[center]الفصل الأول
النص والخطاب ( دراسة نظرية)
النص بين المفهوم والمصطلح:
تعددت التعريفات العربية والغربية التي شرحت مفهوم النص ومدلولاته، ولكن من الضروري في البدء الكشف عن الدلالة اللغوية لكلمة (نص) في اللغة العربية والغربية وفقاً لما أوردته المعاجم، لتلمس نقاط التشابه والاختلاف، وذلك " لأن اللغة تمثل النظام المركزي الدال في بنية الثقافة بشكل عام"(1).
أورد الفيروزآبادي في مادة (نصص) قوله : "(نص) الحديث رفعه، وناقته استخرج أقصى ما عندها من السير، والشيء حركه، ومنه فلان يَنصُّ أنفه غضباً وهو نصاص الأنف، والمتاع : جعل بعضه فوق بعض، وفلاناً :استقصى مسألته عن الشيء، والعروس أقعدها على المنصة بالكسر، وهي ما ترفع عليه فانتصت، والشيء أظهره، والشواء ينص نصيصاً: صوّتَ على النار، والقدر غلت، والمنصة بالفتح الجَمَلَة من نصّ المتاع، والنص الإسناد إلى الرئيس الأكبر والترقيات والتعيين على شيء ما، وسير نُصٌّ ونصيص جدُّ رفيع، وإذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى:أي بلغن الغاية التي عقلن فيها، أو قدرن على الحقاق وهو الخصام أو حوق فيهن فقال كل من الأولياء أنا أحق، أو استعارة حقاق الإبل: أي انتهى صغرهن، ونصيص القوم: عددهم، والنّصّة: العصفورة بالضم الخصلة من الشعر، أو الشعر الذي يقع على وجهها من مقدم رأسها، وحية نصناص أي كثيرة الحركة ونصص غريمه، وناصه:استقصى عليه وناقشه، وانتصب انقبض، وانتصب ارتفع، ونصنصه: حركه وقلقله والبعير أثبتت ركبتيه في الأرض وتحرك للنهوض" (1).
وفي مختار الصحاح للرازي مادة (ن .ص .ص) " في حديث علي رضي الله عنه: " إذا بلغ النساء نص الحقاق " يعني منتهى بلوغ العقل و(نصنص):الشيء:حركه. وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه حين دخل عليه عمر رضي الله عنه وهو ينصنص لسانه، ويقول: هذا أوردني الموارد" (2).
وفي لسان العرب لابن منظور :" ( النص ) رفعك الشيء، نص الحديث ينصه نصاً : رفعه. وكل ما أَُظهِر فقد نُصَّ. ووضع على المنصة : أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور. وقال الأزهري: النص أصله منتهى الأشياء، ومبلغ أقصاها، ومنه قيل : نصصت الرجل إذا استقصيت مسألته عن الشيء، حين تستخرج كل ما عنده، وفي حديث هرقل: ينصهم أي يستخرج رأيهم ويظهره ومنه قول الفقهاء: نص القرآن، ونص السنة. أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام وانتص الشيء وانتصب إذا استوى واستقام" (1) .
أما في مادة (نص) في المعجم الإنجليزي، فقد ورد لفظ ( Text )، وهو بالفرنسية، ( Texte)، وهو لفظ مأخوذ عن اليونانية، من اللفظ ( Textus)، والتي تعني ( Tissue )، أو ( Style of literary work)، وترتبط بـ ( Textile)، والتي ترتبط بآلات وأدوات النسج. وقد ورد في معنى لفظ (نص) (Text) ما ترجمته:
- " الجمل والكلمات نفسها المكتوبة ( أو المطبوعة أو المنقوشة) أصلاً، الكتاب أو المخطوطة أو النسخة التي تضم هذا.
البنية التي تشكلها الكلمات وفق ترتيبها.
مضمون البحث ( حول موضوع ما)، الجزء الشكلي ( أو الرسمي) المعتمد.
الجمل والكلمات نفسها من الإنجيل.
قطعة قصيرة من الأناجيل، يستشهد بها المرء كمصدر موثوق أو كشعار أخلاقي أو كموضوع شرح أو موعظة أو حكمة أو بديهة أو مثل أو قول مأثور أو نصوص يستشهد بها.
في استعمال لاحق … … يستخدمها المرء كاسم للكتاب المقرر الدراسي.
عملية أو فن النسج ] الحبك [، إنتاج نسيج محبوك، أي بنية طبيعية لها المظهر أو التكوين النسجي، مثلاً نسيج العنكبوت.
تركيب أو بنية مادة أي شيء مع مراعاة عناصره التشكيلية المكونة أو الخصائص الفيزيائية… للأشياء غير المادية، التكوين أو الطبيعة أو الخاصية الناجمة عن التركيب الفكري، كنسج خواص متنوعة.
في الفنون الجميلة: تمثيل البنية وتحوير دقيق للسطح.
أما النصية فهي التمسك التام بالنص خاصة الأناجيل"(1) .
تعددت الدلالات عند الجانبين، ولكننا لا نصل إلى تحديد قاطع بمجرد إيراد الدلالة اللغوية لكلمة (النص)، ولا يجوز الاكتفاء بالتحديدات اللغوية المباشرة في التعريف، لأنها تقتصر على مراعاة مستوى واحد للخطاب، هو السطح اللغوي البراني وظاهره الدلالي، دون الدخول إلى جوهره الباطني، فلا بد من تحليل ما ورد في الدلالة اللغوية، ورصد تطور اللفظ في الدلالة .
ومن استقراء الدلالات المتعددة الواردة في القواميس العربية يمكن القول إن الدلالة المركزية الأساسية للدال " نص " هي الظهور والاكتمال في الغاية، وهي تؤكد جزءاً من المفهوم الذي أصبح متعارفاً عليه في النص. ولا تزال هذه الدلالة بارزة في الاستخدام اللغوي المعاصر، وإذا أردنا أن نرصد التطور التاريخي لدلالة الكلمة نجد أن لفظ ( نص )، يشتمل على مدلولات مادية وأخرى معنوية، فمن المادية ما وجدناه في الدال " منصة " والتي تعني المكان المرتفع البارز للناظرين، والنصّة وهي العصفورة بالضم وهي الخصلة من الشعر، أو الشعر الذي يقع على وجهها من مقدم رأسها، والدلالة الحسية كما في نصت الدابة جيدها إذا رفعته، ونص الشيء حركه، ونص المتاع : جعل بعضه فوق بعض، ونص الدابة إذا رفع جيدها كي يحثها على السرعة في السير، والنص السير الشديد. ومن المعاني المعنوية نص الأمور: شديدها، ونص الرجل: سؤاله عن شيء حتى يستقصي ما عنده. وبلغ النساء نص الحقاق: أي سن البلوغ.
هذا وقد يستخدم النص أحياناً في معان اصطلاحية، كالنص في علم الحديث وهو التوقيف والتعيين، والنص في الكتابات الأصولية والفقهية هو القرآن الكريم، أو هو مجموعة من القواعد المستمدة من القرآن والسنة حيث تعتمد القاعدة الفقهية على: أن لا اجتهاد مع وجود النص، وهناك النص والرأي أو النقل والعقل.
ولم يقتصر الأمر بالنسبة لتعريف النص على ما ورد في المعاجم القديمة، فلقد تطور تعريف النص، وأصبحت المعاجم الحديثة تميل إلي تعريفه بشكل أشمل وأكثر إجرائية كما في معجم المصطلحات اللغوية للدكتور خليل أحمد خليل الذي يعرف النص ( Text) بأنه :
" يعني في العربية الرفع البالغ ومنه منصة العروس.
* النص كلام مفهوم المعنى فهو مورد ومنهل ومرجع.
* التنصيص المبالغة في النص وصولاً إلى النص والنصيصة .
* النص (Textus ) هو النسيج، أي الكتابة الأصلية الصحيحة، المنسوجة على منوالها الفريد، مقابل الملاحظات ( Notes ) والشروحات والتعليقات ( Commentaries).
* النص: المدونة، الكتاب في لغته الأولى، غير المترجم، قرأت فلاناً في نصه، أي في أصله الموضوع.
* النص كل مدونة مخطوطة أو مطبوعة، ومنه النص المشترك (Texte Co-) .
* " سياق النص، مساقه، أجزاء من نص تسبق استشهاداً، ( Citation)، أو تليه، فتمده بمعناه الصحيح .
يقال: ضع الحدث في سياقه التاريخي. أي: في مكانه الصحيح.
* التساوق ( Contexture) هو التوالف بين أجزاء الكل: تناسق القصيدة، تساوق الكلام.(1).
يتبين من الاستقراء لما سبق وجود فرق كبير في مفهوم النص بين التراث والمعاصرة، وإذا كان مفهوم النص في السابق يشير إلى الدلالة المركزية للفظ (النص)، وما به من ظهور واكتمال، وإلى تركبه من أجزاء مترابطة ومتحركة وقابلة للتفكيك عبر استقصاء مسألة الفرد لاستنطاق نصه، إلا أنه لا يؤدي إلى التعريف التام الذي تثبته الدراسات الحداثية، وما بعد الحداثية في التعامل مع النص كمصطلح دلالي وإجرائي وبالأخص الدلالة الفقهية للنص والذي قصرته المعاجم على ما دل ظاهر اللفظ عليه من أحكام للنص. فلقد مالت الدراسات الحداثية إلى الأخذ بالمفهوم الغربي للنص ولذلك تشابه تعريف د.خليل أحمد خليل مع المعاجم الغربية .
لقد تطورت دلالة النص، ولا يضير العربية عدم وجود تعريف محدد بدقة للنص. فلقد " أدرك عدد من المفكرين الغربيين أهمية هذا الأمر بعد سقوط البلاغة عندهم. ولذا، نرى أن (رولان بارت) مثلاً يرفض تعريف (تودورف) للنص وينتقد عليه قربه من البلاغة، لأنه كما قال: ( خاضع لمبادئ العلم الوصفي )، ثم ينتهي إلى القول بعد تحليل طويل: "نفهم الآن أن نظرية النص موضوعة في غير مكانها المناسب في المجال الحالي لنظرية المعرفة ولكنها تستمد قوتها ومعناها من تموضعها اللامناسب بالنسبة إلى العلوم التقليدية للأثر الفني- تلك العلوم التي كانت ولا تزال علوماً للشكل أو للمضمون"(1).
إن غيبة التعريف بالنص لا تعني عدم معرفة العرب به أو عدم وجود جذور له في العربية، فلقد تناول العرب النص ومارسوه وإن اختلف المنهج المتبع. فالتعريف غائب ولكن ممارسته حاضرة. " وفي البلاغة العربية برزت النظرة الشمولية إلى النص لدى غير واحد من البلاغيين. فعندما يتاح لنا النظر – مثلاً - في كتاب " إعجاز القرآن " للباقلاني – أبي بكر المتوفى نحو(403 هـ)، نجده يفرط إفراطاً كبيراً في التأكيد على النظرة الشمولية للقرآن الكريم، مستبعداً جل ما رجح به البلاغيون _ قبله_ من ظنون في إشكالية الإعجاز، مؤكداً أن خصائص الرشاقة والأسلوب، التي تتكرر في القرآن الكريم كله، حيثما أنعمنا النظر هي سبب الإعجاز ومصدره، وليس الإعلام بغيب….
أما عبد القاهر الجرجاني توفي (471 هـ) ….، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكن القارئ من الوقوف على جماليات النص الأدبي. فهو – في نظره – لا يستطيع أن يحكم على المزية فيه من قراءة البيت أو الأبيات الأولى، وإنما يقتضيه هذا النظر والانتظار حتى يقرأ بقية الأبيات وقد لا يستطيع أن يقف على أسرار النص ما لم يستفرغ جهده في تأمل القطعة الأدبية كاملة، وبعد ذلك يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما فيها من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير….
أما ضياء الدين ابن الأثير توفي (637 هـ) فقد أنكر في كتابه " المثل السائر" ما كان ذهب إليه الجمهور، من أهل النظر البلاغي، من حيث أن البيت الشعري يجب أن يكون مستقلاً الاستقلال الكلي عن غيره من أبيات، وأنه لا يجوز أن يكتمل معناه في أول البيت الثاني – مثلاً – وأنكر ما عابه النقاد على الشعراء مما سموه " التضمين "، وهو ألا يكتمل المعنى بقافية البيت، بل يحتاج إلى الشطر الذي يليه. وذهب _ ابن الأثير _ إلى القول بأن علاقة البيت بالبيت كعلاقة الفقرة بالفقرة من النثر، فكما أنه يجوز أن يصل الفقرة بالفقرة، دون أن يعد ذلك عيباً في نثره. فكذلك الشعر يستطيع الشاعر أن يعلق معنى البيت بالذي يليه، ولو صح هذا … لكانت القصيدة كالسبيكة الواحدة، لا يستطيع كائن من كان أن يرى تفككها، وتشتت أجزائها، أو خلوها من وحدتها العضوية، وحدتها الحية التي ينشدها المبدع، وتعين القارئ على التفاعل مع النص، تفاعلاً يجعله يقف على مزاياه المتمثلة في انضباطه وتنظيمه الداخلي.
وينفرد حازم القرطاجني (توفى 684 هـ) … بنظرة أكثر شمولية للنص، تميزه عن غيره من أهل النظر في علوم البديع والبيان …. فهو أول من قسم القصيدة العربية إلى " فصول " زعم أن لها أحكاماً في البناء، وأول من أدرك الصلة الرابطة بين مطلع القصيدة، وما سماه بالمقطع، وهو آخرها الذي يحمل في ثناياه الانطباع الأخير، والنهائي، عن القصيدة " (1).
