تحليل الخطاب.. مقدمة للقارئ العربي
١٧تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧، بقلمالدكتور عبد القادر سلامي (http://www.diwanalarab.com/spip.php?auteur159)
تقديم:
مصطلحات كل علم تاليةٌ له في الوجود، وكلّما تقدّم العلم إلاَّ ونمت
مصطلحاته، وتحدَّدت معانيها، ممّا يفرض على العلم حتميَةالرُّجُوع إلى ذاته
لتأمُّلها ومساءلتها بمناقشة تصوُّراته ومصطلحاته،وإذا لم يفعل ذلك
فالتاريخ كفيلٌ بأنْ يقومَ بهذا العمل، ممّا يفضحه أمام ذاته وأمام
الآخرين.
وتسعى هذه المساءلة، التي أحسبها مقدمة للقارئ العربي،إلى استنطاق بعضٍ من
الموروث النقدي والمصطلحي العربي والغربي من منظورمعجمي ودلالي وتنظيري بما
يكفل الوقوف على دلالات: النص والخطاب ومايعتريهما من تداخل وتلازم مع
كلٍّ من التحليل والنّقد والقراءة.هذا وأخشى أن أكون في تقديمي لهذا البحث
مثل الذي آخذه على المشتغلين في حقل الدراسات اللسانية والنقدية من
الاختلاط والتراكم وغياب النّسق، وإذن تكون مداخلتي هذه دليلاً ذاتياً على
الموضوع الذي تتصدّى له، ولا ضَيْر، لأنّ مطلق التصريح بهذا الوعي الذاتي
خطوةً نحوتجاوز هذا الوضع.
أولاُ: بين النص والخطاب:
1-النص:
النّون والصّاد أصل صحيح يدلّ على رَفْعٍ وارتفاعٍ وانتهاء في الشيء.
يقالُ:نصَّ الحديثَ إلى فلان: رَفَعه إليه. والنَّصُّ في السَّيْر
أَرْفَعُه. ومِنَصَّةُ العَرُوس منه أيضاً. وباتً فُلاَنٌ مُنْتَصّاً على
بعيره، أي مُنْتَصِباً. ونَصُّ كلِّ شيء:مُنْتَهاهُ. ونَصَصْتُ الرَّجُلَ:
استقْصَيْتُ مسألتَه عن الشيء حتّى تستخرجَ ما عنده. وهو القياسُ،لأنّك
تبتغي بُلُوغَ النِّهاية. ومن هذه الكلمةالنَّصْنَصَةُ: إثباتُ البعير
رُكْبَتَيْه في الأرضِ إذا هَمَّ بالنُّهُوض. والنَّصْنَصَةُ: التَّحْريكُ.
والنُّصَّةُ: القَصَّةُ من شَعْر الرَّأْس، وهي على مَوْضِعٍ رَفيعٍ.
ومن المنظور الاصطلاحي، فإن النص "نسج تتخلّله جملة من الوحدات الدالة
والمفاهيم القائمة"، وهو تعريف "رولان برث". وانطلاقا من تعريف النص
المقترح من "تودوروف فإن النص لا يقع في المستوى نفسه الذي تقع فيه الجملة،
كما أنه لا يقع موقعها من حيث المفهوم. وعلى هذا الأساس فإن النص يجب أن
يتميز عن الفِقْرة باعتبارها وحدة نمطية من عدة جمل، لذا،يمكن عدُّها علامة
من علامات الترقيم. كما أنّ النصّ في تصوّّر "تودوروف" يتحدّد باستقلاليته
وانغلاقه (أي له بداية ونهاية)، كما أنّه ذو محتوىدلالي متجانس متكامل،
ويمتاز بالوضوح، بينما سعى بنفنيست" إلى القول بأنّ: "الجملة إبداعٌ ليس له
تعريف، وتنوّعٌ بدون حدود، وهي الحياة نفسها للغةفي أثناء الفعل".كما
انتهى محمد مفتاح إلى أنَّ النصّ "مدوَّنة حدث كلامي ذي وظائف متعدّدة"،
وذلك على الرّغم من إقراره المبدئي بأنَّ "للنصّ تعاريف عديدة تعكس توجهات
معرفية ونظرية ومنهجية مختلفة".
فبوصفه:
"مدوَّنةكلامية"، يعني أنّه ليس صورة فوتوغرافية أو رسما أو عمارة أو
زيّاً، وإن استعان الدَّارس برسم الكتابة وفضائها وهندستها في التحليل.
"حدث": يقع في زمان ومكان معيّنيْن لا يعيد نفسه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي.
"تواصلي": يهدف إلى إيصال معلومات ومعارف ونقل تجارب إلى المتلقي.
"تفاعلي": على اعتبار أنَّ أهم وظائفه التفاعلية للنصّ اللغوي هي تلك التي
تقيم علاقات بين أفراد المجتمع وتحافظ عليها، علماً بأنّ الوظيفة التواصلية
في اللغة ليست كلّ شيء.
"مغلق": ونقصد انغلاق سمته الكتابية الأيقونية التي لها بداية ونهاية، ولكنّه من الناحية المعنوية هو:
"توالدي": كون الحدث اللغوي ليس منبثقاً من عدم، وإنّما هو متولّد من أحداث
تاريخيةونفسانية ولغوية، وتتناسل منه أحداث لغوية لاحقة به.
تلك هي أهم "المقومات الجوهرية الأساسية "للنص من وجهة نظر بنيوية، واجتماعية أدبية، ونفسية دلالية، ووفق منظور تحليل الخطاب".
فالنص إذن، منعكس لثقافة المجتمع بكافة شبكاته المعقدةعبر التاريخ
والجغرافية والعلاقات بين الأفراد أي أنه ذاكرة ملخصة للنظام المعرفي
للمجتمع. فالنص أيا كان هو مجموعة من العلاقات اللغوية التي تخدم فكرة أو
مجموعة أفكار أو مفاهيم قابلة للتفسير والشرح والتأويل مما يمهد لتطويع
النص لقراءات جديدة أو تأكيد قراءة ما.
2- الخطاب:
لغة: من خَطَبَ: يقال خاطَبَهُ، يُخَاطِبُهُ خِطاباً،والخُطْبَةُ من ذلك،
وهي: الكلام المَخْطُوبُ به. والخَطْب: الأمر يقعُ،وإنَّما يُسَمَّى بذلك
لما يقعُ فيه من التَّخاطُب والمُراجَعَة. وفَصْلُ الخِطاب: أي خِطابٌ لا
يكونُ فيه اخْتِصارٌ مُخلٌّ ولا إسْهَابٌ مُمِلٌّ.
وهو في الاصطلاح: الكلام بين اثنين بوساطة شَفَهية أومَكْتُوبة أو
مَرْئِيَة، والخِطَابُ: الرِّسَالةُ، وهو ممّا أقرّه مَجْمعُ اللغة العربية
بالقاهرة.
وهو في عرف ج. دوبوا من وجهة نَظَرٍ لسَانِية متعدّدُ المفاهيم، إذْ يُمكن أن يكون:
1- الكلام
2- مرادف للملفوظ
3- ملفوظ أكبر من الجملة
فإذا وقفنا على هذه المفاهيم الثلاثة، ألفينا رولان بارث انتصر للتحديد
الثالث، ويتّخذه مرتكزاً لتحليله البنيوي، فمن وجهة نظرالقواعد فهو سلسلة
متتالية من الجمل. ولكن التحليل اللساني للخطاب ينطلق من التعريف الثاني
(خطاب/ ملفوظ)، إذ المنطلق يضع حدوداً للطرح بين ما هولساني وغير لساني،
ذلك لأنّ اللسانيات تسعى لمعالجة الملفوظات المجتمعة،ودراسة مسارها عندما
تحدّد قواعد للخطاب وقوانين، وتصفه وصفاُ معقولاًوقابلاً للملاحظة والتأمّل
كسلسلة متتالية من الجمل.
ثانياً- لماذا اعتماد الخطاب المكتوب دون المنطوق؟
اللغة نظام. والنّظام اللغوي أنماطٌ عرفية تنتظم فيالأصوات والكلمات
والتراكيب للتعبير عن المعاني والتجارب والأحداث والمشاعر. أمّا الأنماط،
فهي صور المفردات، نحو (فَعَلَ، فُعِلَ) وبالنسبةللأسماء (المجرّد
والمزيد). فالأنماط إذن: صيغ تواضع عليها الأفراد فيمجتمع ما وتنتظم فيها
الأصوات والكلمات (إذ لا يمكن أن نقول مثلاً في "المَجْلِس" (على وزن
مَفْعِل) "تَجَلَّسَ"، أي أنّ كلّ حرف يأخذ موضعه المُحدّد من الصيغة.
وبناءً على ما سبق يمكن أن نجمل مستويات الأداء اللغوي في ثلاثة أمور أساسية، هي:
1- الأداء العامّي: الذي ينقل ما في الحياة اليومية بتراكيب وأصوات فيها الاضطراب والعُجْمة.
2- الأداء العلمي لنقل الأفكار، ويكون بأصوات وتراكيب تعتمد الصحّة فحسب.
3- المستوى الفنّي لنقل التجارب: ويظهر في أصوات وتراكيب تعتمد الفصاحة
والبلاغة، إذ يجب أن نختار الأغراض المناسبة لهذا الفن أوذاك (ترحّم، أسىً،
رثاء)، وأن نختار التعبير الصحيح البليغ والعبارةالمؤثّرة قصد التأثير
بأساليب فنية تناسب المقام وتعتمد ضوابط مشتركةتوافق القياس والسّماع.
إن اللغة مجموعة من العناصر اللغوية التي يعتمدها المتكلم أو الكاتب في
صياغته نصوصه، بينما في مجال الخطاب يعتمد موروثه اللغوي المكتسب أداة
لإنجاز رسالة خاصة، وفق ملابسات وظروف معينة. وعلى هذافالخطاب لا يكافئ
اللغة في شيء بل يختلف عنها جملة وتفصيلا.
