الرؤيا الشعرية عند ممدوح عدوان – د.امحمد برغوت | | |
الكاتب/ أنفاس | |
إن قراء ة أي نص أدبي تتضمن مواجهة بين صورة العالم لدى القارئ، وصورة العالم كما يصورها النص. والقارئ عادة ما يفترض أن النص يصور العالم كما يعرفه. لكن النص قد يؤكد له هذه الفرضية وقد يخالفها. وإلى جانب الجدلية التي يثيرها التقابل بين صورة العالم لدى القارئ وصورة العالم كما يطرحها النص، هناك جدلية أخرى مهمة في تفسير النصوص الأدبية؛ وهي الجدلية القائمة بين الحقيقة التاريخية التي يفترض أن النص يصورها، وبين التقاليد اللغوية الأدبية المتوارثة التي تتدخل في طريقة صياغة هذه الحقيقة وتصويرها. ويتأثر تفسير المفسر للنص برؤيته لدور هذه التقاليد في تصوير الحقيقة في النص. ويؤكد "كريستوفر بطلر" في كتابه: "التفسير والتفكيك والإديولوجية"(1) أن الأطر المعرفية والإيديولوجية تتدخل إلى حد كبير في اختيار الأبنية اللغوية وفي تفسير دلالاتها. وينتهي من ذلك إلى تعريف الأبنية اللغوية في النص الأدبي ـ التي يطلق عليها اسم: الأنظمة الشفرية ـ بأنها حقل دلالي يكتسب تفسيرا اجتماعيا أو عقائديا وفق النظم الحضارية السائدة في المجتمع، أو وفق رؤية المؤلف أو القارئ للعالم. إن كل نص يركز على بعض الأنماط والنظم الحضارية دون غيرها، تلك النظم التي تمثل القيم المعيارية في هذه النصوص. ومعنى هذا أن القارئ يفترض أن النص يحاكي العالم بصورة ما، ويختار أحد نواحي التجربة الإنسانية ويركز عليها دون غيرها. ولكن علاقة النص بالعالم الخارجي، أو بالإطار العقائدي أو الحضاري السائد خارجه ليست بهذه البساطة. أي ليست عملية تصوير تعتمد على المحاكاة البسيطة؛ إذ أن النص عادة ما يخفي حقيقته عنا بما أنه نص أدبي خيالي مصطنع يخضع لمجموعة من التقاليد والقواعد المفتعلة. وهذا ما يثير مسألة الاستقلال النسبي للنص الإبداعي. وحقيقة الأمر هي أن جميع الأعمال الأدبية تخدم أهدافا إيديولوجية واضحة أو خفية، بصورة أو بأخرى. وحتى الأعمال الأدبية التي لا ترتبط بصورة واحدة بسلطة نظام عقائدي خارجي لا تخلو من دلالة عقائدية؛ بمعنى أن هذه الأعمال تطرح تصورا لطبيعة الإنسان. وهذا يدخل في نطاق الإيديولوجية. فالإيديلوجية تتضمن أيضا رؤية للطبيعة والقيم الإنسانية. إن النص يحتاج إلى ظله، وهذا الظل مزيج من الإيديولوجية وتصوير الواقع. وظل النص هو أطيافه وثنايا معانيه، والأثر الذي يتركه. ومن النص وظله ينتج المعنى الواضح/ الخفي. وبذلك يمكن القول إن النص الأدبي لغة مكثفة من لغات الوعي، وشكل متميز من أشكاله، إنه استيعاب مجازي للعالم يتضمن رؤية الأديب إلى العالم، وفهمه لحركته وموقفه من جملة التناقضات التي تتمخض عنها هذه الحركة. أي أن الممارسة الأدبية هي صورة جلية أو مموهة للوعي الكامن خلفها. ولما كان الوعي مشروطا تاريخيا واجتماعيا، كان من البديهي أن تكون الممارسة الأدبية مشروطة بدورها بهذا التاريخ وهذا المجتمع. ويكتسي مفهوم "رؤية العالم" أهمية بالغة داخل المنهج البنيوي التكويني الذي بلوره لوسيان غولدمان. وقد شكل هذا المفهوم منعطفا حاسما في مجال العلوم الإنسانية، لأن الظاهرة الأدبية لم تصبح ظاهرة غريبة أو معزولة، وإنما أصبحت مرتبطة بجدلية الطبيعة والتاريخ والإنسان، أي بشروط تاريخية واجتماعية معينة. ويشدد غولدمان على علاقة الإبداع الأدبي بالحياة الاجتماعية فيقول في مقالته: "المادية الجدلية وتاريخ الأدب": "وكما هو شأن كل نظرية، فالتأكيد على تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية على الإبداع الأدبي ليس مسألة "دوغمائية" (وثوقية)، ولكنه فرضية، فرضية مقبولة فقط في حدود أن تؤكد عبر الواقع." (2) ويضيف إلى هذه الفرضية، فرضية أساسية أخرى تتعلق بخلق توازن بين الذات (الفاعل) والموضوع (العالم المحيط). وكل توازن مرض بهذا القدر أو ذاك بين البنيات الذهنية للفاعل والعالم الخارجي، يفضي إلى وضعية تهيئ الناس لتحويل العالم. ومن هنا فالوقائع الإنسانية تمثل سيرورات لها وجه مضاعف: هدم البنيات القديمة. بنينة كليات جديدة قادرة على خلق توازنات ترضي الحاجيات الجديدة للمجموعات الاجتماعية التي تبلورها.(3) ويميز غولدمان بين نمطين مختلفين من المجموعات الاجتماعية، وبين وعيين مطابقين لهذين النمطين من المجموعات: أ ـ مجموعات مثل: العائلة والمجموعات المهنية والثقافية، ويسمى الوعي الذي يطابقها وعيا ايديولوجيا، لأن هذا الوعي له طابع خاص وضيق في أفقه الاجتماعي المركزي، وغالبا ما يتخذ طابعا دفاعيا عن مصالح مادية بالمعنى الضيق. ب ـ المجموعات الاجتماعية المتميزة؛ حيث يكون الوعي والشعور والتصرف "موجها" نحو إعادة تنظيم كلي وشامل لكل العلاقات الإنسانية، والعلاقات بين الناس والطبيعة، أو "موجها" نحو المحافظة الشاملة على البنية الاجتماعية القائمة. وهذه الرؤية الكلية للعلاقات الإنسانية هي ما يسميه غولدمان "برؤية العالم". ورؤية العالم هذه ـ كما حددها غولدمان ـ هي ظاهرة الوعي الجمعي الذي وصل إلى حده الأقصى من الوضوح في وعي المفكرين والأدباء والشعراء باعتبارهم أحسن من يعبر عن ذروة هذا الوعي الجمعي في نتاجاتهم. ومن ثم يشترط في هؤلاء: العبقرية، ويعرفها كالتالي: " العبقري هو بالتحديد الذي تتطابق حساسيته مع الحركة الاجتماعية والتاريخية الكبرى، فهو وإن تكلم عن مشاكله الأكثر واقعية والأكثر مباشرة، فإنه يطرح ضمنيا المشاكل الأكثر عمومية لفترته ولطبقته. فالمشاكل الأساسية بالنسبة له ولزمانه ولمجموعته الاجتماعية، ليست اعتقادات مجردة، ولكنها حقائق يعبر عنها بطريقة مباشرة وحية داخل إحساسه وحدسه".