منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المقاربة والفهم

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    المقاربة والفهم Empty المقاربة والفهم

    مُساهمة   الخميس أكتوبر 27, 2011 8:05 am


    الجزء الثاني

    15/06/2006

    أحمد بـــابــانا العــــلــــوي.


    لا ريب أن اعتلال الفكر هو مؤشر، ودليل على ما يصيب الأمم والحضارات من فساد ووهن واضطراب، وتمزق واندحار...
    وقد توقف الفيلسوف الفرنسي "أغوست كونت" (Auguste comte 1757-1798) عند هذه
    الظاهرة، فرأى بأن السبب الرئيسي في فساد، واضطراب المجتمعات الإنسانية،
    يرجع إلى فساد الأخلاق، وأن السبب في فساد الأخلاق يعود إلى فساد التفكير
    واضطراب طرق الفهم. وبيان ذلك أنه لاحظ أن الناس في عصره، كانوا يسلكون
    منهجين متناقضين كل التناقض في فهم الأشياء.

    فإذا كانوا بصدد ظاهرة من ظواهر الطبيعة فهموها على الطريقة
    الوضعية(Méthode positive) وهي الطريقة التي تبحث عن طبيعة الظاهرة، وسببها
    المباشر، وما تخضع له من قوانين...أما إذا كانوا بصدد ظاهرة من ظواهر
    الاجتماع الإنساني تناولوها بمنهج آخر وفهموها على طريقة مغايرة سماها
    "اغوست كونت" "الطريقة الدينية-الميتافيزيقية- Mode de penser théologico
    Métaphysique " وهي الطريقة التي ينصرف فيها النظر عن طبيعة الظاهرة وسببها
    المباشر وما تخضع له من قوانين.(11)
    ونتيجة لهذه الازدواجية في المقاربة والفهم جنبا إلى جنب في أذهان الناس
    فإن ذلك أدى في نظر "كونت" إلى حدوث اضطراب كبير في التفكير الإنساني، إذ
    ليس بعد قبول النقيضين من خلل في التفكير، واضطراب في الفهم، وأطلق على هذه
    الحالة "الفوضى العقلية (Anarchie mentale)، وقد أدت هذه الفوضى العقلية
    إلى فساد في الأخلاق والسلوك لأن كل ما يعتور الفكر من اضطراب ينعكس على
    الأخلاق والسلوك –في نظره- ثم إن فساد الأخلاق والسلوك يؤدي إلى فساد شامل
    في مختلف فروع الحياة الاجتماعية، لأن الحياة قائمة على دعائم من الأخلاق
    والمثل، فبفسادها، وانهيارها، تفسد جميع فروع هذه الحياة وتتقوض أركانها.
    (12)
    فلا سبيل إذن لإصلاح اجتماعي إلا بإصلاح الفكر الإنساني... فالفكر كما يرى
    "كونت" هو أساس الجهاز الاجتماعي (Le mécanisme social repose sur la
    pensée ).
    ولما كانت أسباب فساده ترجع إلى اضطراب في فهم الأشياء، نتيجة لوجود
    طريقتين متناقضتين .. فلا سبيل للخروج من هذه الوضعية، في نظر "كونت" إلا
    بالقضاء على هذا الاضطراب الفكري...وقد حدد لذلك ثلاث وسائل :
    1-التوفيق بين الطريقتين في الفهم بحيث لا يحدث وجودهما في أذهان الناس أي اضطراب في تفكيرهم ..
    2-إقصاء الطريقة الوضعية وجعل الناس يفهمون جميع الظاهرات على الطريقة الدينية-الميتافيزيقية.
    3-إقصاء الطريقة الدينية –الميتافيزيقية وأن نجعل الناس يفهمون جميع
    الظاهرات على الطريقة الوضعية. وينتهي أمام المدرسة الوضعية بعد أن استعرض
    هذه المقاربات، الى أن الحل الذي يؤدي إلى الانسجام، في التفكير الإنساني،
    يكمن في أن نجعله يفهم الأشياء على الطريقة الوضعية وحدها، لأن فهم الشيء-
    حسب تصوره- على الطريقة الوضعية هو عبارة على فهم القوانين التي تخضع لها.