ثالثاً:- بين الخطاب الأدبي والنصّ الأدبي:
إن المجتمع ينتج نصوصاً أدبية، وعلى اللغوي أن يكتفي بعرض جملة من المفاهيم
والحدود الكفيلة بإيضاح خصائص أسلوبية على نحو تحديده مواقع النّعوت في
مثل: (سعيد أشقر اللّون) و (سعيد وسيمٌ قسيمٌ)،فالنَّعتُ في المثال الأوّل
وصفي، وفي المثال الثّاني تقويمي، وعلى هذا فالنصّ الأدبي إيحائي الدّلالي
بينما يرمي الخطاب الأدبي يرمي إلى التواصل الأدبي (نظرية الأدب)، والمشكلة
إزاء ذلك لا تزال قائمة، يضاف إلى ذلك أنّ الخطاب التأويلي لا يزال حقلاً
معرفياُ لا يمكن حصره على وجه من الوجوه. كما أنّه لا يمكننا بأي حال من
الأحوال أن نضع النصّ الأدبي الشعري والنّصوص العلمية والدينية (تجوّزاً)
على قدر من المساواة في المعالجةوالمعاملة. "لذلك فالنصُّ الشّعري مثلاً
ليس مدوَّنة أحكام سماوية تقدّم مسبقاً أجوبة عمّا تطرحهُ من أسئلة.
فخلافاً للنصّ الديني الشّرعي الذي يعدُّ حجّةً والذي يتعيّنُ إدراك معناه
الجاهز على كلّ امرئ يمتلك أذنيْن للسَّماع، فإنّ النصّ الشعري متصوَّرٌ
على أنّه بنيَة تقتضي أن ينمو فيها،ضمن فهم متَحاوَرٍ حُرٍّ، معنىً ليس
مُنَزَّلا من أوّل وهلة، بل معنىًيتمُّ تفعيلهُ خلال تلقيّه المتعاقب التي
يُطابقُ تسلسلُها الأسئلةوالأجوبة. وجمالية التلقي تحدّد لنفسها غاية الكشف
عن الكيفية التي يتمُّبها تشكُّلُ المعنى حين يُنجزُ الشّاعر صراحةً هذا
التسلسل الذي يظلُّ علىالعكس كامناً في أغلب الأحيان".
فجمالية التلقي إذن، دعوة إلى تأويل جديد للنص الأدبي يروم استجلاء سمات
التفرّد وإبداع فيه (أو نقيضهما الإتّباع ووالابتذال) لا باستنطاق عمقه
الفكري في حدّ ذاته أو وصف سيرورة تشكّله الخارجي كما هيفي ذاتها، وإنّما
بتحديد طبيعة وقعه وشدّة أثره في القراءة والنقّاد منردود فعلهم وخطاباتهم.
فهي إذن نقدٌ للنصّ بنقد تلقّيه، الأمر الذي يعدم أيّ علاقة بين جمالية
التلقّي ونقد النّقد.
على أن من الدَّارسين المحدثين من يوجب الإقرار بأنه من "العبث، البحث عن
فوارق أو أوجه التقارب بين الخطاب والنص، ذلك لأنّ مفهوم الخطاب احتضنته
علوم لسانية وقَعَّدت له، فصار حقلاً من حقولها، ولمّاتلقّفه المعجم النقدي
للعلوم الإنسانية انزاح عن خصوصيته اللسانية، فعرَف توسّعاً في الاستعمال،
وإنْ حرص بعض الدّارسين في حقول العلوم الإنسانيةوالاجتماعية على الاحتفاظ
بجوهر مرجعيته اللسانية. لكنّنا عندما نُعاين استعمالاته في كتاباتهم
ونقابلها بالدراسات اللسانية الصّارمة، تظهرالهوّة كبيرة. أمّا مصطلح
النصّ، إذا لم يستقر له تصوُّرٌ لدى المنظّرين،حيث اعترفوا بصعوبة تحديد
ماهيته، فمن العسير أيضاً التقريب بينه وبين الخطاب، ذلك أنّ نظرية النصّ
تنزع نحو الدرس الفلسفي والجمالي، لهذا وجبَ التريُّث في استعمال المفاهيم
وتحديد مواقعها في المعجم النقدي، بل أصبح الأمر في بعض الأحيان لهواً
وتَرفاً علميَّيْن لا جدوى منه". وفي هذاإقرار بعدم القول بالتطابق التامّ
بينهما.
رابعاً-التحليل:
لغة: من حلّل العقدة: أي فكها وحلّل الشيء: أرجعه إلى عناصره الأولى.
وحلَّلْت اليمين أحلِّلها تحليلا: أي لمْ أفعلْ إلاَّبقَدْر ما حلَّلتُ به
قَسَمي أنْ أفْعَلَهُ ولمْ أُبالغ، ثمَّ كثُر هذا في كلامهم حتَّى قيل لكل
شيء لمْ يُبالغ فيه تحليلٌ.
والتحليل اصطلاحا: هو بيان أجزاء الشيء ووظيفة كل جزء فيها ويقوم على الشرح
والتفسير والتأويل والعمل على جعل النص واضحًاجليّاً. ومن هذا المنطلق
يركز الناقد على اللغة والأسلوب والعلاقات المتبادلة بين الأجزاء والكل،
لكي يصبح معنى النص ورمزيته واضحَين، من حيث يعتمد التلخيص لما فيها من
تنظيم المعلومات بشكل منطقي، وقدرةً على فهم النص. لذا فإنّ قراءة النص على
عَجَلٍ لا تعد تحليلا، فإذا وقف القارئ على النص وقفة سريعة وفهم فيها
النص وأدرك مغزاه، وقرأ ما بين السُّطور، وكان على وعي بالدلالات
الاجتماعية للألفاظ، وعرف عناصر الجمال والقبح فيه، دخل في منطقة النقد
والتذوق الأدبي. أما عملية التحليل الفني فإنها تحتاج إلى جهد ووقت وخبرة
وبحث وتنقير.
أمّا وقد قام التحليل على التفسير والشرح والتأويل، ألا يوجد فرق بين هذه المعاني جميعها؟
الحقّ أن أغلب هذه المعاني معانٍ مشتركة, وإن كانت في الوقت نفسه تتفرَّدُ
بدلالات خاصة تميزها عن المعاني الأخرى, إلا أن الشرح ارتبط كثيرا
بالتفسير, ولعل هذه المفردة هي التي تؤدي المعنى على أحسن وجه, فالمعاني
الأخرى تحوي معنى الشرح ولكنها لا تشمله. فالشرح، وإن ارتبط بمعاني الكشف
والتوضيح والبيان, والفتح والتفسير والحفظ فإنّه يجمع بينبيان وضع اللفظ
وبين تفسير باطن اللفظ, أي "التفسير" و"التأويل"، أمّا "التفسير" فكشْفُ
المُراد عن اللفظ المشكل وبيان وضع اللفظ إمّا حقيقة أومجازاً. أمّا
"التأويل" فمن: أوَّل الكلام وتأوَّله: دبَّره وقدَّرهوأوَّله: فسَّره،
ويكون ذلك بردّ أحد المحتمَلَيْن إلى ما يطابق الظاهر،وبذلك خرجت دلالات
هذه الألفاظ من معنى المشترك حين دخلت مجال الدراسةالعلمية , فاختص التأويل
والتفسير بالدراسة القرآنية والمعجمية, والشرحب الشعر, إلا فيما ندر,
وأصبح لكل منها اصطلاح خاص به. فالشرح هو التعليق على مصنف درس من وجهة
علوم مختلفة وقد كتبت الشروح على معظم الرسائل المشهورة أو الأشعار العربية
نحو شرح مقامات الحريري (ت516هـ)، وشرح مشكل شعر المتنبي لابن سيده (ت
458هـ). وعلى هذا فالشّرح أيضا:" توضيح المعنى البعيد بمعان قريبة معروفة
"ومن هنا اكتسب الشرح معناه الخاص. وأماالتفسير, فهو شرح, لكنه من نوع آخر,
فهو "شرح لغوي أو مذهبي لنص من النصوص" ومن هنا نجد أنّ هذا الاختصاص لم
يأت اعتباطا, فلكل مصطلح مجاله الذي يتقاطع فيه مع المجال الثاني, لكنه لا
يتّحد معه على الرغم من اتحادهما في الأصل اللغوي.
وعلى هذا فإن الشرح لفظ عام, وهو مصطلح ذو شقّين: التفسيروالتأويل, وقد
يتداخل الشِّقاَّن أثناء عملية الشرح, فنضطر إلى التعامل مع التفسير على
أنّه مرادف للشرح.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التحليل: هو دراسة نقف بها على كشف خباياها
الرسالة المنطوقة أو المكتوبة أو المرئية، كما نقف علىجزئياتها وعناصرها
الأولية، ووظيفة كل منها بالشرح والتفسير والتأويل، دونمبالغة في ذلك أو
إخلال فيه.
فارس م
24-04-10, 09:07 PM
خامساً- النقد:
من نقَدَ، وهو "أصل صحيح على إبرَاز شيء وبُروزه. من ذلك: النَّقْد في
الحافر، وهو تقشُّره. والنَّقْد في الضِّرْس: تكسُّره، وذلك يكون بتكشف
لِيطِه عنه, ومن الباب: نَقْدُ الدِّرْهَم، وذلك أن يُكْشَفَ عن الحَال في
جَوْدته أو غير ذلك. ودرهم نقد: وَازِنٌ جيِّدٌ، كأنه قد كشف عن حاله
فعُلِم. وتقولُ العربُ: ما زالَ فُلانٌ يَنْقُدُ الشَّيءَ، إذالَمْ يُدم
النَّظَر إليه باختلاسٍ حتَّى لا يُفْطَنَ لهُ.على أنَّ النَّقْدَ الذي
يعني التَّمْييزَ يعبّرُ عن حُكْمِ قيمة جمالية بالجَوْدة أوْ الرَّداءَة
هيَّأ لاستخدامه مجازاً فيالتََّمْييز بين جيِّد الشِّعْر والكلام ورديئهما
إلى أن ظهرت وظيفة ناقدالكلام والنَّاقد الأدبي. "فالنّاقد الأدبي إذن
يعدُّ مبدئياً خبيراًيستعمل قدرة خاصة ومرانة خاصة في قطعة من الفن الأدبي
هي عمل لمؤلِّف مايفحص مزاياها وعيوبها ويصدر عليها حُكماً". فمن المَجاز
قولهم: "نقدَالكلامَ: ناقشهُ. وهو من نَقَدَة الشِّعر ونُقّاده. وانْتَقَدَ
الشِّعْرَعلى قَائله".وقد أتى على أهل التأليف حينٌ من الدَّهْر ساروا فيه
بين (نقد الشِّعر) و (تمييز جيِّده من رديئه)، يقول قدامة بن جعفر
(ت337هـ):" ولَمْ أجِدْ أحداً وضَع في نَقْد الشِّعر وتلخيص جيِّده من
رديئه كتاباً".
