معرفة السياق التأريخي/الزمني للنصّ، تحيلنا على التعرف على الأجواء
السياسية التي كتب في ظلّها النصّ، أجواء التوتر الناجم عن الحرب الباردة
الأولى (1947-1953)، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وما تلتها من
توترات وأحداث دموية تمثّلت في الصراع في ألمانيا الذي انتهى، بتقسيمها،
إلى شطرين شرقي وغربي، والصراع في فيتنام، الذي أعقب خروج اليابانيين عنها
بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، وعودة المستعمر الفرنسي الذي لاقى
مقاومة عنيفة من الثوار -الذين استغلوا خروج اليابانيين واستعادوا نصف
الأرض الفيتنامية- انتهت بخروج الفرنسيين منهزمين بعد معركة (ديان بيان
فوسيه) الرهيبة، وتوقيع اتفاق جنيف (1954) بين فرنسا وفيتنام، الذي كان من
نتائجه تقسيم فيتنام إلى شطرين؛ شمالي شيوعي موالي للصين وروسيا، وجنوبي
تدعمه الولايات المتحدة، إذ بقي الصراع مستعراً فيها حتى توحيدها بالقوة في
العام 1975، بعد عامين من خروج الجيش الأميركي من الأراضي الجنوبية
الفيتنامية. ثمّ الصراع في كوريا التي كانت بدورها مسرحاً للصراع بين
الدولتين العظميين، إذ تقاسمتا النفوذ عليها منذ الحرب العالمية الثانية،
حتى إعلان روسيا انسحابها من الجزء الشمالي في العام 1948، مطالبة الولايات
المتحدة بالانسحاب من الجزء الجنوبي الكوري، واستجابت الولايات المتحدة
فانسحبت، الأمر الذي دفع الكوريين الشماليين الأكثر تسليحاً، فانتهزوا هذه
الفرصة ليطلقوا العنان لقواتهم في 1950 ليشنوا حرباً ضروساً على شقيقتهم
الجنوبية، وحينها بدأت الأزمة الكورية التي تحولت في ظلّ الحرب الباردة إلى
أزمة دولية، ظلّت نيران حربها مستعرة ثلاث سنوات.
هذه الأجواء المتوترة ألقت بظلالها القاتمة على شعوب العالم بأسره،
وهم لما يزالوا يستطعمون في أفواههم مرارة الآثار الكارثية للحرب الكونية
الثانية، وكان الأكثر استشعاراً بفداحة هذه الحروب هم الشعوب الفقيرة في
العالم الثالث، ولاسيّما الشعب العربي الذي ناله الأذى من السياسات
الاستعمارية جراء تصاعد الكفاح المسلح الداعي إلى التحرير من ربقة
الاستعمار، فكانت الجرائم التي ارتكبها المستعمرون في بلاد المغرب العربي،
وفي المشرق، حيث مأساة الشعب الفلسطيني، والجرائم التي ارتكبت بحقه،
والأجواء المتوترة التي أعقبت ثورة تموز/يوليو 1952 في مصر، التي انتهت
بالعدوان الثلاثي عليها، والأحداث التي جرت في إيران في أعقاب انقلاب مصدق
في العام 1952، ومن ثمّ عودة الشاه بمعاونة القوات الأميركية([29]
)
.
في ظلّ هذا السياق الدرامي للأحداث، أخرج السيّاب نصّه هذا ليصرخ في
وجوه مشعلي الحروب أن يجنبوا الأبرياء ويلات حروبهم، ولاسيّما الأطفال الذي
كانوا الأكثر تعرضاً للقتل والفناء لأنّهم عزّل صغار. هذا السياق فرض على
النصّ لحظته الآنية، فالزمن في القصيدة يشير إلى حالة راهنة جسدتها كثرة
الأفعال المضارعة التي يشير الزمن في الأعم الأغلب منها على الحاضر،
والقليل منها الذي أومأ إلى المستقبل، أشار إلى مستقبل قريب متصل بالحاضر،
وهو ما تشير إليه الأبيات الآتية:
116.
لمن كلُّ هذا الحديد؟
117.
لقيدٍ سيُلوى على معصمٍ،
118.
ونصلٍ على حلمةٍ أو وريد،
119.
وقفلٍ على البابِ دونَ
العبيد،
120.
وناعورةٍ لاغترافِ الدمِ
إذ إنّ سرعان ما يتحول هذا الحديد إلى قيود تكبل الأحرار، وشظايا تقطع
أوصال الرجال والنساء، أو قفل على أبواب سجونٍ غيبت في غياهبها الحرية.
والبقية الباقية من الأفعال؛ هي أفعال ماضية، إلا أن دلالتها الزمنية
لاتوحي بماضٍ بعيد؛ بل بماضٍ قريب يتصل بالحاضر في استمرارية للحدث
الكلامي، تتجلى في تناوب الأفعال الماضية والمضارعة في صورة الحدث، ومنها
الصورة التي تتحدث فيها الأبيات الآتية عن عودة الأب بعد شقاء النهار، وقد
تلقّاه طفله الصغير فأزاحت ضحكته عن أبيه العناء:
المضارعة (يكركر، تنهل، تزرع، تنسيه) استمرارية في الحدث، وتواصلاً
زمانياً، لا يشعر بالانقطاع.
والذي يلاحظ في الزمن الذي تتحدث عنه الأبيات الأخيرة من القصيدة،
أنّه تجاوز دلالة الأفعال فيه، إذ بعد مجموعة أبيات المقطع السابع من
القصيدة، التي عبر بها الشاعر عن أمنياته بالخلاص من الطغاة والدعوة
بالسلام على العالم، يعبر في المقطع الأخير عن حلم اليقظة، وكأن أمنيات
الخلاص التي يحلم بها قد تحقّقت بهتك مكمن الطاغية، فاستعمل الفعل
الماضي(هتكنا)، لأمر لما يتمّ، ثمّ انتقل من الماضي إلى المستقبل بالمضارع
المسبوق بسين الاستقبال (سترقى)، ثمّ عاش لحظة المستقبل تلك بالأفعال
المضارعة الدالة في زمنها على حاضر(تدور، نرقى)، لكنه ليس حاضر الشاعر أو
النصّ؛ ولكنه حاضر مفترض خلقته أمنيات الشاعر.
أمّا السياق المكاني الذي يتحدث عنه النصّ، فهو سياق مفتوح لا يقف
عند حدود معينة، فقد أشرنا إلى أن الشاعر تجاوز في هذه القصيدة حدوده
المحلية الضيقة، إلى الهمّ الإنساني المشترك، إذ بدأ الشاعر بالعراق بلده
الذي يتمنى له الخلاص من الطغاة، لتعود البيادر في السهول، ويعود الصبية
يمرحون، ويعود همس الطواحين، وتعود البشائر يحملها ساعي البريد، ثمّ ينتقل
إلى أصقاع الأرض الأخرى ينثر أمانيه بخلاص الأبرياء من شرور الطغاة
والحروب؛ فمن مشرق في أقاصي آسيا، إلى بلاد العرب من مغربها إلى مشرقها،
عبوراً إلى أوروبا.
والسياق الآخر الذي يظهر جلياً في النصّ هو السياق الثقافي؛ إذ يبدو
أثر العقيدة الآيديولوجية للشاعر واضحاً، فالشاعر -وقد أشرنا إلى ذلك آنفا-
كان ينتمي في تلك الحقبة إلى الحزب الشيوعي، الذي تدعو أفكاره إلى تجاوز
الانتماءات المحلية والقومية، والدعوة إلى الأممية، ومن هنا كانت مناصرتهم
لكلّ الحركات الثورية، والتحررية على اختلاف أوطانها وقومياتها، فجاءت هذه
القصيدة لتعبر عن هذه الثقافة الآيديولوجية التي كان قد آمن بها الشاعر،
وتتجلى في دعوته بالسلام إلى الصين التي انتصر بها الشيوعيون ، ورفرف علم
الثورة الأحمر على أقاصيها؛ وهو ما عبرت عنه الأبيات الآتية:
انحياز الشاعر إلى طائفة الشعراء؛ إذ حاول الشاعر بثقافته أن يقول إن الوجه
الكالح للاستعمارين الفرنسي والبريطاني، العالق في الذاكرة الجمعية
لمجتمعاتنا العربية التي عانت من ظلمهما، يخفي خلفه إرثاً من الجمال،
متمثّلاً بالشعر الذي عبر عنه الشاعر بالسلام على نهر (أفون)، ذلك النهر
الذي يشق مدينة ستراتفورد؛ المدينة التي ولد فيها الشاعر الانكليزي الكبير
وليم شكسبير. وبالسلام على باريس روبسبير، الذي كان أحد قادة الثورة
الفرنسية التي أطاحت بالملكية، والشاعر الثائر بول إيلوار، شاعر المقاومة
الفرنسية، إبان الحرب العالمية الثانية بعد احتلال الألمان لفرنسا، واستمر
بعد انتهاء الحرب مقاوماً للسياسة الاستعمارية لبلده([30]
)
.
وهكذا تتبدى لنا أهمية سياق المقام في تحديد البعد التداولي للنصّ؛
فرأينا كيف أثرت السياقات المحيطة -سواء أ الثقافية منها، أم الاجتماعية،
أم السياسية، أم النفسية- في فهمنا للنصّ، الذي أعانتنا عليه معرفتنا
المسبقة بعالم النصّ، وتحقيق الخاصّية النصّية من طريق ترابط النصّ مع
الأحداث المحيطة به، ومن ثمّ تحقّق عملية التواصل بتماسك أجزاء النصّ
اللغوية، فيما بينها دلالياً، بفضل المعلومات التي يقدمها النصّ.
