إن اعتماد معيار الصورة في مقاربة هذه
الرواية، أملته عوامل موضوعية، أهمها كون التفكير بالصورة متسم بالكلية
والشمولية والامتداد.وهذا يتيح فرصا أرحب للتغلغل في خبايا النص ، ويجعل
القراءة اختراقا فعليا لأغوار المتن الروائي مهما استعصت، لأنها قراءة
تقوم على سؤالين دقيقين : سؤال الماهية وسؤال الوظيفة .على أن المسافة بين
الماهية و الوظيفة جمالية بالضرورة، تنطلق من مساءلة مكونات النص ورصد
خصائصها، وصولا إلى تحديد وظائفها ضمن نسيج السياق النصي، حيث تكتسب صورتها
الجمالية.
إن معيار الصورة بهذا التصور يجسد استراتيجية عملية
جريئة لمواجهة النصوص الروائية، وقياس أصالتها الأدبية والإنسانية وعمقها
الجمالي.وهي جريئة لأنها تتخذ النص محكا حقيقيا وميدانا تطبيقيا، وتسائله
تكوينيا وجماليا، مستندة إلى ذوق المتلقي وحدسه بشكل كبير. وهذه ميزة أخرى
تميز القراءة بالصورة، إذ تتيح للقراءة سلطة نقدية. فقد ركز"بيرسي لوبوك"
كثيرا على الدور الحاسم للقارئ(1)، شأنه شأن العديد من المتحدثين عن الصورة
الروائية. لكن "الدكتور محمد أنقار" كان أكثر وضوحا وإجرائية حين جعل سياق
التلقي معيارا حاسما ضمن سلسلة من المعايير الجمالية الأخرى التي تراهن
على الوعي الأجناسي، والسياق النصي، والطاقة اللغوية والبلاغية، إلى جانب
المتلقي، طبعا، باعتباره مربطها جميعا (2). وبهذه المعايير أصبح مفهوم
الصورة متكاملا بادي المعالم والرهانات الجمالية، يغدو معه النص، ليس مجرد
نموذج لشرح معطى أو تمرير نظرية ما، إنما غاية في حد ذاته.
ولعل
تحرك الصورة بين سؤالي الماهية و الوظيفة الجماليتين، بالاعتماد على
المعايير سالفة الذكر، يجعلها تتبوأ موقع تصور بلاغي، منفتح على مداخل
قرائية شاسعة شساعة الإمكانات و الاختيارات الجمالية المتاحة للإبداع
الروائي، بما هو جنس غير ثابت الهوية(3). من هنا كان لابد لمعيار الصورة
الروائية من مقولة بلاغية تقلص شساعتها وترسم حدود ديناميتها، وهي مقولة
السمات.
الرواية، أملته عوامل موضوعية، أهمها كون التفكير بالصورة متسم بالكلية
والشمولية والامتداد.وهذا يتيح فرصا أرحب للتغلغل في خبايا النص ، ويجعل
القراءة اختراقا فعليا لأغوار المتن الروائي مهما استعصت، لأنها قراءة
تقوم على سؤالين دقيقين : سؤال الماهية وسؤال الوظيفة .على أن المسافة بين
الماهية و الوظيفة جمالية بالضرورة، تنطلق من مساءلة مكونات النص ورصد
خصائصها، وصولا إلى تحديد وظائفها ضمن نسيج السياق النصي، حيث تكتسب صورتها
الجمالية.
إن معيار الصورة بهذا التصور يجسد استراتيجية عملية
جريئة لمواجهة النصوص الروائية، وقياس أصالتها الأدبية والإنسانية وعمقها
الجمالي.وهي جريئة لأنها تتخذ النص محكا حقيقيا وميدانا تطبيقيا، وتسائله
تكوينيا وجماليا، مستندة إلى ذوق المتلقي وحدسه بشكل كبير. وهذه ميزة أخرى
تميز القراءة بالصورة، إذ تتيح للقراءة سلطة نقدية. فقد ركز"بيرسي لوبوك"
كثيرا على الدور الحاسم للقارئ(1)، شأنه شأن العديد من المتحدثين عن الصورة
الروائية. لكن "الدكتور محمد أنقار" كان أكثر وضوحا وإجرائية حين جعل سياق
التلقي معيارا حاسما ضمن سلسلة من المعايير الجمالية الأخرى التي تراهن
على الوعي الأجناسي، والسياق النصي، والطاقة اللغوية والبلاغية، إلى جانب
المتلقي، طبعا، باعتباره مربطها جميعا (2). وبهذه المعايير أصبح مفهوم
الصورة متكاملا بادي المعالم والرهانات الجمالية، يغدو معه النص، ليس مجرد
نموذج لشرح معطى أو تمرير نظرية ما، إنما غاية في حد ذاته.
ولعل
تحرك الصورة بين سؤالي الماهية و الوظيفة الجماليتين، بالاعتماد على
المعايير سالفة الذكر، يجعلها تتبوأ موقع تصور بلاغي، منفتح على مداخل
قرائية شاسعة شساعة الإمكانات و الاختيارات الجمالية المتاحة للإبداع
الروائي، بما هو جنس غير ثابت الهوية(3). من هنا كان لابد لمعيار الصورة
الروائية من مقولة بلاغية تقلص شساعتها وترسم حدود ديناميتها، وهي مقولة
السمات.
إن مقولة السمات يمكن اعتبارها وسيلة
إجرائية فاعلة لاستشراف معالم الصورة الروائية لأنها سليلتها الشرعية.