وعلى هذا فالنَّقد اصطلاحا: هو حكم ٌ قيمي أو عملية كشف أو مناقشة يُمَّيز
بها الأثر الأدبي أو الفني جيّده من رديئه وصحيحه من زيفه،الأمر الذي جعل
منه ممارسة تقوم على قواعد معيارية يُحاكم بها الأثرالأدبي، ممّا حدا بمعظم
الدارسين المحدثين إلى إدانته، إدانة ما قام عليه من نقد حديث
ومعاص.رفبعضهم يتّهمه بالتقصير والضياع,وفقدان المنهجية, وبعضهم يتهمه
بأنه يخلع على الأدب العربي ثوباً على غير مثاله, فبدا مُضْحكاً مرفوضاً في
صورته الحديثة والمعاصرة، الأمر الذي يجعل بعض تطبيقاته ظواهر غير صحية
تقوم على "التَّخَنْدُق والتحيُّز والمعيارية"،وصار "ضرَراً" و"خُدعةً"
حينما وقفنا قانعين "بما قاله غيرنا عن مؤلّف عظيم بدل أن نذهب مباشرة إلى
ذلك الأديب، ونحاول أن نمتلك أدبه لأنفسنا".
أمّا النقد الحديث من منظور غربي, فيرى في النقد القديم إيمانًا بوجود
محتمل نقدي, وأنّه ذو نزعة حرفية يتعامى عن رؤية الطبيعةالرمزية للقول
الأدبي, لذا فقد" أصرَّ بارث في بعض المناسبات أنَّهُ ليس ناقداً أدبياً.
فلقد كان يرى أنّ النَّقد يشتمل على التقويم وإصدارالأحكام، الأمر الذي يرى
فيه نشاطاً برجوازياً رفض أن يشارك فيه"، لذافإنّه يعوّل على مفهوم ودور
للنقد الحديث يرى فيه النّاقد قد أصبح كاتباًبمعنى الكلمة, وأنّ النقد غدا
من الضروري أن يقرأ ككتابة، على اعتبار أنّ النَّاقد لا يُمكنه أن يكون
بديلاً للقارئ في شيء، إذ ليس من المجد أن يسمح لنفسه- أو يطلب من منه
البعض- إعطاء صوت، مهما يكن محترماً، لقراءةالآخرين، ولا يكون هو ذاته سوى
قارئ أنَابَهُ آخرون للتعبير عن مشاعرهم الخاصّة بدعوى معرفته أو قدرته على
إصدار الأحكام، أي أن يرمز -باختصار-إلى حقوق جماعة على الأثر الأدبي،
لأنّه حتى ولو جاز لنا تعريف النّاقد بأنَّه قارئ يكتب، فذاك يعني أنّ هذا
القارئ يلتقي في طريقه بوسيط مخيف هو: الكتابة.
ولعلَّ في تقديم بارث لنَّقدَ على أنَّه"قراءة عميقة (وإن ركّزت على جانب
معيّن)"، ما يُحدّدُ مفهومه وطبيعته بصورة مؤقّتة، كون هذه القراءة" تكشف
في الأثر الأدبي عن مُدرك محدَّد، وهي في ذلك تعملُ حقّاًعلى فكِّ الرُّمُز
وتُساهمُ في التأويل "على اعتبار أنّه يحتلُّ من حيث الفائدة المنهجية
"مكاناً وسطاً بين العلم والقراءة. إنّه يُعطي لغةالكلام الخالص الذي
يُقرأ، كما يُعطي كلاماً (بين أشياء أُخَر) للغةالأسطورة التي صيغ منها
الأثر الأدبي، والذي يتناولها العلم."
أمّا "أن تكون القراءة نتاجاً، أي أن نجعل من القارئ منتجاً لا
مُستهلكاً"فليس بالأمر الميسور في كلّ الأطوار، ولا يسري علىكلّ الناس،
وعلى كلّ القرّاء، اللهمّ إذا كان بارث يرمي إلى تضييق مجال القراءة فيحصره
في الكتّاب وحدهم، لأنّ مثل هذا التفكير ينشأ عنه إلغاء جمهور القرّاء
وسوادهم، وهذا الجمهور هو المقصود بالكتابة الأدبية، إذ لايمكن أن يكتب
الكتّاب لأنفسهم، أو أن يكتبوا لبعضهم بعضاً (وهم قلّة قليلةعلى الأرض).
إنّه لا ينشأ من مثل هذا التفكير إلاّ قتل الكتابة، وقتل القرّاء معاً، أي
نعيُ الأدب، ثمّ تشييعه إلى مثواه الأخير وإلى الأبد. لذا بات تحديد مفهوم
القراءة ووظيفتها مرهونا بتحديد القرّاء. فمن هم هؤلاء؟وما مواصفتهم؟ وما
هي أيديولوجياتهم؟ وما أذواقهم وما ثقافاتهم؟ ومافلسفاتهم في الحياة؟ هل هم
العمّال في المعامل، أم هم الطلاّب في الجامعات، أم هم الأساتذة الذين
يحاضرون في أصول العلم، أم هم أولئك الذين يكتبون، أي الذين يحترفون الأدب
احترافاً؟ أم هم أصناف أُخَر من البشر،وخَلْقٌ من النّاس؟
سادساً- القراءة:
القراءة لغة: تأدية ألفاظ النص وتتبُّعها نظراً أو نطقاً. ويعتمد القارئ في ذلك مستويات كالأداء والحفظ والفهم، والتذوق.
1_ مستوى الأداء: وغاية أن يؤدي القارئ الأصوات أو الصورالصوتية أو الرمزية
بدون إبدال واضح للمعاني عند الأطفال والمذيعين أوالمنشدين أو
المتَسَلِّين.
2_ مستوى الحفظ: ويقوم على قراءات متتالية أو متقطعة أومتصلة، فيهتم
بالعلاقات الصوتية والمعنوية ويثبت صورها في الذاكرة الحركيةأو الصوتية وهي
شائعة في المدارس والمسارح (التمثيل).
3_ مستوى الفهم: ويقوم على قراءة واعية متأنية تلتمس معاني التراكيب
والألفاظ والعبارات والعلاقات النحوية والفنية وإدارةالحركة الجزئية في
النص والحركة الكلية التي توجد جوانبه بوساطة التحليل والتركيب وهي قراءة
المتعلمين في المدارس المتقدمة وفي الجامعات وفيالحياة العامة.
4- مستوى التذوق: وهي قراءة متتالية متأنية تحلّل البنى السطحية والعميقة
الأصلية والفرعية ورصف المعاني الإنمائية الدقيقة لتعزيزالفكرة الأساسية
وتتبع المقويات الدلالية والمعجمية والمجازية والفنية, الخاصة, وتحيط
بامتداد النص وتبرز عمقه وتكتشف أبعاد التفكير والتعبيروالتصويرية وترابط
أجزائه بالبيئة اللغوية والاجتماعية والفكرية والبنيةالفنية وبذلك تتمثل
الظلال والأصلية والحوادث والأفكار والانفعالات والآثار النفسية الجمالية
فينفعل بما يوحي به من عواطف وصور الجمال وهذه هي قراءة الدارسين والمحللين
للنصوص الأدبية وغيرها.
أمّا القراءة من منظور اصطلاحي، فهي آلية تفكيك الشّفرةاللغوية المتمثلة في
تداخل شبكة العلامات والإشارات اللغوية ضمن سياق محددتعدّ الجملة وحدته
الأولى، وبما يكفل الوقوف على بنية النصّ الأساسيةوالتي يقسمها العالم
اللغوي ناعوم تشومسكي، إلى بنيتين: إحداهما فوقيةسطحية وأخرى تحتية عميقة.
لكن اللسانيات بحكم امتلاكها، في رأينا على الأقل، كلَّ العناصر والإجراءات
الجديرة لقراءة النص الأدبي قراءة شاملة كاملة، وبحكمأنّ وضعها المعرفي
يجتزئ أصلا، بالبحث في النّظام اللغوي البشري لدى حدودالجملة لا ينبغي له
أن يتجاوز حدودها النّحوية، وبحكم أنّ هذا الوضع المعرفي لا ينبغي أن يتيح
لها أن تمضي بعيداً في أدغال النصّ الأدبي ومجاهله ومكان الجمال فيه، فإنّ
الأسلوبية-بحكم تفرّعها عن اللسانيات-أوشكت أن تغتدي ميكانيكية الإجراءات
بحيث تراها لاهثة جاهدة إلى الكشف عن نظام الأسلوب من خلال الجملة، أي
البحث في عناصر الجملة من فعل وفاعل ثم مفعول، أو من فعل وفاعل ثم حال، أو
من فعل وفاعل ثم تمييز، أو من فعل وفاعل وجار ومجرور، أو من مبتدأ وخبر،
وغيرها، وذلك وفق نظام تعليق لايكاد يجاوز البحث في التركيب اللغوي وتبادل
البنى النّحوية في نصّ من النّصوص.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تشومسكي نفسه تساءل في أحدث كتاباته عما إذا
"كان مستويات أخرى غير المستويين الوجيهين السابقين (البنية السّطحية
والبنية العميقة) الذين افترضا في البحث المعاصر؟ فأجاب من حيث رأى أنّ"ما
اصطلح على تسميته بـ" برنامج الحد الأدنى" جهداَ يُوج بُإخضاع الافتراضات
التقليدية للتقصّي المتأنّي من منطلق أنّ أكثر القضاياتبجيلاً أنّ للغة
صوتاً ودلالة، وتُترجم هذه القضية، في المصطلحات الجديدةبشكل طبيعي، إلى
الدعوى التي تقتضي بأن الملكة اللغوية)تلتقي بالأنظمةالأخرى للذهن/الدّماغ
عند مستويين وجيهيَّيْن يتّصل أحدهما بالصوت والآخربالدلالة، الأمر الذي
يجعل كلّ ما حلّل بموجب مستويي " البنية السّطحيةوالبنية العميقة" كان
ضحيّة لخطأ في الوصف، وأنه يمكن أن يُفهم بشكل مماثل أو أفضل في ضوء شروط
المقروئية في المستويين الوجيهيّيْن: ويعني هذا، عندالمطّلعين على الأبحاث
المتخصّصة، مبدأ الإسْقاط، ونظرية الرَّبْط، ونظريةالحالة الإعرابية، وشرط
السلسلة، وغيرها.
