حروفي :
قيمة القافية في تشكيل الرؤية .. نماذج من الشعر السعودي المعاصر
أرسلت في الأربعاء 29 أبريل 2009 | في الأدب والنقد
قيمة القافية في تشكيل الرؤية .. نماذج من الشعر السعودي المعاصر
بسم الله الرحمن الرحيم
للقافية،بصفتها صوتاً دالاً،دور كبير في تشكيل الرؤية في النصوص الشعرية،ومن الممكن أن نلحظ ذلك في جوانب ،منها حرف الروي.
من الملحوظ غالباً أن هناك علاقة ما تربط بين حرف الروي والرؤية في النص،وذلك راجع إلى ماهية الصوت الذي ينتظم حرف الروي وطبيعته.
ولكن من المهم ألا تكون هذه العلاقة مجردة،بعيدة عن التطبيق،فنجعل لحروف معينة معاني بذاتها لا تحيد عنها،بل يجب الدراسة العميقة للجانبين الجانب الصوتي في الحرف،والرؤية التي يحملها النص.
"إن القيمة الصوتية والنفسية للقافية لا تظهر بجلاء،ولا يبوح بها النص الشعري...إذا ظلت دراستنا للقافية دراسة آلية شكلية بعيدة عن استبطان النص،والتغلغل في لب التجربة،والوقوف على خصائص الحروف،ومحاولة تفسير سر اختيار قافية بعينها دون الأخرى،وهل هناك علاقة بين اختيار الشاعر للروي وبين تجربته الشعرية"."1"
في قصيدة "عابر فوق جرح الخليج" للشاعر عبد العزيز العجلان،يتكرر في نهاية المقاطع هذا الشطر"سلامٌٌ عليك،سلامٌ عليكْ".فحرف الكاف يأتي في نهاية كل مقطع ماعدا المقطع الأخير،والكاف من الحروف المهموسة،ومن الحروف الضعيفة.
ومن المعروف أن الحروف المهموسة فيها رقة ولين،وهذا ما يتناسب مع خطاب الشاعر للخليج في خضم مأساته في حرب الخليج الثانية،وما فيها من أهوال وشدائد،فهو يدعو له في نهاية المقاطع بأن يعمه السلام.فالسلام والهدوء والطمأنينة….كل هذه المعاني يتناسب معها الحروف المهموسة الرقيقة،لا الحروف القوية والأصوات الخشنة.
سلامٌ عليكَ..
سلامٌ عليكْ..
سأجمع ذاكرتي ثم أرحلُ،
أحمله وألقي البقايا/حفيف الرباح النوافر،وقع الغروب الشجيّ
انثيال الضياء المبجل../بين يديك..وأرحل..
سلامٌ عليكَ
سلامٌ عليكْ
لم يبق في الظل متسعٌ للمقام
ولم يبق في الصمت متكأ للكلام
ولم يبق للظل نبض
ولم يبق للصمت إغراؤه المتدفق
………………………..
فكيف المقام وفيم المقام؟
سلامٌ عليكَ..
سلامٌ عليكْ..
………………………………….
………………………………….
ففيم المقام؟
وكيف المقام؟ وقد ضاق بالصامتين السكونْ
وآض خلال العيون الحنينْ
ولم يبق في الشجن العربي متسعٌ لرفيف العصافير
أو همهمات الخزام
سلامٌ عليك
سلامٌ عليك "2"
ومن الحروف المهموسة أيضاً حرف الحاء، في قصيدة"كلمات على شفتي جرح"،للشاعر أحمد الصالح:
وحملتُ ذكرانا
وجئتُ إليك كالعصفور
مقصوص القوادم …والجناحْ
جمّعت ..أوراق الهوى
لا تسألي عنها..!!
ففي طيّاتها ..مشت الجراحْ
وغسلتُ في عينيّ
آثام العذاب ..ولوعتي
وبكيتُ..؟؟
حتى ابتلّ عمري بالنواحْ
أوّاه..!!
لو تدرين..!!
عن هول الفجيعة ِ
في عيون.. مات في أحداقها
طعم الصباحْ "3"
إن القصيدة تعبر عن رؤية عاطفية فيها الكثير من المعاناة،فنحن نلحظ موقف الضعف والعجز،والتعبير عن الأنين والبكاء.