فالصورة - كما أسلفنا- مسافة جمالية بين سؤال الماهية و سؤال الوظيفة، و ما
سؤال الماهية في النهاية سوى سؤال السمات الذي من خلاله تنكشف ملامح
المكونات النصية و وظائفها. و بالتالي بنائية الصورة و حيويتها. و قد عرف
"الدكتور محمد أنقار" السمة بأنها "إمكانة بلاغية بكل ما في كلمة بلاغة من
أنماط و دلالات متحولة، وهي لا تقل خطورة جمالية عن مكونات العمل الأدبي
المحكم الصنعة".(4)
وجدير بالذكر، أن السمة خيار جمالي يتسم
بالمرونة. لأنها تستمد فاعليتها من بلاغة نوعية خاصة بكل نوع أدبي على حدة
(5). كما أنها تتميز بالخصوبة والامتداد، تستشف ماهيتها من عناصر نصية و
تنفتح على عناصر أخرى غير نصية، تكون خلاصة الحوار الجمالي بين سياق
الإبداع وسياق التلقي. فمهما أحكم المبدع صنعة روايته، فإن التفكير بالسمات
كفيل بأن يخترق خياراتها البنائية ويفتق جذوتها الجمالية. لأن القراءة
بالسمات قراءة مجهرية، موجهة برؤية طبوغرافية يؤطرها معيار الصورة
بمرتكزاته الجمالية سالفة الذكر. ولعل قراءة بهذه المواصفات جديرة بأن
تحسم، إلى حد كبير، في مسألة القيمة الجمالية لروايات الفتيان و الفتيات.
و الواقع أن روايات الفتيان والفتيات عانت ومازالت تعاني شح
الدراسة والبحث، بذريعة أنها بسيطة. بل إن من الدارسين من إذا ازدرى رواية
ما )للكبار) بسبب بساطتها، ألحقها بالروايات التربوية التعليمية (نسبة إلى
التربية والتعليم).وفي رأيي أن مثل هذا الموقف يصدر إما عن رؤية سطحية، أو
عن عدم الوعي بجسامة الفعل التربوي التعليمي و شدة تركيبه. صحيح أن البساطة
سمة مهيمنة في الروايات الموجهة للصغار.لكن يجب أن نعترف بأنها سمة جمالية
ترتقي إلى مدارج السمة التكوينية، بحكم أن هذه الروايات ترتبط بميثاق
براغماتي تربوي، تصبح معه البساطة سمة مبررة مبدئيا. لذلك، فإن السؤال
الجوهري الذي يجدر طرحه هو: كيف تم تعليل البساطة جماليا وفكريا ؟. وهو في
الحقيقة سؤال لايقل جسامة عن كتابة روايات للفتيان والفتيات، في حد ذاتها.
وقبل الخوض في متاهات هذا السؤال، وارتباطا بمعيار سياق النص، لابد من
تحديد الاطار الموضوعي للرواية موضوع هذه الدراسة.
تحكي رواية
"صابر المغفل الماكر"(6)، قصة طفل اسمه صابر. خرج من المدرسة وودع زملاءه،
واتجه نحو البيت منزلقا على لوحه الدارج( سكيت بورد) في زقاق خال. ففاجأته
سيارة سدت عليه الطريق. كان يسوقها رجل تبدو عليه ملامح البداوة، وكانت في
السيارة معزى صغيرة بيضاء أثارت فضول الصبي الذي اقترب منها. فأخبره الرجل
أنه جاء بها لشريك له أراد أن يقدمها هدية لابنه، لكنه لم يعثر على عنوانه.
ومد إليه الورقة التي تحمل العنوان، فكانت المفاجأة كبيرة لما قرأ صابر
اسم أبيه وعنوانه. فركب السيارة مبتهجا، لكن الرجل أخبره بضرورة العودة إلى
المزرعة ليأتي بالعلف للمعزى. وأصر صابر على مرافقته. و في الطريق ارتبك
الرجل بسبب دركي كان يمر بالصدفة على دراجته النارية، فسقط قناعه. وأدرك
الطفل أنه وقع ضحية حيلة وأنه بيد سارق أطفال. فخيم عليه الخوف وعزم على
الإفلات من قبضته. واغتنم فرصة بطء السيارة، ففتح الباب و قفز منه جاريا
نحو غابة كثيفة. وهناك عانى كثيرا من الخوف والإرهاق و الجوع... لكنه ركز
كل تفكيره على الخروج من الغابة لأنه كان مدفوعا بقوة برغبة العودة الى
البيت. و لما خرج الى الشارع و جد مختطفه مازال متربصا به، فقبض عليه من
جديد، وأوهمه بأن الأمر كله مزحة، و أن عليه أن يرافقه في صمت الى المدينة.
وهناك اتصل بأهل صابر وطلب الفديه على أساس أن يتسلمها غدا. وعاد بالطفل
إلى بيت معزول في ضاحية بعيدة عن المدينة. و في الصباح تناولا وجبة الافطار
معا، صاحبته حوارات استفزازية أغضبت الصبي، إذ وصفه بالمغفل مرارا. فعزم
صابر على رد الاعتبار لنفسه. ولما كان المختطف يهم بالذهاب الى المدينة
لنيل الفدية. بدأ المطر يتهاطل، فأمر الصبي بأن يحضر الجلباب المشمع من
القبو. إذ ذاك خطرت له حيلة، وهي أن يكتب على ظهر الجلباب " هذا سارق
أطفال، اتبعوه تجدوني ". وفعلا نجحت الحيلة حيث كان زملاؤه يتربصون
بالمختطف بعد أن علموا بالموضوع، فأوقعوا به وتم القبض عليه بفعل عمل جماعي
منظم. وانتهت الرواية في قسم الشرطة، بحوار استفزازي عكس اعتزاز صابر
بنفسه، وانتشاءه بالإطاحة باللص.