كما تعدّ القراءة، كما يراها أصحاب نظرية التلقي التيتؤمن بأن القارئ يشارك
في كتابة النص، هي عملية نفسية حركية تختص بإعادةالأثر الأدبي أو النص إلى
مدركات أولية عبر إعادة تفكيك الإشارات اللغويةوموازنة العلاقة بين مجموعة
الدوال مع المدلولات في الجملة الواحدة ومن ثمالنص كاملاً. وهنا نرى أن
القراءة فعل تأويلي،لأنها مطالبة وقادرة علىإضاءة النص وعلى نحو يتيح
للقارئ اكتشاف البنية الداخلية للعمل، لذا فـإنّ مهمّة الناقد الأدبي
الجديدة تنحصر في الاهتمام بنوعية العلاقة بين النصّ والمتلقي، وذلك
انطلاقاُ من هذه الأسئلة المعهودة: كيف انفعل القارئُ بالنصّ؟ هل كان ردّ
فعله محض "استهلاكه" بكيفية نمطية ومرضية تجرى على نسقمطرد رتيب في قراءة
الأدب، أو هو نوعٌ من الإخفاق في إكراه هذا النصّ على قول ما يريده القارئ
أن يقوله، أو أنّه سيندهش بجدّته التي كانت تكيّفتعاطيه للأدب، ومن ثمّ
بمعانقته هذا الأفق الجديد والمختلف الذي يصدر عنهذلك النص.
لنتصورّ الآن أن ناقداً قرأ مسرحية كوميدية أو شاهدهامعروضة، فإنّ التفاعل
معها سيتمّ التوافق العفوي بين أفق النصّ وأفق التلقي طالما أنّ المسرحية
قد أجابت عن أسئلته واستجابت لانتظاراته. وسيقوم هذا دليلاً على أنّها
نُسخة مطابقة لأصلٍ جاهزٍ تكَرِّرُ موضوعه أوصورةٌ موافقةٌ لمعيارٍ تجترُّ
شكله. لكن النّاقد نفسه سرعان ما يشعربالغُبْن ومن ثم يخيبُ أفق توقّعه إذا
قام بمراوغة تقوم على مداراة هذه المسرحية بأن يقرأها كما لو كانت مسرحية
تراجيدية على طريقة "راسين" (1639-1699) أو ملحمية على طريقة"بريخت"
(1898-1956). بيد أنّه إذا قرأ أوشاهد مسرحية عبثية من ذلك النّوع الذي
يكتبه "صمويل بيكيت" (1906-1989) أو "أوجين يونسكو" (1909-1994)، وكان ذا
دماثة فكرية تؤهله تلقائياً لتقبُّلصدمة هذا المسرح المختلف، ولارتضاء
آثاره فإنّه سيكفُّ عن الهوس بالجماليةالكوميدية بل وقد تتغيّرُ نظرته إلى
الأشياء وإلى الوجود من حيث تصبحسوداوية بعد أن كانت تفاؤلية.
وتبدو هذه الأمثلة المتفرقة بسيطة جدا لو قارناها بجملةالمتغيرات الدلالية
للنص، وأخص بالذكر هنا النص الأدبي والنص الشعري علىوجه التحديد. فقد أجمع
النقاد على أن إشكالية الأدب تأتي من طبيعة اللغةذاتها، أدبية النص، والتي
تعمل على توظيف الآلية اللغوية بعيدا عن معناهاالتداولي البسيط نحو ما يعرف
باستكشاف جماليات اللغة عبر "المجاز. والمجازعموما هو عملية تطويع لغوي
ضمن إطار يتجاوز المعجم وصولاً إلى التسييق بمايضفي على اللفظ رونقاً يخرجه
من حيّز الحقيقة إلى رحابة المجاز الذي تتيحللمفردة الواحدة أن تخدم وظيفة
تعبيرية جمالية في آن معاً.
هذه الجمالية التي، وإن كان بإمكانها أن تُسهم في اكتمالالمهامّ التي
يتعيّنُ أداؤها على "نظرية الفن وتاريخه" اللذين هما في طورالتجديد وإحداث
قطيعة جذرية مع الأعراف العلمية المقرّرة، إلاَّ أنَّه لايمكن لها "أن
تدّعي لنفسها أنّها إبدال منهجي بالتّمام والكمال". فليستجمالية التلقي
"نظرية مستقلّة قائمة على بدَهيات تسمح لها بأن تحلَّبمفردها المشكلات التي
تواجهها، وإنّما هي مشروع منهجي جزئي يحتمل أنيقترن بمشاريع أخرى وأن
تكتمل حصائله بوساطة هذه المشاريع. "وأنا إذ أقرُّبذلك، أترك لغيري-شريطة
ألاَّ يكون خصماً وطرفاً في آنٍ واحدٍ-عناية تقريرما إذا كانَ ينبغي، في
مجال العلوم التأويلية الاجتماعية، اعتبارُ هذاالاعتراف بالنّقص من لدن
منهج ما علامة على ضعفه أو على قوّته".
*خاتمة:
بعد هذه الإطلالة التي أردناها متكاقئة على جهود بعض الدّارسين المحدثين
عرباً وأعاجم في تطويق تحليل النص أو الخطاب في المعجم والدلالة والنظرية
وما يدخل في فلكهما من مصطلحات ذات الصلة، ارتأينا أننلتمس بعض العُذر
(المفضي إلى الأسف) للمحدثين من العرب على محاولة الحفاظفي عَنَت على ماء
الوجه التنظيري على النّحو الذي فكّر فيه معاصروهم منالأعاجم، أو بعض
أسلافهم من الشّعراء المحدثين، الذين ضاقوا ذرعاً بأغراضالشّعر القديم
وأشكاله وما برع فيه القدماء من وصف ورثاء ومدح وغزل،فجدّدوا من حيث جدّد
الغربيون التوّاقُون إلى طلب الجديد والتجديد،فبادروا إلى التنظير على
التنظير، والذي أضحى على أهميته كالكساء الفضفاضنقحم فيه حساسيتنا إقحاماً
باسم المعاصرة والحداثة دون أن يتمازج ذلك معما نستجلبه أو نسقطه من أحدث
التقنيات والنظريات الغربية هي تجربةحساسيتها، ولها خصوصيتها وتفرّدها وكلّ
ما يميّزها عن خصوصية حساسيتناوتفرّد لغتنا، الأمر الذي لا ينقص من أهمية
التنظير في شيء، والإفادة ممافي أيادي غيرنا بما يمثّل حواراً مع حاضرنا،
لكن دون أن نسقط في جلباللّعب الثقافية الخالية من حرارة التجربة الحسّية،
ونقع في الفوضى المصطلحية التي يزيد في استفحالها ما يفد علينا آنيّاً من
مصطلحات فيضيق بذلك مجال التطبيق اتساعَ مجال التنظير، فلا نمسك عندها
إلاَّ بالجانبالضنين من هذه التجربة أو ما اصطلح عليه حديثاً بـ
"البريكولاج اللغوي وهوأمرٌ نبّه إليه الأسلاف وحذّروا من مغبّته، "فقد قال
أبو بكر بن السرّاج (ت 316هـ) في رسالته في الاشتقاق، في (باب ما يجبُ على
النّاظر فيالاشتقاق أن يتوقّاهُ ويحترس منه): ممّا ينبغي أنْ يَحْذَرَ منه
كلُّالحَذَر أن يَشتقَّ من لغَة العرب لشيءٍ من لغة العَجَم، فيكونَ
بمنزلة منادّعى أنَّ الطَّيْرَ وَلَدَ الحُوت". فإذا صدق ذلك على اللفظ
فالمعنى بهأولى.
ونحن أمام تعريف للنصّ بات فيه أقرب إلى الخطاب وتحليليحتمل الإخلال كما قد
يحتمل الموضوعية، وأمام نقد لم تكتمل معالمه ومناهجهوتستقرّ مصطلحاته,
ناهيك عمّا يعكسه من ظواهر سلبية أهمها" التَّخَنْدق" و"التحيّز"
و"المعيارية" لا نملك-والحال هذه- إلا أن نفضّل القراءةالواعية المتأنية
ونأخذ بها، على تعدّدها، وفق مستوى تذوّقي يدرك فيهاالقارئ العلاقات
النحوية وطريقة الأداء اللغوي، والدلالات المركزيةوالهامشية والاجتماعية
الكامنة في الأثر الأدبي بشقّيه الشعري والنثريالذي يحتمل أكثر من تأويل،
ما دام "لا أحد- بحسب بارث: يعرفُ شيئاً عنالمعنى الذي تمنحه القراءة للأثر
الأدبي، ولا عن المدلول-وذلك، ربَّما،لأنّ هذا المعنى، اعتباراً لكونه
شهوة، ينتصبُ فيما وراء سنن اللغة. فالقراءة وحدها تعشق الأثر الأدبي،
وتقيم معه علاقة شهوة. فإنّ نقرأ معناهنشتهي الأثر (س)، ونرغبَ في أن
نكُونَه، وأن نرفض مضاعفته بمعزل عن كلّكلام آخر غير كلامه هو ذاتُه: إنّ
التعليق الوحيد الذي يمكن أن ينتجه قارئمحض وسيبقى كذلك، هو المعارضة.
وعليه، فإنَّ الانتقال من القراءة إلى أيٍّمن الحدود أو الإسقاطات الأخرى
فمعناه تغيُّر الشَّهْوة، وعلينا تَبـِعَةُما نقرأ.
