدلالة، وهو كائن في شكله، وليس في المحتوى أو الرسالة
    الإيحائية للخطاب، أنه في إنتاجه للمعنى وليس في المعنى المنتج"45-.

    ولعل ذلك ما أبرز تلك المضامين الجديدة التي ولدتها الأشكال التجريبية التي
    خضع لها النص فكان العمل الفني عندهم هو ثمرة صيرورة نظام تترابط فيه
    التجارب الشخصية والوقائع والقيم والدلالات، وتتجسد في جهاز لتشكل شيئاً
    واحداً معه وتتمثل فيه"46-.

    إن إدراك كتاب هذه الفترة للمنزع الجمالي للغة جعلهم لا يقفون عند حد
    التغلب على تلقائيتها، بل إلى تعطيل كل قيمة دلالية تحد من حرية الإيحاء،
    فكأني بهم كانوا يسعون إلى خلق لغة داخل لغة فاستغلوا القيم الصوتية في
    الكلمة والإيحاء بها. ففي المجموعة القصصية "السكاكين الصدئة"، يغامر حسين
    فيلالي بلغة نراها تتجاوز نمطية المحنط، حيث الإبداع في منظوره حرية
    عدوانية، لأنها تروض الإنسان بعنف الخطاب، وبتجديد نظريته دوماً إلى الكون"
    وهي حرية تكاد أن تكون فوضوية تأبى التمذهب وترفض التحجر وتتحدى الحاضر
    وتنبئ عن المستقبل"47-.

    ففي "حكاية ترميم أضرحة المدينة"48- تصبح شفافية اللغة قادرة على فتح فضاء
    سيميائي مطلق، فهي تخترق الاصطلاح السائد لتؤسس نظاماً جديداً ينبثق من
    داخل النص.

    "توقفت فجأة عن السير، وجحظت عيناي كمن اعترته سكرات الموت، كانوا يلبسون
    بدلات رسمية، يستوقفون المارة في الليل ثم يضربونهم بمطارق من حديد بين
    الأذنين حتى إذا فقدوا وعيهم، وضعوهم في أكياس وحملوهم على أكتافهم إلى نفق
    مظلم يمتد إلى غرف متعددة ذات أبواب مصفحة"49-.

    يصبح المتن القصصي عند الكاتب هاهنا متناً لا يحمل بعده الجمالي في
    التركيبة المفرداتية على غرار النص القصصي ذي البعد السوسيولوجي، بل يسعى
    إلى تأسيس جماليته من خلال هذا الكل السيميائي الموحد، فكأني به لا يطرح
    ذلك السؤال الذي يقول: كيف نكتب "لأن ذلك لا ينتج سوى علامات فارغة"50-.

    وهو بذلك –كما تذهب إلى ذلك "جوليا كريستفا" لا يؤمن بنص ذي مظهر لساني"
    دلالته تتقدم إلينا في إطار متن لساني منظور إليه كبنية مسطحة، إنه توليد
    مسجل في هذه الظاهرة اللسانية"51-.

    ويتمظهر ذلك في مقطع قصصي آخر للمبدع نفسه في قصة "جثة فرعون" "وتجري، تحمل
    تاجك، وتجري، يلاحقك الصوت كالطوفان، يخترق سمعك كرصاص منصهر، فتصرخ إنها
    القيامة، ثم تهرع صوب البحر، يقترب الموكب أكثر، تتحول الأيادي إلى مناجل
    تتسابق إلى عنقك، رحت تضرب البحر بتاجك وتأمر"52-.

    إن هذا المقطع ليكسر تلك النمطية السكونية التي توحد التفكير اتجاه معان
    مميزة، فمن خلال هذا التكسير للمعاني المتقاربة، وتباعد الصور، بل وهذه
    الفجوات التي تساهم فيها اللغة يصبح الفكر الذي يسعى إلى جمع هذا الشتات
    عاجزاً على أن يوحد هذه الأفضية بشكل سريع إلا بعد قراءة وظيفية مؤطرة
    بممنزع جمالي، ويظهر المسار السردي لهذا المقطع كما توضحه

    هذه الإحالات.



    المقطع الأول (أ)



    تجري..

    فضاء قصصي عادي



    حمل…



    يلاحقك…

    يخترق….

    المقطع الثاني (ب):

    تهرع صوب البحر…

    فضاء عجائبي



    تتحول الأيادي إلى مناجل



    تتسابق إلى عنقك

    إنه ومن خلال ما توصلنا إليه آنفاً، اعتماداً على النصوص نتبين وعياً
    جمالياً يتجلى في هذا المتن القصصي الجديد الذي يمثله جيل طلائعي بدا أنه
    يرفض التمذهب بشكله العنيف ويحاول الخروج عما هو آلي، لأن الكتاب الذين
    يبدعون من خلال هذه القوالب الجاهزة والجداول "هم في الحقيقة لا يقومون سوى
    بالاستنساخ ونسخ ماهو موجود"53-.