3-2 التداخل النصّي (التناص Intertextuality
)([31]
)
التناص أحدى الخاصّيات المكونة للنصّ، التي تحيل على مجموع العلاقات
الصريحة أو الضمنية التي تربط النصّ بالنصوص الأخرى، من حيث المعنى الأول؛
فبوساطة هذه الخصيصة نتمكن من ربط بعض النصوص ببعضها الآخر، وإدراك النصوص
بوصفها علامات تعمل على إرجاعنا إلى مجالات كاملة من خبراتنا السابقة في
النصوص. وهي التي من طريقها تنماز النصوص من حيث اعتمادها على نصوص أخرى
ذات صلة وقعت في حدود تجربة سابقة، وما تنطوي عليه هذه الصلة أكثر من مجرد
عملية لإيحاءات النصّ([32]
)
.
والتناص ظاهرة نصّية عامة لايخلو منها أي جنس أدبي، سواء أكان قديماً
أم حديثاً، ويمثل عملية إثراء وإغناء للنصوص، وهو أيضاً عملية تحرر
وانعتاق منشئ النصّ من قيود الثقافة الواحدة، ومن قيود الزمان والمكان؛
فالنصّ لايمكن إلاّ أن يكون متعدداً، لأن قراءات الكاتب/المتكلّم السابقة
وثقافته المكتسبة تنعكس عن وعي منه، أو من غير وعي أحياناً، فتأتي مزيجاً
من آراء وتعبيرات مختلفة، فالنصّ مهما جاهد منشئه أن يجعله جديداً، تبقى
فيه إشارات إلى المشترك العام من ثقافة المحيط المجتمعي وأساليبه، وتظهر
فيه إسقاطات من ثقافات أخرى تعرف عليها منشئ النصّ من طريق خبرات سابقة([33]
)
.
ويعود مفهوم التناص تاريخيا إلى دراسات الأدب المقارن، فهو واحد من
المفاتيح الإجرائية لفهم الأدب المقارن ورصد عملية التلاقح بين الثقافات
الإنسانية، والحوار بين الحضارات، في شتى المجالات الفكرية والفنية
والأدبية، فقد استعمل الباحثون في الأدب المقارن هذا المفهوم، تحت عنوان
علاقة التأثير والتأثر، بوصفه أداة تحليلية، لإيجاد السمات المشتركة بين
نصوص الثقافات المختلفة، وكيفية استقبالها وفهمها([34]
)
. و يرى غريماس وكورتيس أن مفهوم التناص نال أهميته الكبيرة في الغرب بفضل
الإجراءات التي يتضمّنها، والتي تصلح أن تكون وسيلة للتغيير المنهجي لنظرية
التأثير والتأثر التي قامت على أساسها أبحاث الأدب المقارن، وأن هذا
المفهوم يقدم فهماً أفضل لعملية الإبداع الأدبي؛ إذ لم يعد الإبداع الأدبي
مرتبطاً برؤية المبدع نفسه؛ وإنما انطلاقاً من الأعمال الأدبية، وهو ما
يمنح إمكانية فهم أسلم لظاهرة التناص([35]
)
.
والتناص من المفاهيم النقدية التي عنت بها الشعرية الغربية، وما بعد
البنيوية والسيميائيات النصّية؛ لما له من فعالية إجرائية في تفكيك النصّ
وتركيبه، والتغلغل في أعماق النصّ الإبداعية. وقد عرف النقاد العرب
الأقدمون ممارسة هذا المصطلح النقدي تحت مسميات عدة مثل: السرقات الشعرية،
والتضمين، والنحل، والانتحال، والأخذ، والتأثر، والإتباع([36]
)
. ويدل التناص كذلك على أنّ النصّ الأدبي خلاصة التفاعلات بين نصّ ما ونصوص
سابقة على المستويين؛ الدلالي والبنيوي، وهو أيضا مجموعة من الأصوات
والإحالات التي تنصهر في النصّ الأدبي بطريقة واعية. وتشير فاعلية التناص
إلى صعوبة الحديث عن إبداع أصيل خالص للمبدع، أو عن النصّ؛ فالنصوص
الإبداعية هي امتصاص ومحاكاة للنصوص السابقة، وتفاعل معها عبر عمليات
الحوار والنقد، وخلق الأساليب، والمحاكاة، والتهكم، والسخرية، والحوارية([37]
)
. أو -بحسب تعبير تودوروف- لم يعد بعد آدم في هذا العالم أشياء بلا أسماء،
أو أية كلمات غير مستعملة، فالخطابات تقيم بقصد أو من غير قصد حواراً مع
الخطابات السابقة لها، تلك الخطابات التي تشترك معها في الموضوع نفسه،
وتقيم أيضاً حوارات مع الخطابات التي ستأتي، والتي سيتنبأ بها، ويحدس ردود
أفعالها([38]
)
.
والاستعمال الأولي لمفهوم التناص في النقد الحديث يحيلنا على المناهج
اللسانية في النقد الأدبي، ولاسيّما عند الشكلانيين الروس، ولاسيّما عند
ميخائيل باختين الذي أطلق عليه الحوارية (Dialogism
)، أي طرائق تحاور النصوص فيما بينها، وصيغ العلاقات التي تتكون بينها؛ إذ
يرى باختين أن الكلمات التي نستعملها هي دائماً مسكونة بأصوات أخرى،
فالحوارية تنتج حين يدخل فعلان لفظيان "في نوع خاص من العلاقات الدلالية
ندعوها نحن علاقة حوارية. والعلاقات الحوارية هي علاقات (دلالية) بين جميع
التعبيرات التي تقع ضمن دائرة التواصل اللفظي"
([39]
)
.
ويشير باختين إلى أن التناص ينتمي إلى عالم الخطاب، لا إلى اللغة، إذ
ليست بالضرورة كلّ التعبيرات اللغوية بينها علاقات تناصية، لذا يجب إبعاد
العلاقات المنطقية (النفي، الاستنتاج...وغيرها) من دائرة الحوارية، وإن
العلاقات اللغوية الشكلية (الإحالة النحوية، وعلاقات التوازي بين الألفاظ)
لا تشتمل على التناص إلا في القليل منها؛ فالعلاقات الحوارية عميقة "ولا
يمكن اختزالها إلى علاقات من نمط منطقي أو لغوي أو نفسي أو آلي، أو أي نوع
من العلاقات الطبيعية. إنّها نمط استثنائي وخاص من العلاقات الدلالية التي
ينبغي أن تتألّف أجزاؤها من تعبيرات برمتها (أو تعبيرات تعد تامة أو
تتضمّن احتمال كونها تامة)، يقف خلفها (ويعبرون عن أنفسهم) فاعلون متكلّمون
حقيقيون، أو فاعلون متكلّمون محتملون، مؤلّفو التعبيرات موضوع الكلام"
([40]
)
.
هذا المفهوم أخذ مداه في التطور في ستينيات القرن الماضي على يد جوليا كريستيفا، وجماعة تيل-كيل([41]
)
، الذين عنوا بدراسة تفاعلات التناص، والتداخل الحواري في النصّ الأدبي،
وهو ما تشير إليه أبحاث جوليا كريستيفا، وغريماس، ورولان بارت، وتودوروف،
وجيرار جنيت، وغيرهم من الباحثين الذين درسوا العلاقات بين النصّ والنصوص
ذات العلاقة به. ونالت الرواية من بين الأجناس الأدبية حظها الكبير من هذا
الدرس، فقد عمد باختين إلى دراسة أعمال دستوفسكي الروائية، وصبت كريستيفا
جلّ اهتمامها في تعقب سيميائية الخطاب الروائي في كتابها (أبحاث في التحليل
الدلالي)، الذي خصصته لدراسة أعمال باختين([42]
)
.
شيوع هذا المصطلح في دراسات النقد الأدبي، قابله ظهور المصطلح في
بحوث لسانيات النصّ، ولاسيّما في أبحاث دي بوجراند ودرسلر، اللذين جعلاه
أحد معايير النصّية، وحدّدا موضوعه بالعوامل التي تجعل استغلال أحد النصوص
معتمداً على معرفة نصّ سابق، أو أكثر من النصوص التي تعرّف عليها مستقبل
النصّ في الماضي، وعدّا التناص مسؤولاً عن تطوّر أنواع النصوص بوصفها فئات
نصوص ذات أشكال نمطية من الخصائص، "وقد يكون الاعتماد في هذا النوع أو
ذاك على التناص، كبيراً أو صغيراً. ففي نصوص مثل المحاكاة الساخرة، أو
المراجعات النقدية، أو المرافعات القضائية، أو التقارير، يستلزم الأمر أن
يستعين المنتج بنصوص سابقة استعانة مستمرة، وكذلك يحتاج مستقبلو النصّ في
العادة إلى قدر من الألفة مع نصوص سابقة"
([43]
)
.
ويتفق الباحثان على أنّ النصوص الأدبية يسود فيها التناص أكثر من
غيرها؛ ذلك أن النصّ الأدبي هو نصّ يرتبط عالمه بعلاقة بدلية مع الصورة
المقبولة للعالم الواقعي، والقصد من وراء هذه البدلية تزويد المتلقّي بدافع
لاستجلاء التفكير بتنظيم العالم الواقعي، ليس بصفته شيئاً معطى موضوعياً؛
بل بوصفه شيئاً ناشئاً عن التفاعل و المعرفة الاجتماعية. وتأتي بالمنزلة
الثانية النصوص التعليمية؛ التي يقصد منها زيادة المعرفة عن العالم الواقعي
المقبول وتوسيعها. وتحقّق النصوص هذه الغاية من طريق استكشاف أو توسيع أو
توضيح ما يختزنه المجتمع من معرفة في مجال ما من مجالات الحقيقة، ويكون ذلك
بعرض الأدلة المستقاة من المشاهدات أو الوثائق أو من اختبار تلك الأدلّة.