(4) 1 ـ رؤيا رثاء الزمن العربي وكشف حالة الهزيمة: (5) لقد اختمرت تجربة ممدوح عدوان الشعرية في ظل ثنائية الصراع بين العرب والصهيونية على الصعيد الخارجي، وبين قوى التقدم والتخلف داخليا. وتشكل هذه الثنائية خلفية أساسية لرؤية الشاعر للعالم. إذ انخرط في حركة المجتمع يندد بالهزيمة، وبالواقع الاجتماعي الذي أنجبها، ويحاسب المسؤولين الحقيقيين عنها. وتتسع هذه الرؤية المنددة بالهزيمة في أعماله الشعرية لتشمل كل دواوينه، وهي أكثر احتفالا بالمحتوى السياسي والخيبة الكبرى بعد انهيار الحلم القومي (انهيار الجمهورية العربية المتحدة سنة 1961)، وافتضاح السلطة عقب هزيمة حزيران عام 1967 المريعة. وتتمحور هذه البنية الرثائية ـ التي تؤطر رؤية ممدوح عدوان للعالم ـ حول رافدين اثنين: أ ـ الإحساس الفاجع بالمرحلة التاريخية التي انبثق فيها شعره: إن الشعر كشكل من أشكال الوعي الاجتماعي لا يمكن أن يكون خارج التطور التاريخي والسياسي الذي أنتجه. ولذلك فإن التطور التاريخي الذي عرفته سورية بعد ثورة 8 مارس 1963 قد دفع "البورجوازية الصغيرة" لصياغة برنامجها الاقتصادي والسياسي والثقافي. هذا التطور الموضوعي الناتج عن قوانين السيرورة التاريخية هو الذي رشح الشعر السوري المعاصر ليكون البديل التاريخي. لقد انغمس القطر السوري بأكمله مع بداية الستينيات في حركة صعود وطني وقومي متميزة ورائدة وقتها بالنسبة لباقي الأقطار العربية، إذ كانت سورية هي أول قطر عربي مارس عمليا في الحكم نظاما ديمقراطيا سمح بانتخابات حرة دخل على إثرها إلى مجلس النواب ممثلون من قوى اليسار المعارض. وفي هذا المناخ كان من الطبيعي أن ينخرط معظم الشعراء وقتئذ ـ ومن بينهم ممدوح عدوان ـ في معركة التحرر السياسي من الأحلاف والمؤامرات الاستعمارية تحت إلحاح الجماهير الواسعة التي كانت تمارس حريتها التامة في ميدان النضال السياسي والاجتماعي التي كانت بحاجة ماسة لأدباء يجسدون طموحاتها الكبيرة في صعودها الوطني والقومي. وتوفرت لعدد كبير من الشعراء الشباب فرصة لعلها لم تتوفر لأي جيل آخر قبلهم؛ وهي وصول طبقتهم الاجتماعية إلى السلطة مع بداية الستينيات، ومعظمها، من "البورجوازية الصغيرة" والفلاحين، وهذا ما أعطاهم جرأة خاصة في تحدي التقاليد السائدة وتجاوزها. واندفع معهم آخرون من خارج مواقع السلطة والمشابهون لهم في المنبت الاجتماعي ليصل التفاؤل الثوري إلى مداه. لكن هذا التفاؤل الثوري سرعان ما تردى حينما اصطدم هؤلاء الشعراء ـ الريفيون الحالمون بالعالم الأفضل القريب المقبل على أيدي رفاقهم ـ بالمفارقة الكبرى التي نجمت عن سلطة صديقة تحمل شعارات تقدمية وديمقراطية ـ ولكنها تنزلق شيئا فشيئا نحو البيروقراطية والاستبداد والطفولة اليسارية، فانهار هذا التفاؤل أو كاد إلى أن وقعت نكسة حزيران 67، فكانت الضربة القاضية لجميع هذه الأرواح الغضة الحالمة، ولمعظم منابع التفاؤل في أعماقهم. ومن هنا ترتبط رؤية ممدوح عدوان الشعرية بهذا الإحساس الفاجع لتردي أحوال مجتمعه التاريخية والسياسية، إنها رؤية منبثقة من تبخر الحلم القومي في الوحدة العربية، وتعثر المشروع الثوري الذي أعلن عنه في ثورة الثامن من آذار سنة 1963 ، بالإضافة إلى ارتباط هذه الرؤية بسلسلة من الأحداث التي وشمت الذاكرة العربية في العصر الحديث. وفي ذلك يقول ممدوح عدوان: " جيلنا كان في بداية العشرينات من العمر عندما وقع الانفصال (انفصال سورية عن مصر) وجيلنا افتتح وعيه السياسي بصدمة الهزيمة عام 1967. كنا يومها شبابا نشمر عن سواعدنا لكي نحمل صخرة الأمة، وتطلعات الفقراء. ولكن "بلدوزر" الأحداث الفاجعة كان يتقدم ويسحق الأجساد والأحلام والتطلعات. ويكفي أن نمر بسرعة على شريط الأحداث كما يلي: ـ 1967 هزيمة حزيران ـ 1970 مجزرة أيلول وموت جمال عبد الناصر ـ 1973 حرب تشرين ـ 1975 انفجار الحرب الأهلية اللبنانية ـ 1976 زيارة السادات للقدس ـ 1977 مأساة تل الزعتر ـ 1978 كامب ديفيد واجتياح جنوب لبنان ـ 1982 غزو لبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا... لقد كان التاريخ يصنع من حولنا وينعطف. وعند منعطفات التاريخ تحدث الفجائع والمآسي. وإضافة إلى ما فعلته فينا هذه الأحداث، فإن هزيمة حزيران وحدها قد فتحت عيوننا على حجم الفاجعة، وجعلتنا ندرك شدة الانحدار وحجم الأعباء التي يرزح شعبنا تحتها." (6) إن هذه الرؤية الرثائية للمرحلة التاريخية التي شهدت كل هذه الانكسارات والفجائع متسربة إذن من واقع ممدوح عدوان أكثر مما هي متسربة من ذاته؛ إنها نتيجة تخمرات طويلة وتراكمات فرضها الواقع فرضا، وما كان بمقدور الشاعر أن يغمض جفنيه عما يجري حوله من أحداث. ومن ثم تصدم رؤية ممدوح عدوان هذه بذلك الجدار الشاهق من اليأس والانهيار والخراب الداخلي؛ فالبرنامج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي" للبورجوازية الصغيرة" منذ نكسة حزيران وهو في سقوط مستمر. وممدوح عدوان باعتباره أحد أصوات "الانتلجنسيا الشعرية" التي ربطت أحلامها