وانطلاقا من هذا الاطار
الموضوعي المكثف جدا، نستشف أن السمة المهيمنة في المتن الروائي هي
البساطة، سواء على مستوى بنائية الحدث وسيرورته، أو على مستوى معمارية
الشخصيات وبنية الزمن والفضاء وغيرها من المكونات. غير أن النظرة المتريثة
تقودنا إلى سمات أخرى كثيرة. فالانتقال من وضعية سلبية إلى وضعية ايجابية
يلزمها الكثير من التحولات السردية والمنعطفات العنيفة والمتوترة التي
تحتاج بدون شك، إلى إقناع سردي وجمالي. من هنا نفترض أن البساطة ملغومة، أو
لنقل- جزافا- إنها بساطة مركبة. خصوصا وأن اللوح الدارج، والإنجاز الذاتي
لحل المشكلة، والعمل الجماعي المنظم، والانتقال من وضعية إلى ضدها وغيرها
من المؤشرات، توحي بأن الصورة الكلية للرواية متنامية ومتدرجة تشكلها
العديد من السمات، يمكن اختزالها في أربع: اختلال، دافعية، دينامية، توازن.
وهي سمات تفرزها المؤشرات السابقة بقليل من التأمل.
* * * * *
*أولا- اختلال:
"صاح صابر مودعا زملاءه:
- إلى اللقاء !
وانفصل عنهم منزلقا فوق لوحه الدارج ( سكيت بورد )، ودخل زقاقا خاليا.
كانوا جميعا يحملون محافظهم الجلدية على ظهورهم، ويتسابقون على
ألواحهم الدارجة بعد مغادرة المدرسة مساء.. وجمعا كانوا بين حوالي الثامنة
والعاشرة من العمر.
وانطلق صابر يتدرب على القفز، والوقوف المفاجئ
والانعراج الحاد بلوحه في الممر الخالي المؤدي إلى منزله. كان دائما يختصر
طريقه إلى داره عبر الممر.
وفوجئ بسيارة صغيرة سوداء تسد عليه الطريق الضيق، فتوقف رافعا مقدمة اللوح، وأمسكه بيده وراح ينظر إلى داخل السيارة بفضول.
كان يجلس وراء عجلة القيادة رجل رث الثياب، عليه مظهر البداوة، له لحية وعمامة، وعلى عينيه نظارة بالية.
لم يثر مظهر الرجل البدوي فضول صابر بقدر ما أثاره منظر الحيوان الذي
كان في حضنه. واتسعت عينا صابر وهو ينظر إلى المعزى البيضاء الصغيرة السن
والوزن وهي ترضع من رضاعة في يد الرجل"(7 ).
***
وردت هذه الصورة في مطلع الرواية. لذلك نفترض أنها شديدة الكثافة.
لأن الصورة المطلع غالبا ما تخطى بموقع البؤرة في النص الروائي، إذ تستشرف
ملامح الامتداد السردي، وتشي بآفاق السيرورة السردية.
ولعل
المساءلة السطحية لمكونات الصورة لا تجود إلا بمضمون سردي سطحي. لكن الغوص
في أعماقها يمدنا بتشكيل جمالي متميز.فكل شيء فيها متسم بالاختلال .وتعمل
لفظة الحال "منزلقا" على توتير وضعية الاختلال التي تسم البطل. كما أن
اللوح الدارج يكرس هذه الوضعية، بماهولعبة تفقد الإنسان التوازن الطبيعي
وتورطه في التزحلق والانزلاق.وعلاوة على ذلك، فإن الفضاءات والأشياء التي
تؤثث الصورة تعمق سمة الاختلال أكثر (المدرسة/اللوح الدارج- اللوح الدارج
/السيارة- الطفل /الرجل- السواد /البياض…)إذ تجسد علاقات غير متوازنة.
وإذا ما دققنا النظر في مؤشرات الصورة، نجد أنها تغرض بالبعد
التربوي. فالمدرسة والمحافظ وأعمار الفتيان كلها تشير إلى أن طبيعة
الاختلال تربوي. والصورة إن كانت عكست اختلالا على المستوى النضجاني(الحسي
حركي)، فإن سياق النص ينفتح على اختلال معرفي أيضا. حيث نقرأ في حوار بين
الطفل ومختطفه ما يؤكد ذلك. يقول المختطف مخاطبا صابرا في ص50:
"فرق شاسع..البليد هو الغبي المصفح الذي لا يفهم شيئا. أما المغفل، فقد
يكون ذكيا في دراسته، ولكنه عديم التجربة والذكاء الاجتماعي.بحيث يسهل
خداعه والاحتيال عليه.. مثلك أنت ".
وتتجدر سمة الاختلال أكثر في
هذه الصورة، كما تتأكد خلفيتها التربوية، إذ تشير إلى الذكاء الاجتماعي،
أحد أهم فصول نظرية الذكاءات المتعددة.
وموازاة مع ملامح الاختلال
التي رصدناها، يظهر اختلال آخر على مستوى الرؤية السردية، حين نقرأ على
لسان السارد، بعد أن وقع صابر في شرك المختطف، ص 25:
"يا له من مغفل.لماذا وثق بهذا الرجل المشبوه؟ لماذا انقاد إلى إغراء المغزى الصغيرة بتلك السهولة يا له من بليد "
وجلي أن هذا الكلام ليس له أي مبرر سياقي، ولا أية وظيفة درامية. مما
يجعله خطابا متسللا يجسد صوتا تربويا خلفيا، موجها من المربى القابع خلف
السارد إلى المتلقي مباشرة. وهذا بالتأكيد ملمح اختلال، لكنه هنا اختلال
جمالي طالما النص يرتبط بالوظيفة التربوية من جهة، و طالما الوضعية وضعية
اختلال, تحتاج بالضرورة إلى وصاية، من جهة أخرى.
