قراءة نقدية في (تفاصيل في خارطة الطقس) للشاعر محمد الخطراوي
الخطاب الشعري بين المعاصرة والتراث
٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧بقلم مسعد محمد زياد
مدخل تنظيري بين المعاصرة والتراث
تعودنا في دراستنا النقدية لأي عمل أدبي أن ننصب الدراسة على
النواحي الفنية لذلك العمل سواء فيما يتعلق بالشكل أو المضمون ليس غير ،
كأن نتحدث مثلا عن تجربة الشاعر الفنية أو الشخصية أو عن خياله الشعري أو
عواطفه أو عن منهج القصيدة ولغتها وبنائيتها وما إلى ذلك مما يتصل بفنيات
الخطاب الشعري .
غير أننا في هذه القراءة النقدية لديوان د.محمد الخطراوي ستكون
دراستنا مغايرة إلى حد ما لما ألفنا من دراسات ولا أظنها جديدة كل الجدة
على النقاد ودارسي الأدب ، ولكنها غير متداولة أو مطروحة كثيرا على الساحة
النقدية ، أو قد لا يوليها بعضهم اهتماما لأنها في نظرهم لا تتغلغل في
فنيات العمل الأدبي كما ينبغي ، وهذه الدراسة تدور حول مفهوم المعاصرة
والتراث في الخطاب الشعري ومدى تأثير الشاعر بالتراث العربي الإسلامي خاصة
والإنساني عامة ومظاهر هذا التأثير في ديوانه الآنف .
وقبل أن نبدأ القراءة وتحليل النصوص نود أن نقدم له بشيء من
الإيجاز حول مفهوم المعاصرة والتراث في الأدب العربي وما دار ويدور حول هذه
القضية من جدلية بين جمهور الدارسين والمتلقين على حد سواء .
المعاصرة والشعر:
حاول الدكتور زكي نجيب محمود تفهم معنى العصرية في الشعر من حيث هو
أساس لاتجاه التجديد المعاصر فرأى أن جميع الشعراء الذين يعيشون بيننا
عصريون لسبب بسيط هو أنهم أبناء هذه العصر .
ولكننا نرى كما يرى غيرنا أنه ليس بالضرورة دائما أن يكون الجديد عصريا
إلا في ظروف بعينها فلو تناولنا الشعر كجنس من أجناس الأدب ليكون أنموذجا
لحركة التجديد المعاصرة فقد يكون جديدا في شكله وإن تغلغل فيه نبض القديم
وروحه وقد يتصادف ـ وهذا كثير ـ أن يكون الشعر في تجربته الجديدة أعنى
الشعر الحر أو ما يعرف بشعر التفعيلة مجرد احتذاء وتقليد للنماذج الجيدة
والأصيلة لا يتجاوز الشكل أو الظاهر بينما يخلو في فنياته الخاصة من
التجديد .
ومن خلال التصور السابق يمكننا أن ندرك نمطين من العصرية كليهما
بعيد عن التصور السليم للعصرية كما يقول الدكتور عز الدين إسماعيل " النمط
الأول هو ذلك الذي يتمثل فيما نسميه النظرة السطحية لمعنى العصرية حيث نجد
الشاعر يتحدث عن مبتكرات عصره ، ومخترعاته ، ظنا منه أنه يمثل عصره ويشارك
فيه ، والحقيقة أنه بذلك أنما يعيش على هامشه ويمثل هذه النمطية دعوة أبي
نواس للتجديد وذلك بترك المقدمة الطللية ، والتحدث عن حانات العصر ، وكذا
دعوة أحمد شوقي للتجديد في مطلع العصر الحديث بوصفة للمخترعات الحديثة
كالطيارة والغواصة ..إلخ .
والنمط الثاني يتمثل في الدعوة المغالية التي تدعو إلى العصرية
المطلقة والتي توشك أن تنفصل نهائيا عن التراث وقد دعا لهذا النوع من
العصرية المطلقة الشاعر الفرنسي " راميو " تلك الدعوة التي تتمثل في أن
يظهر من خلال الفنون شعور بالظواهر المعاصرة كالآلة والمدينة الصناعية
والسلوك العصابي وما إلى ذلك .
غير أن الدعوة إلى العصرية بهذا التطرف الذي نادى به " رامبو "
يعني أنه ذاك التسليم بالفساد التام لكل القيم والمفاهيم والعادات
التقليدية أو المشاركة في ذلك بأن يلقي الشخص بنفسه في تيارات الظواهر
المعاصرة ، وإن يستخدم حساسية الدرامية التي تتميز بزيادة المرارة في
الشعور ، يستخدمها من أجل أن يخلق منها فنا وأدبا ، لذلك نرى أن الدعوة إلى
العصرية بهذا المفهوم لم تعمر طويلا وعاد بعدها العصريون إلى تراث المجتمع
وتقاليده وعاداته ، لأن المعرفة قد وفقت على نحو غلاب بينهم وبين ما بصقوا
عليه ، ناهيك عن الطبيعة السياسية لعصرنا الحاضر التي تحول دون تقوقع
الفرد وانعزاله عن المجتمع .
وخلاصة القول أن العصرية بالمفهومين السابقين قد أخفقت في تحقيق
أهدافها في الأعمال الأدبية ، وذلك لأن العصرية بالمفهوم الأول كانت شكلية
بحته ولم تتغلغل في أجزاء العمل الفني ذاته ، وأما العصرية بالمفهوم الثاني
فقد كانت ناقصة بمعنى أنها كانت مجردة من التراث وحاولت أن تنمو في تربة
جديدة خلت من كل مقومات الماضي
غير أن فشل العصرية بمفهوميها لا يؤثر من قريب أو بعيد تأثيرا بالغا
على مستقبل حركة التجديد القائمة اليوم في الشعر العربي لأن هذه الحركة
تأخذ من العصرية مزاياها ، ولا تلتزم بمجملها ، فحركة التجديد الآنية في
شعرنا العربي لم تتورط في أخطاء العصرية المطلقة ، فهي لم تسقط الزمن
الماضي وما فيه من تراث من حسابها ولم تبتر الحاضر عن الماضي والمستقبل
وإنما هي قد أكدت مدى أهمية التزاوج بين الحاضر والماضي والتلاحم بين
الواقع المكتسب والتاريخ الموروث .