فيما يوجد التناص سائداً بقدر أقل من المتوسط في المحادثة التي يقوم
تنظيمها على القصدية والموقفية؛ غير أنّ هذين العاملين لايقدّمان وصفاً
كاملاً لظاهرة التناص؛ إذ من الضروري أن يكون النصّ ذا صلة بغيره من النصوص
في الخطاب نفسه، وأن لا يقتصر الأمر على مقاصد المشاركين، وسياق المقام
فحسب. ويجب أن يجري اختيار الموضوعات الأساسية وتطويرها وتحويلها([44]
)
.
ويجعل الباحثان الطرائق التي يستعملها الناس في الانتفاع بالنصوص
المشهورة أو في الإحالة عليها - أي الاستشهاد بالنصوص- جزءاً من التناص؛ إذ
بوسع منتج النصّ أن يستشهد بأيّ نصّ سابق متيسر، لإغناء النصّ، وتقريب
المعنى المراد إيصاله إلى المتلقّي، وتعدّ النصوص المشهورة، من الناحية
العملية، أكثر مناسبة وملاءمة، ويعود هذا إلى سهولة تيسر وصول جمهور
المستقبلين إليها، فيما إذا كان التباعد الزمني بين النصّ الأصلي، والنصّ
اللاحق كبيراً يكون مستوى التناص أكبر، بفضل تراكم الخبرة التي يمنحها
التباعد الزمني للنصّ الأول([45]
)
.
ويرى باسل حاتم وإيان ميسون أن من الخطأ عدّ التناص مجرد عملية
ميكانيكية؛ فالنصّ ليس مزيجاً من أجزاء اقتطعت من نصوص أخرى فحسب، ولايجب
النظر إلى التناص على أنّه عملية إدخال الإحالة المعتادة إلى نصّ آخر؛ بل
إن الأمر على نقيض ذلك، فالاقتباسات والإحالات وغيرها تستحضر إلى النصّ؛
لأن ثمّة هدفاً من وراء استحضارها، "ويمكن فهم الحوافز الدافعة لعلاقات
التناص بالنظر إلى مسائل مثل وظيفة نصّ ما، أو الهدف التواصلي الكلّي له؛
أي إنّ عملية الاستشهاد بشيء من شكسبير، ليست مجرد أخذ الكلمات منه فقط،
فاستخدام أقوال شكسبير يخدم أهدافنا الخاصة بنا، وفي أثناء هذه العملية
لابد أن يكتسب القول قيماً جديدة"
([46]
)
. لذا فإنّ عملية التناص في الاقتباس ليست عملية ترابط للأفكار ببعضها
فحسب، أو إنّها عملية ذاتية واعتباطية؛ بل هي نظام تحديد المغزى (signification
)، يعمل على أساس من المعاني الإيحائية، فهي تتطلب معرفة بالنظام الاجتماعي
لوحدة الإحالة من أجل أن تكون وسيلة فاعلة في عملية تحديد المغزى؛ إذ إنّ
كلّ عملية اقتباس في نصّ ما؛ هي تتويج لعملية تسافر عبرها العلامة (sign
) من النصّ المصدر، إلى النصّ الهدف، والمساحة التي تسافر عبرها العلامة من
نصّ إلى آخر هي ما يسمى بمساحة التناص؛ إذ في هذه المساحة يحدث التعديل
على القيم الدلالية المرتبطة بعلامة ما، فالقيمة الدلالية للاقتباس في
المصدر تخضع لجملة من التحولات، لأجل أن تتكيف مع الوسط الجديد، وفي أثناء
ذلك توثر فيه([47]
)
.
من هذا التقديم اليسير لمفهوم التناص نلج إلى معرفة هذا المعيار من
معايير النصّية في قصائد السيّاب، الذي أغنى شعره -بشهادة نقاد شعره-
بالكثير الكثير من التناصات، ومن ثقافات مختلفة، تعرف عليها بفضل تكوينه
الثقافي في وسطه الأكاديمي، فضلاً عن اطلاعه الواسع على تجارب الأمم الأخرى
عبر الترجمات التي قام بها هو نفسه، أو تلك التي قام بها آخرون واطلع
عليها، ولعل أثر الأدب الانكليزي الذي تعرف عليه عند دراسته اللغة
الانكليزية بعد انتقاله في المرحلة الثالثة إلى قسم اللغة الانكليزية في
دار المعلمين العالية، هو ما دفع نتاج الشاعر إلى أن يتجه إلى تضمين شعره
بالرموز الكثيرة التي صارت سمة يعرف بها السيّاب وشعره، ولاسيّما ما قيل عن
تأثره بشعر إديث سيتويل، و ت.س إليوت، وشيلي وآخرين([48]
)
.
وقبل الحديث عن مظاهر التناص في شعر السيّاب، نود الإشارة هنا إلى ما
أشاعه الكثير من نقاد السيّاب من تناص الكثير من قصائده، ولاسيّما تلك
الذائعة منها، مع قصائد لشعراء غربيين، وآخرين شرقيين، ولاسيّما قصيدته
(أنشودة المطر)، التي كثر الحديث عن تناصها من حيث المعنى والأسلوب، مع
قصائد الشاعرة الإنكليزية إديث سيتويل، فقد أشار د. إحسان عباس إلى تطابق
بنية القصيدة وموضوعها مع قصيدة (أمطار نيسان)، إذ يرى د. إحسان عباس أنّ
السيّاب كان متأثراً بالقصيدة، وأنّه جرى على منوال الشاعرة في استحضار
رموز المطر. فيما يخلص د. عبد الواحد لؤلؤة بعد موازنة أجراها بين القصيدة
وقصيدتين من قصائد سيتويل، هما (أنشودة الوردة) و(ما زال يهطل المطر)، إلى
أن قصيدة السيّاب هذه مستوحاة من القصيدتين، وأن عنوانها استقاه من
عنوانيهما؛ فقد أخذ من الأولى كلمة "أنشودة"، ومن الثانية كلمة "مطر"، ثمّ
جمعها في عنوان واحد (أنشودة المطر)، أمَّا ما عدا ذلك، فإنّ السيّاب كرر
كلمة "مطر" في قصيدته، اثنتي عشرة مرة، مثلما كررت سيتويل عبارة (ما زال
يهطل المطر) ست مرات، في مطلع كلّ مقطع من مقاطعها الستة. ثمَّ يضيف
الدكتور لؤلؤة معلقاً: "يكاد يكون هذا كلّ ما أخذه السيّاب عن سيتويل".
ويعلق د. خالد علي مصطفى على الموازنة التي أجراها الدكتور عبد الواحد لؤلؤة بأنّها "أمر
مسوغ لتواتر الأدلة الألسنية المشتركة بين (أنشودة المطر) وبعض شعر
سيتويل، فإنّ النتيجة التي خلص إليها تشير، من جانب آخر، إلى أن مثل هذا
التأثير عارض، لم يَحُل دون أن تسير كلّ قصيدة منهما في (الاتجاه المعاكس)
الذي تسير به الأخرى"
([49]
)
.
ويرى د. خالد علي مصطفى أن السيّاب تأثر بقصائد من الشعر الصيني كان
قد ضمنها الشاعر الأميركي عزرا باوند مختاراته التي قام بترجمتها السيّاب
في العام 1955، وصدرت بعنوان (قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث)،
ويتساءل الناقد "هل تركت هذه القصائد الصينية، التي ترجمها عزرا باوند
إلى الإنكليزية، أثراً في شعر السيّاب، مهما كان ضئيلاً، لكي نثبتُ، أو
ننفي، أن موهبته قد تغذت حقاً بهذا المصدر الجديد؟ وإذا ذهبنا إلى أن
التأثير والتأثر في الأدب المقارن يمكن أن يُدرس في باب (التَناص)؛ فما
الطرق التناصية التي استعملها؟ هل أدت إلى إثراء النصّ، أم هل أدّت إلى
إفقاره؟"
([50]
)
.
ثمّ يشير الناقد -بعد أن يقيم موازنة بين مقاطع من الشعر الصيني الذي
جاء في مختارات باوند، وما يشابهها في شعر السيّاب- إلى أن في بعض شعر
السيّاب، وفي قصيدة أنشودة المطر تحديداً، أوجهاً من الشبه مع المعاني
التعبيرية التي تحملها قصائد الشعر الصيني، وكذلك في أسلوب التكرار الذي
تنماز به هذه القصائد (السيّابية والصينية على حدٍ سواء)، ليخلص في النتيجة
إلى صيغة توافقية غير جازمة مفادها أنّ القاسم المشترك بين شعر السيّاب
والشعر الصيني قائم على وحدة الموضوع؛ وتشابه الصور، وأنّه لايمكن لأحد أن
يجزم أن السيّاب كان متعمداً، أو على وعي تام بما تضمّنته (أنشودة المطر)
من تأثيرات؛ فالسيّاب لا يخفي مؤثراته، فهو يشير دائماً في هوامش قصائده،
إلى ما يستعيره من الآخرين، سواء أ في استخدام الأساطير، كلاً أو جزءاً، أم
في تضميناته، نصّاً أو تحويراً([51]
)
.