وما من شك في أن
هذه التمظهرات المتنوعة لسمة الاختلال، تؤكد أنها تشكلت جماليا وبنائيا و
سياقيا. وأنها سمة متوترة وممتدة.لكن امتدادها حسب الصورة الأولى جزئي.
بمعنى أن الاختلال ليس وضعية ثابتة و نهائية. فبالعودة إلى تلك الصورة نجد
فعل "يتدرب "، وهو فعل يعمق بدوره سمة الاختلال، إذ يشير إلى عدم اكتمال
المهارة بعد. ولكنه في ذات الوقت يوحى بعملية متوترة لتحقيق النضج
والاكتمال. و هي عملية متنامية وممتدة صورها الكاتب من خلال أيقونة اللوح
الدارج. سيما إذا أيقنا أنه يحتاج إلى دافعية ذاتية لتحقيق الدينامية ومنها
إلى التوازن.
ومثلما ربطنا سابقا - سياقيا- بين الاختلال الحسي
الحركي و الاختلال المعرفي، نجد أنفسنا الآن مضطرين لأن نقوم بنفس الربط
السياقي بين التدريب الحسي حركي و التدريب المعرفي، لنحصل على صورة تربوية
بامتياز، فيها كثير من التصوير الجمالي الواعد بسما ت أخرى، تلك التي فتقها
اللوح الدارج قبل قليل.
نأتي الآن لنؤكد أن صورة المطلع كانت بحق
بؤرة الرواية، حيث استكنهت كل تمفصلات النص وكل سمات الصورة الكلية،
واستبطنت تصويرا روائيا شديد الكثافة بفعل دقة التصوير و فعالية الاختيارات
الجمالية التي توسل بها الكاتب. ووضعتنا في النهاية أمام ما يعرف في حقل
التربية والتعليم بالوضعية المشكلة.حيث إن الاختلال التربوي الذي وقفنا
عليه،سيسفر عن الاختطاف.
* * * * *
*ثانيا- دافعية:
" وكان صابر يتفرج على كل ما يحدث حوله دون أن يفكر. ولكن حالما اختفى
الدركي أدرك أنه بقي وحده مع رجل لايعرفه، بعيدا عن المدينة، والليل وشيك
النزول.
وفي هذه اللحظة بالذات تذكر نصائح والديه بألا يكلم
غريبا وألا يركب في سيارة أحد لا يعرفه لأي سبب من الأسباب، وألا يأخذ أي
شيء كان من أي أحد في الشارع، وخصوصا الحلوى أو أي شيء يؤكل. ودق قلبه
بسرعة، وأحس بالحرارة على وجهه، وبقطرات العرق تتجمع فوق جبينيه وتحت
إبطيه. وعقد العزم على الفرار من هذا الرجل الذي لابد أن يكون سارق أطفال..
ولكن كيف؟"(
* * *
تأتي هذه الصورة في سياق ما بعد استسلام "صابر" لإغراء المعزى،
وركوبه السيارة مع المختطف الذي أقنعه بضرورة العودة إلى المزرعة لإحضار
العلف، لكن دركيا كان مارا بالصدفة على دراجته النارية أربكه، فسقط قناعه.
وإذا تأملنا الصورة نجد أنها تشكل تمفصلا سرديا بين متوالية
الاختلال و متوالية الدافعية. فالجملة الأولى امتداد لوضعية الاختلال
والسلبية، إذ يتفرج "صابر" دون أن يفكر. ولكن الجملة الاستدراكية بعدها
تجسد بداية إدراك المشكلة. وهو ما دفعه إلى استذكار نصائح أبويه، كتغذية
راجعة. وتلك أولى مؤشرات الدافعية. على أنها ستبرز كردود أفعال نفسية من
خلال دق القلب والحرارة وقطرات العرق، وكأننا أمام محرك. كما تتجلى
الدافعية مع تحرك الذكاء العفوي حين فكر بأن الرجل "لا بد أن يكون سارق
أطفال". ويمثل السؤال المتوتر: "ولكن كيف؟" قمة الدافعية في هذه الصورة.
لأنه استفهام ينم عن حركة واعدة بزوبعة نفسية وذهنية، وبتفاعلات وإجراءات
عملية من شأنها تعزيز الموقف الذاتي للخروج من الورطة. غير أنه يوحي في نفس
الوقت بالالتباس والغموض ما دام سؤالا عن الكيف. مما يعني أن الإجراءات
التي يعد بها السؤال لن تتجاوز حدود ردود الأفعال. وواضح جدا أن الصورة لا
تعكس إلا ردود الأفعال. وهي في مجملها نفسية وسلوكية، تستجيب لحوافز
خارجية، ولا تبادر إلا تبعا لها. نفس الشيء يمكن تلمسه في صورة أخرى في نفس
السياق، بعد أن انشغل المختطف بأمر شاحنة كادت تصطدم بسيارته. يقول السارد
في ص17:
"واغتنم صابر فرصة بطء السيارة، وانشغال السائق بالشاحنة، فقفز من السيارة هاربا نحو الأشجار الكثيفة".
ولا يخفى ما يستبطنه فعل "قفز" من دافعية، لكنها دافعية انفعالية
إشراطية، تنكشف إشراطيتها من خلال فعل "اغتنم" الذي يفصح عن أن القفز كان
رد فعل لحافز خارجي هو بطء السيارة.