ومن هذا المنطلق تبدو المفارقة العجيبة كما يذكر الدكتور عز الدين
إسماعيل بين أن يكون الشاعر عصريا وشديد الاتصال في الوقت نفسه بالتراث ،
وكذلك ينبغي أن تتمثل هذه العلاقة الجدلية بين الشعر المعاصر والتراث
العربي من جانب ن وكذا علاقته بالتراث الإنساني عامة وتعتبر العلاقة بين
المعاصرة والتراث علاقة جدلية لأن الشاعر لا يقبل التراث كله ولا يرفضه كله
وإنما تنشأ بينه وبين التراث علاقة من التفاعل والتجاذب يصفي خلالها
التراث من منظور العصر .
التراث والشعر :
تختلف النظرة إلى المعاصرة والتراث باختلاف المفاهيم والأذواق
والثقافة ونوعيتها والرؤية الصحيحة للعمل الأدبي ، ونحن عندما نتطرق لهذه
القضية لا نريد أن نخوض مع الخائضين في جدليتها التي عايشناها منذ ظهور
محاولات التجديد المبكرة على أيدي بعض الشعراء العرب بدءا بابي نواس
وانتهاء بشعراء الحداثة .
لقد أخذت هذه القضية أكثر من إبعادها الحقيقية وتضخمت حتى أصبح لكل
من مفهوم المعاصرة والتراث أنصاره ومؤيدوه دارت بينهم المعارك الأدبية
والنقدية على مدار القرون لا لشيء إلا لأنهم يدورون في فلك الجدلية التي
تحاول الانتصار لأحد المفهومين ، ونسي الفريقان أو تناسوا أن التواؤم بين
المفهومين أمر ضروري يفرضه التطور والحكمة التي تمر فيه مسيرة الأجيال
المتتابعة ، فلا يصح أن نتوقع ونغفل ما يدور حولنا من تطور وتقدم وتحظر
بمفهوم هذه الألفاظ الذي لا يصطدم وتراثنا الديني والتاريخي وعاداتنا
وتقاليدنا وقيمنا المتوارثة .
كما لا ينبغي أن نغمض أعيينا ونصم أذاننا عن مورثاتنا التي كانت ولا شك
مصدر عزنا وعطائنا ، لكن الأمر قائم في حد ذاته على الموازنة كمنهج نقدي
كانت من اسبق المناهج النقدية التي عالج من خلالها نقادنا القدامى النص
الشعري واستخدموه في إظهار جماليات العمل الفني ، وهو بهذا المعنى الذي
نستهدف من خلاله الوصول إلى استكناه نوعية القيم الجمالية في إي عمل أدبي
قديما كان أو معاصرا تكون ناجحة ومثمرة وننكرها كما ينكرها أصحاب التذوق
الفني والحضور الواعي عندما يقصد بها الوصول إلى حكم بالأفضلية المطلقة
لأحد الشيئين وهذا ما يغلب اليوم على الأطراف المتحاورة حول التجربة
الجديدة في الشعر العربي ، والتمسك بالتراث ، فقد ظن أنصار التراث أن هذه
الدعوة ما هي إلا حملة مستهدفة للقضاء على التراث الأدبي العربي بعامة
والشعر القديم بخاصة أو هكذا يخيل لفئة من الناس تنسب لنفسها الغيرة على
ذلك التراث وهي في الوقت نفسه لا تدري من قيمة هذه التراث الحقيقية غير
التسمية فحسب .
كما أن هناك بعض المتطفلين على التجربة الشعرية الجديدة كل همهم
أن يقال أنهم مجددون وهم في الحقيقة لم يعوا حقيقة التجديد ولم يسبروا
مكوناتها ونظروا إلى التراث نظرة سطحية واعتبروه دليلا على التخلف ينبغي
التخلص منه أو على الأقل ألا يلتفت إليه أو نعيره بالا ونقول لهؤلاء ما
هكذا يكون مفهوم المعاصرة والتجديد .
ومن هنا توزع الجمهور بين معاصر معاد للتراث وبين ثرائي مستهجن
ورافض لدعوة التجديد ، والأمر جد مختلف لأن نظرة كلا الفريقين لمفهومي
المعاصرة والتراث نظرة خاطئة قائمة على الموازنة غير المنصفة بين الدعوتين ،
أما إذا كانت الموازنة قائمة على أسس فنية صرفة الغرض منها أظهار جماليات
العمل الأدبي قديما كان أو حديثا لا رحنا واسترحنا ، ولذلك فأن العلاقة
القائمة بين الشعر في تجربته الجديدة وبين التراث عامة ليست علاقة عداء ولا
ينبغي أن تكون لأن التغيير والتجديد لا يعني المعاداة بقدر ما يعني
التعبير عن واقع حضاري متجدد ، فإذا كانت التجربة الشعرية الجديدة تختلف في
منحاها الجمالي شكلا ومضمونا عن منحى الشعر القديم فلا ينبغي أن نفهم من
هذا أن أصحاب الشعر الجديد وأنصاره يعادون الشعر القديم وأنصاره أو ينكروه
لأن الشعر الجديد ما هو إلا وليد شرعي لكل ما سبقه من اتجاهات فنية
ومحاولات تجديدية بدأت من أول العصر العباسي ولازمته إلى يومنا هذا ، ومع
ذلك يجب أن ندرك تماما أن قضية التراث وعلاقتنا به لم تكن مصاحبة لقضية
التجربة الشعرية الجديدة ، ولم تظهر بظهورها ولكن كل ما في الأمر أن ظهور
التجربة الجديدة كان دافعا ومحفزا لها ، وذلك عندما وقف الأمر عند حدود
النظرة السطحية غير الواعية لشكل القصيدة الحرة ، وراحت تجد فيها خروجا غير
مألوف على تقاليدنا الشعرية المتوارثة .
وباختصار فإن التجربة الشعرية الجديدة تخلص ـ بما في هذه البنية من
دلالات ـ لروح التراث وإن تمردت على أشكاله وقوالبه وقوافيه ، فالشعر الحر
أو الشعر الجديد أو شعر التفعيلة ـ كما يسميه بعض الباحثين في الأدب
والنقد ـ لم يلغ التراث ولم يلق به جانبا ولم يتخلص منه ـ كما توهم بعضهم ،
بل هو أشد وأوثق ارتباطا والتصاقا به والذي يتجاوز عن قضية الشكل في
القصيدة الحرة ويتأمل هذا اللون من الشعر بعمق واع ووضوح مميز يدرك جليا
مدى تغلغل التراث فيه.
وإذا تتبعنا ديوان شاعرنا الذي نحن بصدد قراءته أدركنا نوعية
العلاقة التي تربط الشاعر المعاصر بالتراث العربي خاصة والإنساني عامة ،
وسوف يتضح لنا من خلال النماذج التي سنسوقها ـ كشواهد على صحة ما ذكرنا ـ
أن علاقة الشاعر المعاصر بهذا التراث هي علاقة استيعاب وتفهم وإدراك واع
للمعنى الإنساني والتاريخي للتراث ، وليس بحال من الأحوال علاقة تأثر صرف
واحتذاء وتقليد .