بانتصارات هذا البرنامج لم يجد أمامه إلا مساحات لا تحد من الفجيعة، ولذلك اختلط النص بالواقع وبانهيار البرنامج "البورجوازي الصغير" الذي تصدى لتغييره، إنه رؤيا برنامج ينهار، ورؤيا طبقة تنحدر وتستكمل انسداد آفاقها. والمتتبع للرؤية الشعرية الستينية في سوريا يصطدم لا محالة بذلك الجدار الشاهق من المستحيل، جدار الهزيمة والخيبة، جدار اليأس والانهيار، لأن هذا الجيل كان يدعي الريادة على المستوى القومي، حيث تصدى للمسؤوليات التاريخية التي واجهت سورية في هذه الحقبة، وذلك بوصول طبقته إلى السلطة التي صاغت برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إلا أن هزيمة حزيران المريرة وضعت هذا الجيل أمام الحقيقة المرة، الشيء الذي أفقده التوازن وجعله يتخبط في ازدواجية بين الأحلام الثورية والهزائم المتوالية في الواقع. وهذا ما أثبت عجزه عن النهوض بمسؤولياته الوطنية والقومية على حد سواء، فتفجر حزنا وكآبة لأنه لم يجد أمامه سوى مساحات لا تحد من الفجيعة. ويعتبر ممدوح عدوان من أكثر شعراء جلية إحساسا بهول الهزيمة، ولذلك مارس نقدا ذاتيا، وتأنيبا وإدانة للمسؤولين عن سلطة القرار. لقد اصطدم كما اصطدم جيله ـ بأفق مسدود، وبأحلام تتلاشى، وهذا ما جعل رؤية للعالم منقادة في مدار الإحساس الفاجع بالهزيمة، إنه يبدو مدارا لا يلوح فيه بريق أمل. ب ـ ارتباط البنية الرثائية بتجارب الأمة العربية: وتنطلق هذه الرؤيا الرثائية للعالم العربي من الذل الذي أصاب الأمة العربية بعد ضياع فلسطين، وتكريس واقع التجزئة. وهنا يلقي ممدوح عدوان بصوته الشعري داخل انهيارات الزمن العربي ليكتب مرثية له، ويلتقط صور الفجائع والانهيارات بكل تفاصيلها. وتشكل السقطة المروعة لحركة القوميين العرب، وانهيار أحلامها السياسية خلفية أساسية لانبثاق هذه الرؤيا في أعمال ممدوح عدوان الشعرية. لقد كان الوعي الوحدوي قد بلغ سنة 1958 أوج ذروته مع التجربة الناصرية؛ حيث تأسست نواة لوحدة رائدة بين مصر وسورية كانت محط رهان تاريخي لكل الأجيال التي حلمت بالوحدة وتغنت بها. لكن هذه الوحدة لم تعمر أكثر من ثلاث سنوات، توالت بعدها نكسات أطاحت بكل أحلام وإنجازات التحرير والوحدة. وكانت سورية هي الكيان العربي الأول الذي تجاوب بعمق مع الثورة الناصرية نظرا لما عانته أيام الاحتلال الفرنـسي لـها مـن تجزئـة: (إذ شكلت فرنسا دويلات صغيرة داخل القطر السوري: دويلة دمشق ـ دويلة العلويين ـ دويلة جبل الدروز ـ ودويلة حلب)، فكانت سورية تعيش دوما للهم العربي القومي والوحدوي، ولذلك اكتشفت في جمال عبد الناصر القائد المنتظر. لقد كان رهان حزب البعث العربي الاشتراكي على الوحدة ينطوي في واقع الأمر على الاعتقاد بأن عبد الناصر ـ الذي لا يقبل التحزب ـ سيغتذي حتما من أفكار البعث، واستثمار رصيد الحزب النضالي والاستعانة بتنظيماته القطرية خارج الجمهورية العربية المتحدة. وكان عبد الناصر قد قبل بقيام الوحدة تحت ضغط شعبي عام، وبتحريض ملح من قيادة حزب البعث، فقامت الجمهورية العربية المتحدة إذن على هذا الأساس، وبدأت تجربة تاريخية شدّت إليها انتباه العالم، وأخذت تهز الكيانات المريضة في المنطقة (فسقط النظام الملكي في العراق، وبعده في اليمن، واهتز النظام الطائفي في لبنان...). لقد كانت ساعة العمل الثوري قد دقت من المحيط إلى الخليج؛ فانفجر كل المكبوت في وعي الجماهير العربية وفي وعي مبدعيها ومفكريها، وأضحت الجمهورية العربية المتحدة تجليا لكل المعاني الغائرة في ضمير كل عربي. لكن الثورة الناصرية حرصت على أن تمارس وصايتها على تجربة الوحدة هذه، واشترط جمال عبد الناصر أن تحل الأحزاب في سورية، وأن يسود "الاتجاه القومي" كتجربة سياسية داخل الجمهورية العربية المتحدة. وتمكنت الرجعية ـ كقوى سياسية ـ في سورية من احتلال مراكز هامة في جهاز هذا الاتحاد، وتم إبعاد العناصر التقدمية في الجيش السوري ـ التي أسهمت في التعجيل بقيام الوحدة ـ بدعوى أن الجيش يجب أن يكون أداة مسخرة تنحصر مهمته في تنفيذ القرار لا في صنعه، وهذا ما عجل بتدبير الانفصال الذي حدث في 1961. لقد كان جمال عبد الناصر يعتقد أنه بالإمكان قيام اشتراكية بدون اشتراكيين، وقيام وحدة بدون وحدويين، لكنه اعترف بعد الانفصال بأنه هادن الرجعية. والواقع أن الوضع الطبقي لقيادة حركة القوميين ساهم بشكل كبير فيما آلت إليه الأمور من تجزئة وانحطاط، نتيجة لتذبذب هذه القيادات، وضعفها. وكان من نتائج هذا الانفصال تراكم مجموعة من المشاكل التي مهدت للانتكاسة الكبرى التي عرفتها الأمة العربية والمتمثلة في هزيمة حزيران 1967؛ وهي الحدث الذي فجر الرؤيا الرثائية في متن ممدوح عدوان الشعري. لقد جوزي الإنسان العربي بجزاء سنمار ـ يقول ممدوح عدوان ـ فالأرض التي حررها من الماء إلى الماء أصبحت من جديد ملكا للأمراء الجدد الذين أصبحوا السادة المحليين بدل الغرباء، وصار لزاما على أبطال التحرير أن يعودوا كما كانوا أجراء لحفنة من الإقطاعيين وأشباه الإقطاعيين ومستثمري دم الشهداء. إن هذا الخذلان الذي أصاب الكفاح العربي التحرري الذي أسقط الإنسان العربي في شرك الاستقلال السياسي المجزأ والمزور؛ هو ما فجر رؤيا ممدوح عدوان الرثائية للزمن العربي الذي أصيب بإحباط تاريخي دمر فعاليته وذلك بمعاداته للديمقراطية، وسلبه لحرية الجماهير وحقوقها في المشاركة السياسية، وهدر قواها الفاعلة اقتصاديا. إنه زمن استنزاف للطاقات العربية، وتكريس للعجز العربي، ولذلك فهو يندد ـ من خلال رؤياه هذه ـ بالقوى السالبة في هذا الزمن العربي، بل ويحاكم المسؤولين الحقيقيين عن هذا الزمن. ولعل العودة إلى البنية الدلالية لمتنه الشعري تبرز بوضوح عناصر هذه الرؤيا. وكمثال على فقدان الشاعر لثقته في هذا الزمن العربي، أسوق هذا المقطع الذي يقول فيه: ماذا تريد إذن؟ أنت مازلت تحلم أن تستعيد لدمعتك الكبرياء تبغي أن تطال السماء إنه زمن غير ما علموك وغير الذي جاء في كتب الله أو كتب الماركسيين غير الذي أنذر الأنبياء به والذي عنده استشهد الشهداء قصب السبق موت وحبك صوت بلادك مصيدة والسياسة فيها عزل. (7) إن هذه الرؤيا الرثائية لهذا الزمن العربي شهادة بالغة الدلالة على ما أصاب كبرياء الإنسان العربي إثر السقطة المروعة لتجربة الوحدة في بداية الستينيات، ودلالة واضحة على انهيار أحلام القوميين العرب السياسية إثر فشلها الذريع في مواجهة عدوها التاريخي (إسرائيل). ج ـ ارتباط البنية الرثائية بالقضية الفلسطينية: وتحضر مأساة فلسطين كجذر أساسي في هذه الرؤيا الرثائية بحيث لا تكتمل صورتها بدونها، وتشكل هذه المأساة تيارا رئيسيا في إنتاج ممدوح عدوان الشعري، حيث يتم التركيز على الوجه القومي والاجتماعي لهذه المأساة. إن فلسطين وجه دامي في كيان الشاعر، ولذلك فهو يواكب انتصاراتها وانكساراتها مواكبة حية دافقة بالصدق. إنها رؤيا تتحدى الوجود الغاصب، وتؤكد أثر الهزيمة المرة، وتعبر عن ضمير الأمة العربية ووجدانها الكظيم ورفضها للكيان الصهيوني. لقد فجرت هزيمة حزيران 1967 رؤيا ممدوح عدوان الرثائية منذ أول ديوان شعري له، وهو "الظل الأخضر"، واتسعت ظلال هذه الرؤيا في باقي دواوينه اللاحقة. لقد تجرع مرارة الكارثة وعاش المأساة نبضة نبضة، فأحسن بفداحة الخطر الصهيوني الذي يهدد مستقبل العروبة في فلسطين كما في باقي الدول العربية، وهو بصياغته لهذا الجرح قد أخلص للدلالة الكلية لهذه المأساة، لقد صدمته الهزيمة حقا، وأصابته بالدوار، إنه دوار المشاركة الحقيقية في العذاب. ومن ثم يطغى على هذه الرؤيا جو مأساوي يتمثل أساسا في شيوع مشاعر: اليأس والعذاب والألم والذل وما إليها من مشاعر الغربة والإحباط. وهذا ما شكل تيارا في الشعر العربي المعاصر بعد نكسة 1967 سواء داخل الأرض المحتلة أو خارجها. وعن هذا التيار الذي ساد في الستينيات من هذا القرن في سورية يقول د. حنا عبود: " كان لابد من أزمة عامة وعميقة، تفضح زيف المواصفات، وتهشم الجليد البراق الذي يطفو على سطح حياتنا، ويستر كثيرا من حقيقتنا... نتبدى نسورا ونحن الحمائم.. أسودا ونحن الحملان.. أسيادا ونحن المضطهدون.. مواطنون ونحن رعايا.. كنا مصابين بمركب الغرور في درجته القصوى، لابد من تحطيم هذا المركب في ميدان الواقع، قبل تحطيمه في ميدان الشعر، وبسخرية ما بعدها سخرية، فضح العالم الحزيراني كل ما كان مستورا أطاح بكل القلاع الكارتونية التي كنا نعتصم بها، والتي لم تكن تملك من مقومات الصمود سوى صراخ اللون، وزخرف الشكل، فأعادنا إلى الصدق، أو أعاد الصدق إلينا، فتهاوت بيارقة المرفوعة أسرع من صخرة سيزيف، كان الواقع بصدقة أكثر شاعرية من الشعر رغم بهرجه."( لقد بلورت إذن نكسة حزيران هذه الرؤيا الفجائعية التي زجت ممدوح عدوان في مدار دائري هو مدار الهزيمة الأسود القاتم، إنها فاجعة قومية بدلالتها على حجم العجز في الحياة العربية. وعن هذه الفاجعة يقول ممدوح عدوان: " لم يكن أحد يتصور أن من الممكن تحطيم ثلاث جيوش (المصري والسوري والأردني) مع المساهمات العربية الشكلية ـ والإعلامية ـ الأخرى في ستة أيام، بل وفي ست ساعات، بمعنى إنهاء الفعالية العسكرية. وأن من الممكن أن نخسر أرضا بحجم سيناء والضفة الغربية ومحافظة القنيطرة في زمن أقل من الزمن اللازم لانسحابها منها أو لمرور العدو من أقصاها إلى أقصها (وحتى دون حرب)".(9) إن حجم العجز في الحياة العربية هو ما مهد الطريق لهذه النكسة النكراء التي فاجأت الشاعر، ولذلك تصطدم رؤياه الشعرية بأفق يختنق، وأحلام تنهار، ولهذا وجب إعادة النظر في كل شيء: "الهزيمة الآن كلمة سهلة، لكنها في ذلك الحين كانت انهيار بنيان هائل من الثقة بالنفس والإيمان بالمستقبل والاطمئنان إلى الذات والغرور الوطني، والاستهتار بالخصم وتصديق القيادات السياسية.. في أتون الهزيمة تولدت لدى كل إنسان الرغبة في إعادة النظر في تفاصيل الحياة كلها... الاجتماعية والسياسية والثقافية.. وحتى الحياة الشخصية إلى درجة أننا صرنا نطيع شارات المرور أكثر. وكان هذا دليلا على إحساس الجميع أن الهزيمة لم يلحقها بنا العدو بل ألحقها بنا تخلفنا وضعفنا وانعدام إحساسنا بالمسؤولية والخطأ الذي تقوم عليه علاقاتنا اليومية والدائمة. في حالة كهذه إما أن ينشغل الإنسان بهذه المراجعة الشاملة وإما أن يقف مصعوقا أمام حجم الخطأ في الحياة". (10) وانطلاقا من هذه المراجعة للذات، يتمرد الشاعر على منطق الهزيمة التي كادت أن تؤدي إلى انتكاسة نفسية خطيرة، ويحاول استنبات الأمل في تربية مشبعة باليأس، فيفجر مياه الأرض العربية القاحلة بقنابل الأعداء وجراح الهزيمة: كنا في الصحراء ظمأى نبحث عن قطرة ماء حين أتت طائرة الأعداء قصفتنا