هذه الملامح جميعها تقدم
صورة عن الشخصية وهي مدفوعة نفسيا وسلوكيا بعوامل خارجية. حيث إن الأفعال
التي أنجزتها كانت استجابات لتلك العوامل. لتبرز الإجراءات التي قامت بها
مجرد ردود أفعال، جاءت منسجمة مع التباس السؤال العويص "ولكن كيف؟" . هذا
الالتباس سيتجلى أكثر في صورة أخرى وردت بعد أن هرب صابر إلى داخل الغابة،
حيث نقرأ في ص 17 :
"وكان قلبه ينبض في أذنه، فلم يكن يدري هل من الخوف أم من الجري ".
مرة أخرى تبرز سمة الدافعية من خلال النبض والخوف والجري. لكن بيت
القصيد هو الالتباس الذي تكشف عنه الصورة بواسطة نفي الدراية. مما يعاود
التأكيد على أن الإجراءات لم تصدر عن وعي ومبادرة، إنما عن تبعية وإشراطية
في شكل (مثير- استجابة- مثير - استجابة...).
هكذا رسم الكاتب صورا
روائية خالصة باختيارات جمالية دقيقة، احتضنت نظرية تربوية، وهي النظرية
السلوكية التي ترى أن عملية التعلم تتلخص في تقوية الروابط بين المثيرات
والاستجابات الإجرائية لتحقيق هدف إيجابي(9 ).
غير أن الهدف
الايجابي لم يتحقق بتلك الإجراءات، حيث عاد صابر بعد خروجه من الغابة إلى
قبضة عدوه. وكأني بالكاتب لا يعتقد كثيرا بالحوافز الخارجية، وانتصر لرأي
"بياجي" الذي يقول: "إن التعزيزات الخارجية تلعب دورا، لكنها لا تفسر كل
شيء. فللتعزيزات الداخلية،كذلك، دور عليها أن تلعبه"(10). فاتجه بالأحداث
نحو دافعية أخرى ذاتية. تمظهرت في الرواية في صور كثيرة ركزت على الأحاسيس،
ورصدت حالات الإرهاق والجهد والجوع والغضب...نقرأ منها هذه الصورة، في
سياق حوار استفزازي بين الطرفين، في ص 50:
"اخترتك لأنك مغفل، ويسهل إغراؤك.
فأحس صابر بالدم يصعد إلى رأسه من إهانة مختطفه له..."
ولنا أن نتخيل قوة الدفع التي يستبطنها صعود الدم إلى الرأس. وهو دفع
من الداخل إلى الداخل، وتحديدا إلى الرأس، مركز القيادة الذاتية. وهذا
منعرج حاد لسمة الدافعية التي تبلغ ذروتها في الصورة الآتية في نفس سياق
الصورة السابقة.يقول السارد في ص56:
"وقف يتمطى ويتثاءب في تجاهل تام لصابر الذي كان يتميز من الغيظ، ويقول في نفسه:' سنرى من منا المغفل الحقيقي'...".
ويتجدد في الصورة خطاب الاستفزاز التحفيزي. وهذه المرة بشكل حسي
حركي مستفز. لكن كلام صابر في نفسه يوحي باكتمال الدافعية، خصوصا وأن
الكلام مفعم بالوثوقية بعيد عن أي التباس، يبشر بالفعل وليس بمجرد رد
الفعل.
هكذا تكون صور الدافعية قد تشكلت جماليا، واكتنفت البعد
التربوي الذي أفرزته صور الاختلال. وكما لاحظنا فقد جاءت متدرجة، من دافعية
تعززها حوافز خارجية إلى دافعية تعززها آليات الضبط الذاتي
"الهوميوستازيا"(11)، جعلتها تنبئ بانبثاق الدينامية.
* * * * *
* ثالثا- دينامية:
"كان صابر يفكر بسرعة في طريقة للنجاة من قبضة هذا اللص الماكر.. كان
غضبه قد تضاعف بعد أن تلاعب الخاطف بعواطفه، وأكد له مرة اخرى أنه مغفل
وبليد يثق بأي شيء، ويستطيع كل محتال أن يخدعه.
والتفت إليه الرجل مرة اخرى آمرا:
- ابحث عن جلبابي المشمع لألبسه فوق هذا.. هذا المطر لايبدو عليه أنه سيتوقف.
- وأين هو ؟
- تحت.. ابحث عنه تحت في القبو..انزل من هناك.. وأشار إلى سلم في ركن
بجانب المدخل.. ونزل صابر خائفا الى القبو المظلم ووقف على آخر درجات السلم
ينظر حواليه. وحين اعتادت عيناه على الضوء الباهت الذي كان يدخل من نافذة
صغيرة رأى الجلباب المشمع، فذهب إليه وهم بأخذه من المسجاب..
وحين
اقترب منه لاحظ فوقه خطوطا زرقاء كخطوط قلم حبر جاف.. في تلك اللحظة فقط
خطرت الفكرة في ذهنه، فأخذ يبحث في جيوبه عن قلم دون جدوى.
وسمع صوت الرجل يصيح به من فوق:
- ماذا تفعل هناك ؟
فعاد إلى الصعود دون جلباب قائلا:
- لم أعثر على الجلباب.. القبو مظلم للغاية.. هل آخذ المصباح لأبحث عنه ؟
- خذه وأسرع.. فقد انتهيت من الماكياج.
ودخل صابر غرفته حيث كانت محفظة كتبه، فأخرج منها قلما أحمر،
وتناول المصباح، وخرج متوجها نحو القبو..وهناك أشعل المصباح، ونشر الجلباب
على الحائط بيد، وأخذ يكتب على ظهرها بالقلم الأحمر بخط واضح:
"هذا سارق اطفال ، اتبعوه تجدوني "( 12).