وعلى ضوء التنظير السابق ستكون قراءتنا النقدية في ديوان الشاعر
الدكتور محمد العيد الخطراوي وبعد استقراء كثير من قصائد الديوان يستبين
لنا أن مصادره التراثية تتوزع بين القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف
والمرويات والتراث الشعبي والمواقف التاريخية والشخصيات الإنسانية والقادة
الإسلاميين والمواقع الحربية والرموز الأسطورية ، ونظرا لاتساع الموضوع
ومراعاة لظروف النشر سنقسم الدراسة إلى حلقتين اثنتين الحلقة الأولى تشتمل
على التراث القرآني والحديث النبوي والباقي سوف نفرد له الحاقة الثانية حتى
تكون الدراسة وافية وأكثر شمولية بإذن الله .
القرآن الكريم :
لقد استغل الشاعر بعض آيات القرآن الكريم في خطابة الشعري سواء كان هذا الاستغلال صريحا أو تلميحا .
فالاستغلال الصريح لأي القرآن الكريم وهو ما يعرف بالاقتباس المحض يتجلى في قوله من قصيدة " موشح في فندق للبيع "
<blockquote class="spip_poesie">ولو أن أهل القرى أمنوا
لأمطرت السحب منا وسلوى
وعاد إلى النبع صوت الرعاة
وعاد إلينا الظلال
وكل الأغاني التي غالها الجدب
أوهنا العدو
ماتت على الطرقات
كنبض الحروف بقلب الحبارى
غابت كما القطر في ظما الرمل
أفضت للاشيء عبر الفضاء .
</blockquote>
ففي الجملة الشعرية السابقة نرى كيف وظف الشاعر بحسه الشعوري
المتدفق الآية القرآنية الصحيحة التي يقول فيها الله عز وجل
" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "
وظفها للتعبير عن القلق النفسي والإحباط المعنوي الذي أصاب الشاعر بسبب
انصراف الناس عن سبيل الإيمان الكامل الصحيح وإمعانهم في طغيانهم فهو بهذا
الاستحضار الديني يحاول أن يعيد إلى نفسه شعاعا من الإيمان ، ذلك الإيمان
الذي افتقده في قلوب الآخرين الذين صرفتهم الحياة الدنيا وزينتها عن التطلع
إلى الدار الآخرة .
فالشاعر مما لا شك فيه يعاني من أزمة نفسية خاصة لم تفتأ تستحوز على
نفسه وتعشش في دواخله ، هذه الأزمة التي تتعلق بالبعد عن مسار العقيدة
الصحيحة وانطفاء الشعاع الروحي من نفوس الناس واضمحلال الوازع الديني في
قلوبهم لذلك وجدت الآية القرآنية السابقة طريقها إلى نفس الشاعر وارتبطت
بوساطة البعد الشعوري لديه بأزمته الراهنة المتولدة كما ذكرت عن ذلك الجدب
الروحي الذي لم ينفك يعتري نفوس البشر .
ثم استمع إليه في جملة شعرية أخرى من ذات القصيدة :
<blockquote class="spip_poesie">ولو آمنوا لاستقر اختلاج الصحاري وخفق الجبال
وغور البحار وهمس الشجر
وحنت إلى الجذع أثماره
وتاقت إلى الطير أوكاره
إلى أن يقول :
ولو أنهم آمنوا
لأغدقت الأرض
بواد لبن
وواد عسل
وواد طموح يباري النجوم
</blockquote>
ففي الجملتين السابقتين نلمس أيضا صدى تلك الآية الكريمة في نفس
الشاعر وقد اتخذت بعدا نفسيا آخرا إلى قلبه ونفسه فهو يكرر الدعوة إلى
الإيمان لأنه بهذا الإيمان يتحقق الحلم ، يتحقق كل شيء يصبو إليه الشاعر
ويتوق إلى تحقيقه ، وبهذا الإيمان تثمر الحياة وتعود بكل دلالتها إلى
الصحراء والجبال والأشجار ، بل لو تحقق إيمان أهل القرى لعاشوا عيشة رغدة
هانئة ، ولكن هيهات فإن الحلم لم يتحقق وأني له أن يتحقق في ظل هذه الغفلة
الجاثمة على نفوس الناس ، وتلك سنة الله في خلقه ، وقد أكد الشاعر هذا
الكفر في قوله :
<blockquote class="spip_poesie">ولكنهم كفروا بالبداية
فزلزلت الأرض زلزالها
وأخرج ربي أثقالها
وأن الفناء طريق البقاء
</blockquote>
وفي هذا المقطع الأخير من الخطاب الشعري ندرك كيف استطاع الشاعر أن
يوظف النص القرآني في خطابه للتدليل على كفر هؤلاء قبلا فكانت العاقبة
فزلزل بهم الأرض ، وما هذا إلا دلالة على قرب النهاية .
ثم نلمس أيضا كيف تمكن الشاعر من الربط الوثيق بين الحياة والموت بين
الفناء والبقاء وأن الفناء هو الطريق الموصل إلى حياة جديدة مبرأة من دنس
الكفر .
وفي هذا الإيحاء التراثي من القرآن الكريم بلفظه دلالة أكيدة على أن
الشاعر المعاصر لا يزال وسيبقى على اتصال حميم بتراثه وما ذكرناه آنفا ما
هي إلا ظواهر القصيدة ، إنها الحركة السائدة فوق خضم الرموز والمعاني
وسحرها الدائم كامن في هذه الرموز وهذه المعاني .
أما توظيف الشاعر واستغلاله للقرآن الكريم في خطابة الشعري عن طريق
التلميح واستيحاء المعاني نجده كثيرا ومبعثرا بين ثنايا القصائد ويمكننا أن
نشير إلى بعض من هذا كما في قوله :
<blockquote class="spip_poesie">لبهم يمزقها الجوع
لم تطعم العشب
طول السنين العجاف
</blockquote>
فقد استوحاه من قوله تعالى " يوسف أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " .
<blockquote class="spip_poesie">لقد جئتكم ومعي ورق
أريد طعاما
أداري به سورة الجوع
ارسم وجهي بباب المدينة
وأكتب أسمي على الطرقات احتجاجا
وانقل خطوي اختلاسا
يسابقني الخوف
من عسس الليل
</blockquote>
فقد استوحى الشاعر جملة الشعرية من قوله تعالى : ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ) . .