ولذا،فقد تناسب صوت الحاء وهو صوت مهموس،ومن الحروف الضعيفة، مع هذا التعبير عن الضعف و والحزن،فكأنه يوحي بعدم مقدرة الشاعر على الكلام إلا همساً ضعيفاً نظراً لحالة الخواء التي يعانيها.
والتعبير عن المعاناة يرتبط بالإفضاء،لذا نرى تكرر المد بالألف قبل حرف الروي،حيث وقعت الألف ردفاً لحرف الروي الحاء.وهذه المدود تتيح إطلاق الآهة،وإخراج مابه من ضيق،بل إن المدود تتكرر في النص في كلمات أخرى غير القافية:ذكرانا،،القوادم،أوراق،عنها،طياتها،آثام،العذاب،أحداقها،فالمد"يتفق مع حالات الندب والتوجع والصياح"4"
ويمكن أن نلحظ قيمة أخرى للقافية من خلال هذه القافية المقيدة’"5"،فهذا السكون يتناسب مع حالة السكون المعنوي،أو العجز والضعف،وعدم القدرة على التغيير،مما يمكن أن نلحظه في النص.
إذاً،فإن تعانق الرغبة في الإفضاء والتعبير عن الألم مع الإحساس بالعجز والضعف والسكون،جسّده تعانق المدود مع الحاء الساكنة.
ويمكن أن نلحظ التناغم بين الرؤية وجماليات الدلالة الصوتية في القافية أيضاً،في قصيدة"صفحة من أوراق بدوي"للشاعر محمد الثبيتي:
ماذا تريدين..؟لن أهديك راياتي
ولن أمد على كفيك واحاتي
أغرك الحلم في عينيّ مشتعل؟
لن تعبريه ..فهذا بعض آياتي
إن كنتُ أبحرتُ في عينيك منتجعاً
وجه الربيع،فما ألقيتُ مرساتي
هذا بعيري على الأبواب منتصب
لم تعش عينيه أضواء المطارات
وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي
تهدهد العشق في مرعى شويهاتي"6"
حر ف الروي هو التاء المكسورة،والتاء حرف مهموس،وهو من الحروف الضعيفة.
إن هذه الرقة في صوت التاء،إلى جانب صوت الكسرة أيضاً يتناسب مع خطابه للمرأة/الرمز(المدينة أو الحضارة)،فالخطاب في بدايته يوحي بتجربة عاطفية استدعت هذا الهمس وهذه الرقة.
ولنلحظ- من ناحية أخرى-كثرة المدود في القافية:واحاتي،آياتي،مرساتي،المطارات،شويهاتي،الصباحات………….
إن هذه المدود بما فيها من سعة وامتداد تتلاءم مع رؤية البدوي التي تعبر عنها القصيدة ،حيث الانطلاق والتوثب والانعتاق من القيود:
أنا حصان قديم فوق غرته
توزع الشمس أنوار الصباحات
أنا حصان عصي لا يطوعه
بوح العناقيد أو عطر الهنيهات
أتيت أركض والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي
أتيتُ أنتعل الآفاق ..أمنحها
جرحي..وأبحث فيها عن بداياتي"7"
لقد احتوت المدود الحركة والتوثب والانطلاق،تلك السمات التي يتسم بها البدوي،ولهذا نلحظ اتساع المكان وامتداده في تعبيره:الصحراء ،الآفاق..................
فامتزاجه بالصحراء وانتماؤه لها لم يصيره أسيرا لها،بل أطلقت روحه،وشحنته بمزيد من الانعتاق.
ولنلحظ أن نصف المفردات في القافية تنتهي بياء المتكلم:واحاتي،خطواتي،بداياتي،ذاتي،عباءاتي،شويهاتي،فالياء تعد وصلاً،وياء المتكلم هنا جزء من الرؤية،فالقصيدة معنية بإبراز الهوية،هويةالبدوي وانتمائه القوي،وثباته على قيمه،وعدم تزعزعه وتأثره بالحداثة،كل هذه المعاني يعبر عنها الشاعر باستخدام ضمير المتكلم المنفصل والمتصل.
واستخدام ضمير المتكلم يعزز هذه الرؤية،وذلك حين يؤكد الإنسان ذاته لمن يتجاهلها،أو حين يشعر أن من حوله لا يعرف قدره،فإنه فعال في هذا الجانب."8"
والشاعر بالطبع لا يريد ذاته فقط،وإنما يعبر عن ذات الجموع الأخرى التي تشترك معه في هذه الهوية.