***
تقع هذه الصورة بعد الحوار الاستفزازي الذي التقطنا منه الصور
الأخيرة في تحليل سمة الدافعية. حيث كان المختطف يتهيأ للذهاب الى المدينة
كي يتسلم الفدية.
وبقراءة الصورة بشكل متريث تتجلى ملامح
الدينامية بقوة. فسرعة التفكير تنطوي على دينامية. والغضب الذي تضاعف،
يضاعف بدوره من اشتغال الدينامية. والجمل الحوارية القصيرة مؤشر دينامية
أيضا. كما أن النزول إلى القبو والصعود ثم النزول والصعود يجسد حركة
أرجوحية لا تخلو من دينامية. مع ملاحظة أن العديد من الكلمات تصب في سياق
دينامية داخلية ذاتية ( يفكر – غضب – خطرت – الفكرة – ذهنه... ) وكلها تشير
إلى الانتقال من رد الفعل الى الفعل .
ولا يفوت القارئ أن يتلمس
بأن دينامية الفعل في هذه الصورة اتسمت بالتعلمية، وثمة مؤشرات كثيرة تدل
على ذلك، منها المحفظة والكتب والأقلام، ونشر الجلباب على الحائط والكتابة
عليه كما لو أنه سبورة... ثم إن الكتابة بالأحمر بجانب الخطوط الزرقاء توحي
بالتقويم، بما هو عملية تصحيحية لمسار التعلم، إلى جانب ما يكشف عنه من
انقلاب موازين الصراع الدرامي لصالح صابر.
وإذا ربطنا بين سمة
الدينامية الذاتية وسمة التعلمية، نكون وجها لوجه أمام النظرية البنيوية
التكوينية في التعلم، حيث يقول رائدها "جان بياجي " بأن التعلم الحقيقي هو
الذي ينشأ عن التأمل و التروي والتعزيز، لأنه لا يأتي من البيئة الخارجية
بل يأتي من أفكار المتعلم ذاته(13).
غير أن الفعل الذي قام به
البطل يظل مرهونا بفعل آخر يكمله. فعبارة " هذا سارق اطفال، اتبعوه تجدوني "
تستدعي بالضرورة طرفا آخر لاكتمال الهدف. وكأن الكاتب كان يفكر في قول
"روسو" بكون الفرد لن يكتفي بإنتاج ما يلزمه وحده(14). هكذا تنفتح الصورة
على فعل درامي آخر تؤثثه دينامية جماعية. وهذا ما تحقق سرديا من خلال
الصورة الآتية، بعد أن علم زملاء صابر بخبر الاختطاف، وقرروا إنقاذه،
وفكروا في كل الاحتمالات والسيناريوهات، واستقروا على أن المختطف سيتصل
لأخذ الفدية ، وأن الاتصال حتما سيكون من مخدع هاتف عمومي . فوزعوا الأدوار
فيما بينهم. نقرأ:
" وسأل امين:
- وإذا وجدناه ماذا نفعل ؟
فنظر الجميع إلى محسن، قائد العملية، فلم يزد على أن قال:
- هذا سؤال مهم، هل عندكم اقتراح؟
فرفع " عمر " اصبعه:
- يمكن أن نستعمل( الماشي – واشي ) التلفون اللاسلكي..أنا وأخي عثمان عندنا زوج منه .
فصاح "محسن":
- جميل ! جميل جدا! كيف لم أفكر في ذلك؟ أنا الآخر عندي زوج ..من عنده (الماشي –واشي )؟
فرفع خمسة أصابعهم، فقال محسن :
- يكفي هذا العدد..لنذهب الآن إلى منازلنا، فنأخذ شطائر للغذاء..
و(الماشي- واشي )، ونذهب حالا إلى المخادع التلفونية. اتركوا الأجهزة
مشعولة طول وقت العملية..
وانتشر الغلمان في جميع الاتجاهات يدروجون على الواحهم الدارجة بسرعة و مهارة"(15).
ولا نحتاج هنا إلى التأكيد بأن الصورة روائية، بما تحمل الكلمة من
دلالة، تتحرك على ايقاع العرض الدرامي والحركة والتواصل.. استثمر فيها
الكاتب عناصر حسية على قدر كبير من الصدق التخييلي، أهمها جهاز (الماشي –
واشي ) بما هو لعبة للأطفال، شأنه شأن اللوح الدارج. كما استثمر فيها عناصر
تربوية تجعل القارئ يحس وكأنه في ورشة تعلمية، فيها أسئلة ورفع الأصابع
واقتراحات وتقويم الإجابات... وقد تشكلت الصورة تدريجيا في إطار حوار
منسجم، دائري ومفتوح، خاضع لقيادة مرنة، وبذلك اكتملت كل خصائص دينامية
الجماعة، وهي: الانسجام، والتواصل، والتدريج، والسلطة(16).
وتتنامى الصورة سرديا وجماليا وتربويا، لتصل إلى ذروة الدينامية في عبارة
"يدرجون على ألواحهم الدارجة بسرعة ومهارة". فالألواح في حد ذاتها مؤشر
دينامية. وها هي الآن تدرج بسرعة ومهارة، و تبوح بالنضج والإكتمال . وهي
نفس الألواح التي ظهرت في بداية الرواية كمؤشر اختلال. وإذ تقترن الآن
بالسرعة والمهارة، فإن الصورة الروائية تنفتح على سمة أخرى جديدة، وهي
التوازن.
* * * * *
*رابعا- توازن:
"فقال صابر:
- أنا أعرف به منكم جميعا. ورغم ذلك فإني أشكره..وزاد استغراب
الجماعة من كلام صابر. وكان المختطف أكثرهم استغرابا فلم يتمالك أن سأل:
- على ماذا، يا ولدي ؟
- على الدرس الذي علمتني، إنني لن أنساه مدى حياتي..