قصفتنا قصفتنا ألقت كل قنابلها فتفجر نبع الماء. (11) وبهذه المحاولة يتحرر الشاعر من "عقدة الهزيمة" هذه التي هيمنت على أجيال بأكملها، وينعتق من آلام السقطة المروعة للقوميين العرب التي مهدت لهذه العقدة، ويتجاوز سلبيات المرحلة التاريخية التي انبثقت فيها هذه الرؤيا الرثائية للزمن العربي، ويبدأ الشاعر في نسج خيوط رؤيا مقابلة لها، ومتجاوزة إياها، إنها رؤيا تفجر هذا اليأس القاتل أملا طافحا بالأمل والتجدد. وهنا يتم التحام الشاعر بالإنسان المكافح المناضل، وبالفارس الذي لا يتورع عن القيام بمسؤولياته كاملة دون خوف أو رهبة. 2 ـ رؤيا الفروسية والزعامة: إن الجيشان السياسي وتقلب الظروف الاجتماعية، فضلا عن تمثل الشاعر لحساسية عصره؛ قد أدت جميعها إلى تغيير موقف الشاعر من واقع حياته ومن الوجود الإنساني عامة، فظهر في شعره التمرد والتحدي وأشكال الرفض، على اختلاف مستوياتها الأخلاقية والسياسية، كما ظهر عنده السعي المضني ـ في نفس الوقت ـ للعثور على مغزى للحياة. ولرأب الصدع بين القيم الثقافية الموروثة والمكتسبة للشاعر، وبين طموحه القومي وحقائق واقعة، يستلهم شخصية الفارس العربي، ويسقطها على ذاته؛ ومن هنا تنبثق عنده رؤيا جديدة، إنها رؤيا الفروسية والزعامة؛ حيث يوظف فيها الشاعر مجموعة من القيم العربية الأصلية المرتبطة بها كـ: الشجاعة ـ البطولة ـ العزة ـ الإباء ـ الجرأة ـ المروءة... وغيرها. وهي رؤيا تتحدى واقع الهزيمة، وتصيغ جدلية بينها وبين المقاومة، وتتجلى في عدة محاور، أهمها: ـ إدانة واقع الهزيمة: وهنا يتوغل الشاعر في أسباب الهزيمة وجذورها الدفينة، ويعرى انعكاسها على الفرد والجماعة والوطن تعرية قاسية. إنه لا يعرف تبرئة النفس ولا راحة الضمير، لدرجة أن هذه التعرية تحولت عنده إلى نوع من المبالغة الاحتفالية. ويوظف ممدوح عدوان في هذه الإدانة والتعرية مجموعة من رموز التاريخ الإسلامي: كعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن العوام والغفاري وابن ملجم ومعاوية وغيرهم.. للاحتجاج على القيادة المسؤولة عن الانكسارات والنكسات التي عرفتها الأمة العربية. إنه مسكون بحمى الثورة المغدورة والوحدة المغتالة. وهو من خلال هذه الرؤيا يصيغ خيبة مجتمعه وإفلاسه، وذاكرته التي تعج بالمذابح والمجازر ضد الأخضر العربي الفدائي. ومن هنا ينبثق موقف ممدوح عدوان المعارض للسلطة التي تحرص على هيمنة إيديولوجيتها بمحافظتها على السكون، والاحتراز من كل فعل إبداعي يمس بهذه السكونية. والفعل الإبداعي كإرادة تاريخية تحارب الأشكال والمضامين السائدة، ومن ثم فهي لا تحقق نجاعتها إلا بمدى تخلصها من الدوران في فلك السائد، أي متى حققت حضورا مركزيا وغادرت مواقعها الذيلية. وهذه الحقيقة هي ما يقررها ممدوح عدوان في قوله: "ولماذا الشعر الآن؟ "نحن نعيش في عصر الخيارات والمؤامرات والاغتيالات، نلهث عبر أربع وعشرين ساعة مزدحمة قاتلة في إطار هذا الزمن الممطوط المهمل الذي لا يعطي أية أهمية لحياتنا كلها. نعيش دوامات ومتاهات واستلابات. نعيش القهر والخوف والجوع. فلماذا الشعر الآن؟ من الذي لديه الوقت للشعر؟ من الذي لديه وقت لكتابة الشعر؟ ومن الذي لديه وقت لتلقي الشعر؟ نحن طبعا لسنا مخدوعين بآلاف اليافطات الثقافية المعلقة في شوارع الثقافة، والتي تطالب، كلها، بأدب الناس (للشعب، للجماهير، للكادحين). هم ليسو مهتمين بتثقيف الناس.. هو لا يريدون أن يتعمق وعي الناس. ولا يريدون أن تكون حساسية الناس مرهفة مشخوذة لأنهم لا يريدون شعبا مساهما ومتسائلا، بل يريدون رعية تابعة. وبالتالي فإن يافطاتهم، تلك التي يتاجر نقادهم وإعلاميوهم وساستهم بها، لا تعني إلا المطالبة بأدب يرضي السلطات ويساعدها على إكمال انقياد الرعية... أو على الأقل يملأ الفراغات الزمانية والمكانية في الاحتفالات والأجهزة. يريدون أن يتحول الفن كله إلى رعية.. أي أن يتحول إلى بوق: إلى إعلام. ويريدون أدبا لا يستفز الذين بيدهم المقدرات والسياط ولا يضطرهم لقراءته... يريدون فعلا أدبا لا يصل إلى الناس ولا يهتم به الناس ولا يحركهم ولا يتحرك بهم. يريدون أدبا يطمئنون إلى انعدام خطره. يريدون أدبا مخصيا تماما مثلما يريدون شعبا مخصيا. لماذا الشعر إذن؟ في عالمهم هذا يريدونه على مقاسهم، يصبح الشعر غير المخصي وغير المدجن شعرا مرفوضا ومطاردا، ويصبح الشاعر مشبوها أكثر من الجاسوس، يصبح رأس الشعر مطلوبا لأنه لابد أن يشاغب. يشاغب الشعر على الخيانة والمؤامرة والقتل، أو يشاغب على التفاهة والسطحية والشعوذة. والشعر إن لم يقل "لا" بشكل صارخ وصاخب وجارح فإنه لا يقبل أن يقول: "نعم" حتى بقطع رأسه." (12) إن الشاعر يحدد بكل وضوح رؤيته للوظيفة الشعرية التي يجب أن تنهض على مجموعة من الثوابت أجملها فيما يلي: شحذ حساسية الناس ونقد أوضاعهم السياسية والاجتماعية. الرفض المطلق للسياسة الرسمية والتنديد بها. المساهمة في صنع القرار القومي والوطني. وانطلاقا من هذه الثوابت، فإن إدانة الشاعر لواقع الهزيمة تدخل في صلب العملية الإبداعية، وللتعبير عن هذه الإدانة يتوسل إليها "بفروسية الكلمة": " أبدأ الشدو رغم العذاب القديم هذه أرضنا: حقها أن تميت أنقض اليأس، أنهض أشهر سيفي وأهجم رغم العياء".