وفي قوله :
<blockquote class="spip_poesie">رفاقي هناك
أشاروا عليّ بأن أتلطف
أن أتنكر خوف اللئام
لاقتنص الشمس عند الغروب
وأودعها في حنايا الوصيد
</blockquote>
فقد استوحاه من قوله تعالى : ( وليتلطف ولا يشعرن بكم أحد ) وقوله تعالى : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) .
وفي قوله تعالى :
وكيف علم الآلة آدم الأسماء
فكانت الكلم
والعرش فوق الماء
وكانت الكلم
والعرش في السماء
فقد استوحاه من قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) .
ومن الإيحاءات السابقة لمعاني القرآن الكريم ندرك أمرين فاعلين
الأول : يكمن في حضور الوعي المعرفي بالتراث الديني والقدرة الفائقة على
توظيفه توظيفا جيدا في عصب الخطاب الشعري ، والثاني : نلمحه في سيطرة
الشاعر على التوفيق بين الحضور المعرفي وترجمته بأحاسيسه ومشاعره إلى رموز
ذات معان تعكس معاناة الشاعر وهمومه
الحديث النبوي الشريف :
لم يكن استحضار الشاعر للحديث النبوي الشريف وتوظيفه في الخطاب الشعري
بأقل أهمية عن القرآن الكريم ، فقد أفاد منه الشاعر كثيرا وأستغله استغلالا
موفقا ، ومن تتبعنا لقصائد الديوان لمسنا الكثير من المواضع التي استوحى
فيها الشاعر الحديث النبوي الشريف ، وإن لم يكن هذا الاستيحاء باللفظ إلا
أنه مدرك في سياق النصوص ،
استمع إليه يقول :
<blockquote class="spip_poesie">أفضل إنهاء باقي الرسالة دون سلام
فقد بت أجهل معنى السلام
وانتظر " الغرقدا "
سأسأل عنه الحجر
سأسأل عنه الحجر
</blockquote>
لقد استقى الشاعر جملة الشعرية السابقة من قول الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود حتى يختبئ
اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي
تعال فاقتله ، ألا شجر الغرقد فأنه من شجر اليهود " .
ومن خلال التوظيف السابق للحديث النبوي الشريف في النص الشعري نلاحظ
كيف وفق الشاعر في الربط بين الموروث التاريخي المتمثل في مكر اليهود
ومكائدهم للإسلام والمسلمين ، وبين الحاضر المترجم لهذا التاريخ ، فاليهود
كانوا وما يزالون يسيطرون بدهائهم وحيلهم على رموز القوة في العالم ، لذلك
نجد أن الشاعر فد أدرك أنه لا جدوى من مواصلة الحوار مع هذه الفئة التي
حاولت دائما أن تقضي على السلام بمراوغتها وتفننها في وأده والتخلص منه حتى
غدا معنى السلام أمرا يجهله العالم ومنهم شاعرنا ، غير أن ما يزال يداعبه
بريق من أمل في مجيء اليوم الذي ستدور فيه الدائرة على اليهود ، لذا نسمعه
يقول :
<blockquote class="spip_poesie">سيأتي غدا . . سيأتي غدا
وفي قوله :
وقلت أيا رب . . هبنا عصاة
وهبنا جناة
وجئناك شعتا
منيبين نبكي
ألا نستحق رضاك .
</blockquote>
لقد استوحى الشاغر معنى الجملة الشعرية السابقة من قول الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم " رب أشعث أغبر مدفوع الأبواب لو أقسم على الله
لأبره " .
ولم يكن توظيف الشاعر للحديث السابق بمعناه وليد المصادفة ، بل هو
انعكاس لما أثقلت به دواخله من هموم ومآس وآلام وأحزان ، فالشاعر وإن كان
يجيد من المداراة بالبسمة التي ترتسم أحيانا على شفتيه إلا أنه يخفي خلفها
سحبا مظلمة من الأسى والهم ، لذلك نجده يريد التفكير عما تهجس به النفس
فلجأ إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه السابق ليطمئن الروح بأن
الله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ، والذي يؤكد لنا معاناة الشاعر وألمه
وهمومه قوله من نفس القصيدة :
<blockquote class="spip_poesie">وفي اللهب الحاقد المستبد
يسير جوادي وئيدا
ويكبو ببحر الرمال
ولا ماء .. لا ظل .. لا عشب
لا من أنيس
سوى القحط والوهم والموت
ثم يقول :
تجف الضروع
تموت الروح
تهاجر كل الطيور
ويبكي ظفائره الطلح
فيا للبكا ويا للغثا .. ويا للعواء .. ويا لا .. ويا . .
</blockquote>
وسواء أكان ألم الشاعر وهمومه مبعثة الذات نفسها ، أو هو انعكاس
لآلام الناس وهمومهم ، فإن الشاعر استطاع أن يعبر عن هذه الشحنة النفسية
تعبيرا صادقا متفجرا من مشاعر وأحاسيس مكلومة جعلته يبكي ويبكي إلى مالا
نهاية كما وضح ذلك من سطره الشعري الأخير .
أما قوله :
<blockquote class="spip_poesie">والكاهن يبحث عن قمقم
عن مبخرة هندية
عن ورد بكر لم يطمث
عن منسأة مصنوعة
من صر الصخر
تهزأ من ديدان الأرض
وعلى جنبيها " آصف " يكتب تعويذه
ويتمتم ألفاظا غرلا .
</blockquote>
والذي أتصوره أن توظيف الشاعر لكلمة " غرلا " التي وردت في الحديث
الشريف السابق لم يكن من قبيل الدلالة المعجمية فهي تعني جلدة " ذكر "
الصبي التي تقطع في الختان ، كما تعني الخصب واتساع العيش ، غير أنها في
بناء الخطاب الشعري السابق قد تعني الإبهام وعدم الفهم أي أنه يتمتم بألفاظ
غير مفهومة ، وبهذا المعنى تكون العلاقة بين دلالة البنية التي وظفها
الشاعر في خطابه وبين دلالتها في الحديث النبوي الشريف قريبة الصلة ببعضها
بعضا " فالغرل " جمع أغرل نقول : هو أغرل وهي غرلاء ـ كما ورد في المعجم
الوسيط ـ وهذه الغرلة تقطع عند الختان فينتج عنها نقص عند الإنسان فإذا ما
حشر الله الناس يوم القيامة أعاد لكل إنسان ما انتقص منه ، ومن هنا ندرك
التوافق بين المعنيين فالألفاظ الغرل تعني الألفاظ الناقصة الدلالة والتي
لا يفهمها السامع فهي مجرد رموز يتمتم بها .