والإشارة الأخرى نجدها عند ياسين النصير الذي يجد بعض الشبه بين
قصيدة السيّاب (حفّار القبور) التي كتبت في أوائل الخمسينيات، وقصيدة برشت
(الأم الشجاعة) التي كتبت في العام 1938، و يرى أن ثمّة نقاط التقاء فكرية
بين الاغتراب الذي تعاني منه شخصيتا القصيدتين؛ فهذا الاغتراب واحد "يطرح
مشكلات واحدة على الرغم من اختلاف الأساليب، وما الأبناء الصم للأم
الشجاعة ليس إلا المرأة المومس والأب وعمته العمياء عند الحفّار"
([52]
)
. أو أن التشابه في طرائق كسب معيشة كلّ من الشخصيتين- فالأم الشجاعة تعتاش
على بيع الخبز و المؤونة إلى الجنود المتحاربين، فاستمرار الحرب تعني لها
استمراراً في كسب معيشتها، وكذلك حفّار القبور الذي يعني له موت الآخرين
استمراراً بالحياة- هو ما يدعو إلى التفكير في وجود تناص في قصيدة السيّاب
الذي قرأ الشعر العالمي، وترجم منه قصائد عدة في مختاراته من الشعر العالمي
الحديث، إلا أن النصير لايجزم أيضاً بوجود تناص أو تأثر في قصيدة السيّاب،
وإن كان لايستبعده([53]
)
.
ولو تجاوزنا ما قيل عن المؤثرات الأجنبية في شعر السيّاب، ونظرنا في
حالات التناص التي ضمتها قصائد السيّاب التي اخترناها مادة للتطبيق، لوجدنا
أن هذه القصائد حفلت بكثير من حالات التناص، ولاسيّما قصيدة المومس
العمياء، التي فاقت سواها من قصائد السيّاب في عدد حالات التناص. والملاحظ
أن أغلب حالات التناص التي وجدناها في هذه القصائد هي من التناص
الإشاري-بحسب تصنيف د. أحمد حلبي-، الذي يقصد به أن يستحضر الشاعر نصّاً،
أياً كان مصدره أو نوعه، سواء أكان قصيدة شعرية، أم نصّاً نثرياً، أم
أسطورة، أم حادثة تاريخية معينة، أم نصّاً من التراث الشعبي أو الصوفي،...
من طريق الإشارة المركزة، بحيث تغدو هذه الإشارة، بمثابة الاستحضار الكامل
لتلك النصوص، من دون أن يكون هنالك حضور لفظي كامل، أو جزئي لها في النصوص
اللاحقة، وغالباً ما يعتمد هذا النوع من التناص على لفظة واحدة أو اثنتين.
ويتميز هذا النوع من التناص، بقدرة كبيرة على التكثيف والإيجاز، مع الدقة
في التعبير، إذ تثير المفردة المستحضرة وجدان المتلقّي ومشاعره، وتنقله إلى
أجواء النصّ المستحضر بسرعة فائقة، وبأقل قدر ممكن من الكلمات([54]
)
.
ويمكن تقسيم التناصات في قصائد السيّاب على ثلاثة أنواع؛ نوع منها
يستحضر نصوصاً دينية، وثان يستحضر نصوصاً أسطورية، وآخر يستدعي نصوصاً
ثقافية مرتبطة بثقافة الشاعر البيئية، أو تلك التي اكتسبها بالتعلم
والاطلاع على الثقافات الأخرى، وقد عمل الشاعر على تمثّل هذه النصوص في
شعره فاستعملها رموزاً يعبر بها عن حالة شديدة الصلة بالحاضر، فإنّها
وبوصفها فكراً وعطاءً إنسانياً، قابلة للتحول وملامسة الواقع المعاصر،
فتكون شهادة على حالة واقعة في زمن الشاعر، مثلما كانت شهادة لما وضعت له
في زمنها، أو لعل منتج النصّ في لجوئه إلى النصوص القديمة محاولا إعادتها
إلى الحياة، يروم الاختباء خلفها، ليبوح بمكنوناته عبر أحداثها وشخوصها،
ذلك البوح الذي لايقوى على إظهاره خشية من سطوة الخوف([55]
)
.
3-3-1 صور التناص مع النصّ الديني
التناص مع النصوص الدينية جاء في قصائد السيّاب على أشكال عدّة؛ فمنه
ما جاء إشارة لشخصيات دينية، ومنه ما كان إشارة إلى ألفاظ تحيل على نصوص
دينية، أو حوادث تحدثت عنها تلك النصوص. أولى هذه الإشارات كانت تومئ إلى
شخصية قابيل التي أصبحت رمزاً في شعر السيّاب لجريمة الإنسان الأولى بحق
أخيه الإنسان([56]
)
، واستمرت مع نسله عبر العصور، إذ مازال قابيل يمارس جريمته في كلّ حين، و
في كلّ مكان يحل فيه؛ فنجد في قصيدته (المومس العمياء)، أنّه استدعى النصّ
الديني، (قصة قابيل القاتل وحيرته في دفن أخيه)، في الأبيات الآتية:
ليتحدث عن الجرائم التي يتعرض لها الإنسان من قتل وانسحاق تحت وطأة
الظروف القاسية التي تدفعه في كثير من الأحيان إلى الذل والامتهان، فقابيل
هو الإنسان القاتل، سواء أكان طاغيةً متسلطاً على الرقاب، أم غازياً وطئ
بحذائه الثقيل رؤوس أبناء البلد، قبل وطئه ترابه.
وقابيل الفقر، قاتل الكرامة البشرية، قابيل هذا هو من ألقى بالمرأة
إلى أحضان الرذيلة، لتختبئ خلف جدران المباغي، تملأ جوفها من الخطيئة؛ فهو
الذي قتل أباها، وهو الذي استباح عرضها، وهو الذي يطاردها ليقتلها قصاصاً
على جريمة كانت هي الضحية فيها.
قابيل هذا هو الشرّ في نفوس البشر، وهو النصف الشرّير منا، وهكذا هي
الثنائية التي حكمت نفوس البشر منذ الخليقة الأولى حتى آخر وجود للبشر على
وجه الأرض، فقابيل هذا هو من ينازعه حفّار القبور، حين تضطرم الرغبة في
القتل في نفسه، هذه الحال جعلت السيّاب يستدعي نصّ قابيل، ليكون رمزاً
للنصف الشرّير من شخصية (حفّار القبور)، فنراه كمن يحذّر من طغيان هذا
الجانب من شخصيته بسبب الجوع والانتظار:
ليقرّر حقيقة أن نوازع الشرّ الموجودة في نفس الإنسان، باقية فيه منذ
الإنسان الأوّل، وتتكرّر صورها مادامت نوازع الحقد والغيرة تطغى على مشاعر
الإنسان، ولاسيّما حين تكون الغلبة لجانب الشرّ، على جانب الخير فيه،
ومادامت البواعث لاستثارة جانب الشرّ هذا موجودة، حيث الظلم والقهر
والتسلّط والاضطهاد والفقر، هو ما يسود العالم، وتنسحق تحته ملايين البشر
من المحرومين والجياع في العالم([57]
)
.
ومن التناص الوارد في قصيدة (المومس العمياء)، قصة خروج آدم (ع) من
الجنة، بعد أن أغواه الشيطان، فأكل من الثمر المحرّم، الواردة في الآيات
الكريمة من قوله تعالى: >
وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (19)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ
عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ
الْخَالِدِينَ (20)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
<
([58]
)
.
وقد استدعى السيّاب هذا النصّ القرآني ليوظّفه في نصّه الآتي:
اللواتي ساعدنهم على ارتكاب الخطيئة، هنّ حواء التي أقنعت آدم بأكل ثمر
الشجرة المحرّمة، وظلم الطغاة، وقهر الحياة، وسطوة الذلّ والفقر هم
الحيّة/الشيطان، الذي دفعه إلى ارتكاب المعصية التي استحق عليها اللعنة،
والخروج من النعيم الأبدي، إلى جحيم الذلّ والعوز.
والتناص الآخر نجده في قصيدة (المومس العمياء) أيضاً، مع قصة (يأجوج
ومأجوج)، والسور الذي بناه ذو القرنين، ليحمي القوم الذين استنجدوا به من
يأجوج ومأجوج، فاستعان الشاعر بهذه القصة التي وردت في الموروث الديني([59]
)
، في الأبيات الآتية:
الحاجز الذي بناه النظام الاجتماعي، وبقاؤه بقاء للأعراف والقوانين
الاجتماعية التي نبذتها، لتلوذ خائفة مضطرة خلف هذا السور، الذي صار
أغلالاً ترسف بها، ولا خلاص لها منه إلاّ بهدمه، لكن هيهات؛ فالسور الذي
بناه ذو القرنين هدمه بعد ألف عام طفل وهبه الله معرفة السر الكامن في قول
-إن شاء الله-([60]
)
، إلا أن سورها باق من قبل يأجوج، والطفل الذي تنتظره للخلاص شاخ، ولمّا يستطع هدم سورها العتيد.
ومن التناص مع الموروث الديني ما جاء في الأبيات الآتية من قصيدة (حفّار القبور):
52.
وهز حفّار القبور
السياسية التي كتب في ظلّها النصّ، أجواء التوتر الناجم عن الحرب الباردة
الأولى (1947-1953)، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وما تلتها من
توترات وأحداث دموية تمثّلت في الصراع في ألمانيا الذي انتهى، بتقسيمها،
إلى شطرين شرقي وغربي، والصراع في فيتنام، الذي أعقب خروج اليابانيين عنها
بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، وعودة المستعمر الفرنسي الذي لاقى
مقاومة عنيفة من الثوار -الذين استغلوا خروج اليابانيين واستعادوا نصف
الأرض الفيتنامية- انتهت بخروج الفرنسيين منهزمين بعد معركة (ديان بيان
فوسيه) الرهيبة، وتوقيع اتفاق جنيف (1954) بين فرنسا وفيتنام، الذي كان من
نتائجه تقسيم فيتنام إلى شطرين؛ شمالي شيوعي موالي للصين وروسيا، وجنوبي
تدعمه الولايات المتحدة، إذ بقي الصراع مستعراً فيها حتى توحيدها بالقوة في
العام 1975، بعد عامين من خروج الجيش الأميركي من الأراضي الجنوبية
الفيتنامية. ثمّ الصراع في كوريا التي كانت بدورها مسرحاً للصراع بين
الدولتين العظميين، إذ تقاسمتا النفوذ عليها منذ الحرب العالمية الثانية،
حتى إعلان روسيا انسحابها من الجزء الشمالي في العام 1948، مطالبة الولايات
المتحدة بالانسحاب من الجزء الجنوبي الكوري، واستجابت الولايات المتحدة
فانسحبت، الأمر الذي دفع الكوريين الشماليين الأكثر تسليحاً، فانتهزوا هذه
الفرصة ليطلقوا العنان لقواتهم في 1950 ليشنوا حرباً ضروساً على شقيقتهم
الجنوبية، وحينها بدأت الأزمة الكورية التي تحولت في ظلّ الحرب الباردة إلى
أزمة دولية، ظلّت نيران حربها مستعرة ثلاث سنوات.