(13) ومن هنا تتبلور رؤيا الفروسية عنده حينما يحلل وينقد الأوضاع في سورية وفي الوطن العربي ـ بأكمله ـ، ويجهر بموقفه حول أسباب هذه الأوضاع، إنها تكمن في خيانة القيادات العربية وتقاعسها عن أداء مهماتها القومية والوطنية، ومن ثم يتوعدهم بحرب لا تعرف الهوادة: أنا فارس الغد حين نلاقي الزمان إنني أرجع الدهر نحو بدايته المفزعة وأنا امتطي صعبتي وأراقب كل المداخل جاءنا زمن القتل، لو يبق شهر حرام فتعالي نعلم حجارتنا أن تشير إليهم وتتقن أسماءهم. ـ تحدي الواقع: لم تكن تجربة ممدوح عدوان الشعرية منفصلة عن حركة المجتمع، وذلك لإيمانه العميق بأن الشعر هو أخطر الأسلحة التي تهدد السلطة، لأن القصيدة لا زالت أكثر تأثيرا على الأذن العربية من بقية الأجناس الأدبية الأخرى. ولذلك استطاع أن يفلت من دائرة الحصار التي تعرضت لها فنون الكتابة الأخرى، وأن يصل إلى الناس والجماهير؛ إذ كانت الكلمة المنشورة في لبنان ـ وبيروت بالذات ـ كمنبر حر للنشر والصحافة تتسلل إلى القارئ العربي رغم كل أشكال الحصار الذي فرض عليها. ومن هذا المنطلق راحت رؤيا الفروسية في متن ممدوح عدوان الشعري انطلاقا من ديوانه الثاني "تلويحة الأيدي المتعبة" تسبح ضد التيار الكاسح، وتتحدى الأمر الواقع، تؤلمه الهزيمة ألما عميقا، ولكنه يصرخ ويشتم ويطالب من أجل محو العار، ويتقدم شاهدا جريئا يشاكس ويعارض ويقول الحقيقة كلها: "... فالشعر ألد الأعداء لأنه أوضحهم عداءا. والشعر أسهل الأعداء لأنه لا يسيل دما ولا يضرب سياطا. هم الذين يضربون بالسوط ويسيلون الدم ويضغطون على الزناد. لكن الشعر أصعب الأعداء مراسا، يضطهد الشعر ويسجن وينفى ويعدم... لا يموت. ويتعرض الشعر للغواية والمنحة والمكافأة والتصفيق والاستحسان... ولا يقبل. ويحقق غرضه ولا يرضى، هل الشعر هذا فقط؟ لا. هو ذلك الشيء الإيجابي العظيم. هو ما يؤكد لنا أننا نبكي لأننا لم نتعود الذل، بعد، ولم نقبله، وأننا ننزف لأننا لم نمت، وأننا نغضب لأننا لم نتأقلم مع الظلم. لأنه ينبهنا إلى ما كدنا أن ننساه ويذكرنا أننا بشر..."(14) إن هذا الجانب الساخط في حساسيته الشعرية هو ما جعل رؤياه هذه تتكئ على صور البطولة والفروسية التي يستوحيها من التاريخ العربي والإسلامي القديم ليتحدى بها واقع الذل والمسكنة والجبن في التاريخ المعاصر، ويحاسب الأعداء الحقيقيين. لقد أصبح ينظر في اتجاه واحد هو تعرية المسؤولين الحقيقيين عن كل هذا الفساد المنتشر داخل الوطن. إنهم السلطة والأثرياء والمتخمون. يقول "مالكو لم كولي": " إن الواجب أعظم مغريات الشاعر وأسوؤها" (15) وهذا الواجب هو ما حرص ممدوح عدوان على حمله، فقام بدور السياسي، والمفكر والقائد والشاعر في نفس الوقت، ورأى أن الوطن حين يحترق لا يجوز للشاعر إلا أن يرفض ويتحدى، ويكرس كل جارحة فيه لإطفاء الحريق: لابد وأن أرفع صوتي الآن فلتسمع كل الآذان وليسمع هذا المخبر وهو يتابعني بالوجه المصفر ... إن كانوا سلبوا موسم وطني مازال الوطن لدي حنان إن كان التقرير عن الحزن كبيرا فأنا أتلاقى مع وطني كل مساء .... فليعلم أني مازلت أرى السيل سيجرف هذا السجن ويجرف مسجونيه مع السجان إن كان الغضب بعين الوالي صار خطيرا فالقهر بقلبي أخطر والسيل القادم أخطر والوطن المصفر من القهر يريد دمي كي يرجع أخضر إن كان الظلم بجعبة هذا الجلاد كبيرا فأنا أكبر. (16) إن رؤيا ممدوح عدوان هذه متفردة وجريئة على معالجة موضوعات تمس أجزاء حساسة في الكيان الاجتماعي السوري، ومواجهتها شعريا، إنه ناقم على "عقلية العشيرة" التي ما تزال تحكم المجتمع وتظهر بكل وضوح في سياسة الحاكمين، وساخط على هذه العقلية البالية التي تكرس التخلف والعبودية. وتتسع دائرة الرؤيا المتحدية للأوضاع الداخلية في سورية ـ في متن ممدوح عدوان الشعري ـ، وهي رؤيا جريئة في ملامستها لجراح سورية والآثار السلبية للانقلابات المتتالية في تقدم سورية اقتصاديا وحضاريا. إنها رؤيا تستقرئ أبعاد الأزمة الداخلية والخارجية وتضع اليد على الأسباب الحقيقية لها، والكامنة في: الظلم والاضطهاد والدكتاتورية والنفاق والمساومة. وهو إذ يتستقرئ أبعاد هذه الأزمة إنما يريد أن يصيغ قيما أخلاقية جديدة ـ على أنقاض ما يتخلل الواقع من فساد وأحقاد ومجازر ـ فلا يجدها خارج قيم: الفروسية والزعامة، والإباء العربي الرافض لكل أشكال الزيف والذل والمسكنة. إنه يسلط الضوء على علاقة الفرد العربي بحكوماته، وموقف الحكام العرب من معركة أمتهم، ومن ثم يقرر أن الحاكم كان في منأى عن الفرد، والفرد معزول عن المشاركة الفعلية، وهو لا يملك أن يتكلم أو يشير. وبذلك تتكرر مأساة بغداد وتخاذل الخليفة في الزمن المعاصر بذلك الشكل الذي تحققت به في التاريخ العباسي: في الوطن المليء بالدعاء والدماء كنا نلوذ بالمراحيض كي نكتب آراء جريئة نرسم أجساد النساء ونكتب الشتائم البذيئة لكنني على جدار كل مرحاض دخلته في وطن القضبان والأقبية المخيفة قرأت أو كتبت: " جند الغزاة، سيدي ينتهكون الوطن الشهي كالعذراء وكان سيدي الخليفة متكئا في القصر فوق وجهه ابتسامة مخيفة: بغداد تكفي أبعدوا عن القصور ضجة الغوغاء". (17) إن ممدوح عدوان يرى أن الواقع السياسي لوطنه مدانا، وهو إذ يكشف عن أعدائه الداخليين، ويندد بغرور السلطة الحاكمة التي قادت إلى انتكاسات خطيرة من خلال رؤيته هذه، إنما يتمرد على منطق الخوف والإحباط والهزيمة، لأنه ينشد الوجود الأصفى والأكمل للإنسان. 