لقد عرف العرب القدماء النص وأدركوا دوره، وفي الأدب العربي إشارات عديدة ترشدنا إلى ما يؤكد أن النص غير متناه في الإنتاج والحركة، وقابل لكل زمان ومكان لأن فاعليته متولدة من ذاتيته النصية، ولقد أشارت كتب الأدب العربي إلى ممارسات نصية عديدة بخصائص ومميزات تختلف بين العصور الأدبية. ولكن " لم يعرف العرب في تاريخهم ممارسة نصية كما عرفوها مع القرآن. ولعل أولى مظاهر هذه الممارسة … تكمن في الوقوف على ( النص في ذاتيته النصية ) بتعبير رولان بارت. فذاتية النص تجليها قراءة للمكتوب تجعل النص كلاماً يقوم بنفسه إزاء كلام آخر يظهر عبر إنجاز لغوي مختلف"(2).
ويرى بعض النقاد أن النص القرآني يتسم بكل صفات النص، مما جعل البعض يقصر لفظ نص على نص القرآن الكريم يقول (أدونيس) في مميزات النص القرآني:"إن النص القرآني يتجاوز الشخص: الله هو الذي أوحاه، ونقله إلى النبي ملاك. وبلغه النبي إلى الناس، ودونه كتاب الوحي، إنه عمل إلهي - إنساني عمل كوني، وهو بوصفه كذلك محيط بلا نهاية للمتخيل الجمعي. وربما كان أعقد ما فيه بوصفه كتابة، خلافاً لما يبدو ظاهرياً هو أنه متابعة لما قبله وتكملة: إنه خاتمة النبوات وخاتمة الكتابة، إنه بمعنى ما أنهى الكتابة. ذلك أنه لم يكتب الأثر الذي يولده الشيء، وفقاً لتعبير مالارميه، وإنما كتب الشيء ذاته. لهذا لا يطرح النص القرآني مسألة ما الشعر، أو ما النثر وإنما يطرح السؤال ما الكتابة، وما الكتاب ؟
هكذا يقرأ النص القرآني بوصفه نصاً يجمع في بنيته أشكال الكتابة جميعاً. " كأنه أعاد الأبجدية إلى فطرتها، قبل الكتابة وفيما وراء الأنواع الكتابية" و" لغته ليست مجرد مفردات وتراكيب وإنما تحمل رؤيا معينة للإنسان والحياة وللكون أصلاً وغيباً ومآلاً"(1).
النص القرآني " نص مكتوب (نص / كتابة )، يطرح إشكالية التصنيف (ليس له شكل محدود ولا ينتمي إلى أي نوع من أنواع الكتابة المألوفة )، ليست له بؤرة مركزية ( بل يتضمن بؤراً لا نهاية لها)، وهو بلا بداية أو نهاية ( له فاتحة ولكن ليست له بداية أو نهاية بالمعنى المألوف )، يقبل تأويلات لا حصر لها ( حظي بهذا وسيبقى يحظى بتأويلات لا نهاية لها )، ذوات طاقة رمزية مطلقة، الإحالة المرجعية في النص القرآني على النص نفسه، وحقوق طبع النص القرآني غير محفوظة لأحد"(1).
كما أن الدين واللغة في النص القرآني، " شكل روحي واحد أو بنية روحية واحدة لهذا يتكون من الغامض الذي لا يمكن أن يعرفه الإنسان ومن الواضح الذي يعرف مباشرة من ظاهر اللفظ، فهو أفق مفتوح، لكن على الغيب" (2).
ولقد توصل الأدب العربي إلى ذلك فقد رأى الجرجاني أن " للكتابة القرآنية خصائص لم تعرف قبل نزول القرآن، ويرى أنها لا تكمن في الكلمات المفردة - في جمال حروفها وأصواتها وأصدائها ولا في معاني الكلمات المفردة، التي هي لها بوضع اللغة، ولا في تركيب الحركات والسكنات، ولا في المقاطع والفواصل، وإنما تكمن هذه الخصائص في النظم والتأليف اللذين يقتضيان الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز فمن هذه يحدث النظم والتأليف، وبها يكونان" (1).
كما عبر الباقلاني عن أن القرآن نظام لغوي يقوم على غير مثال، حيث يقوم:"على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه من أساليب الكلام المعتاد" (2).
" نشأ مع النص القرآني على الصعيد الإنساني، إنسان جديد، ونشأ معه على الصعيد الأدبي الخالص قارئ جديد … إنه نموذج من الكتابة تتداخل فيه مختلف أنواع المعرفة – فلسفة وأخلاقاً، سياسية وتشريعاً، اجتماعاً واقتصاداً، وتتداخل فيه مختلف أنواع الكتابة … وفي هذا ما يتيح للكاتب أن يعيد النظر في رؤياه للإنسان والعالم والكتابة، ولن تكون هذه الرؤيا إلا كونية وإنسانية. لن تكون إلا مزيداً من الاتجاه نحو الإنسان بوصفه إنساناً فيما وراء كل عرف ولون، وفيما وراء كل انتماء، ولن يكون فيها فرق بين الإنسان والإنسان إلا في عمق التعبير عن هذه الرؤيا وفي غناه وفرادته. إنه نص - دعوة إلى كتابة جديدة برؤيا جديدة " (1).
فـ" القرآن نص ينعقد مدلوله بأحوال متلقيه لا بأحوال مرسله، وهو لأنه كذلك، فإن التمثيل الوجداني الذي تضطلع أسلوبيته الفردية به، لا يقوم هنا على مثال مرسله، ولكن على مثال متلقيه. وبناء على هذا، يمكننا أن نقول: إن التحليل الأسلوبي لمضامين النص القرآني الوجدانية، إنما هو صورة ترسم انفعال المتلقي بالنص، دون أن ترسم انفعال المرسل، وذلك لسببين :
- لأن المتلقي (موضوع الخطاب ) يعتبر جزءاً من دلالة الخطاب نفسه، فهو المنفعل فيه من جهة، وهو الذي يجليه إن سلباً وإن إيجاباً من جهة أخرى. وهو لأنه كذلك، يصبح أداة الخطاب في الدلالة على مرجعيته، فتتعين العلاقة بهذا بين الخطاب دالاً وما يشير إليه، أي مدلوله.
لأن الله في التصور الإسلامي، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء و" ليس كمثله شيء".
- وما دمنا ننظر إلى القرآن بهذا المنظور، فسنرى أن ثمة علاقة تجاذبية تقوم بينه وبين المتلقي. فالدال يدل. من جهة أولى، على متلقيه ويتعدد به. والمتلقي من جهة ثانية، يرتبط به ارتباط المستدل بغيره على نفسه، وبه يتحول" (1).
القرآن " مفتاح لفهم العالم الإسلامي، ولن يفهم أحد المسلمين وتاريخهم … إلا بدءاً من استيعاب هذا النص والإحاطة بمستوى العلاقة القائمة بينه وبين المسلم، دون ذلك سيظل المسلم غريباً، قطعاً عن الآخر … والإنسان خصوصاً. في هذا العصر الكوني، لن يكون ذاته إلا بقدر الآخر. فأن يكون الإنسان مواطناً حياً وحقيقياً في بلده هو أن يكون مواطناً كونياً…. فـ" الكتاب أساس العالم وخلاصته منذ حوالي أربعة عشر قرناً وخاتم للكلام … " (2). وهو " نص لا يسمى، أو لا تسمح معايير الأنواع الأدبية بتسميته. إنه نص لا يأخذ معياره من خارج، من قواعد ومبادئ محددة، وإنما معياره داخلي فيه… وإنه مطلق: لا يدرك معناه، ولا يبدأ ولا ينتهي، وهو بوصفه مطلقاً يتجلى في زمان ومكان، متحرك الدلالة، مفتوح بلا نهاية. إنه الأبدية المتزمنة. إنه ما وراء التاريخ الذي نستشفه ونقرأه عبر التاريخ … الكتاب بهذا الشكل شبكة تتداخل خيوطها وتنحبك في علاقات متعددة ومتنوعة، مفتوحة كالفضاء. إنه فن آخر من القول، وفن آخر للقول. فن في الكتابة، وفن في تكوين النص … إنه الكتابة المطلقة لكتابة المطلق"(1).
وقد كتب العديد من الكتاب والمثقفين في ( النص القرآني )، وأبدعوا أيما إبداع ومارسوا في دراستهم له كل ما توصلوا إليه من نظريات حديثة علمية وأدبية لاستنطاق النص، ومحاولة الاستفادة منه في كل زمان ومكان. وكانت كل قراءة له تعد محاولة تأتي اللاحقة بها لتنفيها أو تبني عليها، ثم ترتقي بها خطوة أخرى للأمام منسجمة ومتوافقة مع العالم المحيط .
ولم تكن الإشكالية في دراسة ( النص القرآني )، في أي من مستوياته، ولكن الإشكالية بدأت تظهر مع ظهور المنهج النصاني، ومحاولة تطبيقه على القرآن من قبل بعض المثقفين والنقاد وإخضاعه لشروط النظرية النصية والادعاء بأن القرآن ( نص ) بالمفهوم الحديث والمعاصر للنص وأنه يشتمل على وظائف الاتصال التي عددها جاكبسون ومعايير النصانية التي حددها دوبوجراند.
لكن النظرية النصية نظرية إنسانية، وليس من الضروري أن تنطبق كل نظرية يتم التوصل إليها بالعقل البشري على القرآن الكريم، فالقرآن لم يكن في يوم من الأيام كتاب فلك، أو علوم، أو بلاغة، أو أدب إنه " الكتاب " كما أسماه رب العالمين .
ويطبق الكثير من المثقفين(*) معايير النصية على القرآن الكريم، ويؤكدون أنه (نص )، وهم بذلك يتناسون أن النصانية تقوم بشكل رئيس على التناص، فهي محكومة به. والتناص الذي يضفي الكثير من الجمال على الدراسات النصانية في الأدب، يُخرج النص القرآني في المصحف الشريف من الإلهي إلى البشري. وإن اعتبار القرآن كغيره من النصوص يؤكد ما يسعى إليه بعض المستشرقين والمستعربين من أن ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نصاً من الله هو جزء محدد من الكتاب، وأما البقية الباقية منه وبالأخص القصص فلقد جاءت من التناص مع الأديان السابقة على القرآن الكريم، وما استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام كما يدعون أخذه عن الأحبار والرهبان، وتلك فرية كبيرة على القرآن الكريم النص الإلهي المطلق المنزه.
إن التراث البلاغي والنقدي العربي يسوغ لنا أن نتتبع فكرة النص عند المحدثين العرب، والنص في الوقت الحالي ما إن يذكر حتى يذكر محايثاً له د.عبد الله الغذامي، ود.محمد مفتاح، ود.صلاح فضل، ود.باسل حاتم ود. رقيه حسن، وغيرهم ممن عرّف النص وقام بالتنظير له، يقول د.محمد مفتاح: "النص مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة .
مدونة كلامية : يعني أنه مؤلف من الكلام وليس صورة فوتوغرافية أو رسماً أو عمارة أو زياً وإن كان الدارس يستعين برسم الكتابة وفضائها وهندستها في التحليل .
حدث : إن كان نص هو حدث يقع في زمان ومكان معينين لا يعيد نفسه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي .
تواصلي : يهدف إلى توصيل معلومات ومعارف ونقل تجارب … إلى المتلقي .
تفاعلي : على أن الوظيفة التواصلية في اللغة ليست هي كل شيء، فهناك وظائف أخرى للنص اللغوي أهمها الوظيفة التفاعلية التي تقيم علاقات اجتماعية بين أفراد المجتمع وتحافظ عليها .
مغلق : ونقصد انغلاق سمته الكتابية الأيقونية التي لها بداية ونهاية، ولكنه من الناحية المعنوية هو:
توالدي : إن الحدث اللغوي ليس منبثقاً من عدم وإنما هو متولد من أحداث تاريخية ونفسانية ولغوية … وتتناسل منه أحداث لغوية أخرى لاحقة له " (1).
ويرى الغذامي أن : " النص الأدبي هو بنية لغوية مفتوحة البداية ومعلقة النهاية، لأن حدوثه نفسي لا شعوري وليس حركة عقلانية. ولذلك فإن القصيدة لا تبدأ كما تبدأ أي رسالة عادية تصدر بخطاب موجه إلى المرسل إليه، وتختتم بخاتمة قاطعة التعبير. إن القصيدة تبدأ منبثقة كانبثاق النور أو كهطول المطر وتنتهي نهاية شبيهة ببدايتها وكأنها تتلاشى فقط وليس تنتهي، ودائماً ما تأتي الجملة الأولى من القصيدة وكأنها مد لقول سابق أو استئناف لحلم قديم، إنها لكذلك لأنها نص يأتي ليتداخل مع سياق سبقه في الوجود. وكذلك فالنص مفتوح وهو بنية شمولية لبنى داخلية: من الحرف إلى الكلمة إلى الجملة إلى السياق إلى النص ثم إلى النصوص الأخرى ليكون بعد ذلكالكتاب امتداداً كاملاً للحرف)" (1).
وتأكيداً على إجرائية النص وسعياً به إلى أقصاه أوضح الغذامي أن النص " كلي في حركة مرحلية لأنه نص بنيوي، والبنية شمولية / ومتحولة / وذات تحكم ذاتي والنص يتحرك داخلياً بحركة مفعمة بالحياة كي يكون بنية الوجودية، ليكون له هوية تميزه. فإذا ما تميز فإنه يتحرك كاسراً لحواجز النصوص ليدخل مع سواه في سياق يسبح فيه كما تسبح الكواكب في مجراتها" (1).
ولكن هل ينظر كل هؤلاء النقاد للوصول إلى تعريف تام للنص ؟ يقول د. منذر عياشي : " إن وضع تعريف للنص يعتبر تحديداً يلغي الصيرورة فيه، ويثبت إنتاجيته على هيئة نمطية لا يكون فيها زماناً للمتغيرات الأسلوبية والقرائية أثر، ويلغي قابليته التوليدية زماناً ومكاناً، ويعطل في النهاية فاعليته النصية "(1).