    إن هذا الوعي بأدبية النص، مكنهم من القبض على إمكانيات اللغة في مجال
    التأويل، والانزياح فشكلوا بها عالمهم القصصي الذي غدا يقترب من نثرية
    شعرية تتمظهر في سيمياء اللفظ ليتجلى المعنى خارج المدلول، الذي عانى منه
    النص الإبداعي طويلاً.

    فكان لهذا الجيل، وفي نظرة تكاد تكون موحدة فضل الريادة في ركوب إبداعية
    تحويل اللغة إلى نظام اختلافي إشاري"54- من خلالها يولد التعبير المجازي
    دلالته الاحتمالية ويبني في الوقت نفسه علاقة الترابط بين مكونات نصه،
    يبنيها في إحالات داخلية فتضيء المدلولات بعضها بعضاً وتبقى مفتوحة على
    تأويلات القراءة"55-.

    ¾ إحالات:

    1-خالدة سعيد –حركية الإبداع –دار العودة ط- بيروت 79، ص13.

    2-مبارك حنون- دروس في السيميائيات، ص74.

    3-إحدى قصص مجموعة إحبارة، ص53.

    4-هايدغر –في الفلسفة والشعر- ترجمة عثمان أمين، ص84.

    5-القصة ص53.

    6-ع السلام المسدي- النقد والحداثة- ص38.

    7-القصة ص53.

    8-حركية الإبداع ص59.

    9-ع السلام المسدي- الأسلوبية والأسلوب، ص117.

    10-منير العكش –أسئلة الشعر- ص216.

    11-قصة تهويمات خارج حدود الزمن، ص13.

    12-ع الملك مرتاض –النص الأدبي من أين وإلى أين ص 51.

    13-القصة، ص86.

    14-يمنى العيد –في معرفة النص- ص72.

    15-قصة الصمت آخر ما تبقى "محمد دحو"، ص79.

    16-انظر يمنى العيد –في معرفة النص، ص82.

    17-النقد والحداثة، ص41.

    18-آدونيس –الشعرية العربية- ص77.

    19-قصة "ماليا" جمال فوغالي، ص63.

    20-حسين جمعة –قضايا الإبداع الأدبي- ص37.

    21-أسئلة الشعر، ص216.

    22-عبد الله الغذامي –تشريح النص- ص37.

    23-ع الرحمن ياغي –في النقد النظري –ص97.

    24-ريفاتير –معايير تحليل الأسلوب. ترجمة حميد لحمداني –ص10.

    25-قصة: عودة المهدي. المجاهد الأسبوعي جوان، 88، ص57.

    26-أحمد المديني –أسئلة الإبداع في الأدب العربي المعاصر، ص25.

    27-انظر نازك الملائكة –شظايا ورماد. ص9.

    28-محمد فتوح –الرمز والرمزية في الشعر المعاصر –ص123.

    29-تودروف –الشعرية- ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، ص23.

    30-ع الملك مرتاض –بنية الخطاب الشعري- ص47.

    31-قصة عودة المهدي، ص57.

    32-ادوار الخراط: ملامح الحداثة عند شاعرين –مجلة فصول، ص59.

    33-مطاع صفدي مغامرة الاختلاف والحداثة –الفكر العربي المعاصر، 87، ص5.

    34-عودة المهدي، ص57.

    35-عبد الله الغذامي –كيف نتذوق قصيدة حديثة –فصول ص97.

    36-الكاتب نفسه –قراءة سيميولوجية لقصيدة إرادة الحياة –الفكر عدد 4، ص75.

    37-قصة ليل وحلم ونوارس، ص10.

    38-القصة.

    39-انظر حركة الإبداع، ص17.

    40-قصة مواويل امرأة حزينة من "مج" ليل وحلم ونوارس، ص19.

    41-قصة الناسوت من نفس المجموعة، ص16.

    42-الأسلوبية والأسلوب، ص39.

    43-المرجع ص 95.

    44-مج من الأساتذة في أصول الخطاب النقدي الجديد 89، ص51.

    45-المرجع ص51.

    46-المرجع ص82.

    47-عز الدين المدني –القصة العربية المعاصرة في تونس 80، ص141.

    48-قصة من "مج" السكاكين الصدئة.

    49-القصة ص38.

    50-في أصول الخطاب النقدي الجديد، ص51.

    51-سعيد يقطين –انفتاح النص الروائي89- ص38.

    52-القصة ص35.

    53-عمار بلحسن –الإبداع والثقافة والسلطة- مجلة التبيين عدد 7، ص162.

    54-سليمان عشراتي –التفكيك وجذور الوعي النظري عند دريدا –تجليات الحداثة عدد2، ص111.

    55-يمنى العيد –حكاية المكبوت وغربة الكتابة –التبيين عدد 6، ص113

    عن كتاب عبد القادر بن سالم

    مكونات السرد في النص القصصي

    الجزائري الجديد

    (بحث في التجريب وعنف الخطاب عند جيل الثمانينات)

    موقع اتحاد كتاب العرب

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 2:32 am