هذه الأجواء المتوترة ألقت بظلالها القاتمة على شعوب العالم بأسره،
وهم لما يزالوا يستطعمون في أفواههم مرارة الآثار الكارثية للحرب الكونية
الثانية، وكان الأكثر استشعاراً بفداحة هذه الحروب هم الشعوب الفقيرة في
العالم الثالث، ولاسيّما الشعب العربي الذي ناله الأذى من السياسات
الاستعمارية جراء تصاعد الكفاح المسلح الداعي إلى التحرير من ربقة
الاستعمار، فكانت الجرائم التي ارتكبها المستعمرون في بلاد المغرب العربي،
وفي المشرق، حيث مأساة الشعب الفلسطيني، والجرائم التي ارتكبت بحقه،
والأجواء المتوترة التي أعقبت ثورة تموز/يوليو 1952 في مصر، التي انتهت
بالعدوان الثلاثي عليها، والأحداث التي جرت في إيران في أعقاب انقلاب مصدق
في العام 1952، ومن ثمّ عودة الشاه بمعاونة القوات الأميركية([29]
)
.
في ظلّ هذا السياق الدرامي للأحداث، أخرج السيّاب نصّه هذا ليصرخ في
وجوه مشعلي الحروب أن يجنبوا الأبرياء ويلات حروبهم، ولاسيّما الأطفال الذي
كانوا الأكثر تعرضاً للقتل والفناء لأنّهم عزّل صغار. هذا السياق فرض على
النصّ لحظته الآنية، فالزمن في القصيدة يشير إلى حالة راهنة جسدتها كثرة
الأفعال المضارعة التي يشير الزمن في الأعم الأغلب منها على الحاضر،
والقليل منها الذي أومأ إلى المستقبل، أشار إلى مستقبل قريب متصل بالحاضر،
وهو ما تشير إليه الأبيات الآتية:
116.
لمن كلُّ هذا الحديد؟
117.
لقيدٍ سيُلوى على معصمٍ،
118.
ونصلٍ على حلمةٍ أو وريد،
119.
وقفلٍ على البابِ دونَ
العبيد،
120.
وناعورةٍ لاغترافِ الدمِ
إذ إنّ سرعان ما يتحول هذا الحديد إلى قيود تكبل الأحرار، وشظايا تقطع
أوصال الرجال والنساء، أو قفل على أبواب سجونٍ غيبت في غياهبها الحرية.
والبقية الباقية من الأفعال؛ هي أفعال ماضية، إلا أن دلالتها الزمنية
لاتوحي بماضٍ بعيد؛ بل بماضٍ قريب يتصل بالحاضر في استمرارية للحدث
الكلامي، تتجلى في تناوب الأفعال الماضية والمضارعة في صورة الحدث، ومنها
الصورة التي تتحدث فيها الأبيات الآتية عن عودة الأب بعد شقاء النهار، وقد
تلقّاه طفله الصغير فأزاحت ضحكته عن أبيه العناء:
- 30.
وكم من أبٍ آيبٍ في
المساءْ
- 31.
إلى الدارِ من سعيهِ
الباكرِ، - 32.
وقد زمَّ من ناظريهِ
العناءْ
- 33.
وغشّاهما بالدمِ الخاثرِ؛
- 34.
تلقّاهُ، في البابِ طفلٌ
شرودْ
- 35.
يكركرُ بالضحكةِ الصافيه
،
- 36.
فتنهلَّ سمحاءُ ملءَ
الوجودْ،
- 37.
وتزرعُ آفاقهُ الداجيه
- 38.
نجوماً وتنسيهِ عبءَ
القيودْ
المضارعة (يكركر، تنهل، تزرع، تنسيه) استمرارية في الحدث، وتواصلاً
زمانياً، لا يشعر بالانقطاع.
والذي يلاحظ في الزمن الذي تتحدث عنه الأبيات الأخيرة من القصيدة،
أنّه تجاوز دلالة الأفعال فيه، إذ بعد مجموعة أبيات المقطع السابع من
القصيدة، التي عبر بها الشاعر عن أمنياته بالخلاص من الطغاة والدعوة
بالسلام على العالم، يعبر في المقطع الأخير عن حلم اليقظة، وكأن أمنيات
الخلاص التي يحلم بها قد تحقّقت بهتك مكمن الطاغية، فاستعمل الفعل
الماضي(هتكنا)، لأمر لما يتمّ، ثمّ انتقل من الماضي إلى المستقبل بالمضارع
المسبوق بسين الاستقبال (سترقى)، ثمّ عاش لحظة المستقبل تلك بالأفعال
المضارعة الدالة في زمنها على حاضر(تدور، نرقى)، لكنه ليس حاضر الشاعر أو
النصّ؛ ولكنه حاضر مفترض خلقته أمنيات الشاعر.
أمّا السياق المكاني الذي يتحدث عنه النصّ، فهو سياق مفتوح لا يقف
عند حدود معينة، فقد أشرنا إلى أن الشاعر تجاوز في هذه القصيدة حدوده
المحلية الضيقة، إلى الهمّ الإنساني المشترك، إذ بدأ الشاعر بالعراق بلده
الذي يتمنى له الخلاص من الطغاة، لتعود البيادر في السهول، ويعود الصبية
يمرحون، ويعود همس الطواحين، وتعود البشائر يحملها ساعي البريد، ثمّ ينتقل
إلى أصقاع الأرض الأخرى ينثر أمانيه بخلاص الأبرياء من شرور الطغاة
والحروب؛ فمن مشرق في أقاصي آسيا، إلى بلاد العرب من مغربها إلى مشرقها،
عبوراً إلى أوروبا.
والسياق الآخر الذي يظهر جلياً في النصّ هو السياق الثقافي؛ إذ يبدو
أثر العقيدة الآيديولوجية للشاعر واضحاً، فالشاعر -وقد أشرنا إلى ذلك آنفا-
كان ينتمي في تلك الحقبة إلى الحزب الشيوعي، الذي تدعو أفكاره إلى تجاوز
الانتماءات المحلية والقومية، والدعوة إلى الأممية، ومن هنا كانت مناصرتهم
لكلّ الحركات الثورية، والتحررية على اختلاف أوطانها وقومياتها، فجاءت هذه
القصيدة لتعبر عن هذه الثقافة الآيديولوجية التي كان قد آمن بها الشاعر،
وتتجلى في دعوته بالسلام إلى الصين التي انتصر بها الشيوعيون ، ورفرف علم
الثورة الأحمر على أقاصيها؛ وهو ما عبرت عنه الأبيات الآتية:
- 342.
سلام على الصين والحاصدين - 343.
وصياد أسماكها الأسمر، - 344.
وما أنبتت من دم الثائرين - 345.
وما افتر من البيرق الأحمر؛ - 346.
على صبية في قراها البعاد - 347.
وفي ظلّ تفاحها المزهر
انحياز الشاعر إلى طائفة الشعراء؛ إذ حاول الشاعر بثقافته أن يقول إن الوجه
الكالح للاستعمارين الفرنسي والبريطاني، العالق في الذاكرة الجمعية
لمجتمعاتنا العربية التي عانت من ظلمهما، يخفي خلفه إرثاً من الجمال،
متمثّلاً بالشعر الذي عبر عنه الشاعر بالسلام على نهر (أفون)، ذلك النهر
الذي يشق مدينة ستراتفورد؛ المدينة التي ولد فيها الشاعر الانكليزي الكبير
وليم شكسبير. وبالسلام على باريس روبسبير، الذي كان أحد قادة الثورة
الفرنسية التي أطاحت بالملكية، والشاعر الثائر بول إيلوار، شاعر المقاومة
الفرنسية، إبان الحرب العالمية الثانية بعد احتلال الألمان لفرنسا، واستمر
بعد انتهاء الحرب مقاوماً للسياسة الاستعمارية لبلده([30]
)
.
وهكذا تتبدى لنا أهمية سياق المقام في تحديد البعد التداولي للنصّ؛
فرأينا كيف أثرت السياقات المحيطة -سواء أ الثقافية منها، أم الاجتماعية،
أم السياسية، أم النفسية- في فهمنا للنصّ، الذي أعانتنا عليه معرفتنا
المسبقة بعالم النصّ، وتحقيق الخاصّية النصّية من طريق ترابط النصّ مع
الأحداث المحيطة به، ومن ثمّ تحقّق عملية التواصل بتماسك أجزاء النصّ
اللغوية، فيما بينها دلالياً، بفضل المعلومات التي يقدمها النصّ.
3-2 التداخل النصّي (التناص Intertextuality
)([31]
)
التناص أحدى الخاصّيات المكونة للنصّ، التي تحيل على مجموع العلاقات
الصريحة أو الضمنية التي تربط النصّ بالنصوص الأخرى، من حيث المعنى الأول؛
فبوساطة هذه الخصيصة نتمكن من ربط بعض النصوص ببعضها الآخر، وإدراك النصوص
بوصفها علامات تعمل على إرجاعنا إلى مجالات كاملة من خبراتنا السابقة في
النصوص. وهي التي من طريقها تنماز النصوص من حيث اعتمادها على نصوص أخرى
ذات صلة وقعت في حدود تجربة سابقة، وما تنطوي عليه هذه الصلة أكثر من مجرد
عملية لإيحاءات النصّ([32]
)
.