    أردنا من خلال هذه التوطئة لبعض التصورات التي صاغها أحد قادة الفكر الغربي
    الحديث أن تكون مدخلا لرصد مفهوم المعرفة عند كبار الفلاسفة في العصور
    الحديثة...
    والمعرفة هي إدراك الأشياء وتصورها، وفي اللغة "عرف الشيء أدركه وعلمه"
    والمعرفة تشترك مع العلم بمعناه العام الذي هو إدراك الشيء على ما هو
    عليه...
    وفي اللغات الأوربية الحية نجد أن كلمة (Know) في الإنجليزية أو(savoir)
    الفرنسية تعني امتلاك القدرة على الإدراك والاضطلاع، وبالتالي هناك المعرفة
    بالاتصال المباشر أو المعرفة بالوصف...أما في الاصطلاح الفلسفي فالمعرفة
    هي ثمرة التقابل بين ذات مدركة وموضوع مدرك...
    وتتناول نظرية المعرفة (théorie du savoir) أسس البحث عن طبيعة المعرفة ومصادرها و الطرق الموصلة إليها...
    وقـد حدد كـل من الفيلسوفين جـون لــوك (J.Locke 1704-16332 ) وأمـانويـل
    كــانـط (I.Kant 1804-1724) موضوع المعرفة بصورة دقيقة، سواء فيما يتعلق
    بطبيعتها أو قيمتها أو حدودها أو علاقتها بالوجود...
    إنها تبحث في مشكلات العلم عامة، وتبيان الوسائل التي يتم بها تحصيل
    العلم... ثم تتطرق نظرية المعرفة إلى المعرفة القبلية، والمعرفة البعدية :
    القبلية هي التي تسبق التجربة و البعدية تأتي بعد التجربة..
    وتبحث النظرية في الأدوات التي تمكن من العلم بالأشياء، وتحدد مسالكها
    ومصادرها وتهتم بمعرفة اتصال قوى الإدراك بالشيء المدرك أو علاقة الأشياء
    المدركة بالقوى التي تدركها ..
    ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن مصطلح "الابستمولوجيا
    (Epistémologie) هو في الحقيقة اشمل وأوسع مدلولا من مفهوم نظرية المعرفة
    فالابستمولوجيا أي نظرية فلسفة العلوم أو نظرية المعرفة العلمية، تتسع
    لجميع حقول المعرفة الإنسانية..
    إذن كما أسلفنا يجب التمييز بين نوعين من الإدراك : إدراك حسي عن طريقة
    الأشياء الموجودة في العالم الخارجي : وإدراك تأملي عن طريق العمليات
    الذهنية، وهذا الإدراك التأملي يستند إلى الحواس ... فالأفكار التي تأتي
    إلى العقل عن طريق الحواس هي الأفكار البسيطة (idées simples) من قبل اللون
    والشكل والحجم والصلابة والامتداد والحركة..إلخ.
    أما العقل فإنه يقوم بتأليف الأفكار المركبة.. ويرى الفيلسوف دافيد هيوم
    (1711-1776) بأن إدراكات العقل البشري تنقسم إلى نوعين متميزين :
    الانطباعات التي تنطبع بها حواس الإنسان، والأفكار وهي ما تخلقه الانطباعات
    عند الإنسان من صور ذهنية أي الدليل العقلي من صور لتلك الاحساسات
    والعواطف والانفعالات..
    ثم يقسم (هيوم) الأفكار إلى بسيطة ومركبة والبسيط، لا يمكن تحليله، أما
    المركبة فيمكن تحليلها أي تحديد العنصر المكون لها وبالتالي تحديد انطباعه
    الذي هو صورة له...
    ويفرق (دفيد هيوم) بين نوعين من المعرفة :
    -المعرفة التي تقوم بتحديد العلاقة بين الأفكار
    -والمعرفة التي تخبرنا عن أمور الواقع..
    ويرى بأن تدليلاتنا عن الواقع إنما تقوم على أساس العلاقة السببية التي
    تتيح للإنسان أن يتجاوز حدود الإدراكات الحسية وشهادة الذاكرة في حكمه على
    وقائع العالم الطبيعي..