١٧تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧، بقلمالدكتور عبد القادر سلامي (http://www.diwanalarab.com/spip.php?auteur159)
تقديم:
مصطلحات كل علم تاليةٌ له في الوجود، وكلّما تقدّم العلم إلاَّ ونمت
مصطلحاته، وتحدَّدت معانيها، ممّا يفرض على العلم حتميَةالرُّجُوع إلى ذاته
لتأمُّلها ومساءلتها بمناقشة تصوُّراته ومصطلحاته،وإذا لم يفعل ذلك
فالتاريخ كفيلٌ بأنْ يقومَ بهذا العمل، ممّا يفضحه أمام ذاته وأمام
الآخرين.
وتسعى هذه المساءلة، التي أحسبها مقدمة للقارئ العربي،إلى استنطاق بعضٍ من
الموروث النقدي والمصطلحي العربي والغربي من منظورمعجمي ودلالي وتنظيري بما
يكفل الوقوف على دلالات: النص والخطاب ومايعتريهما من تداخل وتلازم مع
كلٍّ من التحليل والنّقد والقراءة.هذا وأخشى أن أكون في تقديمي لهذا البحث
مثل الذي آخذه على المشتغلين في حقل الدراسات اللسانية والنقدية من
الاختلاط والتراكم وغياب النّسق، وإذن تكون مداخلتي هذه دليلاً ذاتياً على
الموضوع الذي تتصدّى له، ولا ضَيْر، لأنّ مطلق التصريح بهذا الوعي الذاتي
خطوةً نحوتجاوز هذا الوضع.
أولاُ: بين النص والخطاب:
1-النص:
النّون والصّاد أصل صحيح يدلّ على رَفْعٍ وارتفاعٍ وانتهاء في الشيء.
يقالُ:نصَّ الحديثَ إلى فلان: رَفَعه إليه. والنَّصُّ في السَّيْر
أَرْفَعُه. ومِنَصَّةُ العَرُوس منه أيضاً. وباتً فُلاَنٌ مُنْتَصّاً على
بعيره، أي مُنْتَصِباً. ونَصُّ كلِّ شيء:مُنْتَهاهُ. ونَصَصْتُ الرَّجُلَ:
استقْصَيْتُ مسألتَه عن الشيء حتّى تستخرجَ ما عنده. وهو القياسُ،لأنّك
تبتغي بُلُوغَ النِّهاية. ومن هذه الكلمةالنَّصْنَصَةُ: إثباتُ البعير
رُكْبَتَيْه في الأرضِ إذا هَمَّ بالنُّهُوض. والنَّصْنَصَةُ: التَّحْريكُ.
والنُّصَّةُ: القَصَّةُ من شَعْر الرَّأْس، وهي على مَوْضِعٍ رَفيعٍ.
ومن المنظور الاصطلاحي، فإن النص "نسج تتخلّله جملة من الوحدات الدالة
والمفاهيم القائمة"، وهو تعريف "رولان برث". وانطلاقا من تعريف النص
المقترح من "تودوروف فإن النص لا يقع في المستوى نفسه الذي تقع فيه الجملة،
كما أنه لا يقع موقعها من حيث المفهوم. وعلى هذا الأساس فإن النص يجب أن
يتميز عن الفِقْرة باعتبارها وحدة نمطية من عدة جمل، لذا،يمكن عدُّها علامة
من علامات الترقيم. كما أنّ النصّ في تصوّّر "تودوروف" يتحدّد باستقلاليته
وانغلاقه (أي له بداية ونهاية)، كما أنّه ذو محتوىدلالي متجانس متكامل،
ويمتاز بالوضوح، بينما سعى بنفنيست" إلى القول بأنّ: "الجملة إبداعٌ ليس له
تعريف، وتنوّعٌ بدون حدود، وهي الحياة نفسها للغةفي أثناء الفعل".كما
انتهى محمد مفتاح إلى أنَّ النصّ "مدوَّنة حدث كلامي ذي وظائف متعدّدة"،
وذلك على الرّغم من إقراره المبدئي بأنَّ "للنصّ تعاريف عديدة تعكس توجهات
معرفية ونظرية ومنهجية مختلفة".
فبوصفه:
"مدوَّنةكلامية"، يعني أنّه ليس صورة فوتوغرافية أو رسما أو عمارة أو
زيّاً، وإن استعان الدَّارس برسم الكتابة وفضائها وهندستها في التحليل.
"حدث": يقع في زمان ومكان معيّنيْن لا يعيد نفسه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي.
"تواصلي": يهدف إلى إيصال معلومات ومعارف ونقل تجارب إلى المتلقي.
"تفاعلي": على اعتبار أنَّ أهم وظائفه التفاعلية للنصّ اللغوي هي تلك التي
تقيم علاقات بين أفراد المجتمع وتحافظ عليها، علماً بأنّ الوظيفة التواصلية
في اللغة ليست كلّ شيء.
"مغلق": ونقصد انغلاق سمته الكتابية الأيقونية التي لها بداية ونهاية، ولكنّه من الناحية المعنوية هو:
"توالدي": كون الحدث اللغوي ليس منبثقاً من عدم، وإنّما هو متولّد من أحداث
تاريخيةونفسانية ولغوية، وتتناسل منه أحداث لغوية لاحقة به.
تلك هي أهم "المقومات الجوهرية الأساسية "للنص من وجهة نظر بنيوية، واجتماعية أدبية، ونفسية دلالية، ووفق منظور تحليل الخطاب".
فالنص إذن، منعكس لثقافة المجتمع بكافة شبكاته المعقدةعبر التاريخ
والجغرافية والعلاقات بين الأفراد أي أنه ذاكرة ملخصة للنظام المعرفي
للمجتمع. فالنص أيا كان هو مجموعة من العلاقات اللغوية التي تخدم فكرة أو
مجموعة أفكار أو مفاهيم قابلة للتفسير والشرح والتأويل مما يمهد لتطويع
النص لقراءات جديدة أو تأكيد قراءة ما.
2- الخطاب:
لغة: من خَطَبَ: يقال خاطَبَهُ، يُخَاطِبُهُ خِطاباً،والخُطْبَةُ من ذلك،
وهي: الكلام المَخْطُوبُ به. والخَطْب: الأمر يقعُ،وإنَّما يُسَمَّى بذلك
لما يقعُ فيه من التَّخاطُب والمُراجَعَة. وفَصْلُ الخِطاب: أي خِطابٌ لا
يكونُ فيه اخْتِصارٌ مُخلٌّ ولا إسْهَابٌ مُمِلٌّ.
وهو في الاصطلاح: الكلام بين اثنين بوساطة شَفَهية أومَكْتُوبة أو
مَرْئِيَة، والخِطَابُ: الرِّسَالةُ، وهو ممّا أقرّه مَجْمعُ اللغة العربية
بالقاهرة.
وهو في عرف ج. دوبوا من وجهة نَظَرٍ لسَانِية متعدّدُ المفاهيم، إذْ يُمكن أن يكون:
1- الكلام
2- مرادف للملفوظ
3- ملفوظ أكبر من الجملة
فإذا وقفنا على هذه المفاهيم الثلاثة، ألفينا رولان بارث انتصر للتحديد
الثالث، ويتّخذه مرتكزاً لتحليله البنيوي، فمن وجهة نظرالقواعد فهو سلسلة
متتالية من الجمل. ولكن التحليل اللساني للخطاب ينطلق من التعريف الثاني
(خطاب/ ملفوظ)، إذ المنطلق يضع حدوداً للطرح بين ما هولساني وغير لساني،
ذلك لأنّ اللسانيات تسعى لمعالجة الملفوظات المجتمعة،ودراسة مسارها عندما
تحدّد قواعد للخطاب وقوانين، وتصفه وصفاُ معقولاًوقابلاً للملاحظة والتأمّل
كسلسلة متتالية من الجمل.
ثانياً- لماذا اعتماد الخطاب المكتوب دون المنطوق؟
اللغة نظام. والنّظام اللغوي أنماطٌ عرفية تنتظم فيالأصوات والكلمات
والتراكيب للتعبير عن المعاني والتجارب والأحداث والمشاعر. أمّا الأنماط،
فهي صور المفردات، نحو (فَعَلَ، فُعِلَ) وبالنسبةللأسماء (المجرّد
والمزيد). فالأنماط إذن: صيغ تواضع عليها الأفراد فيمجتمع ما وتنتظم فيها
الأصوات والكلمات (إذ لا يمكن أن نقول مثلاً في "المَجْلِس" (على وزن
مَفْعِل) "تَجَلَّسَ"، أي أنّ كلّ حرف يأخذ موضعه المُحدّد من الصيغة.
وبناءً على ما سبق يمكن أن نجمل مستويات الأداء اللغوي في ثلاثة أمور أساسية، هي:
1- الأداء العامّي: الذي ينقل ما في الحياة اليومية بتراكيب وأصوات فيها الاضطراب والعُجْمة.
2- الأداء العلمي لنقل الأفكار، ويكون بأصوات وتراكيب تعتمد الصحّة فحسب.
3- المستوى الفنّي لنقل التجارب: ويظهر في أصوات وتراكيب تعتمد الفصاحة
والبلاغة، إذ يجب أن نختار الأغراض المناسبة لهذا الفن أوذاك (ترحّم، أسىً،
رثاء)، وأن نختار التعبير الصحيح البليغ والعبارةالمؤثّرة قصد التأثير
بأساليب فنية تناسب المقام وتعتمد ضوابط مشتركةتوافق القياس والسّماع.
إن اللغة مجموعة من العناصر اللغوية التي يعتمدها المتكلم أو الكاتب في
صياغته نصوصه، بينما في مجال الخطاب يعتمد موروثه اللغوي المكتسب أداة
لإنجاز رسالة خاصة، وفق ملابسات وظروف معينة. وعلى هذافالخطاب لا يكافئ
اللغة في شيء بل يختلف عنها جملة وتفصيلا.