والتناص ظاهرة نصّية عامة لايخلو منها أي جنس أدبي، سواء أكان قديماً
أم حديثاً، ويمثل عملية إثراء وإغناء للنصوص، وهو أيضاً عملية تحرر
وانعتاق منشئ النصّ من قيود الثقافة الواحدة، ومن قيود الزمان والمكان؛
فالنصّ لايمكن إلاّ أن يكون متعدداً، لأن قراءات الكاتب/المتكلّم السابقة
وثقافته المكتسبة تنعكس عن وعي منه، أو من غير وعي أحياناً، فتأتي مزيجاً
من آراء وتعبيرات مختلفة، فالنصّ مهما جاهد منشئه أن يجعله جديداً، تبقى
فيه إشارات إلى المشترك العام من ثقافة المحيط المجتمعي وأساليبه، وتظهر
فيه إسقاطات من ثقافات أخرى تعرف عليها منشئ النصّ من طريق خبرات سابقة([33]
)
.
ويعود مفهوم التناص تاريخيا إلى دراسات الأدب المقارن، فهو واحد من
المفاتيح الإجرائية لفهم الأدب المقارن ورصد عملية التلاقح بين الثقافات
الإنسانية، والحوار بين الحضارات، في شتى المجالات الفكرية والفنية
والأدبية، فقد استعمل الباحثون في الأدب المقارن هذا المفهوم، تحت عنوان
علاقة التأثير والتأثر، بوصفه أداة تحليلية، لإيجاد السمات المشتركة بين
نصوص الثقافات المختلفة، وكيفية استقبالها وفهمها([34]
)
. و يرى غريماس وكورتيس أن مفهوم التناص نال أهميته الكبيرة في الغرب بفضل
الإجراءات التي يتضمّنها، والتي تصلح أن تكون وسيلة للتغيير المنهجي لنظرية
التأثير والتأثر التي قامت على أساسها أبحاث الأدب المقارن، وأن هذا
المفهوم يقدم فهماً أفضل لعملية الإبداع الأدبي؛ إذ لم يعد الإبداع الأدبي
مرتبطاً برؤية المبدع نفسه؛ وإنما انطلاقاً من الأعمال الأدبية، وهو ما
يمنح إمكانية فهم أسلم لظاهرة التناص([35]
)
.
والتناص من المفاهيم النقدية التي عنت بها الشعرية الغربية، وما بعد
البنيوية والسيميائيات النصّية؛ لما له من فعالية إجرائية في تفكيك النصّ
وتركيبه، والتغلغل في أعماق النصّ الإبداعية. وقد عرف النقاد العرب
الأقدمون ممارسة هذا المصطلح النقدي تحت مسميات عدة مثل: السرقات الشعرية،
والتضمين، والنحل، والانتحال، والأخذ، والتأثر، والإتباع([36]
)
. ويدل التناص كذلك على أنّ النصّ الأدبي خلاصة التفاعلات بين نصّ ما ونصوص
سابقة على المستويين؛ الدلالي والبنيوي، وهو أيضا مجموعة من الأصوات
والإحالات التي تنصهر في النصّ الأدبي بطريقة واعية. وتشير فاعلية التناص
إلى صعوبة الحديث عن إبداع أصيل خالص للمبدع، أو عن النصّ؛ فالنصوص
الإبداعية هي امتصاص ومحاكاة للنصوص السابقة، وتفاعل معها عبر عمليات
الحوار والنقد، وخلق الأساليب، والمحاكاة، والتهكم، والسخرية، والحوارية([37]
)
. أو -بحسب تعبير تودوروف- لم يعد بعد آدم في هذا العالم أشياء بلا أسماء،
أو أية كلمات غير مستعملة، فالخطابات تقيم بقصد أو من غير قصد حواراً مع
الخطابات السابقة لها، تلك الخطابات التي تشترك معها في الموضوع نفسه،
وتقيم أيضاً حوارات مع الخطابات التي ستأتي، والتي سيتنبأ بها، ويحدس ردود
أفعالها([38]
)
.
والاستعمال الأولي لمفهوم التناص في النقد الحديث يحيلنا على المناهج
اللسانية في النقد الأدبي، ولاسيّما عند الشكلانيين الروس، ولاسيّما عند
ميخائيل باختين الذي أطلق عليه الحوارية (Dialogism
)، أي طرائق تحاور النصوص فيما بينها، وصيغ العلاقات التي تتكون بينها؛ إذ
يرى باختين أن الكلمات التي نستعملها هي دائماً مسكونة بأصوات أخرى،
فالحوارية تنتج حين يدخل فعلان لفظيان "في نوع خاص من العلاقات الدلالية
ندعوها نحن علاقة حوارية. والعلاقات الحوارية هي علاقات (دلالية) بين جميع
التعبيرات التي تقع ضمن دائرة التواصل اللفظي"
([39]
)
.
ويشير باختين إلى أن التناص ينتمي إلى عالم الخطاب، لا إلى اللغة، إذ
ليست بالضرورة كلّ التعبيرات اللغوية بينها علاقات تناصية، لذا يجب إبعاد
العلاقات المنطقية (النفي، الاستنتاج...وغيرها) من دائرة الحوارية، وإن
العلاقات اللغوية الشكلية (الإحالة النحوية، وعلاقات التوازي بين الألفاظ)
لا تشتمل على التناص إلا في القليل منها؛ فالعلاقات الحوارية عميقة "ولا
يمكن اختزالها إلى علاقات من نمط منطقي أو لغوي أو نفسي أو آلي، أو أي نوع
من العلاقات الطبيعية. إنّها نمط استثنائي وخاص من العلاقات الدلالية التي
ينبغي أن تتألّف أجزاؤها من تعبيرات برمتها (أو تعبيرات تعد تامة أو
تتضمّن احتمال كونها تامة)، يقف خلفها (ويعبرون عن أنفسهم) فاعلون متكلّمون
حقيقيون، أو فاعلون متكلّمون محتملون، مؤلّفو التعبيرات موضوع الكلام"
([40]
)
.
هذا المفهوم أخذ مداه في التطور في ستينيات القرن الماضي على يد جوليا كريستيفا، وجماعة تيل-كيل([41]
)
، الذين عنوا بدراسة تفاعلات التناص، والتداخل الحواري في النصّ الأدبي،
وهو ما تشير إليه أبحاث جوليا كريستيفا، وغريماس، ورولان بارت، وتودوروف،
وجيرار جنيت، وغيرهم من الباحثين الذين درسوا العلاقات بين النصّ والنصوص
ذات العلاقة به. ونالت الرواية من بين الأجناس الأدبية حظها الكبير من هذا
الدرس، فقد عمد باختين إلى دراسة أعمال دستوفسكي الروائية، وصبت كريستيفا
جلّ اهتمامها في تعقب سيميائية الخطاب الروائي في كتابها (أبحاث في التحليل
الدلالي)، الذي خصصته لدراسة أعمال باختين([42]
)
.
شيوع هذا المصطلح في دراسات النقد الأدبي، قابله ظهور المصطلح في
بحوث لسانيات النصّ، ولاسيّما في أبحاث دي بوجراند ودرسلر، اللذين جعلاه
أحد معايير النصّية، وحدّدا موضوعه بالعوامل التي تجعل استغلال أحد النصوص
معتمداً على معرفة نصّ سابق، أو أكثر من النصوص التي تعرّف عليها مستقبل
النصّ في الماضي، وعدّا التناص مسؤولاً عن تطوّر أنواع النصوص بوصفها فئات
نصوص ذات أشكال نمطية من الخصائص، "وقد يكون الاعتماد في هذا النوع أو
ذاك على التناص، كبيراً أو صغيراً. ففي نصوص مثل المحاكاة الساخرة، أو
المراجعات النقدية، أو المرافعات القضائية، أو التقارير، يستلزم الأمر أن
يستعين المنتج بنصوص سابقة استعانة مستمرة، وكذلك يحتاج مستقبلو النصّ في
العادة إلى قدر من الألفة مع نصوص سابقة"
([43]
)
.
ويتفق الباحثان على أنّ النصوص الأدبية يسود فيها التناص أكثر من
غيرها؛ ذلك أن النصّ الأدبي هو نصّ يرتبط عالمه بعلاقة بدلية مع الصورة
المقبولة للعالم الواقعي، والقصد من وراء هذه البدلية تزويد المتلقّي بدافع
لاستجلاء التفكير بتنظيم العالم الواقعي، ليس بصفته شيئاً معطى موضوعياً؛
بل بوصفه شيئاً ناشئاً عن التفاعل و المعرفة الاجتماعية. وتأتي بالمنزلة
الثانية النصوص التعليمية؛ التي يقصد منها زيادة المعرفة عن العالم الواقعي
المقبول وتوسيعها. وتحقّق النصوص هذه الغاية من طريق استكشاف أو توسيع أو
توضيح ما يختزنه المجتمع من معرفة في مجال ما من مجالات الحقيقة، ويكون ذلك
بعرض الأدلة المستقاة من المشاهدات أو الوثائق أو من اختبار تلك الأدلّة.
فيما يوجد التناص سائداً بقدر أقل من المتوسط في المحادثة التي يقوم
تنظيمها على القصدية والموقفية؛ غير أنّ هذين العاملين لايقدّمان وصفاً
كاملاً لظاهرة التناص؛ إذ من الضروري أن يكون النصّ ذا صلة بغيره من النصوص
في الخطاب نفسه، وأن لا يقتصر الأمر على مقاصد المشاركين، وسياق المقام
فحسب. ويجب أن يجري اختيار الموضوعات الأساسية وتطويرها وتحويلها([44]
)
.