    لأن علمنا بالرابطة السببية في جميع الحالات لا ينشأ عن التفكير العقلي
    الخالص الذي يستغني عن الخبرة الحسية من تقريره، بل هو مستمد في جميع
    الحالات من الخبرة الحسية التي تقدم لنا الشيئين اللذين نحكم بأن بينهم
    رابطة السبب، بالمسبب متصلا أحدهما بالآخر... (13). وعلى هذا الأساس فإن
    الخبرة الحسية وحدها هي المصدر الذي نستقي منه علمنا بالواقع.. وليس عن
    طريق التفكير العقلي الخالص..
    من هنا يمكن القول بأن التصور الغربي للمعرفة يقوم على عدة مذاهب : فهناك
    المذهب العقلي الذي يبحث عن ماهيات الأشياء، في حين أن البرجماتية تذهب أن
    هذه الماهية العقلية لا وجود لها. فالأفكار عند فلاسفة البرجماتية تقاس بما
    يترتب عليها من منفعة..أما الذرائعية (Instrumentalisme ) فإنها تنظر إلى
    المعرفة بأنها أداة للعمل، وبالتالي فإن الأفكار ذرائع ووسائل نتوسل بها في
    توجيه سلوكنا بما يحقق الغاية المنشودة. فالموجود إذن هو الآثار السلوكية
    المترتبة عن الأفكار.
    وإذا كان العقليون يرون أن الحقيقة كامنة في الأشياء فإن البرجماتيين يرون
    أن الحقيقة تقبل على الأشياء من دنيا الفعل والسلوك ويعتقد العقليون أن
    الصورة العقلية للأشياء أهم في الدلالة على هذه الأشياء من آثارها الحسية
    ويخالفهم البرجماتيون بالقول بأن لا شيء يعدل الآثار الحسية...
    ويرى "كانط" بأن وظيفة العقل الأساسية أنه يعطي للأشياء مجموعة من
    العلاقات..ويرد البرجماتيون على ذلك بأن العلاقات توجد بين الأشياء
    الطبيعية..(14).
    ويتضح لنا من كل ما سبق أن المعرفة في التصور الغربي انصبت على عقل الإنسان
    عند العقليين وعلى حواسه عند الحسيين، وأضاف البرجماتيون إلى الحواس كمصدر
    للمعرفة، ضرورة الاهتمام بنتائج المعرفة، والأفكار..
    وجاء المذهب الحدسي، وانتقد المذهبين العقلي والتجريبي، معتبرا أن المعرفة
    التي يدعو لها أنصار هذين المذهبين، سطحية ونسبية وميتة..وأن الحدس وحده هو
    الذي يقدم لنا معرفة حقيقية ، عميقة وحية..
    إن الباحث في العلوم الإنسانية كما يرى الأستاذ عبد الله العروي "لا يفعل
    سوى اتباع وتطوير الحدس البشري العام يقيس المؤرخ مقادير تحرير الفرد من
    خلال تتبع أحقاب التاريخ الطبيعي والإنساني، ويقيس العالم الاجتماعي قدرة
    الفرد في مجتمع ما على التصرف في جسمه ومحيطه العائلي و السياسي".
    ويقول بأن الحرية شعار ومفهوم وتجربة ويجب التمييز بين التجربة وبين
    التعبير عنها، العالم يعبر عن الموضوع بواسطة المؤشرات التي هي كلمات
    وأرقام ورموز.. ويضيف بأن الباحث قبل أن يصف الواقع يحدد رموزا والرموز
    مسبقات لا يستغنى عنها أحد فلا فائدة من نفيها أو اللف حولها. الطريقة
    العلمية الموضوعية هي البدء بالوعي بتلك المسبقات المعقولة أي بنقد الكلمات
    والمفاهيم التي هي وسيلة الوصف. يجب أن يسبق النقد الوصف لكي نعقل ما نصف
    وما نقول ".(15)
    المفاهيم إذن تحتل مركزا هاما لدى الباحثين في حقول المعرفة المختلفة لما لها من دور في الضبط، وكذلك في بناء المناهيج والنماذج.
    وأهم ما يركز عليه في مختلف المجالات هو التفرقة بين الكلمة والفكرة والمفهوم المجرد والمفهوم والمصطلح، وتنوع استعمالات المفاهيم
    في الفلسفة العامة، وفي الابستمولوجيا العامة والخاصة وفي علم النفس
    المعرفي والذكاء الاصطناعي وينصب اهتمام الأدبيات بشروط امتلاك المفهوم
    وبالشكل وأصنافه ووظائفه..(16).