و" يذكر (دوبوجراند) في بداية تأريخه لعلم النص رأياً لـ(فان دايك) يقول فيه: لا يخضع علم النص لنظرية محددة أو طريقة مميزة وإنما يخضع لسائر الأعمال في مجال اللغة التي تتخذ من النص مجالاً لبحثها واستقصائها"، ويعني ذلك ألا نتوقع في دراستنا لتاريخ علم النص أن تبرز نظرية واحدة أو اتجاها محدداً وإنما يجب أن نتجه نحو سائر الأعمال التي أسهمت في إبراز هذا المجال الحيوي في دراسة اللغة " (2).
لذلك فإن كل ما يحدث هو عبارة عن محاولة للمقاربة بين التفسير المعجمي السابق للفظ (نص) في العريبة، ولفظ ( TEXT ) في الإنجليزية، ثم المقاربة بين محاولة كل من العرب والغرب في تحويل مصطلح النص من المفهوم إلى الإجراء للاستفادة منه في دراسة بلاغية حداثية تساعد على إحياء علم البلاغة من جديد واستنطاق النصوص شمولياً وتأويلها بما يثري الأدب والعلم على حد سواء .
إن ثقافتنا ثقافة شفاهية تعتمد على السماع، ولم تعرف الكتابة بشكل رسمي إلا مع تدوين القرآن الكريم، ولذلك لم يرتبط مفهوم النص في معاجمنا بالكلام المكتوب كما هو الحال في المعاجم الأجنبية التي ركزت على أن النص مدونة، وأنه إنجاز فعلي أو كتاب، أو جزء من كتاب مخطوط باليد أو منقوش أو مطبوع . ولكنهم يتفقون معنا في إطلاق لفظ ( نص) على النص المأخوذ من القرآن أو النص الكامل للقرآن أو الكتاب المقدس، بل إن التعريفات تشير إلى أن النص بداية كان يطلق على مخطوطة الكتاب المقدس كما يطلقه البعض من نقادنا على نص القرآن الكريم .
لقد تعددت الدلالات الواردة في تعريف ( النص ) في المعاجم الأجنبية، ومع ذلك فإنهم لم يربطوه بالنسيج(TISSUE )، إلا اعتماداً على الأصل اللاتيني للفظ(TEXT)، فـ (TEXT ) باللاتينية مشتق من ( TEXTUS ) بمعنى النسيج (TISSUE ) المشتقة بدورها من (TEXTURE ) بمعنى نسج، ومنه تطلق كلمة ( TEXTIL ) على ما له علاقة بإنتاج النسيج بدءاً بمرحلة تحضير المواد، وانتهاء بمرحلة النسيج النهائي وبيعه، وإذا كانت العلاقة بين النص و ( TEXT) غير متطابقة في العربية، حيث يرد مفهوم (TEXT ) ضمنياً في لفظ ( نص)، فإن التـطابق أكـبر بين الـدال
(TEXT) والدال (نسيج ) فلقد ورد مفهوم (TEXT )، في الدال نسيج بدلالته المباشرة في القواميس العربية واستخدمه النقاد العرب القدامى في تعريفاتهم بما يؤكد معرفة العرب لهذه العلاقة تماماً كتعامل الغرب مع الأصل اللاتيني للفظ (TEXT ). ففي القاموس المحيط " نسج الثوب ينسجه وينسجه فهو نساج وصنعته النساجة والموضع منسج ومنسج والكلام لخصه وزوره وكنبر أداة يمد عليها الثوب لينسج، ومن الفرس أسفل من حاركه. وهو نسيج وحده لا نظير له في العلم وغيره وذلك لأن الثوب إذا كان رفيعاً لم ينسج على منواله غيره. وناقة نسوج لا يضرب عليها الحمل أو التي تقدمه إلى كاهلها لشدة سيرها ونسج الريح الربع أي يتعاوره ريحان طولاً وعرضاً، والنساج الزراد والكذاب، والنسج بضمتين السجادات" (1).
ولقد ربط العرب بين نسج الثوب ونسج الشعر وبين الشعر والنسج والتصوير، فكلها تحتاج إلى تناسق وتداخل وتفرد ويكون الهدف منه الإبداع والوصول إلى غاية الصناعة. قال الجاحظ: " إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"(1). ويرى ابن طباطبا أن " الشاعر الحذق كالنساج الحاذق الذي يفوق وشيه بأحسن التفويق، ويسديه، وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه. وكالنقاش الرقيق الذي يصنع الأصابع في أحسن تقاسيم نقشه. ويشيع كل صيغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان "(2).
كل تلك الفنون تولد من خلال التداخل والتركيب والترابط ولذلك يقول عبد القاهر الجرجاني: "واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض، حتى تصير قطعة واحدة…"، " فكما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرها من أصناف الحلي بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف شعراً من غير أن يحدث فيها النظم" …و" كما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، كما الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه…"(1). "
وقد آثر الدكتور عبد الملك مرتاض أن يكون المقابل العربي لـ(Text ) هو (النسيج ) لما في دلالته اللغوية من معنى الترابط، ولعدم توافر هذا المعنى في مادة (نصص)، ورأى أن العرب عرفوا أن النص مفهوماً وشكلاً وممارسة ولكن هذه المعرفة لا تعني وجود نظرية النص عند العرب " (2).
النصانية وآفاقها:
أولاً: النص والعمل (work) :
يبدأ دائماً تعريف النص بتمييزه عن العمل أو الأثر، ولقد فرق ( رولان بارت) في بحث كتبه سنة 1971 بعنوان ( من العمل إلى النص ) بين النص والعمل الذي تقول به مدرسة النقد الحديثة، وقد لخص ( ليتش ) الأفكار الرئيسة لهذه المقالة مركزاً على أنه :
" يتم التفاعل مع النص في فعالية شاملة من العطاء اللغوي وذلك نقيض ( العمل) الذي هو تقليدي. ويتحدى النص كل حواجز العقلانية والقرائية وقواعدهما وبذلك فهو يتجاوز كل التصنيفات والطبقات التقليدية. كما ويتمثل النص في التحول اللامحدود للمدلولات من خلال التحرك الحر للدال الذي يفلت بطاقة لا تحد ولذا فهو غير قابل للانفلات أو التمركز. ويحقق النص حداً غير قابل للتحجيم من الدلالات الكلية لأنه مبني من الاقتباسات المتداخلة مع النصوص الأخرى، ومن الإرجاعات والأصداء، ومن اللغات الثقافية التي هي غامضة وغير قابلة للرصد ولذا فالنص إنما يستجيب للانتشار فقط(Dissemination) ( أي ينتشر في النصوص اللانهائية التي تداخلت معه). أما تصدير النص باسم المؤلف فلم يعد رمزاً لأبوته للنص وليس ذلك يميزه. فالمؤلف ليس هو البداية للنص ولا هو غاية له، ولكن المؤلف يستطيع أن يزور النص كضيف عليه فقط. والنص مفتوح ومطلق الخروج، والقارئ ينتج النص في تفاعل متجاوب لا في تقبل استهلاكي بالإضافة إلى أن النص مهيأ لطوباوية (يوتوبيا ) ولحالة اللذة الانتشائية ( من متلقيه ) " (1).
لقد أغلقت البنيوية العمل على لغته ولسانيتها ولكن النص أعطى للسياقات التي يقع فيها العمل دورها في فك شفراته كافة … فالنص بذلك يلتحق بالفكر النقدي كواحد من أهم مقولاته في حين العمل يبقى قائماً في الحقل الإبداعي كنتاج مادي محسوس له.
وذلك " يعني أن النصية ليست خصيصة ملازمة لكل عمل أدبي ( أو أي عمل آخر )، بل إن قدرة العمل للانتقال إلى مستوى " النص " رهن بمجموعة خصائص لا بد من تحقيقها داخل العمل نفسه، تتلخص جميعها في كيفية تقاطع العمل، كمجموعة من الدلائل مع اللسان كمجموعة من القواعد. ثمة فوارق بين احتواء " اللسان " للآثار اللغوية للأعمال، وتقاطع هذه الأعمال معه، ففي الحالة الأولى نكون بمواجهة عمل مغلق ومتطابق تماماً مع اللسان، لا كنظام قاعدي، ولكن كرؤية للعالم وتنظيم له، ومن ثم فلا وجه – هنا - لحضور الذات، سواء أكانت ذات المرسل أم ذات المستقبل، وبالأحرى، لا مكان لحضور التاريخ باعتباره عالماً نصوصياً محصوراً فاعلاً إن اللسان ينتج المعنى على مستوى العمل، دونما حاجة لانتقاله إلى المستوى الذي تتم فيه إعادة توزيع اللسان بتفكيكه، كنظام عام وسلطوي وإعادة بنائه نظاماً خاصاً وإبداعياً حراً أي نصاً.
أما في الحالة الثانية فإننا بإزاء عمل " العلامة " فيه تلفت الانتباه إلى تعسفيتها ذاتها، علامة لا تحاول الغش لتبدو طبيعية، بل نوصل خلال ذات حركة نقل المعنى شيئاً من وضعها الخاص النسبي الاصطناعي … فالعلامات التي تمرر نفسها على أنها طبيعية … تقدم نفسها على أنها الطريقة الممكنة الوحيدة لرؤية العالم، هي بهذه الصفة علامات سلطوية أيديولوجية… إذن يبتدئ العمل اختلافه مع اللسان الذي يتأسس داخله متقاطعاً معه بفضل العلامة نفسها… الدال ذاته الذي يحيد بهذه الخصيصة فعاليته القاعدة التركيبية في توجيه طاقته الدلالية، وبتتابع الدوال خطياً عبر قواعد تركيب لا تتمكن من أداء وظيفتها ( القمعية ) يعجز السياق عن أداء وظائفه، وهكذا يكون العمل الأدبي – خصوصاً - محض شيء مادي محسوس موضوع هنا وهناك بانتظار فعالية قرائية ترفعه إلى مستوى يفجر ذاكرة علاماته لتستجلي مجموع التلفظات …. الكتابات …… النصوص ….. الخطابات القارة في تاريخه الأركيولجي"(1) .
وقد ركز النقاد على النص وأكدوا الفرق بينه وبين الأثر، وعدوا أن أهم ما يوجد عند دريدا هو المفهوم ( الأثر) …. فالأثر عنده هو القيمة الجمالية التي تجري وراءها كل النصوص ويتصيدها كل قراء الأدب .
" والأثر هو التشكيل الناتج عن (الكتابة)، وذلك يتم عندما تتصدر الإشارة الجملة، وتبرز القيمة الشاعرية للنص، ويقوم النص بتصدر الظاهرة اللغوية، فتتحول الكتابة لتصبح هي القيمة الأولى هنا. وتتجاوز حالتها القديمة من كونها حدثاً ثانوياً يأتي بعد (النطق) وليس له من وظيفة إلا أن يدل على النطق ويحيل إليه. إن الكتابة تتجاوز هذه الحالة لتلغي النطق وتحل محله. وبذلك تسبق حتى اللغة وتكون اللغة نفسها تولداً ينتج عن النص. وبذا تدخل الكتابة في محاورة مع اللغة فتظهر سابقة على اللغة ومتجاوزة لها، ومن ثم فهي تستوعب اللغة، فتأتي كخلفية لها بدلاً من كونها إفصاحاً ثانوياً متأخراً "(1).
ولذلك فـ "النص يتميز عن الأثر الأدبي بأنه نسيج من العلامات" (2)، أما الأثر الأدبي فينحصر في المدلول، وهذا المدلول له نوعان من الدلالة: ظاهرة ( وحينئذ يكون الأثر موضوعاً لعلم يهتم بالمعنى الحرفي كفقه اللغة ) أو مضمرة ( وحينئذ ينبغي التنقيب عنه، ويصبح الأثر موضوعاً للتأويل) لكن النص – لكونه كتابة متعددة– فإنه لا يقبل التنقيب أو التأويل فهو لا يتطلب إلا الفرز والتوضيح، فالنص تمددي، مجاله هو مجال الدال. لكن التوليد الدائم للدال داخل مجال النص (أو لنقل الذي مجاله النص ) لا يتم وفق النمو العضوي أو حسب طريق تأويلي وإنما وفق حركة تسلسلية للتداخل والتغيير.
فالصورة المجازية بالشبكة توحي بصورة الكائن العضوي الذي ينمو بفعل التكاثر الحيوي. أما الصورة المجازية للنص فتوحي بالشبكة. الأثر الأدبي ( في أفضل الأحوال)، رمزي بدرجة وضيعة (رمزيته قصيرة النفس أي سرعان ما تتوقف) أما النص فطاقته الرمزية مطلقة. لهذا فإن النص لا يمكن أن يكون هو ذاته إلا في اختلافه (الأمر الذي يعني عدم تفرده أو تحدده )" (1) .
" ومن هذا جاء دريدا ليقدم (الأثر) كبديل لإشارة سوسير وهو يطرحه كلغز غير قابل للتحجيم، ولكنه ينبثق من قلب النص كقوة تتشكل بها الكتابة، ويصير ( الأثر) وحده نظرية في فكرة ( النحوية) ترتكز الفكرة بكل طاقاتها عليه، ومن خلالها تنتعش الكتابة، وإن كان سحراً لا يدرك بحس. ولكنه يتحرك من أعمق أعماق النص متسرباً من داخل مغاوره ليشعل طاقاته بالفعاليات الملتهبة، مؤثراً بذلك على كل ما حوله دون أن تستطيع يد مسه، والأثر مسئول عن كل انفعال يصدر عن الجزئيات الدنيا للإشارة، مثلما أنه حاصل الناتج الذي تحدثه وظائف العلامات كما في النظر البنيوي" (1).
وإذا كانت حركة النص المكونة هي العبور والاختراق ( عبور الآثار الأدبية العديدة ) فإن النص يطرح مشكلة التصنيف وتجربة الحدود. فما يحدده هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة، وعدم الخضوع بل التمرد على التقسيمات المألوفة للأجناس.