فابتسم المختطف آملا أن يسمع كلمة ثناء تخفف العقاب عليه، وسأل:
- أي درس، يا صابر ؟
- ألا أنساق وراء شهواتي، وألا أثق بمن لا أعرفهم من الناس.. وفوق
كل هذا أن أعمل بنصائح والدي و معلمي، وأن أستفيد من تجارب غيري."(17).
***
تجري أطوار هذا المقطع السردي في مركز الشرطة، بعد أن نجحت حيلة
صابر، وتكلل تكامل الدينامية الذاتية والجماعية بالقبض على المختطف.
وقبل أن نسائل مكونات الصورة، نرى ضرورة التذكير بالتوازن الحسي
حركي الذي كشفت عنه صور الدينامية، من خلال حركة الألواح الدارجة بسرعة
ومهارة. لأنها تتصل - جدليا وسياقيا- بطبيعة التوازن في هذه الصورة، والذي
هو توازن سيكولوجي ومعرفي. فكما حصل الارتباط السياقي (عند تحليل صور
الاختلال) بين الاختلال الحسي حركي، والاختلال المعرفي على سبيل التعالق
والامتداد، فكذلك حصل نفس الارتباط السياقي بين التوازن الحسي حركي
والتوازن السيكولوجي والمعرفي، على سبيل نفس التعالق والامتداد السياقيين.
على هذا الأساس يمكن العودة باطمئنان إلى هذه الصورة. وبقليل من
التأمل نجد كل شيء فيها متسما بالاكتمال والامتداد. فالدرس يشير إلى فعل
تعلمي وقد اكتمل. وهو اكتمال معزز بعبارة "علمتني" التي توحي بأن التعلم
حصل فعلا، كما توحي بسمة التمثل. ثم إن عبارة "لن أنساه أبدا" فيها قدر
كبير من الامتداد والتعزيز الذاتي، بحكم أنها تنفتح على الآتي. وتتوتر سمة
الامتداد والتعزيز الذاتي أكثر من خلال جملة"ألا أنساق وراء شهواتي، وألا
أثق..."، وهي عبارة تجود أيضا بسمة الملاءمة، بما هي تكييف لمكتسبات التعلم
مع مواقف أخرى. وهكذا تصل الصورة إلى سنام التوازن، على اعتبار أن التكيف
عند "بياجي" هو غاية التوازن، وأن تحقيق هذه الغاية يتم بتداخل عنصرين
أساسيين هما: التمثل والملاءمة(18). وواضح جدا أن الصورة تتنفس عميقا من
خلال هاتين السمتين، كما كشف التحليل.
لنقول، إن الكاتب استثمر
عناصر ومعطيات تربوية، مؤطرة بنظرية عتيدة في التعلم. لكنه أعاد تشكيلها في
قالب سردي، بتصوير لغوي بسيط، أبان عن عمق بلاغي غائر، وأفرز صورة روائية
منسجمة بلا حدود.
على أن بؤرة التوازن تجسدها صيغة التفضيل
"أعرف"، لما تحمله من دلالات التجاوز والامتداد، ولما تختزنه من إشباع
سيكولوجي. خصوصا إذا علمنا بأن التعلم هو المجاوزة أو التجاوز لوضعية سلبية
(وضعية مشكلة)، إلى وضعية إيجابية (حل المشكلة)، حيث يتحقق الإشباع
السيكولوجي الذي يتحول إلى تعزيز ذاتي(19). وإذا، أليس الانتقال من وضعية
سلبية إلى وضعية إيجابية مؤشر توازن في حد ذاته؟
وتتجذر سمة
التوازن في الصورة أكثر من خلال جملة "أن أعمل بنصائح والدي ومعلمي وأن
أستفيد من تجارب غيري"، حيث تنفتح الصورة على سياق التربية بكل أثافيها:
الأسرة والمدرسة والمجتمع، التي تضمن- مجتمعة- التوازن التربوي.
تلك كانت أهم ملامح التوازن التي أفرزها المضمون الروائي للصورة، عبر
إيحاءات بالإكتمال والامتداد والتعزيز...وكلها دلالات مبررة سياقيا
وجماليا. حيث كانت الاختيارات الجمالية للكاتب موفقة جدا، مما جعل سمة
التوازن تنبثق في إطار من التدرج والتماسك والانسجام السردي، وتبرز كنتيجة
لتنامي السمات التي سبقتها.
غير أن سمة التوازن تتجاوز المضمون
الروائي للصورة إلى تشكيلها اللغوي والتركيبي وإيقاعها السردي والحواري.
منها ما هو آني ومنها ما هو ممتد في شبكة السياق النصي. فإذا تأملنا الجملة
الحوارية الأخيرة، ألفينا إيقاعها يتراوح بين جمل النفي وجمل الإثبات
كأنها على كفتي ميزان (ألا أنساق- ألا أثق / أن أعمل – أن أستفيد). وإذا
أمعنا في الحوار، نجد أن الوضعية التخاطبية تميل لصالح صابر، بحيث يظهر
أكثر فاعلية، يشرح ويفسر ويستفز. على عكس ما كان عليه الوضع في الحوارات
السابقة، إذ كان المختطف هو المسيطر والمستفز. وهذا ملمح توازن أرجوحي. كما
أن الرؤية السردية جاءت متوازنة بدورها، ولم نستشعر أي تدخل خلفي من لدن
السارد.إنما جاءت الصورة بانسيابية سردية متدفقة، فيها تكافؤ بين العرض
والسرد، تخلى فيها السارد عن صوته التربوي الذي كان مكشوفا في متوالية
الاختلال، وأقحمه في نسيج الصورة كجزء من حبكتها الروائية، حيث أسند هذا
الدور إلى صابر، فكان هذا الإسناد مواكبة جمالية لوضعية لم تعد تحتاج إلى
وصاية.