ثالثاً:- بين الخطاب الأدبي والنصّ الأدبي:
إن المجتمع ينتج نصوصاً أدبية، وعلى اللغوي أن يكتفي بعرض جملة من المفاهيم
والحدود الكفيلة بإيضاح خصائص أسلوبية على نحو تحديده مواقع النّعوت في
مثل: (سعيد أشقر اللّون) و (سعيد وسيمٌ قسيمٌ)،فالنَّعتُ في المثال الأوّل
وصفي، وفي المثال الثّاني تقويمي، وعلى هذا فالنصّ الأدبي إيحائي الدّلالي
بينما يرمي الخطاب الأدبي يرمي إلى التواصل الأدبي (نظرية الأدب)، والمشكلة
إزاء ذلك لا تزال قائمة، يضاف إلى ذلك أنّ الخطاب التأويلي لا يزال حقلاً
معرفياُ لا يمكن حصره على وجه من الوجوه. كما أنّه لا يمكننا بأي حال من
الأحوال أن نضع النصّ الأدبي الشعري والنّصوص العلمية والدينية (تجوّزاً)
على قدر من المساواة في المعالجةوالمعاملة. "لذلك فالنصُّ الشّعري مثلاً
ليس مدوَّنة أحكام سماوية تقدّم مسبقاً أجوبة عمّا تطرحهُ من أسئلة.
فخلافاً للنصّ الديني الشّرعي الذي يعدُّ حجّةً والذي يتعيّنُ إدراك معناه
الجاهز على كلّ امرئ يمتلك أذنيْن للسَّماع، فإنّ النصّ الشعري متصوَّرٌ
على أنّه بنيَة تقتضي أن ينمو فيها،ضمن فهم متَحاوَرٍ حُرٍّ، معنىً ليس
مُنَزَّلا من أوّل وهلة، بل معنىًيتمُّ تفعيلهُ خلال تلقيّه المتعاقب التي
يُطابقُ تسلسلُها الأسئلةوالأجوبة. وجمالية التلقي تحدّد لنفسها غاية الكشف
عن الكيفية التي يتمُّبها تشكُّلُ المعنى حين يُنجزُ الشّاعر صراحةً هذا
التسلسل الذي يظلُّ علىالعكس كامناً في أغلب الأحيان".
فجمالية التلقي إذن، دعوة إلى تأويل جديد للنص الأدبي يروم استجلاء سمات
التفرّد وإبداع فيه (أو نقيضهما الإتّباع ووالابتذال) لا باستنطاق عمقه
الفكري في حدّ ذاته أو وصف سيرورة تشكّله الخارجي كما هيفي ذاتها، وإنّما
بتحديد طبيعة وقعه وشدّة أثره في القراءة والنقّاد منردود فعلهم وخطاباتهم.
فهي إذن نقدٌ للنصّ بنقد تلقّيه، الأمر الذي يعدم أيّ علاقة بين جمالية
التلقّي ونقد النّقد.
على أن من الدَّارسين المحدثين من يوجب الإقرار بأنه من "العبث، البحث عن
فوارق أو أوجه التقارب بين الخطاب والنص، ذلك لأنّ مفهوم الخطاب احتضنته
علوم لسانية وقَعَّدت له، فصار حقلاً من حقولها، ولمّاتلقّفه المعجم النقدي
للعلوم الإنسانية انزاح عن خصوصيته اللسانية، فعرَف توسّعاً في الاستعمال،
وإنْ حرص بعض الدّارسين في حقول العلوم الإنسانيةوالاجتماعية على الاحتفاظ
بجوهر مرجعيته اللسانية. لكنّنا عندما نُعاين استعمالاته في كتاباتهم
ونقابلها بالدراسات اللسانية الصّارمة، تظهرالهوّة كبيرة. أمّا مصطلح
النصّ، إذا لم يستقر له تصوُّرٌ لدى المنظّرين،حيث اعترفوا بصعوبة تحديد
ماهيته، فمن العسير أيضاً التقريب بينه وبين الخطاب، ذلك أنّ نظرية النصّ
تنزع نحو الدرس الفلسفي والجمالي، لهذا وجبَ التريُّث في استعمال المفاهيم
وتحديد مواقعها في المعجم النقدي، بل أصبح الأمر في بعض الأحيان لهواً
وتَرفاً علميَّيْن لا جدوى منه". وفي هذاإقرار بعدم القول بالتطابق التامّ
بينهما.
رابعاً-التحليل:
لغة: من حلّل العقدة: أي فكها وحلّل الشيء: أرجعه إلى عناصره الأولى.
وحلَّلْت اليمين أحلِّلها تحليلا: أي لمْ أفعلْ إلاَّبقَدْر ما حلَّلتُ به
قَسَمي أنْ أفْعَلَهُ ولمْ أُبالغ، ثمَّ كثُر هذا في كلامهم حتَّى قيل لكل
شيء لمْ يُبالغ فيه تحليلٌ.
والتحليل اصطلاحا: هو بيان أجزاء الشيء ووظيفة كل جزء فيها ويقوم على الشرح
والتفسير والتأويل والعمل على جعل النص واضحًاجليّاً. ومن هذا المنطلق
يركز الناقد على اللغة والأسلوب والعلاقات المتبادلة بين الأجزاء والكل،
لكي يصبح معنى النص ورمزيته واضحَين، من حيث يعتمد التلخيص لما فيها من
تنظيم المعلومات بشكل منطقي، وقدرةً على فهم النص. لذا فإنّ قراءة النص على
عَجَلٍ لا تعد تحليلا، فإذا وقف القارئ على النص وقفة سريعة وفهم فيها
النص وأدرك مغزاه، وقرأ ما بين السُّطور، وكان على وعي بالدلالات
الاجتماعية للألفاظ، وعرف عناصر الجمال والقبح فيه، دخل في منطقة النقد
والتذوق الأدبي. أما عملية التحليل الفني فإنها تحتاج إلى جهد ووقت وخبرة
وبحث وتنقير.
أمّا وقد قام التحليل على التفسير والشرح والتأويل، ألا يوجد فرق بين هذه المعاني جميعها؟
الحقّ أن أغلب هذه المعاني معانٍ مشتركة, وإن كانت في الوقت نفسه تتفرَّدُ
بدلالات خاصة تميزها عن المعاني الأخرى, إلا أن الشرح ارتبط كثيرا
بالتفسير, ولعل هذه المفردة هي التي تؤدي المعنى على أحسن وجه, فالمعاني
الأخرى تحوي معنى الشرح ولكنها لا تشمله. فالشرح، وإن ارتبط بمعاني الكشف
والتوضيح والبيان, والفتح والتفسير والحفظ فإنّه يجمع بينبيان وضع اللفظ
وبين تفسير باطن اللفظ, أي "التفسير" و"التأويل"، أمّا "التفسير" فكشْفُ
المُراد عن اللفظ المشكل وبيان وضع اللفظ إمّا حقيقة أومجازاً. أمّا
"التأويل" فمن: أوَّل الكلام وتأوَّله: دبَّره وقدَّرهوأوَّله: فسَّره،
ويكون ذلك بردّ أحد المحتمَلَيْن إلى ما يطابق الظاهر،وبذلك خرجت دلالات
هذه الألفاظ من معنى المشترك حين دخلت مجال الدراسةالعلمية , فاختص التأويل
والتفسير بالدراسة القرآنية والمعجمية, والشرحب الشعر, إلا فيما ندر,
وأصبح لكل منها اصطلاح خاص به. فالشرح هو التعليق على مصنف درس من وجهة
علوم مختلفة وقد كتبت الشروح على معظم الرسائل المشهورة أو الأشعار العربية
نحو شرح مقامات الحريري (ت516هـ)، وشرح مشكل شعر المتنبي لابن سيده (ت
458هـ). وعلى هذا فالشّرح أيضا:" توضيح المعنى البعيد بمعان قريبة معروفة
"ومن هنا اكتسب الشرح معناه الخاص. وأماالتفسير, فهو شرح, لكنه من نوع آخر,
فهو "شرح لغوي أو مذهبي لنص من النصوص" ومن هنا نجد أنّ هذا الاختصاص لم
يأت اعتباطا, فلكل مصطلح مجاله الذي يتقاطع فيه مع المجال الثاني, لكنه لا
يتّحد معه على الرغم من اتحادهما في الأصل اللغوي.
وعلى هذا فإن الشرح لفظ عام, وهو مصطلح ذو شقّين: التفسيروالتأويل, وقد
يتداخل الشِّقاَّن أثناء عملية الشرح, فنضطر إلى التعامل مع التفسير على
أنّه مرادف للشرح.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التحليل: هو دراسة نقف بها على كشف خباياها
الرسالة المنطوقة أو المكتوبة أو المرئية، كما نقف علىجزئياتها وعناصرها
الأولية، ووظيفة كل منها بالشرح والتفسير والتأويل، دونمبالغة في ذلك أو
إخلال فيه.
فارس م
24-04-10, 09:07 PM
خامساً- النقد:
من نقَدَ، وهو "أصل صحيح على إبرَاز شيء وبُروزه. من ذلك: النَّقْد في
الحافر، وهو تقشُّره. والنَّقْد في الضِّرْس: تكسُّره، وذلك يكون بتكشف
لِيطِه عنه, ومن الباب: نَقْدُ الدِّرْهَم، وذلك أن يُكْشَفَ عن الحَال في
جَوْدته أو غير ذلك. ودرهم نقد: وَازِنٌ جيِّدٌ، كأنه قد كشف عن حاله
فعُلِم. وتقولُ العربُ: ما زالَ فُلانٌ يَنْقُدُ الشَّيءَ، إذالَمْ يُدم
النَّظَر إليه باختلاسٍ حتَّى لا يُفْطَنَ لهُ.على أنَّ النَّقْدَ الذي
يعني التَّمْييزَ يعبّرُ عن حُكْمِ قيمة جمالية بالجَوْدة أوْ الرَّداءَة
هيَّأ لاستخدامه مجازاً فيالتََّمْييز بين جيِّد الشِّعْر والكلام ورديئهما
إلى أن ظهرت وظيفة ناقدالكلام والنَّاقد الأدبي. "فالنّاقد الأدبي إذن
يعدُّ مبدئياً خبيراًيستعمل قدرة خاصة ومرانة خاصة في قطعة من الفن الأدبي
هي عمل لمؤلِّف مايفحص مزاياها وعيوبها ويصدر عليها حُكماً". فمن المَجاز
قولهم: "نقدَالكلامَ: ناقشهُ. وهو من نَقَدَة الشِّعر ونُقّاده. وانْتَقَدَ
الشِّعْرَعلى قَائله".وقد أتى على أهل التأليف حينٌ من الدَّهْر ساروا فيه
بين (نقد الشِّعر) و (تمييز جيِّده من رديئه)، يقول قدامة بن جعفر
(ت337هـ):" ولَمْ أجِدْ أحداً وضَع في نَقْد الشِّعر وتلخيص جيِّده من
رديئه كتاباً".