و" إذا كانت الإجابة عسيرة فهو كاتب نص وإلا فهو كاتب أثر. فالأثر الذي يوجد على الحدود (حدود الأخبار الأدبية المعروفة ) هو نص. فالنص / كتابة يضع نفسه وراء الرأي السائد إنه بدعة، وخروج عن حدود الرأي السائد والكتابة لا تعني رسم الأصوات اللغوية ولا مجرد الربط بين العبارات بل تعني _ على حد تعبير رولان بارت _ أن نضع أنفسنا فيما يطلق عليه اليوم التناص، أي أن نضع لغتنا وإنتاجنا الخاص للغة ضمن لا نهائية اللغة. أي ضرورة الاختفاء - اختفاء الذات الفاعلة/الكاتبة في اللغة والأدب عنده _ وهو يفضل أن يسميه كتابة _ وهو دوماً خلخلة أي ممارسة تهدف إلى زعزعة الذات الفاعلة وتشتيتها في ذات الصفحة. فلا وجود للمؤلف إلا لحظة الإنتاج / الكتابة وليس قط لحظة ينتهي الإنتاج، فالكاتب بعد أن ينتهي ينفصل عن النص" (1).
" وما الكتابة إلا وجه واحد من تجليات ( الأثر) وليس هي الأثر نفسه، وبكل تأكيد فالأثر الخالص لا وجود له - كما يقول دريدا - وهدف التحليل التشريحي هو تصيد الأثر في الكتابة ومن خلالها، ومعها. وتأتي ( النحوية ) كعلم جديد للكتابة لترفض إنزال الكتابة إلى صف ثانوي مستبعدة من اللغة المنطوقة فهي لا تخضع الكتابة للمخاطبة، وإنما تفحصها وتحللها قبل الخطاب وفيه، أي في النصوص"(1) .
" ويدخل النص مع الأثر في حركة محورية دائرية تبدأ بالأثر متجهة إلى النص، ثم تعود إلى الأثر وهكذا دواليك، فالنص لا يكتب إلا من أجل الأثر، إذ لا أحد يكتب شعراً لينقل إلينا أقوال الصحف، وإنما يكتب الشعر طلباً لإحداث ( الأثر ) " فالأثر إذاً سابق على النص لأنه مطلب له، فإذا ما جاء النص وتلبس بالأثر صار تلمس هذا الأثر هدفاً للقارئ وللناقد، ولذا يأتي الأثر بعد النص ومن خلاله ومن قبله. وتتداخل العلاقة بين النص والأثر حتى لتنعكس بسببها معادلة ( السبب / والنتيجة)، ولهذا فإن التشريحية تأخذ بقلب مفهوم السببية كما فعل نيتشه( ) من قبل حيث وصف العلاقة بين السبب والنتيجة بأنها علاقة مجازية أو بلاغية"(1) .
ثانياً: النص والكلام :
لقد تنبه السلف إلى الكلام ومميزاته، حيث يقول الباقلاني : " وجملة الأمر أن نقد الكلام شديد، وتميزه صعب " ولعل الباقلاني " لم يذهب هذا المذهب إلا لأنه حين تأمل أدرك أن مميزات الكلام لفظاً، وجملاً، ونصوصاً ليست ثابتة، وغير مستقرة، ولا تقوم خصائصها على قيم مطلقة، فهي تتغير بتغير السياقات الواردة فيها، سواء أكانت هذه السياقات خارجية، كما في حالة الكلام الشفوي، أم داخلية كما في حالة النص المكتوب …وهي تتغير بتغير الأزمنة، والأمكنة. وتتغير بتغير القراء، وتغير مفاهيم الحياة التي تحيط بهم . وهي تتغير أيضاً وأخيراً لأن اللغة طاقة خلاقة والنص المعبر بها يبني نموذجه ثم يلغيه، ويقول شيئاً وربما يعني شيئاً آخر"(1) .
والكلام في نظر عبد القاهر الجرجاني " هو تعلق الألفاظ، بعضها ببعض عن طريق العلاقات النحوية، وأن هذه العلاقات النحوية هي التي تسلك الكل في سياق. وأن النحو موجود في منظوم كلام العرب ومنثوره، والعلم به مشترك لدى العام والخاص" (2).
و" يؤكد " سوسير " أن الكلام الذي ينتجه الفرد بمحض إرادته ووعيه الخاص، يخدم أهدافه، ولذلك فإنه يلجأ إلى طرائق تمكنه من استخدام تلك المادة، وهاتيك الضوابط بما يتكيف ويناسب هذا الهدف(1). وقد تكون هذه الطرائق غير مسبوقة في اللغة"(2). ولذلك " ميز في الظاهرة الألسنية بين ظاهرتين هما اللغة باعتبارها نظاماً من الرموز، والكلام باعتباره الاستعمال الفعلي لهذا الكلام. و" أدرك الصلة بين الاجتماعي والفردي في اللغة حين قال : اللغة في ماهيتها نظام اجتماعي، مستقل عن الفرد في حين أن الكلام هو منها بمثابة التحقيق العيني الفردي ومعنى هذا أن اللغة تقنين اجتماعي أو مجموعة من القوانين codes في حين الكلام فعل فردي" (3).
" ويقول سوسير " إن الكلام هو إنجاز للغة ضمن حدث خطابي وإن إنتاج الخطاب المفرد إنما يتم بواسطة متكلم مفرد " (4).
هذا وتقتضي " الدراسة الأسلوبية أن يكون الكلام ذا مستوى فني معين، وأن يكون مميزاً في الكلام العادي أو ما يسمى لغة الخطاب النفعي فهي تخلو من الأسلوب الذي هو مجال الدراسة الأسلوبية. فـ"بارت " يقصر استخدام الأسلوب أو ما يسميه " درجة الصفر في الأسلوب " على ذلك اللون من الأدب الحديث الذي لا يهتم فيه المبدع كثيراً بفكرة التوصيل والوضوح وإرضاء الجماعة التي تتعامل مع ذلك الأدب، وإنما يكون اهتمامه منصباً على العمل نفسه"(1). ويقول رولان بارت إن النص " ليس موضوعاً، ولكنه عمل واستخدام، وليس مجموعة من الإشارات المغلقة المحملة بمعنى يجب العثور عليه، ولكنه حجم من الآثار التي لا تكف عن الانتقال(1) .
لاحظ هؤلاء النقاد " أن بين النص مكتوباً والخطاب ملفوظاً، وحدة لغوية ولكنهم أدركوا أن الإنجاز يقف فيصلاً بين الطرفين. وطالما يذكرنا هذا بنظرية " سوسير " في اللغة والكلام، أو بنظرية "تشومسكي" في الكفاية والأداء. فالنص كلام إلا أنه يصدر عن ذاتيته النصية التي عملت على إنجازه وأدائه. والكلام الآخر، غير النصي هو كلام أيضاً، إلا أنه خطاب شفوي عمل الشخص على إنجازه وأدائه. وهذا يعني أن وحدة اللغة لا تمنع أو لا تحول دون تعددية الإنجاز والأداء" (2) .
ثالثاً: النص والكتابة / القراءة :
القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة، ولم أقصد من تناولهما وفقاً للعنوان السابق اعتبار أنهما ثنائية، فما القراءة إلا لشيء مكتوب ولا الكتابة إلا بناء على قراءة أو قراءات سابقة. ولقد اختلف مفهوما القراءة والكتابة عنهما في السابق وذلك مع اختلاف مفهوم التلقي، فالقارئ في الماضي كان يقوم بعملية القراءة ثم يغلق الكتاب، والطالب يقرأ وينتهي الأمر عند ذلك، وفي المدرسة يجلس سلبياً في الفصل من أجل التلقي الذي كان يقوم على التلقين، ولم يكن من حق الطالب المناقشة أو التعليق أو الاختلاف مع الكاتب في الشكل أو المضمون، ولكن القراءة تحولت من أن تكون استهلاكية إلى أن تكون إنتاجية، وأصبحت القراءة تحمل مفهوم الكتابة، فالقارئ يقرأ ليكتب على ما قرأه، والمبدع الحق هو من يستفز القارئ على مشاركته، فيكتب ثم يأتي قارئ آخر ليكتب شيئاً مختلفاً عن كتابه فالنص مفتوح بلا نهاية، يحتمل الكثير من التأويل والمشاركة، كما أنه قد يكتب نقداً لنقد سابق عليه وذلك من باب نقد النقد وهكذا … فالنص الحي هو الذي يحتمل تأويلات عديدة، والقارئ الحي هو القارئ/ الكاتب المشارك الذي لا يكتفي بالاستماع أو الرؤية فقط، لقد انتهى زمن الناقد، بل ويطلق البعض على هذه المرحلة "موت الناقد" ، حيث لم تعد الكتابة والنقد تختصان بالنقاد والأدباء وبدأ يحل مفهوم القارئ محل الناقد.
ويمكننا القول إن مفهوم الكتابة / القراءة بدأ مع البنيوية، " واكتسب بعداً أوسع في تحليلات " ما بعد البنيوية ". وكان التركيز على المفهوم مرتبطاً بانتقال بؤرة الاهتمام من المؤلف ( بوصفه المصدر) والعمل (بوصفه الموضوع) إلى شبكة العلاقات المتناصة التي ينطوي عليها النص، فصارت " الكتابة " منظومة من القواعد التي تنطوي عليها تفاعلات نصية ( منفتحة دائماً على التفسير، حمالة لمعان لا تكف عن التوالد) وعلى نحو يؤكد إسهام القارئ في إنتاج الدلالة. وصارت " القراءة " قرينة النص المنغلق الذي ينطوي على معنى ثابت والذي لا تتجلى فيه فاعلية التناص والذي يبقي على سلبية القارئ وحذره أثناء عملية إنتاج الدلالة. ولكن هذا التعارض بين " الكتابة " و " القراءة " اكتسب معنى أكثر خصوصية مع – جاك دريدا – الذي ينطلق من مفهوم " الكتابة " من حيث هي نسق سيميولوجي(1) (بصري ومكاني) لنقش الأحرف على المساحة المنظورة التي تصافحها العين"(2).
وما أن يذكر النص وتذكر الكتابة حتى يذكر بول ريكور الذي يقول: " لنقل النص هو كل حديث جعلته الكتابة ثابتاً ….. التثبيت بواسطة الكتابة يشكل النص بالذات. ويؤكد أن الكتابة كمؤسسة هي لاحقة للكلام، ويبدو دورها في تثبيت كل التمفصلات التي سبقت وظهرت بطريقة شفهية، بواسطة خطوط أفقية، والاهتمام الكلي تقريباً للكتابة الملفوظة يبدو كأنه تأكيد بأن الكتابة لا تضيف شيئاً على ظاهرة الكلام سوى التثبيت الذي يسمح بالمحافظة عليه، من هنا كان الاقتناع بأن الكتابة هي كلمة متينة وبأن التدوين سواء أكان خطياً أم بواسطة التسجيل، هو تسجيل الكلام الذي يؤمن للكلمة ديمومتها بفضل طابع الحفر الراسخ. ويرى أن بوسعنا التساؤل هل إن ظهور الكتابة المتأخر لم يتسبب في تغيير جذري في علاقتنا بنصوص حديثة بالذات. ولما كان النص حديثاً تثبته الكتابة فما تثبته الكتابة هو إذاً حديث كان بالإمكان قوله بالطبع، ولكننا بالضبط نكتبه لأننا لا نقوله. فالتثبيت بواسطة الكتابة يأتي مكان الكلام بالذات أي حيث كان بوسع الكلام أن يولد" (1).
وكل هذا " دفع جوناثان كيلر ( Jonathan Culler ) إلى الشعور بضرورة الاهتمام بالكتابة، والتي هي تمثيل للكلام المنطوق، بل وإيجاد علم خاص بها هو ( علم اللغة الكتابي) الذي ستكون مهمته الانتباه بجدية إلى قضايا مهمة كالبنية والأهداف والتأثير الذي تتركه الكتابة في القارئ فكتب بحثاً بعنوان نـحو عـلم لـغة للـكتابـة
(Towards a linguistics of writing ) يجمع فيه على أن الكتابة: شكل من أشكال التمثيل المكافئ، أو غير المكافئ لما لدى اللغة من قدرة على التعبير، والتأثير الذي يتجلى في الكلام المحلي "(2).
ولما كان القرآن نصاً مكتوباً، لذلك " فهم السلف في ممارستهم له، أن الكتابة تمثل مجموع الطرق الإنتاجية والتحولية للمكتوب، ولذلك لم ينظروا إليها على أنها تثبيت للقول، وإنما نظروا إليها على أنها إنتاج له وتفريع. وكأن الكتابة هنا ليست أداة إنتاج النص في نسج ما قيل، ولكنها النص المنتمي فعلاً لما يقول. ومن أجل هذا جاءت القراءة مكملة لعملية الكتابة، أو لنقل مشاركة لها في إنتاج النص إذ إنها ليست شرطاً للنص أو وصفاً له بقدر ما هي قراءة لوظيفته. ولقد كانت تعتمد إلى إظهار عمليات تكوينية من جهة. وإلى قراءة إنتاجية من جهة أخرى، ولذا كانت هذه القراءة ممارسة مفتوحة له، وكانت غير متناهية، لأنها لا تستدعي عدة قراءات وتنضاف إليها. وتستخدم عدة وسائل تحليلية وتقنية في ممارسته. ولعل كثرة التفاسير وتنوعها تكون دليلاً على ذلك "(1).
لقد أصبح النص منفتحاً بسبب الكتابة والحوار مع المتلقين، وفي علاقة الكتابة بالعبارة المنطوقة، وبالقارئ من جهة أولى، وحلول النص محل علاقة الحوار من جهة ثانية، يقول ريكور: " العلاقة كتابة – قراءة ليست حالة خاصة من علاقة الكلام والجواب. ليست هي علاقة محاورة، ليست حالة حوار. لا يكفي القول إن القراءة هي حوار مع المؤلف من خلال مؤلفه.