3- رؤيا الانبعاث: إن تجربة الشاعر، والتطورات السياسية والاقتصادية في الأقطار العربية، وعلاقات هذه الأقطار بالعالم، أحدثت تراكمات ساهمت في تشكيل رؤيا أكثر شمولية وعمقا ونضجا في متن ممدوح عدوان الشعري، إنها رؤيا تتجاوز السائد لتعانق الممكن والمستقبل. لقد بدأ في التحرر من الآثار السلبية للأحداث التي شهدتها سورية والوطن العربي بأجمعه (آثار السقطة المروعة لحركة القوميين العرب ـ آثار هزيمة 1967... إلخ) وكلما ابتعدت ذكرى هذه الآثار السلبية ابتعدت معها آلام الجرح الموجع. وجاءت حرب الكرامة 1973 لتفجر أورام اليأس والرفض والغضب، وغدا "تشرين المخلص" يحل تلك "العقدة الحزيرانية"، ويحرر الشاعر من آلام الاغتراب عن هذه الأمة، ويشيع الإحساس بالانبعاث والشعور بالشخصية. لقد ظهرت للشاعر بارقة أمل راح يغذيها ويصونها إلى أن أثمرت رؤيا الانبعاث من جديد. ورؤيا الانبعاث عند ممدوح عدوان؛ نابعة أساسا من نضاله القومي ودفاعه عن استمرارية هذه الأمة في الوجود، وذلك بتحرير أراضيها المحتلة، وتحقيق وحدتها، وإنجاز التطور الاجتماعي اللازم لوضعها في سياق التطور التاريخي. إنها رؤيا تسهم في بلورة وعي يكشف أبعاد الوضع العربي ويسعى إلى تغييره. وتستمد رؤيا الانبعاث هذه مشروعيتها من أسطورة الانبعاث القومي التي تؤطر رؤيته للعالم. ويتضح من خلال استقراء المتن الشعري لممدوح عدوان أنه وظف أسطورة الانبعاث هذه في ديوانه الشعري: "أمي تطارد قاتلها" الصادر عن دار العودة. سنة 1977. يقول في قصيدة "الجنازة": .... أمي هي الضوء والنوء والبرد والورد .... انظروا كيف جاءت تلوح في الزهر فواحة أوقفوا الزغردات، اسمعوا: إن أمي تزغرد فينا دماء هي الأرض تحبل والخصب يقبل والأغنيات الأبية من رمم وئدت ثم جاءت تحاسب هذي قيامتها المطر الآن يشرب شمسا هلموا استحموا عراة تبارك هذا الصباح فأمي تطل قوس قزح (18) إن الشاعر هنا حريص على بعث الأم/ التي ترمز هنا إلى الأرض، بعدما كانت قد وئدت: زغردوا للعروس التي اكتشفت في الرياحين وجه الصبا زغردوا.. واحملوها إلى حيث فاح أريج التراب (19) وهكذا تتحول الأم المحاطة بكل صور العرس الدموي إلى زهر فواح، ومطر يشرب الشمس حاملة معها كل معاني البشارة. إن رؤيا الانبعاث في هذه القصيدة الدرامية عند عدوان مرتبطة بمجموعة من العناصر، وهي: الخصب والعطاء. التضحية والفداء. الانتقام والثأر. إنه في حالة إحساسه بسقوط المثال البطولي للشعب العربي، راح يبحث عن بطل مخلص يعمل على تحقيق البطولة الضائعة، إنها الأم/ الأرض المغتالة التي تنبعث من جديد لتحاسب أعداءها وتنتقم من العدو وتحمل البشرى إلى قومها. إنها عملية تعويض ناتجة عن تصميم الشاعر للحفاظ على اكسير الحياة للمواجهة والتحدي حتى آخر رمق. وهو يقوم بنفس العملية في باقي قصائد هذا الديوان، حيث يقول في قصيدة " هكذا تكلم التل": ... أنا القمح الذي كنا سنابلي العريقة ترتمي للريح كالقتلى وتنهض تنطوي تحت التراب كأنها موتى فتبذر والسنابل في عراقتها تحول كل مقبرة كمائن سوف تنهض دون صوت ربما همست إلي بكلمة أو طلقة (20) إن الشاعر ـ في هذه القصيدة ـ يصور مأساة " تل الزعتر" في فلسطين السليبة، وهو يتغنى فيها بالمقاومة والصمود في زمن الانكسار والهزيمة. وتتمثل رؤيا الانبعاث في هذه القصيدة في توحد الشاعر بالكون والأشياء ليكون شاهدا على الزمن الفلسطيني، ويتجلى هذا التوحد في قوله عبر مقاطع هذه القصيدة: "أنا الهم المتلل ـ أنا وقفة النخل الأبية ـ أنا الميدان ـ... إلى أن يقول: أنا القمح "في المقطع الأخير. وهكذا يتحول هذا التوحد في آخر القصيدة إلى سنابل تنبعث كمائن تنهض بطلقة تحسم فيها كل هذا العذاب والقهر الفلسطيني فتبعث الحياة في الموت. إن الشاعر ممدوح عدوان إذ يعزف على وتر رؤيا الانبعاث هذه، إنما ينمي النزعة الثورية في الإنسان العربي، ويوقد شعلتها في روحه لمجابهة الواقع بمسؤولية. 4 ـ الرؤيا الثورية: من البديهي أن الشاعر يتموضع ضمن ثقافة معينة، هي نتيجة التبادل الاجتماعي في مرحلة تاريخية محددة، وأن هذا الشاعر يساهم في هذه الثقافة بالإنتاج والتطوير أو بالاستهلاك. فهو إذن: ـ إما شاعر لا يكف عن المحافظة على قيم هذه الثقافة، والعمل على نشرها وإعادة إنتاجها. ـ وإما أن يضع أسس هذه الثقافة موضع التساؤل والنقد والعمل على تجاوزها. فالشاعر إذن، إما محافظ على ما هو سائد ومألوف، وإما ناقد لهذا المألوف داعيا إلى المغايرة والتجاوز. ويعتبر "سارتر" أن الممارسة الإبداعية تتضمن النفي الجزئي لما هو كائن لصالح ما هو غير موجود بعد. فهذا النفي إذن؛ عبارة عن كشف للواقع يواكبه تأكيد لما هو كائن لأن الإنسان يحقق ما هو غير موجود بواسطة ما هو كائن، أي جعل ما هو موجود وسيلة من وسائل تحقيق ما لم يوجد بعد. وهكذا فالممارسة الإبداعية تتضمن لحظة المعرفة العملية التي تكشف، وتتجاوز وتحافظ، ومن ثم تغير الواقع. ويقرر ممدوح عدوان ـ في هذا السياق أن البشر منقسمون إلى طائفتين: "طائفة الإبقاء على العالم كما هو، لأنها مستفيدة من صورته هذه، أو لأنها غير متضررة منها، أو لأنها لا تعي حجم الضرر اللاحق بما فيه. وطائفة تريد تغيير هذا العالم، وقلب موازينه وموائده وإعادة ترتيبه. والشاعر منتم حتما، إلى إحدى الطائفتين، إما أنه طامح إلى تغيير العالم، وإما أنه مساهم في تكريسه. ولا مجال للحديث المنافق عن ضرورة عدم تدخل الشعر في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع".(21) هكذا يتبلور الوعي المتزايد عند ممدوح عدوان بالوظيفة التي يجب أن يضطلع بها الشعر ليصل إلى الإعلان عن إيمانه الراسخ بثورية الشعر الذي يجب أن يسعى إلى تغيير العالم القائم: "تغيير العالم ليس عملا آنيا ومؤقتا، وقد لا يكون ممكنا الآن. والشعر ليس طفلا يحلم أحلاما مستحيلة. بل هو حلم البشرية بإمكانياتها الفعلية. وهذا يعني أن الشعر لا يطمح إلى تغيير العالم الآن، فهو لا يخطط للقيام بانقلاب عسكري... الشعر يطمح إلى إحداث ثورة، وبالتالي فهو يعمل ضمن استراتيجية ثورية. الشعر هنا، أي فاعليته في المتلقي، جزء من تراكم المعرفة الذي سيؤدي إلى تغير نوعي في وعي المتلقي، وهذا يعني أن الشعر يساهم في تغيير الإنسان وتغيير نظرته للحياة لكي يتمكن هذا الإنسان من تغيير العالم".(22) وبتفحصنا لمتن ممدوح عدوان الشعري يتضح أن الرؤيا الثورية عنده مرتبطة أشد الارتباط بديوانه "الدماء تدق النوافذ"، إذ يتبلور وعيه ليصل إلى إعلان الثورة على المسؤولين الحقيقيين عما آلت إليه الأوضاع داخل سورية، لقد استقرأ الأزمة، وهو يتهيأ لفعل جديد: أيهذا الوطن اسمعني فقد ناديت عمري فيك لم أسمع سوى رجع النداء سوف اختار على أرضك موتا لم يكن يخطر يوما في ضمير الأنبياء. (23) وهو إذ يتهيأ إلى هذا الفعل إنما يبشر بالوطن البديل: ها أنا بدم أتدثر: إن الدماء تدق النوافذ توقف زحف المشاة بدأ الدم من جرح كف تجاهد للخبز تجني مجاعتها كل عام بدأ الجرح من ماء نهر يفيض بوجه الحسين المضرج وتدفق في النيل ..... هو ذا زمن فيه أعداؤنا ينبعون من البيت يسرون بين خيوط الدماء...(24) ويمضي الشاعر في مقاطع هذه القصيدة مبلورا وعيه وفق رؤيا ثورية أصيلة، فيعلن الانتقام والثأر من أعدائه الطبقيين، من الأثرياء والمترفين، وسارقي خبز الجائعين: يبدأ الثأر من جوع أطفالنا ودموع الرجال سنخزن أحقادنا المبدعة سنحل دماها: أنا فارس الغد، حين نلاقي الزمان إنني أرجع الدهر نحو بدايته المفزعة وأنا أمتطي صعبتي وأراقب كل المداخل جاءنا زمن القتل، لم يبق شهر حرام فتعالي نعلم حجارتنا أن نشير إليهم وتتقن أسماؤهم أخذوا عمرنا من بدايته ولنا سوف تبقى فصول الختام.(25) هكذا تتحقق الثورة الكاملة على الواقع المعادي للإنسان. إنها رؤيا واعية بشروط حياتها، ولا تعرف الهوادة ولا التأجيل لأنها تنشد تطهير الإنسان وتحريره من العبودية والاستغلال: أيهذا الوطن اسمعني فقد ناديت عمري فيك لم أسمع سوى رجع النداء سوف أختار على أرضك موتا لم يكن يخطر يوما في ضمير الأنبياء (26). إنه تطلع مشروع نحو وطن يسهم في الفعل الحضاري، وطن ينتج ولا يركن إلى متعة الاستهلاك، وطن مناضل يتأسس على عقيدة وخطة وتقوده طليعة واعية محرضة. إن هذه الرؤيا الثورية عند الشاعر ممدوح عدوان تضم الديمقراطية في مكانها القابض على التحرير الوطني والتحرير الاجتماعي إنها الاستيعاب التاريخي للمرحلة التي انبثق فيها شعره. هوامش الفصل السادس كريستوفر بطلر: "التفسير والتفكيك والإيديولوجية" Clarinton press.oxford.84. لوسيان غولدمان ـ " المادية الجدلية وتاريخ الأدب" L/Goldman :« Pour une sociologie du roman ».Paris-Gallimard-1964- p :339 4- L.Goldman : le Dieu caché » Gallimard.1959.p :28. 5- إن العودة إلى الباب الثاني، الفصل الرابع؛ والمتعلق بالبنية الدلالية كفيل بتوضيح هذه الرؤيا. 6- ممدوح عدوان: "دعوة إلى نقد جيل الستينات" جريدة "البعث" السورية. العدد 6725. بتاريخ: 22/02/1985. 7-"أوتوستراد" من مجموعته الشعرية: "لابد من التفاصيل" ص: 27. 8- حنا عبود: "النحل البري والعسل المر" وزارة الثقافة. دمشق. سنة 1982. ص: 338. 9- "احتفالا بالجنون" وهي مقدمة ممدوح عدوان لكتاب صلاح الدين محمد عن الفنان لؤي كيالي. مأخوذة من كتاب ممدوح عدوان "دفاعا عن الجنون" دار النديم. الوعي. بيروت 1985. ص: 17. 10- من نفس المصدر. ص: 18-19. 11-"اسكتشات عربية" من ديوانه "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 142/143. 12- "لابد من الشعر" وهي مقدمة المجموعة الشعرية" لابد من التفاصيل" مصدر مذكور. ص: 5-6-7. 13- "الهروب من ثورة الزنج "من ديوانه" الدماء تدق النوافذ". مصدر مذكور. ص: 25. 14- "لابد من الشعر" مرجع مذكور. ص: 14-15. 15- أرشيبالد ماكليش: "الشعر والتجربة" ترجمة سلمى الجيوسي. بيروت 1963. ص:139. 16- "لابد من التفاصيل". من المجموعة الشعرية بنفس العنوان. مصدر مذكور. ص: 113-114. 17- قصيدة: "رسالة إلى أسماء بنت بكر" من مجموعة: "تلويحة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور.ص 76-77. 18- من ديوانه الشعري "أمي تطارد قاتلها" مصدر مذكور. ص: 30-31. 19- من نفس القصيدة. ص: 5. 20- قصيدة "هكذا تكلم التل" من ديوانه" أمي تطارد قاتلها" مصدر مذكور. ص: 83. 21-"لابد من الشعر" مرجع مذكور. ص: 8. 22- نفس المرجع. ص: 9-10. 23- قصيدة "الحصار" من ديوانه" الدماء تدق النوافذ" مصدر مذكور. ص: 76. 24- "الدماء تدق النوافذ" من ديوانه بنفس العنوان. ص: 7 و 11. 25- نفس القصيدة. ص: 12-13. 26- "الحصار" من ديوانه: "الدماء تدق النوافذ" ص: 76. |