وعلى هذا فالنَّقد اصطلاحا: هو حكم ٌ قيمي أو عملية كشف أو مناقشة يُمَّيز
بها الأثر الأدبي أو الفني جيّده من رديئه وصحيحه من زيفه،الأمر الذي جعل
منه ممارسة تقوم على قواعد معيارية يُحاكم بها الأثرالأدبي، ممّا حدا بمعظم
الدارسين المحدثين إلى إدانته، إدانة ما قام عليه من نقد حديث
ومعاص.رفبعضهم يتّهمه بالتقصير والضياع,وفقدان المنهجية, وبعضهم يتهمه
بأنه يخلع على الأدب العربي ثوباً على غير مثاله, فبدا مُضْحكاً مرفوضاً في
صورته الحديثة والمعاصرة، الأمر الذي يجعل بعض تطبيقاته ظواهر غير صحية
تقوم على "التَّخَنْدُق والتحيُّز والمعيارية"،وصار "ضرَراً" و"خُدعةً"
حينما وقفنا قانعين "بما قاله غيرنا عن مؤلّف عظيم بدل أن نذهب مباشرة إلى
ذلك الأديب، ونحاول أن نمتلك أدبه لأنفسنا".
أمّا النقد الحديث من منظور غربي, فيرى في النقد القديم إيمانًا بوجود
محتمل نقدي, وأنّه ذو نزعة حرفية يتعامى عن رؤية الطبيعةالرمزية للقول
الأدبي, لذا فقد" أصرَّ بارث في بعض المناسبات أنَّهُ ليس ناقداً أدبياً.
فلقد كان يرى أنّ النَّقد يشتمل على التقويم وإصدارالأحكام، الأمر الذي يرى
فيه نشاطاً برجوازياً رفض أن يشارك فيه"، لذافإنّه يعوّل على مفهوم ودور
للنقد الحديث يرى فيه النّاقد قد أصبح كاتباًبمعنى الكلمة, وأنّ النقد غدا
من الضروري أن يقرأ ككتابة، على اعتبار أنّ النَّاقد لا يُمكنه أن يكون
بديلاً للقارئ في شيء، إذ ليس من المجد أن يسمح لنفسه- أو يطلب من منه
البعض- إعطاء صوت، مهما يكن محترماً، لقراءةالآخرين، ولا يكون هو ذاته سوى
قارئ أنَابَهُ آخرون للتعبير عن مشاعرهم الخاصّة بدعوى معرفته أو قدرته على
إصدار الأحكام، أي أن يرمز -باختصار-إلى حقوق جماعة على الأثر الأدبي،
لأنّه حتى ولو جاز لنا تعريف النّاقد بأنَّه قارئ يكتب، فذاك يعني أنّ هذا
القارئ يلتقي في طريقه بوسيط مخيف هو: الكتابة.
ولعلَّ في تقديم بارث لنَّقدَ على أنَّه"قراءة عميقة (وإن ركّزت على جانب
معيّن)"، ما يُحدّدُ مفهومه وطبيعته بصورة مؤقّتة، كون هذه القراءة" تكشف
في الأثر الأدبي عن مُدرك محدَّد، وهي في ذلك تعملُ حقّاًعلى فكِّ الرُّمُز
وتُساهمُ في التأويل "على اعتبار أنّه يحتلُّ من حيث الفائدة المنهجية
"مكاناً وسطاً بين العلم والقراءة. إنّه يُعطي لغةالكلام الخالص الذي
يُقرأ، كما يُعطي كلاماً (بين أشياء أُخَر) للغةالأسطورة التي صيغ منها
الأثر الأدبي، والذي يتناولها العلم."
أمّا "أن تكون القراءة نتاجاً، أي أن نجعل من القارئ منتجاً لا
مُستهلكاً"فليس بالأمر الميسور في كلّ الأطوار، ولا يسري علىكلّ الناس،
وعلى كلّ القرّاء، اللهمّ إذا كان بارث يرمي إلى تضييق مجال القراءة فيحصره
في الكتّاب وحدهم، لأنّ مثل هذا التفكير ينشأ عنه إلغاء جمهور القرّاء
وسوادهم، وهذا الجمهور هو المقصود بالكتابة الأدبية، إذ لايمكن أن يكتب
الكتّاب لأنفسهم، أو أن يكتبوا لبعضهم بعضاً (وهم قلّة قليلةعلى الأرض).
إنّه لا ينشأ من مثل هذا التفكير إلاّ قتل الكتابة، وقتل القرّاء معاً، أي
نعيُ الأدب، ثمّ تشييعه إلى مثواه الأخير وإلى الأبد. لذا بات تحديد مفهوم
القراءة ووظيفتها مرهونا بتحديد القرّاء. فمن هم هؤلاء؟وما مواصفتهم؟ وما
هي أيديولوجياتهم؟ وما أذواقهم وما ثقافاتهم؟ ومافلسفاتهم في الحياة؟ هل هم
العمّال في المعامل، أم هم الطلاّب في الجامعات، أم هم الأساتذة الذين
يحاضرون في أصول العلم، أم هم أولئك الذين يكتبون، أي الذين يحترفون الأدب
احترافاً؟ أم هم أصناف أُخَر من البشر،وخَلْقٌ من النّاس؟
سادساً- القراءة:
القراءة لغة: تأدية ألفاظ النص وتتبُّعها نظراً أو نطقاً. ويعتمد القارئ في ذلك مستويات كالأداء والحفظ والفهم، والتذوق.
1_ مستوى الأداء: وغاية أن يؤدي القارئ الأصوات أو الصورالصوتية أو الرمزية
بدون إبدال واضح للمعاني عند الأطفال والمذيعين أوالمنشدين أو
المتَسَلِّين.
2_ مستوى الحفظ: ويقوم على قراءات متتالية أو متقطعة أومتصلة، فيهتم
بالعلاقات الصوتية والمعنوية ويثبت صورها في الذاكرة الحركيةأو الصوتية وهي
شائعة في المدارس والمسارح (التمثيل).
3_ مستوى الفهم: ويقوم على قراءة واعية متأنية تلتمس معاني التراكيب
والألفاظ والعبارات والعلاقات النحوية والفنية وإدارةالحركة الجزئية في
النص والحركة الكلية التي توجد جوانبه بوساطة التحليل والتركيب وهي قراءة
المتعلمين في المدارس المتقدمة وفي الجامعات وفيالحياة العامة.
4- مستوى التذوق: وهي قراءة متتالية متأنية تحلّل البنى السطحية والعميقة
الأصلية والفرعية ورصف المعاني الإنمائية الدقيقة لتعزيزالفكرة الأساسية
وتتبع المقويات الدلالية والمعجمية والمجازية والفنية, الخاصة, وتحيط
بامتداد النص وتبرز عمقه وتكتشف أبعاد التفكير والتعبيروالتصويرية وترابط
أجزائه بالبيئة اللغوية والاجتماعية والفكرية والبنيةالفنية وبذلك تتمثل
الظلال والأصلية والحوادث والأفكار والانفعالات والآثار النفسية الجمالية
فينفعل بما يوحي به من عواطف وصور الجمال وهذه هي قراءة الدارسين والمحللين
للنصوص الأدبية وغيرها.
أمّا القراءة من منظور اصطلاحي، فهي آلية تفكيك الشّفرةاللغوية المتمثلة في
تداخل شبكة العلامات والإشارات اللغوية ضمن سياق محددتعدّ الجملة وحدته
الأولى، وبما يكفل الوقوف على بنية النصّ الأساسيةوالتي يقسمها العالم
اللغوي ناعوم تشومسكي، إلى بنيتين: إحداهما فوقيةسطحية وأخرى تحتية عميقة.
لكن اللسانيات بحكم امتلاكها، في رأينا على الأقل، كلَّ العناصر والإجراءات
الجديرة لقراءة النص الأدبي قراءة شاملة كاملة، وبحكمأنّ وضعها المعرفي
يجتزئ أصلا، بالبحث في النّظام اللغوي البشري لدى حدودالجملة لا ينبغي له
أن يتجاوز حدودها النّحوية، وبحكم أنّ هذا الوضع المعرفي لا ينبغي أن يتيح
لها أن تمضي بعيداً في أدغال النصّ الأدبي ومجاهله ومكان الجمال فيه، فإنّ
الأسلوبية-بحكم تفرّعها عن اللسانيات-أوشكت أن تغتدي ميكانيكية الإجراءات
بحيث تراها لاهثة جاهدة إلى الكشف عن نظام الأسلوب من خلال الجملة، أي
البحث في عناصر الجملة من فعل وفاعل ثم مفعول، أو من فعل وفاعل ثم حال، أو
من فعل وفاعل ثم تمييز، أو من فعل وفاعل وجار ومجرور، أو من مبتدأ وخبر،
وغيرها، وذلك وفق نظام تعليق لايكاد يجاوز البحث في التركيب اللغوي وتبادل
البنى النّحوية في نصّ من النّصوص.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تشومسكي نفسه تساءل في أحدث كتاباته عما إذا
"كان مستويات أخرى غير المستويين الوجيهين السابقين (البنية السّطحية
والبنية العميقة) الذين افترضا في البحث المعاصر؟ فأجاب من حيث رأى أنّ"ما
اصطلح على تسميته بـ" برنامج الحد الأدنى" جهداَ يُوج بُإخضاع الافتراضات
التقليدية للتقصّي المتأنّي من منطلق أنّ أكثر القضاياتبجيلاً أنّ للغة
صوتاً ودلالة، وتُترجم هذه القضية، في المصطلحات الجديدةبشكل طبيعي، إلى
الدعوى التي تقتضي بأن الملكة اللغوية)تلتقي بالأنظمةالأخرى للذهن/الدّماغ
عند مستويين وجيهيَّيْن يتّصل أحدهما بالصوت والآخربالدلالة، الأمر الذي
يجعل كلّ ما حلّل بموجب مستويي " البنية السّطحيةوالبنية العميقة" كان
ضحيّة لخطأ في الوصف، وأنه يمكن أن يُفهم بشكل مماثل أو أفضل في ضوء شروط
المقروئية في المستويين الوجيهيّيْن: ويعني هذا، عندالمطّلعين على الأبحاث
المتخصّصة، مبدأ الإسْقاط، ونظرية الرَّبْط، ونظريةالحالة الإعرابية، وشرط
السلسلة، وغيرها.