    لكون المفاهيم
    هي لب اللغة وجوهرها، والأداة التي عبرها يتم نقل الأفكار والمعارف
    والمشاعر ومن ثم لابد من إدراك أوجه التشابه و التباين بينها، و تحديد
    الخصائص الجوهرية التي تشكل المفهوم، وذلك بالبحث في المسألة المصطلحية أي
    حقل المعرفة الذي يعالج تكوين المفاهيم، وتسميتها، ومن ينظر في معاجم
    النظريات والمفاهيم والمصطلحات، سوف يجد بأن هناك نوعين من المفاهيم أحدهما محدد والآخر غير محدد.. إن المفاهيم
    ليست مصطلحات منعزلة، وإنما على أساسها يقام التصنيف، والترتيب والتشريح.
    فالمصطلح هو عنوان المفهوم وأساس الرؤية التي تريك الأشياء كما هي بأحجامها
    وأشكالها وألوانها الطبيعية أو على غير ما هي مشوهة محدبة أو مقعرة..
    ومن هنا كان من الضروري ضبط الجانب الدلالي والمفهومي للمصطلح.. من أجل فهم
    مضمون النص (Texte) فهما دقيقا وصحيحا، فالنص وهو نسيج من الكلمات تتضمن
    على حقائق ومعاني تحتاج إلى استنباط وتأويل من أجل إبرازها و إظهارها..وفي
    هذا الصدد يقرر الدكتور نصر حامد أبوزيد بأن "قراءة التراث وتأويله في ضوء
    مشكلات الواقع الراهن وهمومه تمثل إحدى الهموم الفلسفية في الفكر الإنساني
    المعاصر، وقد اقترنت في نشأتها بالبحث في مشكلات تأويل، الكتب الدينية
    المقدسة اليهودية والمسيحية تحت اسم " هرمينوطيقا التأويلية (Herméneutique
    ).. والمصطلح كان يشير في بدايته على مجموعة القواعد والمعايير النظرية
    التي يجب على المفسر أن يتبعها لفهم النص الديني وشرحه وتأويله". (17).
    وهو بذلك يختلف عن مصطلح التفسير (exégèse) الذي يشير الى عملية التأويل..
    في المجال الأوربي ظهرت الحاجة إلى وضع قواعد ومعايير لتأويل النصوص في منتصف القرن السابع عشر مع بداية عصر الإصلاح الديني..
    أما في المجال العربي الإسلامي فقد نشأت مسألة قراءة وتأويل النصوص الدينية
    مع بروز الفرق السياسية في خضم الصراعات التي نتجت عن حقبة "الفتنة
    الكبرى".
    وقد اشتد الخلاف حول تحديد معنى ودلالة مصلحه "التفسير" و "التأويل" ومحاولة بلورة الفرق بينهما في الاستخدام والتوظيف..
    أما مفهوم المصطلح فقد اتسع نطاق استخدامه في الفكر الحديث، فصار يتناول إلى جانب تأويل النصوص الدينية، عمليات التأويل المعرفية في العلوم الإنسانية..
    وقد نشأت نظرية المعرفة في الفكر الحديث على أساس منطق التأويل
    لأي ظاهرة، تاريخية أو فلسفية أو أدبية أو سياسية أو اقتصادية بوصفها
    بناءا معقدا من العلاقات التي تتضمن عناصر "الذات" و "الموضوع" و"السياق" و
    "نسق العلامات" و "الرسالة" وهي عناصر تتفاعل مع بعض تفاعلا يتسم بالتوتر
    الذي يفضي أحيانا إلى "بروز" بعضها على حساب بعض دون أن يفضي إلى إخفائها
    إخفاء كاملا". (18)
    إن كل نص قابل للشرح والتأويل، كما أن لكل نص أفقا معرفيا وإيديولوجيا وهو
    نتاج أزمنة ثقافية وسياقات تاريخية واجتماعية معينة...وبالتالي فلكل نص من
    النصوص دوال إشارية ترتبط بعصر إنتاجها، وتظل حية، ودالة طالما العصر يكرر
    نفسه أو يعاد إنتاجه..