ينبغي القول إن علاقة القارئ بالكتاب هي من طبيعة مختلفة تماماً، الحوار هو تبادل أسئلة وأجوبة، ليس من تبادل شبيه بين الكاتب والقارئ، الكاتب لا يجيب القارئ: الكاتب يفصل بالأحرى إلى منحدرين فعل الكتابة وفعل القراءة اللذين لا يتصلان، القارئ غائب عن فعل
النص والخطاب ( دراسة نظرية)
النص بين المفهوم والمصطلح:
تعددت التعريفات العربية والغربية التي شرحت مفهوم النص ومدلولاته، ولكن من الضروري في البدء الكشف عن الدلالة اللغوية لكلمة (نص) في اللغة العربية والغربية وفقاً لما أوردته المعاجم، لتلمس نقاط التشابه والاختلاف، وذلك " لأن اللغة تمثل النظام المركزي الدال في بنية الثقافة بشكل عام"(1).
أورد الفيروزآبادي في مادة (نصص) قوله : "(نص) الحديث رفعه، وناقته استخرج أقصى ما عندها من السير، والشيء حركه، ومنه فلان يَنصُّ أنفه غضباً وهو نصاص الأنف، والمتاع : جعل بعضه فوق بعض، وفلاناً :استقصى مسألته عن الشيء، والعروس أقعدها على المنصة بالكسر، وهي ما ترفع عليه فانتصت، والشيء أظهره، والشواء ينص نصيصاً: صوّتَ على النار، والقدر غلت، والمنصة بالفتح الجَمَلَة من نصّ المتاع، والنص الإسناد إلى الرئيس الأكبر والترقيات والتعيين على شيء ما، وسير نُصٌّ ونصيص جدُّ رفيع، وإذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى:أي بلغن الغاية التي عقلن فيها، أو قدرن على الحقاق وهو الخصام أو حوق فيهن فقال كل من الأولياء أنا أحق، أو استعارة حقاق الإبل: أي انتهى صغرهن، ونصيص القوم: عددهم، والنّصّة: العصفورة بالضم الخصلة من الشعر، أو الشعر الذي يقع على وجهها من مقدم رأسها، وحية نصناص أي كثيرة الحركة ونصص غريمه، وناصه:استقصى عليه وناقشه، وانتصب انقبض، وانتصب ارتفع، ونصنصه: حركه وقلقله والبعير أثبتت ركبتيه في الأرض وتحرك للنهوض" (1).
وفي مختار الصحاح للرازي مادة (ن .ص .ص) " في حديث علي رضي الله عنه: " إذا بلغ النساء نص الحقاق " يعني منتهى بلوغ العقل و(نصنص):الشيء:حركه. وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه حين دخل عليه عمر رضي الله عنه وهو ينصنص لسانه، ويقول: هذا أوردني الموارد" (2).
وفي لسان العرب لابن منظور :" ( النص ) رفعك الشيء، نص الحديث ينصه نصاً : رفعه. وكل ما أَُظهِر فقد نُصَّ. ووضع على المنصة : أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور. وقال الأزهري: النص أصله منتهى الأشياء، ومبلغ أقصاها، ومنه قيل : نصصت الرجل إذا استقصيت مسألته عن الشيء، حين تستخرج كل ما عنده، وفي حديث هرقل: ينصهم أي يستخرج رأيهم ويظهره ومنه قول الفقهاء: نص القرآن، ونص السنة. أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام وانتص الشيء وانتصب إذا استوى واستقام" (1) .
أما في مادة (نص) في المعجم الإنجليزي، فقد ورد لفظ ( Text )، وهو بالفرنسية، ( Texte)، وهو لفظ مأخوذ عن اليونانية، من اللفظ ( Textus)، والتي تعني ( Tissue )، أو ( Style of literary work)، وترتبط بـ ( Textile)، والتي ترتبط بآلات وأدوات النسج. وقد ورد في معنى لفظ (نص) (Text) ما ترجمته:
- " الجمل والكلمات نفسها المكتوبة ( أو المطبوعة أو المنقوشة) أصلاً، الكتاب أو المخطوطة أو النسخة التي تضم هذا.
البنية التي تشكلها الكلمات وفق ترتيبها.
مضمون البحث ( حول موضوع ما)، الجزء الشكلي ( أو الرسمي) المعتمد.
الجمل والكلمات نفسها من الإنجيل.
قطعة قصيرة من الأناجيل، يستشهد بها المرء كمصدر موثوق أو كشعار أخلاقي أو كموضوع شرح أو موعظة أو حكمة أو بديهة أو مثل أو قول مأثور أو نصوص يستشهد بها.
في استعمال لاحق … … يستخدمها المرء كاسم للكتاب المقرر الدراسي.
عملية أو فن النسج ] الحبك [، إنتاج نسيج محبوك، أي بنية طبيعية لها المظهر أو التكوين النسجي، مثلاً نسيج العنكبوت.
تركيب أو بنية مادة أي شيء مع مراعاة عناصره التشكيلية المكونة أو الخصائص الفيزيائية… للأشياء غير المادية، التكوين أو الطبيعة أو الخاصية الناجمة عن التركيب الفكري، كنسج خواص متنوعة.
في الفنون الجميلة: تمثيل البنية وتحوير دقيق للسطح.
أما النصية فهي التمسك التام بالنص خاصة الأناجيل"(1) .
تعددت الدلالات عند الجانبين، ولكننا لا نصل إلى تحديد قاطع بمجرد إيراد الدلالة اللغوية لكلمة (النص)، ولا يجوز الاكتفاء بالتحديدات اللغوية المباشرة في التعريف، لأنها تقتصر على مراعاة مستوى واحد للخطاب، هو السطح اللغوي البراني وظاهره الدلالي، دون الدخول إلى جوهره الباطني، فلا بد من تحليل ما ورد في الدلالة اللغوية، ورصد تطور اللفظ في الدلالة .
ومن استقراء الدلالات المتعددة الواردة في القواميس العربية يمكن القول إن الدلالة المركزية الأساسية للدال " نص " هي الظهور والاكتمال في الغاية، وهي تؤكد جزءاً من المفهوم الذي أصبح متعارفاً عليه في النص. ولا تزال هذه الدلالة بارزة في الاستخدام اللغوي المعاصر، وإذا أردنا أن نرصد التطور التاريخي لدلالة الكلمة نجد أن لفظ ( نص )، يشتمل على مدلولات مادية وأخرى معنوية، فمن المادية ما وجدناه في الدال " منصة " والتي تعني المكان المرتفع البارز للناظرين، والنصّة وهي العصفورة بالضم وهي الخصلة من الشعر، أو الشعر الذي يقع على وجهها من مقدم رأسها، والدلالة الحسية كما في نصت الدابة جيدها إذا رفعته، ونص الشيء حركه، ونص المتاع : جعل بعضه فوق بعض، ونص الدابة إذا رفع جيدها كي يحثها على السرعة في السير، والنص السير الشديد. ومن المعاني المعنوية نص الأمور: شديدها، ونص الرجل: سؤاله عن شيء حتى يستقصي ما عنده. وبلغ النساء نص الحقاق: أي سن البلوغ.
هذا وقد يستخدم النص أحياناً في معان اصطلاحية، كالنص في علم الحديث وهو التوقيف والتعيين، والنص في الكتابات الأصولية والفقهية هو القرآن الكريم، أو هو مجموعة من القواعد المستمدة من القرآن والسنة حيث تعتمد القاعدة الفقهية على: أن لا اجتهاد مع وجود النص، وهناك النص والرأي أو النقل والعقل.
ولم يقتصر الأمر بالنسبة لتعريف النص على ما ورد في المعاجم القديمة، فلقد تطور تعريف النص، وأصبحت المعاجم الحديثة تميل إلي تعريفه بشكل أشمل وأكثر إجرائية كما في معجم المصطلحات اللغوية للدكتور خليل أحمد خليل الذي يعرف النص ( Text) بأنه :
" يعني في العربية الرفع البالغ ومنه منصة العروس.
* النص كلام مفهوم المعنى فهو مورد ومنهل ومرجع.
* التنصيص المبالغة في النص وصولاً إلى النص والنصيصة .
* النص (Textus ) هو النسيج، أي الكتابة الأصلية الصحيحة، المنسوجة على منوالها الفريد، مقابل الملاحظات ( Notes ) والشروحات والتعليقات ( Commentaries).
* النص: المدونة، الكتاب في لغته الأولى، غير المترجم، قرأت فلاناً في نصه، أي في أصله الموضوع.
* النص كل مدونة مخطوطة أو مطبوعة، ومنه النص المشترك (Texte Co-) .
* " سياق النص، مساقه، أجزاء من نص تسبق استشهاداً، ( Citation)، أو تليه، فتمده بمعناه الصحيح .
يقال: ضع الحدث في سياقه التاريخي. أي: في مكانه الصحيح.
* التساوق ( Contexture) هو التوالف بين أجزاء الكل: تناسق القصيدة، تساوق الكلام.(1).
يتبين من الاستقراء لما سبق وجود فرق كبير في مفهوم النص بين التراث والمعاصرة، وإذا كان مفهوم النص في السابق يشير إلى الدلالة المركزية للفظ (النص)، وما به من ظهور واكتمال، وإلى تركبه من أجزاء مترابطة ومتحركة وقابلة للتفكيك عبر استقصاء مسألة الفرد لاستنطاق نصه، إلا أنه لا يؤدي إلى التعريف التام الذي تثبته الدراسات الحداثية، وما بعد الحداثية في التعامل مع النص كمصطلح دلالي وإجرائي وبالأخص الدلالة الفقهية للنص والذي قصرته المعاجم على ما دل ظاهر اللفظ عليه من أحكام للنص. فلقد مالت الدراسات الحداثية إلى الأخذ بالمفهوم الغربي للنص ولذلك تشابه تعريف د.خليل أحمد خليل مع المعاجم الغربية .
لقد تطورت دلالة النص، ولا يضير العربية عدم وجود تعريف محدد بدقة للنص. فلقد " أدرك عدد من المفكرين الغربيين أهمية هذا الأمر بعد سقوط البلاغة عندهم. ولذا، نرى أن (رولان بارت) مثلاً يرفض تعريف (تودورف) للنص وينتقد عليه قربه من البلاغة، لأنه كما قال: ( خاضع لمبادئ العلم الوصفي )، ثم ينتهي إلى القول بعد تحليل طويل: "نفهم الآن أن نظرية النص موضوعة في غير مكانها المناسب في المجال الحالي لنظرية المعرفة ولكنها تستمد قوتها ومعناها من تموضعها اللامناسب بالنسبة إلى العلوم التقليدية للأثر الفني- تلك العلوم التي كانت ولا تزال علوماً للشكل أو للمضمون"(1).
إن غيبة التعريف بالنص لا تعني عدم معرفة العرب به أو عدم وجود جذور له في العربية، فلقد تناول العرب النص ومارسوه وإن اختلف المنهج المتبع. فالتعريف غائب ولكن ممارسته حاضرة. " وفي البلاغة العربية برزت النظرة الشمولية إلى النص لدى غير واحد من البلاغيين. فعندما يتاح لنا النظر – مثلاً - في كتاب " إعجاز القرآن " للباقلاني – أبي بكر المتوفى نحو(403 هـ)، نجده يفرط إفراطاً كبيراً في التأكيد على النظرة الشمولية للقرآن الكريم، مستبعداً جل ما رجح به البلاغيون _ قبله_ من ظنون في إشكالية الإعجاز، مؤكداً أن خصائص الرشاقة والأسلوب، التي تتكرر في القرآن الكريم كله، حيثما أنعمنا النظر هي سبب الإعجاز ومصدره، وليس الإعلام بغيب….
أما عبد القاهر الجرجاني توفي (471 هـ) ….، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكن القارئ من الوقوف على جماليات النص الأدبي. فهو – في نظره – لا يستطيع أن يحكم على المزية فيه من قراءة البيت أو الأبيات الأولى، وإنما يقتضيه هذا النظر والانتظار حتى يقرأ بقية الأبيات وقد لا يستطيع أن يقف على أسرار النص ما لم يستفرغ جهده في تأمل القطعة الأدبية كاملة، وبعد ذلك يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما فيها من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير….
أما ضياء الدين ابن الأثير توفي (637 هـ) فقد أنكر في كتابه " المثل السائر" ما كان ذهب إليه الجمهور، من أهل النظر البلاغي، من حيث أن البيت الشعري يجب أن يكون مستقلاً الاستقلال الكلي عن غيره من أبيات، وأنه لا يجوز أن يكتمل معناه في أول البيت الثاني – مثلاً – وأنكر ما عابه النقاد على الشعراء مما سموه " التضمين "، وهو ألا يكتمل المعنى بقافية البيت، بل يحتاج إلى الشطر الذي يليه. وذهب _ ابن الأثير _ إلى القول بأن علاقة البيت بالبيت كعلاقة الفقرة بالفقرة من النثر، فكما أنه يجوز أن يصل الفقرة بالفقرة، دون أن يعد ذلك عيباً في نثره. فكذلك الشعر يستطيع الشاعر أن يعلق معنى البيت بالذي يليه، ولو صح هذا … لكانت القصيدة كالسبيكة الواحدة، لا يستطيع كائن من كان أن يرى تفككها، وتشتت أجزائها، أو خلوها من وحدتها العضوية، وحدتها الحية التي ينشدها المبدع، وتعين القارئ على التفاعل مع النص، تفاعلاً يجعله يقف على مزاياه المتمثلة في انضباطه وتنظيمه الداخلي.
وينفرد حازم القرطاجني (توفى 684 هـ) … بنظرة أكثر شمولية للنص، تميزه عن غيره من أهل النظر في علوم البديع والبيان …. فهو أول من قسم القصيدة العربية إلى " فصول " زعم أن لها أحكاماً في البناء، وأول من أدرك الصلة الرابطة بين مطلع القصيدة، وما سماه بالمقطع، وهو آخرها الذي يحمل في ثناياه الانطباع الأخير، والنهائي، عن القصيدة " (1).