كما تعدّ القراءة، كما يراها أصحاب نظرية التلقي التيتؤمن بأن القارئ يشارك
في كتابة النص، هي عملية نفسية حركية تختص بإعادةالأثر الأدبي أو النص إلى
مدركات أولية عبر إعادة تفكيك الإشارات اللغويةوموازنة العلاقة بين مجموعة
الدوال مع المدلولات في الجملة الواحدة ومن ثمالنص كاملاً. وهنا نرى أن
القراءة فعل تأويلي،لأنها مطالبة وقادرة علىإضاءة النص وعلى نحو يتيح
للقارئ اكتشاف البنية الداخلية للعمل، لذا فـإنّ مهمّة الناقد الأدبي
الجديدة تنحصر في الاهتمام بنوعية العلاقة بين النصّ والمتلقي، وذلك
انطلاقاُ من هذه الأسئلة المعهودة: كيف انفعل القارئُ بالنصّ؟ هل كان ردّ
فعله محض "استهلاكه" بكيفية نمطية ومرضية تجرى على نسقمطرد رتيب في قراءة
الأدب، أو هو نوعٌ من الإخفاق في إكراه هذا النصّ على قول ما يريده القارئ
أن يقوله، أو أنّه سيندهش بجدّته التي كانت تكيّفتعاطيه للأدب، ومن ثمّ
بمعانقته هذا الأفق الجديد والمختلف الذي يصدر عنهذلك النص.
لنتصورّ الآن أن ناقداً قرأ مسرحية كوميدية أو شاهدهامعروضة، فإنّ التفاعل
معها سيتمّ التوافق العفوي بين أفق النصّ وأفق التلقي طالما أنّ المسرحية
قد أجابت عن أسئلته واستجابت لانتظاراته. وسيقوم هذا دليلاً على أنّها
نُسخة مطابقة لأصلٍ جاهزٍ تكَرِّرُ موضوعه أوصورةٌ موافقةٌ لمعيارٍ تجترُّ
شكله. لكن النّاقد نفسه سرعان ما يشعربالغُبْن ومن ثم يخيبُ أفق توقّعه إذا
قام بمراوغة تقوم على مداراة هذه المسرحية بأن يقرأها كما لو كانت مسرحية
تراجيدية على طريقة "راسين" (1639-1699) أو ملحمية على طريقة"بريخت"
(1898-1956). بيد أنّه إذا قرأ أوشاهد مسرحية عبثية من ذلك النّوع الذي
يكتبه "صمويل بيكيت" (1906-1989) أو "أوجين يونسكو" (1909-1994)، وكان ذا
دماثة فكرية تؤهله تلقائياً لتقبُّلصدمة هذا المسرح المختلف، ولارتضاء
آثاره فإنّه سيكفُّ عن الهوس بالجماليةالكوميدية بل وقد تتغيّرُ نظرته إلى
الأشياء وإلى الوجود من حيث تصبحسوداوية بعد أن كانت تفاؤلية.
وتبدو هذه الأمثلة المتفرقة بسيطة جدا لو قارناها بجملةالمتغيرات الدلالية
للنص، وأخص بالذكر هنا النص الأدبي والنص الشعري علىوجه التحديد. فقد أجمع
النقاد على أن إشكالية الأدب تأتي من طبيعة اللغةذاتها، أدبية النص، والتي
تعمل على توظيف الآلية اللغوية بعيدا عن معناهاالتداولي البسيط نحو ما يعرف
باستكشاف جماليات اللغة عبر "المجاز. والمجازعموما هو عملية تطويع لغوي
ضمن إطار يتجاوز المعجم وصولاً إلى التسييق بمايضفي على اللفظ رونقاً يخرجه
من حيّز الحقيقة إلى رحابة المجاز الذي تتيحللمفردة الواحدة أن تخدم وظيفة
تعبيرية جمالية في آن معاً.
هذه الجمالية التي، وإن كان بإمكانها أن تُسهم في اكتمالالمهامّ التي
يتعيّنُ أداؤها على "نظرية الفن وتاريخه" اللذين هما في طورالتجديد وإحداث
قطيعة جذرية مع الأعراف العلمية المقرّرة، إلاَّ أنَّه لايمكن لها "أن
تدّعي لنفسها أنّها إبدال منهجي بالتّمام والكمال". فليستجمالية التلقي
"نظرية مستقلّة قائمة على بدَهيات تسمح لها بأن تحلَّبمفردها المشكلات التي
تواجهها، وإنّما هي مشروع منهجي جزئي يحتمل أنيقترن بمشاريع أخرى وأن
تكتمل حصائله بوساطة هذه المشاريع. "وأنا إذ أقرُّبذلك، أترك لغيري-شريطة
ألاَّ يكون خصماً وطرفاً في آنٍ واحدٍ-عناية تقريرما إذا كانَ ينبغي، في
مجال العلوم التأويلية الاجتماعية، اعتبارُ هذاالاعتراف بالنّقص من لدن
منهج ما علامة على ضعفه أو على قوّته".
*خاتمة:
بعد هذه الإطلالة التي أردناها متكاقئة على جهود بعض الدّارسين المحدثين
عرباً وأعاجم في تطويق تحليل النص أو الخطاب في المعجم والدلالة والنظرية
وما يدخل في فلكهما من مصطلحات ذات الصلة، ارتأينا أننلتمس بعض العُذر
(المفضي إلى الأسف) للمحدثين من العرب على محاولة الحفاظفي عَنَت على ماء
الوجه التنظيري على النّحو الذي فكّر فيه معاصروهم منالأعاجم، أو بعض
أسلافهم من الشّعراء المحدثين، الذين ضاقوا ذرعاً بأغراضالشّعر القديم
وأشكاله وما برع فيه القدماء من وصف ورثاء ومدح وغزل،فجدّدوا من حيث جدّد
الغربيون التوّاقُون إلى طلب الجديد والتجديد،فبادروا إلى التنظير على
التنظير، والذي أضحى على أهميته كالكساء الفضفاضنقحم فيه حساسيتنا إقحاماً
باسم المعاصرة والحداثة دون أن يتمازج ذلك معما نستجلبه أو نسقطه من أحدث
التقنيات والنظريات الغربية هي تجربةحساسيتها، ولها خصوصيتها وتفرّدها وكلّ
ما يميّزها عن خصوصية حساسيتناوتفرّد لغتنا، الأمر الذي لا ينقص من أهمية
التنظير في شيء، والإفادة ممافي أيادي غيرنا بما يمثّل حواراً مع حاضرنا،
لكن دون أن نسقط في جلباللّعب الثقافية الخالية من حرارة التجربة الحسّية،
ونقع في الفوضى المصطلحية التي يزيد في استفحالها ما يفد علينا آنيّاً من
مصطلحات فيضيق بذلك مجال التطبيق اتساعَ مجال التنظير، فلا نمسك عندها
إلاَّ بالجانبالضنين من هذه التجربة أو ما اصطلح عليه حديثاً بـ
"البريكولاج اللغوي وهوأمرٌ نبّه إليه الأسلاف وحذّروا من مغبّته، "فقد قال
أبو بكر بن السرّاج (ت 316هـ) في رسالته في الاشتقاق، في (باب ما يجبُ على
النّاظر فيالاشتقاق أن يتوقّاهُ ويحترس منه): ممّا ينبغي أنْ يَحْذَرَ منه
كلُّالحَذَر أن يَشتقَّ من لغَة العرب لشيءٍ من لغة العَجَم، فيكونَ
بمنزلة منادّعى أنَّ الطَّيْرَ وَلَدَ الحُوت". فإذا صدق ذلك على اللفظ
فالمعنى بهأولى.
ونحن أمام تعريف للنصّ بات فيه أقرب إلى الخطاب وتحليليحتمل الإخلال كما قد
يحتمل الموضوعية، وأمام نقد لم تكتمل معالمه ومناهجهوتستقرّ مصطلحاته,
ناهيك عمّا يعكسه من ظواهر سلبية أهمها" التَّخَنْدق" و"التحيّز"
و"المعيارية" لا نملك-والحال هذه- إلا أن نفضّل القراءةالواعية المتأنية
ونأخذ بها، على تعدّدها، وفق مستوى تذوّقي يدرك فيهاالقارئ العلاقات
النحوية وطريقة الأداء اللغوي، والدلالات المركزيةوالهامشية والاجتماعية
الكامنة في الأثر الأدبي بشقّيه الشعري والنثريالذي يحتمل أكثر من تأويل،
ما دام "لا أحد- بحسب بارث: يعرفُ شيئاً عنالمعنى الذي تمنحه القراءة للأثر
الأدبي، ولا عن المدلول-وذلك، ربَّما،لأنّ هذا المعنى، اعتباراً لكونه
شهوة، ينتصبُ فيما وراء سنن اللغة. فالقراءة وحدها تعشق الأثر الأدبي،
وتقيم معه علاقة شهوة. فإنّ نقرأ معناهنشتهي الأثر (س)، ونرغبَ في أن
نكُونَه، وأن نرفض مضاعفته بمعزل عن كلّكلام آخر غير كلامه هو ذاتُه: إنّ
التعليق الوحيد الذي يمكن أن ينتجه قارئمحض وسيبقى كذلك، هو المعارضة.
وعليه، فإنَّ الانتقال من القراءة إلى أيٍّمن الحدود أو الإسقاطات الأخرى
فمعناه تغيُّر الشَّهْوة، وعلينا تَبـِعَةُما نقرأ.