ويمكن أن نلحظ قيمة أخرى لحرف الروي في قصيدة"دم العروبة في مزاد علني"،للشاعر عبد الله الرشيد:
عربي ! وأركض حائراً قلقاً سيفي فمي،وغراره خطبي
أشتد من وهن إلى وهن وأفر من صخب إلى صخب
وهواني المشؤوم،أصبح في ثغر الدنى:ترجيع مكتئب
هذا دمي خذه بلا ثمن وأرقه في كأس من الخشب
أعتق شموخي،واحبني أملاً فلقد رشفتُ ثمالة الهرب "9"
حرف الروي الباء حرف شديد مجهور انفجاري،وهذا يتناسب مع الرؤية التي تنتظم النص،فالشاعر يسخر من العروبة بوضوح وصراحة،وبصوت عال،وهذا الموقف لا يتناسب معه الرقة والهمس،فصوت الباء بجهره وشدته لاءم هذه الرؤية.
إلا أنا نلحظ ثمة أسى أيضاً على العروبة،وما آلت إليه،وثمة انكسار أيضاً،وهذا تناسب معه الكسرة(حركة الباء)،فالكسرة فيها رقة،حيث إن استعمال الكسر"مناسب للرقة والعواطف اللينة والمنكسرة""10"
فصوت الباء المكسور جسّد جانبين رئيسين في النص:الغضب والغيظ من أوضاع العرب،والإحساس بالأسى والانكسار في الوقت نفسه.
وفي نموذج مختلف، نلحظ أثراً آخر للقافية،وذلك في قصيدة"سيد الشعر"،للشاعر حبيب المطيري:
أي شعر تريد يا سيد الشعر دروب الهوى حداها العناءُ
إنني شاعر له لوعة الشعـــ ـــر وللأصفياء منه الغناءُ
يطرب الناس في البكور رفيفاً عبقريا يفيض منه السناءُ
ثم يأوي إلى الهموم وحيداً ويوافي بجيشهن المساءُ
كيف يلقي قصيدة من أناخت في دماه الخطوب والأرزاءُ
..........................................................................
ضاع منه القريض نهباً وتاهت بالقوافي الحسان إبل ظماءُ
إنه مدنف أطاح به البو حُ،وألوت بقلبه اللأواءُ"11"
حرف الروي الهمزة المضمومة،وردفها هو حرف الألف،والهمزة صوت مجهور انفجاري،وفي نطقه نحتاج لجهد عضلي كبير.
هذه الهمزة إذن بصعوبة نطقها تواءمت مع هذه الرؤية التي تبين عن كون صاحبها واقعاً تحت ضغط العناء والمصاعب والمشقة والشدة،فنحن نرى مفردات كثيرة في القافية تبين عن هذه الرؤية:العناء،الأرزاء،ظماء،اللأواء...
فهو لا يعبر عن مجرد ضعف أو عجز،وإنما عن شدائد ومصاعب تضغط عليه،وزاد من قوة الصوت الموازي لشدة المعاناة التي يرضخ تحتها الشاعر حركة الهمزة "الضمة".فالضمة فيها فخامة عند نطقها،ناسبت التعبير عن الوقع القوي للمآسي على نفس الشاعر.
وإذا أضفنا إلى ذلك المدة "الألف"،زاد الإيحاء بالمعاناة،فهذه الأصوات الطويلة تقترن غالبا بالنفس المكروبة الواقعة تحت ضغط وعنف،هي تمد في أصواتها،لتنفس عما بها من ضيق.
الهوامش:
1-موسيقى الشعر العربي بين الثبات والتطور-د/صابر عبد الدايم-ص161
2-أشياء من ذات الليل-ص5-7
3-عندما يسقط العراف-ص13-14
4-دراسات في النص الشعري(العصر العباسي)،د/عبده بدوي،ص90
5-القافية المقيدة"هي ذات الروي الساكن"المعجم المفصل/د.إميل يعقوب،ص358
6-تهجيت حلماً..تهجيتُ وهماً-ص101-102
7-السابق-ص102
8-انظر:دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث،د،أحمد درويش ص110
9-خاتمة البروق-ص145
10-مدخل إلى تحليل النص الأدبي.د،عبد القادر أبو شريفة،حسين قزق،ص82
11-نوافذ الشمس-ص34-35
وانظر في صفات الحروف:التجويد والأصوات،د.إبراهيم نجا