لقد عرف العرب القدماء النص وأدركوا دوره، وفي الأدب العربي إشارات عديدة ترشدنا إلى ما يؤكد أن النص غير متناه في الإنتاج والحركة، وقابل لكل زمان ومكان لأن فاعليته متولدة من ذاتيته النصية، ولقد أشارت كتب الأدب العربي إلى ممارسات نصية عديدة بخصائص ومميزات تختلف بين العصور الأدبية. ولكن " لم يعرف العرب في تاريخهم ممارسة نصية كما عرفوها مع القرآن. ولعل أولى مظاهر هذه الممارسة … تكمن في الوقوف على ( النص في ذاتيته النصية ) بتعبير رولان بارت. فذاتية النص تجليها قراءة للمكتوب تجعل النص كلاماً يقوم بنفسه إزاء كلام آخر يظهر عبر إنجاز لغوي مختلف"(2).
ويرى بعض النقاد أن النص القرآني يتسم بكل صفات النص، مما جعل البعض يقصر لفظ نص على نص القرآن الكريم يقول (أدونيس) في مميزات النص القرآني:"إن النص القرآني يتجاوز الشخص: الله هو الذي أوحاه، ونقله إلى النبي ملاك. وبلغه النبي إلى الناس، ودونه كتاب الوحي، إنه عمل إلهي - إنساني عمل كوني، وهو بوصفه كذلك محيط بلا نهاية للمتخيل الجمعي. وربما كان أعقد ما فيه بوصفه كتابة، خلافاً لما يبدو ظاهرياً هو أنه متابعة لما قبله وتكملة: إنه خاتمة النبوات وخاتمة الكتابة، إنه بمعنى ما أنهى الكتابة. ذلك أنه لم يكتب الأثر الذي يولده الشيء، وفقاً لتعبير مالارميه، وإنما كتب الشيء ذاته. لهذا لا يطرح النص القرآني مسألة ما الشعر، أو ما النثر وإنما يطرح السؤال ما الكتابة، وما الكتاب ؟
هكذا يقرأ النص القرآني بوصفه نصاً يجمع في بنيته أشكال الكتابة جميعاً. " كأنه أعاد الأبجدية إلى فطرتها، قبل الكتابة وفيما وراء الأنواع الكتابية" و" لغته ليست مجرد مفردات وتراكيب وإنما تحمل رؤيا معينة للإنسان والحياة وللكون أصلاً وغيباً ومآلاً"(1).
النص القرآني " نص مكتوب (نص / كتابة )، يطرح إشكالية التصنيف (ليس له شكل محدود ولا ينتمي إلى أي نوع من أنواع الكتابة المألوفة )، ليست له بؤرة مركزية ( بل يتضمن بؤراً لا نهاية لها)، وهو بلا بداية أو نهاية ( له فاتحة ولكن ليست له بداية أو نهاية بالمعنى المألوف )، يقبل تأويلات لا حصر لها ( حظي بهذا وسيبقى يحظى بتأويلات لا نهاية لها )، ذوات طاقة رمزية مطلقة، الإحالة المرجعية في النص القرآني على النص نفسه، وحقوق طبع النص القرآني غير محفوظة لأحد"(1).
كما أن الدين واللغة في النص القرآني، " شكل روحي واحد أو بنية روحية واحدة لهذا يتكون من الغامض الذي لا يمكن أن يعرفه الإنسان ومن الواضح الذي يعرف مباشرة من ظاهر اللفظ، فهو أفق مفتوح، لكن على الغيب" (2).
ولقد توصل الأدب العربي إلى ذلك فقد رأى الجرجاني أن " للكتابة القرآنية خصائص لم تعرف قبل نزول القرآن، ويرى أنها لا تكمن في الكلمات المفردة - في جمال حروفها وأصواتها وأصدائها ولا في معاني الكلمات المفردة، التي هي لها بوضع اللغة، ولا في تركيب الحركات والسكنات، ولا في المقاطع والفواصل، وإنما تكمن هذه الخصائص في النظم والتأليف اللذين يقتضيان الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز فمن هذه يحدث النظم والتأليف، وبها يكونان" (1).
كما عبر الباقلاني عن أن القرآن نظام لغوي يقوم على غير مثال، حيث يقوم:"على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه من أساليب الكلام المعتاد" (2).
" نشأ مع النص القرآني على الصعيد الإنساني، إنسان جديد، ونشأ معه على الصعيد الأدبي الخالص قارئ جديد … إنه نموذج من الكتابة تتداخل فيه مختلف أنواع المعرفة – فلسفة وأخلاقاً، سياسية وتشريعاً، اجتماعاً واقتصاداً، وتتداخل فيه مختلف أنواع الكتابة … وفي هذا ما يتيح للكاتب أن يعيد النظر في رؤياه للإنسان والعالم والكتابة، ولن تكون هذه الرؤيا إلا كونية وإنسانية. لن تكون إلا مزيداً من الاتجاه نحو الإنسان بوصفه إنساناً فيما وراء كل عرف ولون، وفيما وراء كل انتماء، ولن يكون فيها فرق بين الإنسان والإنسان إلا في عمق التعبير عن هذه الرؤيا وفي غناه وفرادته. إنه نص - دعوة إلى كتابة جديدة برؤيا جديدة " (1).
فـ" القرآن نص ينعقد مدلوله بأحوال متلقيه لا بأحوال مرسله، وهو لأنه كذلك، فإن التمثيل الوجداني الذي تضطلع أسلوبيته الفردية به، لا يقوم هنا على مثال مرسله، ولكن على مثال متلقيه. وبناء على هذا، يمكننا أن نقول: إن التحليل الأسلوبي لمضامين النص القرآني الوجدانية، إنما هو صورة ترسم انفعال المتلقي بالنص، دون أن ترسم انفعال المرسل، وذلك لسببين :
- لأن المتلقي (موضوع الخطاب ) يعتبر جزءاً من دلالة الخطاب نفسه، فهو المنفعل فيه من جهة، وهو الذي يجليه إن سلباً وإن إيجاباً من جهة أخرى. وهو لأنه كذلك، يصبح أداة الخطاب في الدلالة على مرجعيته، فتتعين العلاقة بهذا بين الخطاب دالاً وما يشير إليه، أي مدلوله.
لأن الله في التصور الإسلامي، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء و" ليس كمثله شيء".
- وما دمنا ننظر إلى القرآن بهذا المنظور، فسنرى أن ثمة علاقة تجاذبية تقوم بينه وبين المتلقي. فالدال يدل. من جهة أولى، على متلقيه ويتعدد به. والمتلقي من جهة ثانية، يرتبط به ارتباط المستدل بغيره على نفسه، وبه يتحول" (1).
القرآن " مفتاح لفهم العالم الإسلامي، ولن يفهم أحد المسلمين وتاريخهم … إلا بدءاً من استيعاب هذا النص والإحاطة بمستوى العلاقة القائمة بينه وبين المسلم، دون ذلك سيظل المسلم غريباً، قطعاً عن الآخر … والإنسان خصوصاً. في هذا العصر الكوني، لن يكون ذاته إلا بقدر الآخر. فأن يكون الإنسان مواطناً حياً وحقيقياً في بلده هو أن يكون مواطناً كونياً…. فـ" الكتاب أساس العالم وخلاصته منذ حوالي أربعة عشر قرناً وخاتم للكلام … " (2). وهو " نص لا يسمى، أو لا تسمح معايير الأنواع الأدبية بتسميته. إنه نص لا يأخذ معياره من خارج، من قواعد ومبادئ محددة، وإنما معياره داخلي فيه… وإنه مطلق: لا يدرك معناه، ولا يبدأ ولا ينتهي، وهو بوصفه مطلقاً يتجلى في زمان ومكان، متحرك الدلالة، مفتوح بلا نهاية. إنه الأبدية المتزمنة. إنه ما وراء التاريخ الذي نستشفه ونقرأه عبر التاريخ … الكتاب بهذا الشكل شبكة تتداخل خيوطها وتنحبك في علاقات متعددة ومتنوعة، مفتوحة كالفضاء. إنه فن آخر من القول، وفن آخر للقول. فن في الكتابة، وفن في تكوين النص … إنه الكتابة المطلقة لكتابة المطلق"(1).
وقد كتب العديد من الكتاب والمثقفين في ( النص القرآني )، وأبدعوا أيما إبداع ومارسوا في دراستهم له كل ما توصلوا إليه من نظريات حديثة علمية وأدبية لاستنطاق النص، ومحاولة الاستفادة منه في كل زمان ومكان. وكانت كل قراءة له تعد محاولة تأتي اللاحقة بها لتنفيها أو تبني عليها، ثم ترتقي بها خطوة أخرى للأمام منسجمة ومتوافقة مع العالم المحيط .
ولم تكن الإشكالية في دراسة ( النص القرآني )، في أي من مستوياته، ولكن الإشكالية بدأت تظهر مع ظهور المنهج النصاني، ومحاولة تطبيقه على القرآن من قبل بعض المثقفين والنقاد وإخضاعه لشروط النظرية النصية والادعاء بأن القرآن ( نص ) بالمفهوم الحديث والمعاصر للنص وأنه يشتمل على وظائف الاتصال التي عددها جاكبسون ومعايير النصانية التي حددها دوبوجراند.
لكن النظرية النصية نظرية إنسانية، وليس من الضروري أن تنطبق كل نظرية يتم التوصل إليها بالعقل البشري على القرآن الكريم، فالقرآن لم يكن في يوم من الأيام كتاب فلك، أو علوم، أو بلاغة، أو أدب إنه " الكتاب " كما أسماه رب العالمين .
ويطبق الكثير من المثقفين(*) معايير النصية على القرآن الكريم، ويؤكدون أنه (نص )، وهم بذلك يتناسون أن النصانية تقوم بشكل رئيس على التناص، فهي محكومة به. والتناص الذي يضفي الكثير من الجمال على الدراسات النصانية في الأدب، يُخرج النص القرآني في المصحف الشريف من الإلهي إلى البشري. وإن اعتبار القرآن كغيره من النصوص يؤكد ما يسعى إليه بعض المستشرقين والمستعربين من أن ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نصاً من الله هو جزء محدد من الكتاب، وأما البقية الباقية منه وبالأخص القصص فلقد جاءت من التناص مع الأديان السابقة على القرآن الكريم، وما استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام كما يدعون أخذه عن الأحبار والرهبان، وتلك فرية كبيرة على القرآن الكريم النص الإلهي المطلق المنزه.
إن التراث البلاغي والنقدي العربي يسوغ لنا أن نتتبع فكرة النص عند المحدثين العرب، والنص في الوقت الحالي ما إن يذكر حتى يذكر محايثاً له د.عبد الله الغذامي، ود.محمد مفتاح، ود.صلاح فضل، ود.باسل حاتم ود. رقيه حسن، وغيرهم ممن عرّف النص وقام بالتنظير له، يقول د.محمد مفتاح: "النص مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة .
مدونة كلامية : يعني أنه مؤلف من الكلام وليس صورة فوتوغرافية أو رسماً أو عمارة أو زياً وإن كان الدارس يستعين برسم الكتابة وفضائها وهندستها في التحليل .
حدث : إن كان نص هو حدث يقع في زمان ومكان معينين لا يعيد نفسه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي .
تواصلي : يهدف إلى توصيل معلومات ومعارف ونقل تجارب … إلى المتلقي .
تفاعلي : على أن الوظيفة التواصلية في اللغة ليست هي كل شيء، فهناك وظائف أخرى للنص اللغوي أهمها الوظيفة التفاعلية التي تقيم علاقات اجتماعية بين أفراد المجتمع وتحافظ عليها .
مغلق : ونقصد انغلاق سمته الكتابية الأيقونية التي لها بداية ونهاية، ولكنه من الناحية المعنوية هو:
توالدي : إن الحدث اللغوي ليس منبثقاً من عدم وإنما هو متولد من أحداث تاريخية ونفسانية ولغوية … وتتناسل منه أحداث لغوية أخرى لاحقة له " (1).
ويرى الغذامي أن : " النص الأدبي هو بنية لغوية مفتوحة البداية ومعلقة النهاية، لأن حدوثه نفسي لا شعوري وليس حركة عقلانية. ولذلك فإن القصيدة لا تبدأ كما تبدأ أي رسالة عادية تصدر بخطاب موجه إلى المرسل إليه، وتختتم بخاتمة قاطعة التعبير. إن القصيدة تبدأ منبثقة كانبثاق النور أو كهطول المطر وتنتهي نهاية شبيهة ببدايتها وكأنها تتلاشى فقط وليس تنتهي، ودائماً ما تأتي الجملة الأولى من القصيدة وكأنها مد لقول سابق أو استئناف لحلم قديم، إنها لكذلك لأنها نص يأتي ليتداخل مع سياق سبقه في الوجود. وكذلك فالنص مفتوح وهو بنية شمولية لبنى داخلية: من الحرف إلى الكلمة إلى الجملة إلى السياق إلى النص ثم إلى النصوص الأخرى ليكون بعد ذلكالكتاب امتداداً كاملاً للحرف)" (1).
وتأكيداً على إجرائية النص وسعياً به إلى أقصاه أوضح الغذامي أن النص " كلي في حركة مرحلية لأنه نص بنيوي، والبنية شمولية / ومتحولة / وذات تحكم ذاتي والنص يتحرك داخلياً بحركة مفعمة بالحياة كي يكون بنية الوجودية، ليكون له هوية تميزه. فإذا ما تميز فإنه يتحرك كاسراً لحواجز النصوص ليدخل مع سواه في سياق يسبح فيه كما تسبح الكواكب في مجراتها" (1).
ولكن هل ينظر كل هؤلاء النقاد للوصول إلى تعريف تام للنص ؟ يقول د. منذر عياشي : " إن وضع تعريف للنص يعتبر تحديداً يلغي الصيرورة فيه، ويثبت إنتاجيته على هيئة نمطية لا يكون فيها زماناً للمتغيرات الأسلوبية والقرائية أثر، ويلغي قابليته التوليدية زماناً ومكاناً، ويعطل في النهاية فاعليته النصية "(1).