ويجعل الباحثان الطرائق التي يستعملها الناس في الانتفاع بالنصوص
المشهورة أو في الإحالة عليها - أي الاستشهاد بالنصوص- جزءاً من التناص؛ إذ
بوسع منتج النصّ أن يستشهد بأيّ نصّ سابق متيسر، لإغناء النصّ، وتقريب
المعنى المراد إيصاله إلى المتلقّي، وتعدّ النصوص المشهورة، من الناحية
العملية، أكثر مناسبة وملاءمة، ويعود هذا إلى سهولة تيسر وصول جمهور
المستقبلين إليها، فيما إذا كان التباعد الزمني بين النصّ الأصلي، والنصّ
اللاحق كبيراً يكون مستوى التناص أكبر، بفضل تراكم الخبرة التي يمنحها
التباعد الزمني للنصّ الأول([45]
)
.
ويرى باسل حاتم وإيان ميسون أن من الخطأ عدّ التناص مجرد عملية
ميكانيكية؛ فالنصّ ليس مزيجاً من أجزاء اقتطعت من نصوص أخرى فحسب، ولايجب
النظر إلى التناص على أنّه عملية إدخال الإحالة المعتادة إلى نصّ آخر؛ بل
إن الأمر على نقيض ذلك، فالاقتباسات والإحالات وغيرها تستحضر إلى النصّ؛
لأن ثمّة هدفاً من وراء استحضارها، "ويمكن فهم الحوافز الدافعة لعلاقات
التناص بالنظر إلى مسائل مثل وظيفة نصّ ما، أو الهدف التواصلي الكلّي له؛
أي إنّ عملية الاستشهاد بشيء من شكسبير، ليست مجرد أخذ الكلمات منه فقط،
فاستخدام أقوال شكسبير يخدم أهدافنا الخاصة بنا، وفي أثناء هذه العملية
لابد أن يكتسب القول قيماً جديدة"
([46]
)
. لذا فإنّ عملية التناص في الاقتباس ليست عملية ترابط للأفكار ببعضها
فحسب، أو إنّها عملية ذاتية واعتباطية؛ بل هي نظام تحديد المغزى (signification
)، يعمل على أساس من المعاني الإيحائية، فهي تتطلب معرفة بالنظام الاجتماعي
لوحدة الإحالة من أجل أن تكون وسيلة فاعلة في عملية تحديد المغزى؛ إذ إنّ
كلّ عملية اقتباس في نصّ ما؛ هي تتويج لعملية تسافر عبرها العلامة (sign
) من النصّ المصدر، إلى النصّ الهدف، والمساحة التي تسافر عبرها العلامة من
نصّ إلى آخر هي ما يسمى بمساحة التناص؛ إذ في هذه المساحة يحدث التعديل
على القيم الدلالية المرتبطة بعلامة ما، فالقيمة الدلالية للاقتباس في
المصدر تخضع لجملة من التحولات، لأجل أن تتكيف مع الوسط الجديد، وفي أثناء
ذلك توثر فيه([47]
)
.
من هذا التقديم اليسير لمفهوم التناص نلج إلى معرفة هذا المعيار من
معايير النصّية في قصائد السيّاب، الذي أغنى شعره -بشهادة نقاد شعره-
بالكثير الكثير من التناصات، ومن ثقافات مختلفة، تعرف عليها بفضل تكوينه
الثقافي في وسطه الأكاديمي، فضلاً عن اطلاعه الواسع على تجارب الأمم الأخرى
عبر الترجمات التي قام بها هو نفسه، أو تلك التي قام بها آخرون واطلع
عليها، ولعل أثر الأدب الانكليزي الذي تعرف عليه عند دراسته اللغة
الانكليزية بعد انتقاله في المرحلة الثالثة إلى قسم اللغة الانكليزية في
دار المعلمين العالية، هو ما دفع نتاج الشاعر إلى أن يتجه إلى تضمين شعره
بالرموز الكثيرة التي صارت سمة يعرف بها السيّاب وشعره، ولاسيّما ما قيل عن
تأثره بشعر إديث سيتويل، و ت.س إليوت، وشيلي وآخرين([48]
)
.
وقبل الحديث عن مظاهر التناص في شعر السيّاب، نود الإشارة هنا إلى ما
أشاعه الكثير من نقاد السيّاب من تناص الكثير من قصائده، ولاسيّما تلك
الذائعة منها، مع قصائد لشعراء غربيين، وآخرين شرقيين، ولاسيّما قصيدته
(أنشودة المطر)، التي كثر الحديث عن تناصها من حيث المعنى والأسلوب، مع
قصائد الشاعرة الإنكليزية إديث سيتويل، فقد أشار د. إحسان عباس إلى تطابق
بنية القصيدة وموضوعها مع قصيدة (أمطار نيسان)، إذ يرى د. إحسان عباس أنّ
السيّاب كان متأثراً بالقصيدة، وأنّه جرى على منوال الشاعرة في استحضار
رموز المطر. فيما يخلص د. عبد الواحد لؤلؤة بعد موازنة أجراها بين القصيدة
وقصيدتين من قصائد سيتويل، هما (أنشودة الوردة) و(ما زال يهطل المطر)، إلى
أن قصيدة السيّاب هذه مستوحاة من القصيدتين، وأن عنوانها استقاه من
عنوانيهما؛ فقد أخذ من الأولى كلمة "أنشودة"، ومن الثانية كلمة "مطر"، ثمّ
جمعها في عنوان واحد (أنشودة المطر)، أمَّا ما عدا ذلك، فإنّ السيّاب كرر
كلمة "مطر" في قصيدته، اثنتي عشرة مرة، مثلما كررت سيتويل عبارة (ما زال
يهطل المطر) ست مرات، في مطلع كلّ مقطع من مقاطعها الستة. ثمَّ يضيف
الدكتور لؤلؤة معلقاً: "يكاد يكون هذا كلّ ما أخذه السيّاب عن سيتويل".
ويعلق د. خالد علي مصطفى على الموازنة التي أجراها الدكتور عبد الواحد لؤلؤة بأنّها "أمر
مسوغ لتواتر الأدلة الألسنية المشتركة بين (أنشودة المطر) وبعض شعر
سيتويل، فإنّ النتيجة التي خلص إليها تشير، من جانب آخر، إلى أن مثل هذا
التأثير عارض، لم يَحُل دون أن تسير كلّ قصيدة منهما في (الاتجاه المعاكس)
الذي تسير به الأخرى"
([49]
)
.
ويرى د. خالد علي مصطفى أن السيّاب تأثر بقصائد من الشعر الصيني كان
قد ضمنها الشاعر الأميركي عزرا باوند مختاراته التي قام بترجمتها السيّاب
في العام 1955، وصدرت بعنوان (قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث)،
ويتساءل الناقد "هل تركت هذه القصائد الصينية، التي ترجمها عزرا باوند
إلى الإنكليزية، أثراً في شعر السيّاب، مهما كان ضئيلاً، لكي نثبتُ، أو
ننفي، أن موهبته قد تغذت حقاً بهذا المصدر الجديد؟ وإذا ذهبنا إلى أن
التأثير والتأثر في الأدب المقارن يمكن أن يُدرس في باب (التَناص)؛ فما
الطرق التناصية التي استعملها؟ هل أدت إلى إثراء النصّ، أم هل أدّت إلى
إفقاره؟"
([50]
)
.
ثمّ يشير الناقد -بعد أن يقيم موازنة بين مقاطع من الشعر الصيني الذي
جاء في مختارات باوند، وما يشابهها في شعر السيّاب- إلى أن في بعض شعر
السيّاب، وفي قصيدة أنشودة المطر تحديداً، أوجهاً من الشبه مع المعاني
التعبيرية التي تحملها قصائد الشعر الصيني، وكذلك في أسلوب التكرار الذي
تنماز به هذه القصائد (السيّابية والصينية على حدٍ سواء)، ليخلص في النتيجة
إلى صيغة توافقية غير جازمة مفادها أنّ القاسم المشترك بين شعر السيّاب
والشعر الصيني قائم على وحدة الموضوع؛ وتشابه الصور، وأنّه لايمكن لأحد أن
يجزم أن السيّاب كان متعمداً، أو على وعي تام بما تضمّنته (أنشودة المطر)
من تأثيرات؛ فالسيّاب لا يخفي مؤثراته، فهو يشير دائماً في هوامش قصائده،
إلى ما يستعيره من الآخرين، سواء أ في استخدام الأساطير، كلاً أو جزءاً، أم
في تضميناته، نصّاً أو تحويراً([51]
)
.
والإشارة الأخرى نجدها عند ياسين النصير الذي يجد بعض الشبه بين
قصيدة السيّاب (حفّار القبور) التي كتبت في أوائل الخمسينيات، وقصيدة برشت
(الأم الشجاعة) التي كتبت في العام 1938، و يرى أن ثمّة نقاط التقاء فكرية
بين الاغتراب الذي تعاني منه شخصيتا القصيدتين؛ فهذا الاغتراب واحد "يطرح
مشكلات واحدة على الرغم من اختلاف الأساليب، وما الأبناء الصم للأم
الشجاعة ليس إلا المرأة المومس والأب وعمته العمياء عند الحفّار"
([52]
)
. أو أن التشابه في طرائق كسب معيشة كلّ من الشخصيتين- فالأم الشجاعة تعتاش
على بيع الخبز و المؤونة إلى الجنود المتحاربين، فاستمرار الحرب تعني لها
استمراراً في كسب معيشتها، وكذلك حفّار القبور الذي يعني له موت الآخرين
استمراراً بالحياة- هو ما يدعو إلى التفكير في وجود تناص في قصيدة السيّاب
الذي قرأ الشعر العالمي، وترجم منه قصائد عدة في مختاراته من الشعر العالمي
الحديث، إلا أن النصير لايجزم أيضاً بوجود تناص أو تأثر في قصيدة السيّاب،
وإن كان لايستبعده([53]
)
.