ولا نترك سمة التوازن تمر دون أن نؤكد أنها تطوق
السيرورة السردية، من العنوان "صابر.. المغفل الماكر" إلى آخر جملة في
الرواية "يا لك من مغفل ماكر. ص94". إذ أن إيقاع الطباق (المغفل / الماكر)
فيه كثير من التوازن الأرجوحي الذي يؤشر على أهم شروط السرد، وهو الصراع
الدرامي. ولعل في إدماج الكلمتين المتضادتين معا في شخص واحد، فرصة لنا
لندرك حجم التحولات التي تتطلبها الغفلة كي تتحول إلى مكر. لنجد أنها - على
الأرجح - تحولات متفاعلة ومتنامية، من اختلال إلى دافعية إلى دينامية إلى
توازن ممتد، روائيا وتربويا.
* * * * *
لقد جاءت الرواية بسيطة حقا، على مستوى جميع مكونات المتن الحكائي
وكذا المبنى الحكائي. لكنها - وكما أثبت التحليل- شديدة الكثافة الجمالية
والفكرية. حيث رسم الكاتب صورة روائية متدفقة ومندفعة نحو الاكتمال
والتوازن، من خلال سمات ترابطت جدليا في إطار من التماسك والارتقاء.نفخ
فيها التصوير اللغوي سحره البلاغي الرحب، وأدى دوره الحاسم في تشكيل السمات
وتعليلها جماليا. وانفتحت الصورة من خلاله على حقل شاسع ومركب، هو حقل
التربية والتعليم، وفق خطين متكاملين:
+ خط ديداكتيكى: تجلى من
خلال تصوير وضعية تعلمية على طريقة حل المشكلات، من الوضعية المشكلة إلى
الزوبعة النفسية والذهنية إلى حل المشكلة.
+خط بيداغوجى: تجلى من
خلال تأطير تلك الوضعية بنظريات مختلفة. أهمها النضجانية التي تهتم بالنمو
النفسي الحركي، والسلوكية التي تهتم بالنمو وعلاقته بالبيئة، والبنائية
التي تهتم بالنمو المعرفي، ونظرية التحليل النفسي التي تركز على الجانب
العاطفي والأسري.
هكذا تشكلت الصورة وفق دينامية تربوية تعليمية،
حاكت(من المحاكاة و الحياكة معا) فعلا تربويا متكاملا، ديداكتيكيا و
بيداغوجيا. لكن بتصوير روائي خالص، انبنى على أساس مبدأي الضرورة والاحتمال
الأرسطيين، وانفتح على سمة التعليمية التي ظهرت كجزء من الحبكة الروائية
ومكون من مكوناتها التصويرية. مما يدعونا إلى الإقرار- وهذه المرة ليس
جزافا- بأن البساطة في هذا النص بساطة مركبة، لأنها تبلورت من صميم سمة
التعليمية بجميع خصائصها المركبة جدا.
وبذلك تكون الرواية قد
أدركت توازنا كبيرا بين الماهية الجمالية للصورة، و بين وظيفتها الجمالية.
وقد برهن تحليل السمات أن المسافة بين الماهية والوظيفة امتدت جماليا.
الهوامش:
في كل فصول كتابه"صنعة الرواية"، يراهن لوبوك على ذوق القارئ وفاعليته.
د.محمد أنقار- بناء الصورة في الرواية الإستعمارية- مكتبة الإدريسي- ط1994- ص16.
إيرفينغ .ه. بوخن- جماليات الرواية العليا- ترجمة محيي الدين صبحي- ضمن
كتاب: النقد الأدبي الحديث بين الأسطورة والعلم- الدار العربية للكتاب
1988- ص187.
محمد أنقار- ظمأ الروح أو بلاغة السمات في رواية "نقطة النور"- منشورات مرايا، 2007- ص11.
محمد أنقار- بلاغة النص المسرحي- مطبعة الحداد يوسف إخوان، تطوان- ط1ص22.
أحمد عبد السلام البقالي- صابر المغفل الماكر- دار الثقافة- ط 2007.
نفسه- ص5-6.
نفسه- ص15.
التعبير اللغوي وتعلم اللغة العربية- إعداد: أحمد الحامدي- مراجعة:خالد المير- سلسلة التكوين التربوي(11)- ط 2000 -ص17.
(10)حوار مع بياجي – بيت الحكمة – ع2 – يوليوز1986- ص44.
(11)عرفها بياجي بآليات الضبط، المتمثلة في الأحاسيس الأولية، مثل الجهد
والحزن والتعب والغضب (انظر حوارا مع بياجي- بيت الحكمة – سابق- ص43).
(12)الرواية- سابق ص58-59.
(13)ج.م.غازدا وآخرون- نظريات التعلم- ترجمة: ع.ح. حجام- عالم المعرفة1983- ص325.
(14)Emile ou l’éducation- J J Rousseau classiques Garnier- 1961-p 212
(15) الرواية – سابق ص70-71.
(16)محمد أديوان- المدخل إلى دينامية الجماعة التربوية- أفريقيا الشرق2001- ص38.
(17)الرواية- سابق ص90-91.
(18)مارغريت دونالدسون- نظرية بياجي في النمو الذهني- بيت الحكمة- سابق ص8.
(19)عن: سلسلة التكوين التربوي- سابق- ص11.