و" يذكر (دوبوجراند) في بداية تأريخه لعلم النص رأياً لـ(فان دايك) يقول فيه: لا يخضع علم النص لنظرية محددة أو طريقة مميزة وإنما يخضع لسائر الأعمال في مجال اللغة التي تتخذ من النص مجالاً لبحثها واستقصائها"، ويعني ذلك ألا نتوقع في دراستنا لتاريخ علم النص أن تبرز نظرية واحدة أو اتجاها محدداً وإنما يجب أن نتجه نحو سائر الأعمال التي أسهمت في إبراز هذا المجال الحيوي في دراسة اللغة " (2).
لذلك فإن كل ما يحدث هو عبارة عن محاولة للمقاربة بين التفسير المعجمي السابق للفظ (نص) في العريبة، ولفظ ( TEXT ) في الإنجليزية، ثم المقاربة بين محاولة كل من العرب والغرب في تحويل مصطلح النص من المفهوم إلى الإجراء للاستفادة منه في دراسة بلاغية حداثية تساعد على إحياء علم البلاغة من جديد واستنطاق النصوص شمولياً وتأويلها بما يثري الأدب والعلم على حد سواء .
إن ثقافتنا ثقافة شفاهية تعتمد على السماع، ولم تعرف الكتابة بشكل رسمي إلا مع تدوين القرآن الكريم، ولذلك لم يرتبط مفهوم النص في معاجمنا بالكلام المكتوب كما هو الحال في المعاجم الأجنبية التي ركزت على أن النص مدونة، وأنه إنجاز فعلي أو كتاب، أو جزء من كتاب مخطوط باليد أو منقوش أو مطبوع . ولكنهم يتفقون معنا في إطلاق لفظ ( نص) على النص المأخوذ من القرآن أو النص الكامل للقرآن أو الكتاب المقدس، بل إن التعريفات تشير إلى أن النص بداية كان يطلق على مخطوطة الكتاب المقدس كما يطلقه البعض من نقادنا على نص القرآن الكريم .
لقد تعددت الدلالات الواردة في تعريف ( النص ) في المعاجم الأجنبية، ومع ذلك فإنهم لم يربطوه بالنسيج(TISSUE )، إلا اعتماداً على الأصل اللاتيني للفظ(TEXT)، فـ (TEXT ) باللاتينية مشتق من ( TEXTUS ) بمعنى النسيج (TISSUE ) المشتقة بدورها من (TEXTURE ) بمعنى نسج، ومنه تطلق كلمة ( TEXTIL ) على ما له علاقة بإنتاج النسيج بدءاً بمرحلة تحضير المواد، وانتهاء بمرحلة النسيج النهائي وبيعه، وإذا كانت العلاقة بين النص و ( TEXT) غير متطابقة في العربية، حيث يرد مفهوم (TEXT ) ضمنياً في لفظ ( نص)، فإن التـطابق أكـبر بين الـدال
(TEXT) والدال (نسيج ) فلقد ورد مفهوم (TEXT )، في الدال نسيج بدلالته المباشرة في القواميس العربية واستخدمه النقاد العرب القدامى في تعريفاتهم بما يؤكد معرفة العرب لهذه العلاقة تماماً كتعامل الغرب مع الأصل اللاتيني للفظ (TEXT ). ففي القاموس المحيط " نسج الثوب ينسجه وينسجه فهو نساج وصنعته النساجة والموضع منسج ومنسج والكلام لخصه وزوره وكنبر أداة يمد عليها الثوب لينسج، ومن الفرس أسفل من حاركه. وهو نسيج وحده لا نظير له في العلم وغيره وذلك لأن الثوب إذا كان رفيعاً لم ينسج على منواله غيره. وناقة نسوج لا يضرب عليها الحمل أو التي تقدمه إلى كاهلها لشدة سيرها ونسج الريح الربع أي يتعاوره ريحان طولاً وعرضاً، والنساج الزراد والكذاب، والنسج بضمتين السجادات" (1).
ولقد ربط العرب بين نسج الثوب ونسج الشعر وبين الشعر والنسج والتصوير، فكلها تحتاج إلى تناسق وتداخل وتفرد ويكون الهدف منه الإبداع والوصول إلى غاية الصناعة. قال الجاحظ: " إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير"(1). ويرى ابن طباطبا أن " الشاعر الحذق كالنساج الحاذق الذي يفوق وشيه بأحسن التفويق، ويسديه، وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه. وكالنقاش الرقيق الذي يصنع الأصابع في أحسن تقاسيم نقشه. ويشيع كل صيغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان "(2).
كل تلك الفنون تولد من خلال التداخل والتركيب والترابط ولذلك يقول عبد القاهر الجرجاني: "واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض، حتى تصير قطعة واحدة…"، " فكما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرها من أصناف الحلي بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف شعراً من غير أن يحدث فيها النظم" …و" كما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، كما الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه…"(1). "
وقد آثر الدكتور عبد الملك مرتاض أن يكون المقابل العربي لـ(Text ) هو (النسيج ) لما في دلالته اللغوية من معنى الترابط، ولعدم توافر هذا المعنى في مادة (نصص)، ورأى أن العرب عرفوا أن النص مفهوماً وشكلاً وممارسة ولكن هذه المعرفة لا تعني وجود نظرية النص عند العرب " (2).
النصانية وآفاقها:
أولاً: النص والعمل (work) :
يبدأ دائماً تعريف النص بتمييزه عن العمل أو الأثر، ولقد فرق ( رولان بارت) في بحث كتبه سنة 1971 بعنوان ( من العمل إلى النص ) بين النص والعمل الذي تقول به مدرسة النقد الحديثة، وقد لخص ( ليتش ) الأفكار الرئيسة لهذه المقالة مركزاً على أنه :
" يتم التفاعل مع النص في فعالية شاملة من العطاء اللغوي وذلك نقيض ( العمل) الذي هو تقليدي. ويتحدى النص كل حواجز العقلانية والقرائية وقواعدهما وبذلك فهو يتجاوز كل التصنيفات والطبقات التقليدية. كما ويتمثل النص في التحول اللامحدود للمدلولات من خلال التحرك الحر للدال الذي يفلت بطاقة لا تحد ولذا فهو غير قابل للانفلات أو التمركز. ويحقق النص حداً غير قابل للتحجيم من الدلالات الكلية لأنه مبني من الاقتباسات المتداخلة مع النصوص الأخرى، ومن الإرجاعات والأصداء، ومن اللغات الثقافية التي هي غامضة وغير قابلة للرصد ولذا فالنص إنما يستجيب للانتشار فقط(Dissemination) ( أي ينتشر في النصوص اللانهائية التي تداخلت معه). أما تصدير النص باسم المؤلف فلم يعد رمزاً لأبوته للنص وليس ذلك يميزه. فالمؤلف ليس هو البداية للنص ولا هو غاية له، ولكن المؤلف يستطيع أن يزور النص كضيف عليه فقط. والنص مفتوح ومطلق الخروج، والقارئ ينتج النص في تفاعل متجاوب لا في تقبل استهلاكي بالإضافة إلى أن النص مهيأ لطوباوية (يوتوبيا ) ولحالة اللذة الانتشائية ( من متلقيه ) " (1).
لقد أغلقت البنيوية العمل على لغته ولسانيتها ولكن النص أعطى للسياقات التي يقع فيها العمل دورها في فك شفراته كافة … فالنص بذلك يلتحق بالفكر النقدي كواحد من أهم مقولاته في حين العمل يبقى قائماً في الحقل الإبداعي كنتاج مادي محسوس له.
وذلك " يعني أن النصية ليست خصيصة ملازمة لكل عمل أدبي ( أو أي عمل آخر )، بل إن قدرة العمل للانتقال إلى مستوى " النص " رهن بمجموعة خصائص لا بد من تحقيقها داخل العمل نفسه، تتلخص جميعها في كيفية تقاطع العمل، كمجموعة من الدلائل مع اللسان كمجموعة من القواعد. ثمة فوارق بين احتواء " اللسان " للآثار اللغوية للأعمال، وتقاطع هذه الأعمال معه، ففي الحالة الأولى نكون بمواجهة عمل مغلق ومتطابق تماماً مع اللسان، لا كنظام قاعدي، ولكن كرؤية للعالم وتنظيم له، ومن ثم فلا وجه – هنا - لحضور الذات، سواء أكانت ذات المرسل أم ذات المستقبل، وبالأحرى، لا مكان لحضور التاريخ باعتباره عالماً نصوصياً محصوراً فاعلاً إن اللسان ينتج المعنى على مستوى العمل، دونما حاجة لانتقاله إلى المستوى الذي تتم فيه إعادة توزيع اللسان بتفكيكه، كنظام عام وسلطوي وإعادة بنائه نظاماً خاصاً وإبداعياً حراً أي نصاً.
أما في الحالة الثانية فإننا بإزاء عمل " العلامة " فيه تلفت الانتباه إلى تعسفيتها ذاتها، علامة لا تحاول الغش لتبدو طبيعية، بل نوصل خلال ذات حركة نقل المعنى شيئاً من وضعها الخاص النسبي الاصطناعي … فالعلامات التي تمرر نفسها على أنها طبيعية … تقدم نفسها على أنها الطريقة الممكنة الوحيدة لرؤية العالم، هي بهذه الصفة علامات سلطوية أيديولوجية… إذن يبتدئ العمل اختلافه مع اللسان الذي يتأسس داخله متقاطعاً معه بفضل العلامة نفسها… الدال ذاته الذي يحيد بهذه الخصيصة فعاليته القاعدة التركيبية في توجيه طاقته الدلالية، وبتتابع الدوال خطياً عبر قواعد تركيب لا تتمكن من أداء وظيفتها ( القمعية ) يعجز السياق عن أداء وظائفه، وهكذا يكون العمل الأدبي – خصوصاً - محض شيء مادي محسوس موضوع هنا وهناك بانتظار فعالية قرائية ترفعه إلى مستوى يفجر ذاكرة علاماته لتستجلي مجموع التلفظات …. الكتابات …… النصوص ….. الخطابات القارة في تاريخه الأركيولجي"(1) .
وقد ركز النقاد على النص وأكدوا الفرق بينه وبين الأثر، وعدوا أن أهم ما يوجد عند دريدا هو المفهوم ( الأثر) …. فالأثر عنده هو القيمة الجمالية التي تجري وراءها كل النصوص ويتصيدها كل قراء الأدب .
" والأثر هو التشكيل الناتج عن (الكتابة)، وذلك يتم عندما تتصدر الإشارة الجملة، وتبرز القيمة الشاعرية للنص، ويقوم النص بتصدر الظاهرة اللغوية، فتتحول الكتابة لتصبح هي القيمة الأولى هنا. وتتجاوز حالتها القديمة من كونها حدثاً ثانوياً يأتي بعد (النطق) وليس له من وظيفة إلا أن يدل على النطق ويحيل إليه. إن الكتابة تتجاوز هذه الحالة لتلغي النطق وتحل محله. وبذلك تسبق حتى اللغة وتكون اللغة نفسها تولداً ينتج عن النص. وبذا تدخل الكتابة في محاورة مع اللغة فتظهر سابقة على اللغة ومتجاوزة لها، ومن ثم فهي تستوعب اللغة، فتأتي كخلفية لها بدلاً من كونها إفصاحاً ثانوياً متأخراً "(1).
ولذلك فـ "النص يتميز عن الأثر الأدبي بأنه نسيج من العلامات" (2)، أما الأثر الأدبي فينحصر في المدلول، وهذا المدلول له نوعان من الدلالة: ظاهرة ( وحينئذ يكون الأثر موضوعاً لعلم يهتم بالمعنى الحرفي كفقه اللغة ) أو مضمرة ( وحينئذ ينبغي التنقيب عنه، ويصبح الأثر موضوعاً للتأويل) لكن النص – لكونه كتابة متعددة– فإنه لا يقبل التنقيب أو التأويل فهو لا يتطلب إلا الفرز والتوضيح، فالنص تمددي، مجاله هو مجال الدال. لكن التوليد الدائم للدال داخل مجال النص (أو لنقل الذي مجاله النص ) لا يتم وفق النمو العضوي أو حسب طريق تأويلي وإنما وفق حركة تسلسلية للتداخل والتغيير.
فالصورة المجازية بالشبكة توحي بصورة الكائن العضوي الذي ينمو بفعل التكاثر الحيوي. أما الصورة المجازية للنص فتوحي بالشبكة. الأثر الأدبي ( في أفضل الأحوال)، رمزي بدرجة وضيعة (رمزيته قصيرة النفس أي سرعان ما تتوقف) أما النص فطاقته الرمزية مطلقة. لهذا فإن النص لا يمكن أن يكون هو ذاته إلا في اختلافه (الأمر الذي يعني عدم تفرده أو تحدده )" (1) .
" ومن هذا جاء دريدا ليقدم (الأثر) كبديل لإشارة سوسير وهو يطرحه كلغز غير قابل للتحجيم، ولكنه ينبثق من قلب النص كقوة تتشكل بها الكتابة، ويصير ( الأثر) وحده نظرية في فكرة ( النحوية) ترتكز الفكرة بكل طاقاتها عليه، ومن خلالها تنتعش الكتابة، وإن كان سحراً لا يدرك بحس. ولكنه يتحرك من أعمق أعماق النص متسرباً من داخل مغاوره ليشعل طاقاته بالفعاليات الملتهبة، مؤثراً بذلك على كل ما حوله دون أن تستطيع يد مسه، والأثر مسئول عن كل انفعال يصدر عن الجزئيات الدنيا للإشارة، مثلما أنه حاصل الناتج الذي تحدثه وظائف العلامات كما في النظر البنيوي" (1).
وإذا كانت حركة النص المكونة هي العبور والاختراق ( عبور الآثار الأدبية العديدة ) فإن النص يطرح مشكلة التصنيف وتجربة الحدود. فما يحدده هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة، وعدم الخضوع بل التمرد على التقسيمات المألوفة للأجناس.