الخطاب الشعري بين المعاصرة والتراث
٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧بقلم مسعد محمد زياد
مدخل تنظيري بين المعاصرة والتراث
تعودنا في دراستنا النقدية لأي عمل أدبي أن ننصب الدراسة على
النواحي الفنية لذلك العمل سواء فيما يتعلق بالشكل أو المضمون ليس غير ،
كأن نتحدث مثلا عن تجربة الشاعر الفنية أو الشخصية أو عن خياله الشعري أو
عواطفه أو عن منهج القصيدة ولغتها وبنائيتها وما إلى ذلك مما يتصل بفنيات
الخطاب الشعري .
غير أننا في هذه القراءة النقدية لديوان د.محمد الخطراوي ستكون
دراستنا مغايرة إلى حد ما لما ألفنا من دراسات ولا أظنها جديدة كل الجدة
على النقاد ودارسي الأدب ، ولكنها غير متداولة أو مطروحة كثيرا على الساحة
النقدية ، أو قد لا يوليها بعضهم اهتماما لأنها في نظرهم لا تتغلغل في
فنيات العمل الأدبي كما ينبغي ، وهذه الدراسة تدور حول مفهوم المعاصرة
والتراث في الخطاب الشعري ومدى تأثير الشاعر بالتراث العربي الإسلامي خاصة
والإنساني عامة ومظاهر هذا التأثير في ديوانه الآنف .
وقبل أن نبدأ القراءة وتحليل النصوص نود أن نقدم له بشيء من
الإيجاز حول مفهوم المعاصرة والتراث في الأدب العربي وما دار ويدور حول هذه
القضية من جدلية بين جمهور الدارسين والمتلقين على حد سواء .
المعاصرة والشعر:
حاول الدكتور زكي نجيب محمود تفهم معنى العصرية في الشعر من حيث هو
أساس لاتجاه التجديد المعاصر فرأى أن جميع الشعراء الذين يعيشون بيننا
عصريون لسبب بسيط هو أنهم أبناء هذه العصر .
ولكننا نرى كما يرى غيرنا أنه ليس بالضرورة دائما أن يكون الجديد عصريا
إلا في ظروف بعينها فلو تناولنا الشعر كجنس من أجناس الأدب ليكون أنموذجا
لحركة التجديد المعاصرة فقد يكون جديدا في شكله وإن تغلغل فيه نبض القديم
وروحه وقد يتصادف ـ وهذا كثير ـ أن يكون الشعر في تجربته الجديدة أعنى
الشعر الحر أو ما يعرف بشعر التفعيلة مجرد احتذاء وتقليد للنماذج الجيدة
والأصيلة لا يتجاوز الشكل أو الظاهر بينما يخلو في فنياته الخاصة من
التجديد .
ومن خلال التصور السابق يمكننا أن ندرك نمطين من العصرية كليهما
بعيد عن التصور السليم للعصرية كما يقول الدكتور عز الدين إسماعيل " النمط
الأول هو ذلك الذي يتمثل فيما نسميه النظرة السطحية لمعنى العصرية حيث نجد
الشاعر يتحدث عن مبتكرات عصره ، ومخترعاته ، ظنا منه أنه يمثل عصره ويشارك
فيه ، والحقيقة أنه بذلك أنما يعيش على هامشه ويمثل هذه النمطية دعوة أبي
نواس للتجديد وذلك بترك المقدمة الطللية ، والتحدث عن حانات العصر ، وكذا
دعوة أحمد شوقي للتجديد في مطلع العصر الحديث بوصفة للمخترعات الحديثة
كالطيارة والغواصة ..إلخ .
والنمط الثاني يتمثل في الدعوة المغالية التي تدعو إلى العصرية
المطلقة والتي توشك أن تنفصل نهائيا عن التراث وقد دعا لهذا النوع من
العصرية المطلقة الشاعر الفرنسي " راميو " تلك الدعوة التي تتمثل في أن
يظهر من خلال الفنون شعور بالظواهر المعاصرة كالآلة والمدينة الصناعية
والسلوك العصابي وما إلى ذلك .
غير أن الدعوة إلى العصرية بهذا التطرف الذي نادى به " رامبو "
يعني أنه ذاك التسليم بالفساد التام لكل القيم والمفاهيم والعادات
التقليدية أو المشاركة في ذلك بأن يلقي الشخص بنفسه في تيارات الظواهر
المعاصرة ، وإن يستخدم حساسية الدرامية التي تتميز بزيادة المرارة في
الشعور ، يستخدمها من أجل أن يخلق منها فنا وأدبا ، لذلك نرى أن الدعوة إلى
العصرية بهذا المفهوم لم تعمر طويلا وعاد بعدها العصريون إلى تراث المجتمع
وتقاليده وعاداته ، لأن المعرفة قد وفقت على نحو غلاب بينهم وبين ما بصقوا
عليه ، ناهيك عن الطبيعة السياسية لعصرنا الحاضر التي تحول دون تقوقع
الفرد وانعزاله عن المجتمع .
وخلاصة القول أن العصرية بالمفهومين السابقين قد أخفقت في تحقيق
أهدافها في الأعمال الأدبية ، وذلك لأن العصرية بالمفهوم الأول كانت شكلية
بحته ولم تتغلغل في أجزاء العمل الفني ذاته ، وأما العصرية بالمفهوم الثاني
فقد كانت ناقصة بمعنى أنها كانت مجردة من التراث وحاولت أن تنمو في تربة
جديدة خلت من كل مقومات الماضي
غير أن فشل العصرية بمفهوميها لا يؤثر من قريب أو بعيد تأثيرا بالغا
على مستقبل حركة التجديد القائمة اليوم في الشعر العربي لأن هذه الحركة
تأخذ من العصرية مزاياها ، ولا تلتزم بمجملها ، فحركة التجديد الآنية في
شعرنا العربي لم تتورط في أخطاء العصرية المطلقة ، فهي لم تسقط الزمن
الماضي وما فيه من تراث من حسابها ولم تبتر الحاضر عن الماضي والمستقبل
وإنما هي قد أكدت مدى أهمية التزاوج بين الحاضر والماضي والتلاحم بين
الواقع المكتسب والتاريخ الموروث .
ومن هذا المنطلق تبدو المفارقة العجيبة كما يذكر الدكتور عز الدين
إسماعيل بين أن يكون الشاعر عصريا وشديد الاتصال في الوقت نفسه بالتراث ،
وكذلك ينبغي أن تتمثل هذه العلاقة الجدلية بين الشعر المعاصر والتراث
العربي من جانب ن وكذا علاقته بالتراث الإنساني عامة وتعتبر العلاقة بين
المعاصرة والتراث علاقة جدلية لأن الشاعر لا يقبل التراث كله ولا يرفضه كله
وإنما تنشأ بينه وبين التراث علاقة من التفاعل والتجاذب يصفي خلالها
التراث من منظور العصر .