    وحين يحدث تغيير جوهري في بنية الثقافة، قد تفقد بعض تلك الإشارات الدلالية
    قدرتها على الإشعاع فتخفت لكنها، لا تموت، أبدا، إذ تظل لها القدرة على
    القيام بوظيفة الشاهد التاريخي..(19).
    من المؤكد أن أي نظام لغوي إنما هو تعبير عن نظام إدراك جماعة بشرية
    لبيئتها ولنفسها..، ومن ثم فلا يستطيع أن يفهم حضارة ما حق الفهم من يجهل
    وسيلتها اللغوية في التعبير فمباحث علم الدلالة تقوم بتحليل لفكرة المعنى،
    وعلاقة اللغة بالفكر، سواء كان المصطلح مفرد أو مركب، كما تحلل الألفاظ إلى
    معانيها للكشف عن الاستعمالات الحقيقية والمجازية للفظ..
    ومن هنا أهمية النظرية التأويلية في إضفاء المعنى والدلالة، والسماح بالفهم
    والاستيعاب من خلال تفكير ابستملوجي ومنهجي حول ظاهرة الفهم..
    ونظرية التأويل
    تدور حول إيضاح وتفسير الأشياء لتصبح مفهومة ومعقولة.. والتأويل معناه
    إيضاح وتفسير وبيان ما هو مبهم أو غامض في النص ليصبح مفهوما ومستوعبا من
    طرف الجميع.. ومن هذا المنطلق كان مفهوم التأويل
    والترجمة في اللسان الإغريقي لهما نفس الدلالة والمعنى، لأن ترجمة النص
    (أي نقل وتعويض الألفاظ) هو بالضرورة تأويل لمحتوياته، وإيضاح لمضامينه ..
    وبالتالي فإن المؤول ا والمترجم إنما هو وسيط بين النصوص والملتقي الذي
    يسعى لفهمها واستيعابها، فمدلولات الفهم، والتأويل إنما يقصد بهما ما هو
    خفي من وراء اللفظ الظاهر، وذلك من خلال التعمق بأصول اللغة وتشكيلاتها
    بهدف التعرف على أسرارها ومدلولاتها الخفية ..
    والنص إذن هو الذي يتضمن أسرار اللغة وحقائقها، وبمفاتيح التأويل الرمزي والنمطي، نستطيع أن ندرك ما تنطوي عليه الحروف التي تنسج النص من أسرار ومعاني ..
    وقد منحت نظرية التأويل، العلوم الإنسانية، قاعدة تحليلية للتفسير المنهجي
    للأشياء والتصورات، وأداة معرفية بقصد تبيان دلالة الأشياء وترجمة ما هو
    غامض ومبهم في النصوص .. وتأسيسا على ذلك "فإن أي عصر من العصور ما هو إلا
    تفاعل لثقافات، ولغات تتباين في علاقاتها بالماضي، ثم إن أي نص معرض لأن
    يموت بالسكتة القلبية، إذا لم يجد قارئا، ويعيش إلى الأبد كلما تزايدت
    عملية الإقبال على قراءته."(20).
    ويرى الأستاذ العقاد رحمه الله بأن الرجل الذي يعلم بأنه عثر على المعنى
    الصحيح ثم ينبذه مختارا ليخلفه بعبارة تبرق في النظر أو تطن في السمع يزيف
    على نفسه، تزييفا لا ترضاه السلفية الجميلة، ولا الذوق المستقيم، فالقول
    بأن كاتبا يضحي بالعبارة المحكمة عند الضرورة من أجل العبارة الجميلة، -وهو
    عالم بذلك- فيه تجوز يدل على سوء فهم للحق أو سوء فهم للجمال، وفيه
    مبالغة، كمبالغة الصور الهزلية التي تغتفر أحيانا للدلالة على نظرة خاصة
    يقصدها المصور لا للدلالة على الصدق والأحكام" .. وقد يضحي الكاتب بالحق في
    سبيل البهرج الكاذب لأنه لا يتذوق جمال الحق ولا بساطة الجمال .. والبهرج
    كما لا يخفي غير الجمال، وإن ظن أنه منه، بل إن البهرج يناقض الجمال، وإن
    الإعجاب به دليل على ضلال مشوه عن الذوق الجميل. فهو سطحي إذا لفتك فقد بلغ
    الغاية وأعطاك كل ما عنده ولم يبق لديه سر غير ذلك السر الذي يقف عنده
    الحس ويتجمد عنده الخيال..وهو قيد يغل الحس والتفكير " (21)
    وإذا كانت ميزة الكلام أو التعبير الظهور والبروز، وأن الفصيح من الألفاظ
    هو الظاهر البين، وبأن جوهر معنى النص الوصول إلى غاية الشيء ومنتهاه..وذلك
    من خلال الإطار المعرفي "لفن الفهم" أي إدراك المعنى المتواري في ثنايا
    الخطاب.. والفهم (Comprendre) في اشتقاقه اللغوي هو "أخذ شامل وكوني
    وجماعي" بمعنى أنه يشكل وحدة متكاملة العناصر قادرة على إدراك دلالة النص
    ومغزى الحياة في آن واحد.