و" إذا كانت الإجابة عسيرة فهو كاتب نص وإلا فهو كاتب أثر. فالأثر الذي يوجد على الحدود (حدود الأخبار الأدبية المعروفة ) هو نص. فالنص / كتابة يضع نفسه وراء الرأي السائد إنه بدعة، وخروج عن حدود الرأي السائد والكتابة لا تعني رسم الأصوات اللغوية ولا مجرد الربط بين العبارات بل تعني _ على حد تعبير رولان بارت _ أن نضع أنفسنا فيما يطلق عليه اليوم التناص، أي أن نضع لغتنا وإنتاجنا الخاص للغة ضمن لا نهائية اللغة. أي ضرورة الاختفاء - اختفاء الذات الفاعلة/الكاتبة في اللغة والأدب عنده _ وهو يفضل أن يسميه كتابة _ وهو دوماً خلخلة أي ممارسة تهدف إلى زعزعة الذات الفاعلة وتشتيتها في ذات الصفحة. فلا وجود للمؤلف إلا لحظة الإنتاج / الكتابة وليس قط لحظة ينتهي الإنتاج، فالكاتب بعد أن ينتهي ينفصل عن النص" (1).
" وما الكتابة إلا وجه واحد من تجليات ( الأثر) وليس هي الأثر نفسه، وبكل تأكيد فالأثر الخالص لا وجود له - كما يقول دريدا - وهدف التحليل التشريحي هو تصيد الأثر في الكتابة ومن خلالها، ومعها. وتأتي ( النحوية ) كعلم جديد للكتابة لترفض إنزال الكتابة إلى صف ثانوي مستبعدة من اللغة المنطوقة فهي لا تخضع الكتابة للمخاطبة، وإنما تفحصها وتحللها قبل الخطاب وفيه، أي في النصوص"(1) .
" ويدخل النص مع الأثر في حركة محورية دائرية تبدأ بالأثر متجهة إلى النص، ثم تعود إلى الأثر وهكذا دواليك، فالنص لا يكتب إلا من أجل الأثر، إذ لا أحد يكتب شعراً لينقل إلينا أقوال الصحف، وإنما يكتب الشعر طلباً لإحداث ( الأثر ) " فالأثر إذاً سابق على النص لأنه مطلب له، فإذا ما جاء النص وتلبس بالأثر صار تلمس هذا الأثر هدفاً للقارئ وللناقد، ولذا يأتي الأثر بعد النص ومن خلاله ومن قبله. وتتداخل العلاقة بين النص والأثر حتى لتنعكس بسببها معادلة ( السبب / والنتيجة)، ولهذا فإن التشريحية تأخذ بقلب مفهوم السببية كما فعل نيتشه( ) من قبل حيث وصف العلاقة بين السبب والنتيجة بأنها علاقة مجازية أو بلاغية"(1) .
ثانياً: النص والكلام :
لقد تنبه السلف إلى الكلام ومميزاته، حيث يقول الباقلاني : " وجملة الأمر أن نقد الكلام شديد، وتميزه صعب " ولعل الباقلاني " لم يذهب هذا المذهب إلا لأنه حين تأمل أدرك أن مميزات الكلام لفظاً، وجملاً، ونصوصاً ليست ثابتة، وغير مستقرة، ولا تقوم خصائصها على قيم مطلقة، فهي تتغير بتغير السياقات الواردة فيها، سواء أكانت هذه السياقات خارجية، كما في حالة الكلام الشفوي، أم داخلية كما في حالة النص المكتوب …وهي تتغير بتغير الأزمنة، والأمكنة. وتتغير بتغير القراء، وتغير مفاهيم الحياة التي تحيط بهم . وهي تتغير أيضاً وأخيراً لأن اللغة طاقة خلاقة والنص المعبر بها يبني نموذجه ثم يلغيه، ويقول شيئاً وربما يعني شيئاً آخر"(1) .
والكلام في نظر عبد القاهر الجرجاني " هو تعلق الألفاظ، بعضها ببعض عن طريق العلاقات النحوية، وأن هذه العلاقات النحوية هي التي تسلك الكل في سياق. وأن النحو موجود في منظوم كلام العرب ومنثوره، والعلم به مشترك لدى العام والخاص" (2).
و" يؤكد " سوسير " أن الكلام الذي ينتجه الفرد بمحض إرادته ووعيه الخاص، يخدم أهدافه، ولذلك فإنه يلجأ إلى طرائق تمكنه من استخدام تلك المادة، وهاتيك الضوابط بما يتكيف ويناسب هذا الهدف(1). وقد تكون هذه الطرائق غير مسبوقة في اللغة"(2). ولذلك " ميز في الظاهرة الألسنية بين ظاهرتين هما اللغة باعتبارها نظاماً من الرموز، والكلام باعتباره الاستعمال الفعلي لهذا الكلام. و" أدرك الصلة بين الاجتماعي والفردي في اللغة حين قال : اللغة في ماهيتها نظام اجتماعي، مستقل عن الفرد في حين أن الكلام هو منها بمثابة التحقيق العيني الفردي ومعنى هذا أن اللغة تقنين اجتماعي أو مجموعة من القوانين codes في حين الكلام فعل فردي" (3).
" ويقول سوسير " إن الكلام هو إنجاز للغة ضمن حدث خطابي وإن إنتاج الخطاب المفرد إنما يتم بواسطة متكلم مفرد " (4).
هذا وتقتضي " الدراسة الأسلوبية أن يكون الكلام ذا مستوى فني معين، وأن يكون مميزاً في الكلام العادي أو ما يسمى لغة الخطاب النفعي فهي تخلو من الأسلوب الذي هو مجال الدراسة الأسلوبية. فـ"بارت " يقصر استخدام الأسلوب أو ما يسميه " درجة الصفر في الأسلوب " على ذلك اللون من الأدب الحديث الذي لا يهتم فيه المبدع كثيراً بفكرة التوصيل والوضوح وإرضاء الجماعة التي تتعامل مع ذلك الأدب، وإنما يكون اهتمامه منصباً على العمل نفسه"(1). ويقول رولان بارت إن النص " ليس موضوعاً، ولكنه عمل واستخدام، وليس مجموعة من الإشارات المغلقة المحملة بمعنى يجب العثور عليه، ولكنه حجم من الآثار التي لا تكف عن الانتقال(1) .
لاحظ هؤلاء النقاد " أن بين النص مكتوباً والخطاب ملفوظاً، وحدة لغوية ولكنهم أدركوا أن الإنجاز يقف فيصلاً بين الطرفين. وطالما يذكرنا هذا بنظرية " سوسير " في اللغة والكلام، أو بنظرية "تشومسكي" في الكفاية والأداء. فالنص كلام إلا أنه يصدر عن ذاتيته النصية التي عملت على إنجازه وأدائه. والكلام الآخر، غير النصي هو كلام أيضاً، إلا أنه خطاب شفوي عمل الشخص على إنجازه وأدائه. وهذا يعني أن وحدة اللغة لا تمنع أو لا تحول دون تعددية الإنجاز والأداء" (2) .
ثالثاً: النص والكتابة / القراءة :
القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة، ولم أقصد من تناولهما وفقاً للعنوان السابق اعتبار أنهما ثنائية، فما القراءة إلا لشيء مكتوب ولا الكتابة إلا بناء على قراءة أو قراءات سابقة. ولقد اختلف مفهوما القراءة والكتابة عنهما في السابق وذلك مع اختلاف مفهوم التلقي، فالقارئ في الماضي كان يقوم بعملية القراءة ثم يغلق الكتاب، والطالب يقرأ وينتهي الأمر عند ذلك، وفي المدرسة يجلس سلبياً في الفصل من أجل التلقي الذي كان يقوم على التلقين، ولم يكن من حق الطالب المناقشة أو التعليق أو الاختلاف مع الكاتب في الشكل أو المضمون، ولكن القراءة تحولت من أن تكون استهلاكية إلى أن تكون إنتاجية، وأصبحت القراءة تحمل مفهوم الكتابة، فالقارئ يقرأ ليكتب على ما قرأه، والمبدع الحق هو من يستفز القارئ على مشاركته، فيكتب ثم يأتي قارئ آخر ليكتب شيئاً مختلفاً عن كتابه فالنص مفتوح بلا نهاية، يحتمل الكثير من التأويل والمشاركة، كما أنه قد يكتب نقداً لنقد سابق عليه وذلك من باب نقد النقد وهكذا … فالنص الحي هو الذي يحتمل تأويلات عديدة، والقارئ الحي هو القارئ/ الكاتب المشارك الذي لا يكتفي بالاستماع أو الرؤية فقط، لقد انتهى زمن الناقد، بل ويطلق البعض على هذه المرحلة "موت الناقد" ، حيث لم تعد الكتابة والنقد تختصان بالنقاد والأدباء وبدأ يحل مفهوم القارئ محل الناقد.
ويمكننا القول إن مفهوم الكتابة / القراءة بدأ مع البنيوية، " واكتسب بعداً أوسع في تحليلات " ما بعد البنيوية ". وكان التركيز على المفهوم مرتبطاً بانتقال بؤرة الاهتمام من المؤلف ( بوصفه المصدر) والعمل (بوصفه الموضوع) إلى شبكة العلاقات المتناصة التي ينطوي عليها النص، فصارت " الكتابة " منظومة من القواعد التي تنطوي عليها تفاعلات نصية ( منفتحة دائماً على التفسير، حمالة لمعان لا تكف عن التوالد) وعلى نحو يؤكد إسهام القارئ في إنتاج الدلالة. وصارت " القراءة " قرينة النص المنغلق الذي ينطوي على معنى ثابت والذي لا تتجلى فيه فاعلية التناص والذي يبقي على سلبية القارئ وحذره أثناء عملية إنتاج الدلالة. ولكن هذا التعارض بين " الكتابة " و " القراءة " اكتسب معنى أكثر خصوصية مع – جاك دريدا – الذي ينطلق من مفهوم " الكتابة " من حيث هي نسق سيميولوجي(1) (بصري ومكاني) لنقش الأحرف على المساحة المنظورة التي تصافحها العين"(2).
وما أن يذكر النص وتذكر الكتابة حتى يذكر بول ريكور الذي يقول: " لنقل النص هو كل حديث جعلته الكتابة ثابتاً ….. التثبيت بواسطة الكتابة يشكل النص بالذات. ويؤكد أن الكتابة كمؤسسة هي لاحقة للكلام، ويبدو دورها في تثبيت كل التمفصلات التي سبقت وظهرت بطريقة شفهية، بواسطة خطوط أفقية، والاهتمام الكلي تقريباً للكتابة الملفوظة يبدو كأنه تأكيد بأن الكتابة لا تضيف شيئاً على ظاهرة الكلام سوى التثبيت الذي يسمح بالمحافظة عليه، من هنا كان الاقتناع بأن الكتابة هي كلمة متينة وبأن التدوين سواء أكان خطياً أم بواسطة التسجيل، هو تسجيل الكلام الذي يؤمن للكلمة ديمومتها بفضل طابع الحفر الراسخ. ويرى أن بوسعنا التساؤل هل إن ظهور الكتابة المتأخر لم يتسبب في تغيير جذري في علاقتنا بنصوص حديثة بالذات. ولما كان النص حديثاً تثبته الكتابة فما تثبته الكتابة هو إذاً حديث كان بالإمكان قوله بالطبع، ولكننا بالضبط نكتبه لأننا لا نقوله. فالتثبيت بواسطة الكتابة يأتي مكان الكلام بالذات أي حيث كان بوسع الكلام أن يولد" (1).
وكل هذا " دفع جوناثان كيلر ( Jonathan Culler ) إلى الشعور بضرورة الاهتمام بالكتابة، والتي هي تمثيل للكلام المنطوق، بل وإيجاد علم خاص بها هو ( علم اللغة الكتابي) الذي ستكون مهمته الانتباه بجدية إلى قضايا مهمة كالبنية والأهداف والتأثير الذي تتركه الكتابة في القارئ فكتب بحثاً بعنوان نـحو عـلم لـغة للـكتابـة
(Towards a linguistics of writing ) يجمع فيه على أن الكتابة: شكل من أشكال التمثيل المكافئ، أو غير المكافئ لما لدى اللغة من قدرة على التعبير، والتأثير الذي يتجلى في الكلام المحلي "(2).
ولما كان القرآن نصاً مكتوباً، لذلك " فهم السلف في ممارستهم له، أن الكتابة تمثل مجموع الطرق الإنتاجية والتحولية للمكتوب، ولذلك لم ينظروا إليها على أنها تثبيت للقول، وإنما نظروا إليها على أنها إنتاج له وتفريع. وكأن الكتابة هنا ليست أداة إنتاج النص في نسج ما قيل، ولكنها النص المنتمي فعلاً لما يقول. ومن أجل هذا جاءت القراءة مكملة لعملية الكتابة، أو لنقل مشاركة لها في إنتاج النص إذ إنها ليست شرطاً للنص أو وصفاً له بقدر ما هي قراءة لوظيفته. ولقد كانت تعتمد إلى إظهار عمليات تكوينية من جهة. وإلى قراءة إنتاجية من جهة أخرى، ولذا كانت هذه القراءة ممارسة مفتوحة له، وكانت غير متناهية، لأنها لا تستدعي عدة قراءات وتنضاف إليها. وتستخدم عدة وسائل تحليلية وتقنية في ممارسته. ولعل كثرة التفاسير وتنوعها تكون دليلاً على ذلك "(1).
لقد أصبح النص منفتحاً بسبب الكتابة والحوار مع المتلقين، وفي علاقة الكتابة بالعبارة المنطوقة، وبالقارئ من جهة أولى، وحلول النص محل علاقة الحوار من جهة ثانية، يقول ريكور: " العلاقة كتابة – قراءة ليست حالة خاصة من علاقة الكلام والجواب. ليست هي علاقة محاورة، ليست حالة حوار. لا يكفي القول إن القراءة هي حوار مع المؤلف من خلال مؤلفه.
ينبغي القول إن علاقة القارئ بالكتاب هي من طبيعة مختلفة تماماً، الحوار هو تبادل أسئلة وأجوبة، ليس من تبادل شبيه بين الكاتب والقارئ، الكاتب لا يجيب القارئ: الكاتب يفصل بالأحرى إلى منحدرين فعل الكتابة وفعل القراءة اللذين لا يتصلان، القارئ غائب عن فعل