التراث والشعر :
تختلف النظرة إلى المعاصرة والتراث باختلاف المفاهيم والأذواق
والثقافة ونوعيتها والرؤية الصحيحة للعمل الأدبي ، ونحن عندما نتطرق لهذه
القضية لا نريد أن نخوض مع الخائضين في جدليتها التي عايشناها منذ ظهور
محاولات التجديد المبكرة على أيدي بعض الشعراء العرب بدءا بابي نواس
وانتهاء بشعراء الحداثة .
لقد أخذت هذه القضية أكثر من إبعادها الحقيقية وتضخمت حتى أصبح لكل
من مفهوم المعاصرة والتراث أنصاره ومؤيدوه دارت بينهم المعارك الأدبية
والنقدية على مدار القرون لا لشيء إلا لأنهم يدورون في فلك الجدلية التي
تحاول الانتصار لأحد المفهومين ، ونسي الفريقان أو تناسوا أن التواؤم بين
المفهومين أمر ضروري يفرضه التطور والحكمة التي تمر فيه مسيرة الأجيال
المتتابعة ، فلا يصح أن نتوقع ونغفل ما يدور حولنا من تطور وتقدم وتحظر
بمفهوم هذه الألفاظ الذي لا يصطدم وتراثنا الديني والتاريخي وعاداتنا
وتقاليدنا وقيمنا المتوارثة .
كما لا ينبغي أن نغمض أعيينا ونصم أذاننا عن مورثاتنا التي كانت ولا شك
مصدر عزنا وعطائنا ، لكن الأمر قائم في حد ذاته على الموازنة كمنهج نقدي
كانت من اسبق المناهج النقدية التي عالج من خلالها نقادنا القدامى النص
الشعري واستخدموه في إظهار جماليات العمل الفني ، وهو بهذا المعنى الذي
نستهدف من خلاله الوصول إلى استكناه نوعية القيم الجمالية في إي عمل أدبي
قديما كان أو معاصرا تكون ناجحة ومثمرة وننكرها كما ينكرها أصحاب التذوق
الفني والحضور الواعي عندما يقصد بها الوصول إلى حكم بالأفضلية المطلقة
لأحد الشيئين وهذا ما يغلب اليوم على الأطراف المتحاورة حول التجربة
الجديدة في الشعر العربي ، والتمسك بالتراث ، فقد ظن أنصار التراث أن هذه
الدعوة ما هي إلا حملة مستهدفة للقضاء على التراث الأدبي العربي بعامة
والشعر القديم بخاصة أو هكذا يخيل لفئة من الناس تنسب لنفسها الغيرة على
ذلك التراث وهي في الوقت نفسه لا تدري من قيمة هذه التراث الحقيقية غير
التسمية فحسب .
كما أن هناك بعض المتطفلين على التجربة الشعرية الجديدة كل همهم
أن يقال أنهم مجددون وهم في الحقيقة لم يعوا حقيقة التجديد ولم يسبروا
مكوناتها ونظروا إلى التراث نظرة سطحية واعتبروه دليلا على التخلف ينبغي
التخلص منه أو على الأقل ألا يلتفت إليه أو نعيره بالا ونقول لهؤلاء ما
هكذا يكون مفهوم المعاصرة والتجديد .
ومن هنا توزع الجمهور بين معاصر معاد للتراث وبين ثرائي مستهجن
ورافض لدعوة التجديد ، والأمر جد مختلف لأن نظرة كلا الفريقين لمفهومي
المعاصرة والتراث نظرة خاطئة قائمة على الموازنة غير المنصفة بين الدعوتين ،
أما إذا كانت الموازنة قائمة على أسس فنية صرفة الغرض منها أظهار جماليات
العمل الأدبي قديما كان أو حديثا لا رحنا واسترحنا ، ولذلك فأن العلاقة
القائمة بين الشعر في تجربته الجديدة وبين التراث عامة ليست علاقة عداء ولا
ينبغي أن تكون لأن التغيير والتجديد لا يعني المعاداة بقدر ما يعني
التعبير عن واقع حضاري متجدد ، فإذا كانت التجربة الشعرية الجديدة تختلف في
منحاها الجمالي شكلا ومضمونا عن منحى الشعر القديم فلا ينبغي أن نفهم من
هذا أن أصحاب الشعر الجديد وأنصاره يعادون الشعر القديم وأنصاره أو ينكروه
لأن الشعر الجديد ما هو إلا وليد شرعي لكل ما سبقه من اتجاهات فنية
ومحاولات تجديدية بدأت من أول العصر العباسي ولازمته إلى يومنا هذا ، ومع
ذلك يجب أن ندرك تماما أن قضية التراث وعلاقتنا به لم تكن مصاحبة لقضية
التجربة الشعرية الجديدة ، ولم تظهر بظهورها ولكن كل ما في الأمر أن ظهور
التجربة الجديدة كان دافعا ومحفزا لها ، وذلك عندما وقف الأمر عند حدود
النظرة السطحية غير الواعية لشكل القصيدة الحرة ، وراحت تجد فيها خروجا غير
مألوف على تقاليدنا الشعرية المتوارثة .
وباختصار فإن التجربة الشعرية الجديدة تخلص ـ بما في هذه البنية من
دلالات ـ لروح التراث وإن تمردت على أشكاله وقوالبه وقوافيه ، فالشعر الحر
أو الشعر الجديد أو شعر التفعيلة ـ كما يسميه بعض الباحثين في الأدب
والنقد ـ لم يلغ التراث ولم يلق به جانبا ولم يتخلص منه ـ كما توهم بعضهم ،
بل هو أشد وأوثق ارتباطا والتصاقا به والذي يتجاوز عن قضية الشكل في
القصيدة الحرة ويتأمل هذا اللون من الشعر بعمق واع ووضوح مميز يدرك جليا
مدى تغلغل التراث فيه.
وإذا تتبعنا ديوان شاعرنا الذي نحن بصدد قراءته أدركنا نوعية
العلاقة التي تربط الشاعر المعاصر بالتراث العربي خاصة والإنساني عامة ،
وسوف يتضح لنا من خلال النماذج التي سنسوقها ـ كشواهد على صحة ما ذكرنا ـ
أن علاقة الشاعر المعاصر بهذا التراث هي علاقة استيعاب وتفهم وإدراك واع
للمعنى الإنساني والتاريخي للتراث ، وليس بحال من الأحوال علاقة تأثر صرف
واحتذاء وتقليد .