ولو تجاوزنا ما قيل عن المؤثرات الأجنبية في شعر السيّاب، ونظرنا في
حالات التناص التي ضمتها قصائد السيّاب التي اخترناها مادة للتطبيق، لوجدنا
أن هذه القصائد حفلت بكثير من حالات التناص، ولاسيّما قصيدة المومس
العمياء، التي فاقت سواها من قصائد السيّاب في عدد حالات التناص. والملاحظ
أن أغلب حالات التناص التي وجدناها في هذه القصائد هي من التناص
الإشاري-بحسب تصنيف د. أحمد حلبي-، الذي يقصد به أن يستحضر الشاعر نصّاً،
أياً كان مصدره أو نوعه، سواء أكان قصيدة شعرية، أم نصّاً نثرياً، أم
أسطورة، أم حادثة تاريخية معينة، أم نصّاً من التراث الشعبي أو الصوفي،...
من طريق الإشارة المركزة، بحيث تغدو هذه الإشارة، بمثابة الاستحضار الكامل
لتلك النصوص، من دون أن يكون هنالك حضور لفظي كامل، أو جزئي لها في النصوص
اللاحقة، وغالباً ما يعتمد هذا النوع من التناص على لفظة واحدة أو اثنتين.
ويتميز هذا النوع من التناص، بقدرة كبيرة على التكثيف والإيجاز، مع الدقة
في التعبير، إذ تثير المفردة المستحضرة وجدان المتلقّي ومشاعره، وتنقله إلى
أجواء النصّ المستحضر بسرعة فائقة، وبأقل قدر ممكن من الكلمات([54]
)
.
ويمكن تقسيم التناصات في قصائد السيّاب على ثلاثة أنواع؛ نوع منها
يستحضر نصوصاً دينية، وثان يستحضر نصوصاً أسطورية، وآخر يستدعي نصوصاً
ثقافية مرتبطة بثقافة الشاعر البيئية، أو تلك التي اكتسبها بالتعلم
والاطلاع على الثقافات الأخرى، وقد عمل الشاعر على تمثّل هذه النصوص في
شعره فاستعملها رموزاً يعبر بها عن حالة شديدة الصلة بالحاضر، فإنّها
وبوصفها فكراً وعطاءً إنسانياً، قابلة للتحول وملامسة الواقع المعاصر،
فتكون شهادة على حالة واقعة في زمن الشاعر، مثلما كانت شهادة لما وضعت له
في زمنها، أو لعل منتج النصّ في لجوئه إلى النصوص القديمة محاولا إعادتها
إلى الحياة، يروم الاختباء خلفها، ليبوح بمكنوناته عبر أحداثها وشخوصها،
ذلك البوح الذي لايقوى على إظهاره خشية من سطوة الخوف([55]
)
.
3-3-1 صور التناص مع النصّ الديني
التناص مع النصوص الدينية جاء في قصائد السيّاب على أشكال عدّة؛ فمنه
ما جاء إشارة لشخصيات دينية، ومنه ما كان إشارة إلى ألفاظ تحيل على نصوص
دينية، أو حوادث تحدثت عنها تلك النصوص. أولى هذه الإشارات كانت تومئ إلى
شخصية قابيل التي أصبحت رمزاً في شعر السيّاب لجريمة الإنسان الأولى بحق
أخيه الإنسان([56]
)
، واستمرت مع نسله عبر العصور، إذ مازال قابيل يمارس جريمته في كلّ حين، و
في كلّ مكان يحل فيه؛ فنجد في قصيدته (المومس العمياء)، أنّه استدعى النصّ
الديني، (قصة قابيل القاتل وحيرته في دفن أخيه)، في الأبيات الآتية:
9. قابيل" أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف |
|
|
الظروف القاسية التي تدفعه في كثير من الأحيان إلى الذل والامتهان، فقابيل
هو الإنسان القاتل، سواء أكان طاغيةً متسلطاً على الرقاب، أم غازياً وطئ
بحذائه الثقيل رؤوس أبناء البلد، قبل وطئه ترابه.
وقابيل الفقر، قاتل الكرامة البشرية، قابيل هذا هو من ألقى بالمرأة
إلى أحضان الرذيلة، لتختبئ خلف جدران المباغي، تملأ جوفها من الخطيئة؛ فهو
الذي قتل أباها، وهو الذي استباح عرضها، وهو الذي يطاردها ليقتلها قصاصاً
على جريمة كانت هي الضحية فيها.
قابيل هذا هو الشرّ في نفوس البشر، وهو النصف الشرّير منا، وهكذا هي
الثنائية التي حكمت نفوس البشر منذ الخليقة الأولى حتى آخر وجود للبشر على
وجه الأرض، فقابيل هذا هو من ينازعه حفّار القبور، حين تضطرم الرغبة في
القتل في نفسه، هذه الحال جعلت السيّاب يستدعي نصّ قابيل، ليكون رمزاً
للنصف الشرّير من شخصية (حفّار القبور)، فنراه كمن يحذّر من طغيان هذا
الجانب من شخصيته بسبب الجوع والانتظار:
- 148.
ربّاه، عفوك.. إن "قابيل" المكبل
بالحديد - 149.
في نفسي الظلماء هب وقر يعصره الملال!
- 150.
فالليل جاء، و ما أزال
-
مستوحدا أرعى القبور و أنفض الدرب البعيد
ليقرّر حقيقة أن نوازع الشرّ الموجودة في نفس الإنسان، باقية فيه منذ
الإنسان الأوّل، وتتكرّر صورها مادامت نوازع الحقد والغيرة تطغى على مشاعر
الإنسان، ولاسيّما حين تكون الغلبة لجانب الشرّ، على جانب الخير فيه،
ومادامت البواعث لاستثارة جانب الشرّ هذا موجودة، حيث الظلم والقهر
والتسلّط والاضطهاد والفقر، هو ما يسود العالم، وتنسحق تحته ملايين البشر
من المحرومين والجياع في العالم([57]
)
.
ومن التناص الوارد في قصيدة (المومس العمياء)، قصة خروج آدم (ع) من
الجنة، بعد أن أغواه الشيطان، فأكل من الثمر المحرّم، الواردة في الآيات
الكريمة من قوله تعالى: >
وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (19)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ
عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ
الْخَالِدِينَ (20)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
<
([58]
)
.
وقد استدعى السيّاب هذا النصّ القرآني ليوظّفه في نصّه الآتي:
- 60.
والساعدين الأبيضين، كما تنوَّر في السهول - 61.
تفاحة عذراء، سوف يطوقان مع السنين - 62.
كالحيتين، خصور آلاف الرجال المتعبين - 63.
الخارجين خروج آدم، من نعيم في الحقول - 64.
تفاحة الدم والرغيف وجرعتان من الكحول - 65.
والحية الرقطاء ظلٌ من سياط الظالمين
اللواتي ساعدنهم على ارتكاب الخطيئة، هنّ حواء التي أقنعت آدم بأكل ثمر
الشجرة المحرّمة، وظلم الطغاة، وقهر الحياة، وسطوة الذلّ والفقر هم
الحيّة/الشيطان، الذي دفعه إلى ارتكاب المعصية التي استحق عليها اللعنة،
والخروج من النعيم الأبدي، إلى جحيم الذلّ والعوز.
والتناص الآخر نجده في قصيدة (المومس العمياء) أيضاً، مع قصة (يأجوج
ومأجوج)، والسور الذي بناه ذو القرنين، ليحمي القوم الذين استنجدوا به من
يأجوج ومأجوج، فاستعان الشاعر بهذه القصة التي وردت في الموروث الديني([59]
)
، في الأبيات الآتية:
- 291.
سور كهذا، حدّثوها عنه في قصص الطفوله: - 292.
"
يأجوج" يغرز فيه، من حنق أظافره الطويله - 293.
ويعض جندله الأصم، وكفّ "مأجوج" الثقيله - 294.
تهوي، كأعنف ما تكون على جلامده الضخام. - 295.
والسور باق لا يثلُّ... وسوف يبقى ألف عام، - 296.
لكنّ (إن - شاء – الإله) - 297.
- طفلا كذلك سمياه -
- 298.
سيهب ذات ضحى ويقلع ذلك السور الكبير - 299.
... الطفل شاب وسورها هي ما يزال كما رآه - 300.
من قبل يأجوج البرايا توأمٌ هو للسعير
!
الحاجز الذي بناه النظام الاجتماعي، وبقاؤه بقاء للأعراف والقوانين
الاجتماعية التي نبذتها، لتلوذ خائفة مضطرة خلف هذا السور، الذي صار
أغلالاً ترسف بها، ولا خلاص لها منه إلاّ بهدمه، لكن هيهات؛ فالسور الذي
بناه ذو القرنين هدمه بعد ألف عام طفل وهبه الله معرفة السر الكامن في قول
-إن شاء الله-([60]
)
، إلا أن سورها باق من قبل يأجوج، والطفل الذي تنتظره للخلاص شاخ، ولمّا يستطع هدم سورها العتيد.
ومن التناص مع الموروث الديني ما جاء في الأبيات الآتية من قصيدة (حفّار القبور):
52.
وهز حفّار القبور
- 53.
يمناه في وجه السماء، وصاح: ربِّ! أما تثور
- 54.
فتبيد نسل العار.. تحرق، بالرجوم المهلكات،
- أحفاد عاد، باعة الدم، والخطايا والدموع؟