    إن الرؤية العاقلة المؤسسة على المنهج الصحيح هي وحدها القادرة على النفاذ
    إلى روح الموضوع، والإحاطة بأصوله ومقوماته وسبر أغواره، والكشف عن أسراره
    ومعانيه..ذلك أن التساهل في استعارة المفاهيم من غير تمحيص، ولا ملاءمة منهجية، سيؤدي لا محالة إلى شلل معرفي وتبعية ثقافية تقيد الإرادات الإبداعية في عالم الأفكار..
    وبالأفكار تنشأ الثقافة وتنهض الحضارة وحينما تصاب أمة من الأمم بعقم فكري
    أي بعدم القدرة على إنتاج الأفكار وإبداعها فإن ثقافتها تجمد، وحضارتها
    تذبل، و مسيرتها التاريخية تتوقف..
    ذلك أن التخلف كما يرى الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله هو في الحقيقة افتقار
    للأفكار، وليس حتما بنقص في الوسائل المادية.. (أي الأشياء). (22).
    فالفكر خلق وإبداع، يتبلور في تشكيلات ثقافية وحضارية ومنظومات سلوكية وقيمية..
    كما أن فن بناء المفاهيم
    إنما هو تعبير صادق على قدرة الإنسان على إدراك حقائق الأشياء ومعاني
    الوجود من خلال فحص تجاربه ورصيده المعرفي.. إن الفهم في تقديري يتجلى في
    تحرر الإنسان من سلطة اللغة وزيف المقولات، وبهرج الكلام.. لأن الصدق وحده
    هو جوهر الجمال وأس البلاغة وقوام الذوق السليم. والجمال كما يرى أستاذنا
    العقاد رحمه الله سمو وكمال ونشوة روحية.
    ولا مراء في أن الأسلوب الجميل دليلا أكيد على صدق التعبير وقوة الإدراك لجوهر الحقائق والمعاني...





    *الهــــوامـــــش :
    11-د/عبد الواحد وافي: مقدمة ابن خلدون.ج1-الطبعة الثالثة –دار النهضة القاهرة ص 211-212.
    12-د/عبد الواحد وافي المرجع السابق ص 212.
    13-د/صلاح إسماعيل – مرجع سبق ذكره. ص : 204.
    14-د/صلاح إسماعيل- نفس المرجع . ص : 215.
    15-الأستاذ عبد الله العروي- مفهوم الحرية. ص:8.
    16-د/محمد مفتاح –المفاهيم معالم نحو تأويل واقعي .المركز الثقافي العربي 1999. ص: 5.
    17-د/نصر حامد أبوزيد. الخطاب والتأويل .المركز الثقافي العربي. ط1. 2000 ص : 173.
    18-د/نصر حامد أبوزيد – نفس المرجع. ص : 177.
    19-د/نصر حامد أبوزيد – نفس المرجع. ص : 264.
    20-د/نصر حامد أبوزيد – نفس المرجع. ص : 264.
    21-عباس محمود العقاد ساعات بين الكتب. ص : 67.
    22-مالك بن نبي-مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي-ترجمة د/بسام بركة و د/أحمد شعبو. ص : 36.



      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 11:50 am