وعلى ضوء التنظير السابق ستكون قراءتنا النقدية في ديوان الشاعر
الدكتور محمد العيد الخطراوي وبعد استقراء كثير من قصائد الديوان يستبين
لنا أن مصادره التراثية تتوزع بين القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف
والمرويات والتراث الشعبي والمواقف التاريخية والشخصيات الإنسانية والقادة
الإسلاميين والمواقع الحربية والرموز الأسطورية ، ونظرا لاتساع الموضوع
ومراعاة لظروف النشر سنقسم الدراسة إلى حلقتين اثنتين الحلقة الأولى تشتمل
على التراث القرآني والحديث النبوي والباقي سوف نفرد له الحاقة الثانية حتى
تكون الدراسة وافية وأكثر شمولية بإذن الله .
القرآن الكريم :
لقد استغل الشاعر بعض آيات القرآن الكريم في خطابة الشعري سواء كان هذا الاستغلال صريحا أو تلميحا .
فالاستغلال الصريح لأي القرآن الكريم وهو ما يعرف بالاقتباس المحض يتجلى في قوله من قصيدة " موشح في فندق للبيع "
<blockquote class="spip_poesie">ولو أن أهل القرى أمنوا
لأمطرت السحب منا وسلوى
وعاد إلى النبع صوت الرعاة
وعاد إلينا الظلال
وكل الأغاني التي غالها الجدب
أوهنا العدو
ماتت على الطرقات
كنبض الحروف بقلب الحبارى
غابت كما القطر في ظما الرمل
أفضت للاشيء عبر الفضاء .
</blockquote>
ففي الجملة الشعرية السابقة نرى كيف وظف الشاعر بحسه الشعوري
المتدفق الآية القرآنية الصحيحة التي يقول فيها الله عز وجل
" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض "
وظفها للتعبير عن القلق النفسي والإحباط المعنوي الذي أصاب الشاعر بسبب
انصراف الناس عن سبيل الإيمان الكامل الصحيح وإمعانهم في طغيانهم فهو بهذا
الاستحضار الديني يحاول أن يعيد إلى نفسه شعاعا من الإيمان ، ذلك الإيمان
الذي افتقده في قلوب الآخرين الذين صرفتهم الحياة الدنيا وزينتها عن التطلع
إلى الدار الآخرة .
فالشاعر مما لا شك فيه يعاني من أزمة نفسية خاصة لم تفتأ تستحوز على
نفسه وتعشش في دواخله ، هذه الأزمة التي تتعلق بالبعد عن مسار العقيدة
الصحيحة وانطفاء الشعاع الروحي من نفوس الناس واضمحلال الوازع الديني في
قلوبهم لذلك وجدت الآية القرآنية السابقة طريقها إلى نفس الشاعر وارتبطت
بوساطة البعد الشعوري لديه بأزمته الراهنة المتولدة كما ذكرت عن ذلك الجدب
الروحي الذي لم ينفك يعتري نفوس البشر .
ثم استمع إليه في جملة شعرية أخرى من ذات القصيدة :
<blockquote class="spip_poesie">ولو آمنوا لاستقر اختلاج الصحاري وخفق الجبال
وغور البحار وهمس الشجر
وحنت إلى الجذع أثماره
وتاقت إلى الطير أوكاره
إلى أن يقول :
ولو أنهم آمنوا
لأغدقت الأرض
بواد لبن
وواد عسل
وواد طموح يباري النجوم
</blockquote>
ففي الجملتين السابقتين نلمس أيضا صدى تلك الآية الكريمة في نفس
الشاعر وقد اتخذت بعدا نفسيا آخرا إلى قلبه ونفسه فهو يكرر الدعوة إلى
الإيمان لأنه بهذا الإيمان يتحقق الحلم ، يتحقق كل شيء يصبو إليه الشاعر
ويتوق إلى تحقيقه ، وبهذا الإيمان تثمر الحياة وتعود بكل دلالتها إلى
الصحراء والجبال والأشجار ، بل لو تحقق إيمان أهل القرى لعاشوا عيشة رغدة
هانئة ، ولكن هيهات فإن الحلم لم يتحقق وأني له أن يتحقق في ظل هذه الغفلة
الجاثمة على نفوس الناس ، وتلك سنة الله في خلقه ، وقد أكد الشاعر هذا
الكفر في قوله :
<blockquote class="spip_poesie">ولكنهم كفروا بالبداية
فزلزلت الأرض زلزالها
وأخرج ربي أثقالها
وأن الفناء طريق البقاء
</blockquote>
وفي هذا المقطع الأخير من الخطاب الشعري ندرك كيف استطاع الشاعر أن
يوظف النص القرآني في خطابه للتدليل على كفر هؤلاء قبلا فكانت العاقبة
فزلزل بهم الأرض ، وما هذا إلا دلالة على قرب النهاية .
ثم نلمس أيضا كيف تمكن الشاعر من الربط الوثيق بين الحياة والموت بين
الفناء والبقاء وأن الفناء هو الطريق الموصل إلى حياة جديدة مبرأة من دنس
الكفر .
وفي هذا الإيحاء التراثي من القرآن الكريم بلفظه دلالة أكيدة على أن
الشاعر المعاصر لا يزال وسيبقى على اتصال حميم بتراثه وما ذكرناه آنفا ما
هي إلا ظواهر القصيدة ، إنها الحركة السائدة فوق خضم الرموز والمعاني
وسحرها الدائم كامن في هذه الرموز وهذه المعاني .
أما توظيف الشاعر واستغلاله للقرآن الكريم في خطابة الشعري عن طريق
التلميح واستيحاء المعاني نجده كثيرا ومبعثرا بين ثنايا القصائد ويمكننا أن
نشير إلى بعض من هذا كما في قوله :
<blockquote class="spip_poesie">لبهم يمزقها الجوع
لم تطعم العشب
طول السنين العجاف
</blockquote>
فقد استوحاه من قوله تعالى " يوسف أيها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " .
<blockquote class="spip_poesie">لقد جئتكم ومعي ورق
أريد طعاما
أداري به سورة الجوع
ارسم وجهي بباب المدينة
وأكتب أسمي على الطرقات احتجاجا
وانقل خطوي اختلاسا
يسابقني الخوف
من عسس الليل
</blockquote>
فقد استوحى الشاعر جملة الشعرية من قوله تعالى : ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ) . .
وفي قوله :
<blockquote class="spip_poesie">رفاقي هناك
أشاروا عليّ بأن أتلطف
أن أتنكر خوف اللئام
لاقتنص الشمس عند الغروب
وأودعها في حنايا الوصيد
</blockquote>
فقد استوحاه من قوله تعالى : ( وليتلطف ولا يشعرن بكم أحد ) وقوله تعالى : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) .
وفي قوله تعالى :
وكيف علم الآلة آدم الأسماء
فكانت الكلم
والعرش فوق الماء
وكانت الكلم
والعرش في السماء
فقد استوحاه من قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) .
ومن الإيحاءات السابقة لمعاني القرآن الكريم ندرك أمرين فاعلين
الأول : يكمن في حضور الوعي المعرفي بالتراث الديني والقدرة الفائقة على
توظيفه توظيفا جيدا في عصب الخطاب الشعري ، والثاني : نلمحه في سيطرة
الشاعر على التوفيق بين الحضور المعرفي وترجمته بأحاسيسه ومشاعره إلى رموز
ذات معان تعكس معاناة الشاعر وهمومه
الحديث النبوي الشريف :
لم يكن استحضار الشاعر للحديث النبوي الشريف وتوظيفه في الخطاب الشعري
بأقل أهمية عن القرآن الكريم ، فقد أفاد منه الشاعر كثيرا وأستغله استغلالا
موفقا ، ومن تتبعنا لقصائد الديوان لمسنا الكثير من المواضع التي استوحى
فيها الشاعر الحديث النبوي الشريف ، وإن لم يكن هذا الاستيحاء باللفظ إلا
أنه مدرك في سياق النصوص ،
استمع إليه يقول :
<blockquote class="spip_poesie">أفضل إنهاء باقي الرسالة دون سلام
فقد بت أجهل معنى السلام
وانتظر " الغرقدا "
سأسأل عنه الحجر
سأسأل عنه الحجر
</blockquote>
لقد استقى الشاعر جملة الشعرية السابقة من قول الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود حتى يختبئ
اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي
تعال فاقتله ، ألا شجر الغرقد فأنه من شجر اليهود " .
ومن خلال التوظيف السابق للحديث النبوي الشريف في النص الشعري نلاحظ
كيف وفق الشاعر في الربط بين الموروث التاريخي المتمثل في مكر اليهود
ومكائدهم للإسلام والمسلمين ، وبين الحاضر المترجم لهذا التاريخ ، فاليهود
كانوا وما يزالون يسيطرون بدهائهم وحيلهم على رموز القوة في العالم ، لذلك
نجد أن الشاعر فد أدرك أنه لا جدوى من مواصلة الحوار مع هذه الفئة التي
حاولت دائما أن تقضي على السلام بمراوغتها وتفننها في وأده والتخلص منه حتى
غدا معنى السلام أمرا يجهله العالم ومنهم شاعرنا ، غير أن ما يزال يداعبه
بريق من أمل في مجيء اليوم الذي ستدور فيه الدائرة على اليهود ، لذا نسمعه
يقول :
<blockquote class="spip_poesie">سيأتي غدا . . سيأتي غدا
وفي قوله :
وقلت أيا رب . . هبنا عصاة
وهبنا جناة
وجئناك شعتا
منيبين نبكي
ألا نستحق رضاك .
</blockquote>
لقد استوحى الشاغر معنى الجملة الشعرية السابقة من قول الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم " رب أشعث أغبر مدفوع الأبواب لو أقسم على الله
لأبره " .
ولم يكن توظيف الشاعر للحديث السابق بمعناه وليد المصادفة ، بل هو
انعكاس لما أثقلت به دواخله من هموم ومآس وآلام وأحزان ، فالشاعر وإن كان
يجيد من المداراة بالبسمة التي ترتسم أحيانا على شفتيه إلا أنه يخفي خلفها
سحبا مظلمة من الأسى والهم ، لذلك نجده يريد التفكير عما تهجس به النفس
فلجأ إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه السابق ليطمئن الروح بأن
الله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ، والذي يؤكد لنا معاناة الشاعر وألمه
وهمومه قوله من نفس القصيدة :
<blockquote class="spip_poesie">وفي اللهب الحاقد المستبد
يسير جوادي وئيدا
ويكبو ببحر الرمال
ولا ماء .. لا ظل .. لا عشب
لا من أنيس
سوى القحط والوهم والموت
ثم يقول :
تجف الضروع
تموت الروح
تهاجر كل الطيور
ويبكي ظفائره الطلح
فيا للبكا ويا للغثا .. ويا للعواء .. ويا لا .. ويا . .
</blockquote>
وسواء أكان ألم الشاعر وهمومه مبعثة الذات نفسها ، أو هو انعكاس
لآلام الناس وهمومهم ، فإن الشاعر استطاع أن يعبر عن هذه الشحنة النفسية
تعبيرا صادقا متفجرا من مشاعر وأحاسيس مكلومة جعلته يبكي ويبكي إلى مالا
نهاية كما وضح ذلك من سطره الشعري الأخير .
أما قوله :
<blockquote class="spip_poesie">والكاهن يبحث عن قمقم
عن مبخرة هندية
عن ورد بكر لم يطمث
عن منسأة مصنوعة
من صر الصخر
تهزأ من ديدان الأرض
وعلى جنبيها " آصف " يكتب تعويذه
ويتمتم ألفاظا غرلا .
</blockquote>
والذي أتصوره أن توظيف الشاعر لكلمة " غرلا " التي وردت في الحديث
الشريف السابق لم يكن من قبيل الدلالة المعجمية فهي تعني جلدة " ذكر "
الصبي التي تقطع في الختان ، كما تعني الخصب واتساع العيش ، غير أنها في
بناء الخطاب الشعري السابق قد تعني الإبهام وعدم الفهم أي أنه يتمتم بألفاظ
غير مفهومة ، وبهذا المعنى تكون العلاقة بين دلالة البنية التي وظفها
الشاعر في خطابه وبين دلالتها في الحديث النبوي الشريف قريبة الصلة ببعضها
بعضا " فالغرل " جمع أغرل نقول : هو أغرل وهي غرلاء ـ كما ورد في المعجم
الوسيط ـ وهذه الغرلة تقطع عند الختان فينتج عنها نقص عند الإنسان فإذا ما
حشر الله الناس يوم القيامة أعاد لكل إنسان ما انتقص منه ، ومن هنا ندرك
التوافق بين المعنيين فالألفاظ الغرل تعني الألفاظ الناقصة الدلالة والتي
لا يفهمها السامع فهي مجرد رموز يتمتم بها .