منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    النص والخطاب .1

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    النص والخطاب .1 Empty النص والخطاب .1

    مُساهمة   السبت يناير 21, 2012 1:52 pm


    النص والخطاب.. دراسة إجرائية في العلاقات النصّـيـّة4






    د. جبار سويس الذهبي


    7. 12. 2011








    النص والخطاب .1 _1_full







    ننشر هنا كتاب "النص والخطاب.. دراسة إجرائية في العلاقات النصّـيـّة" عبر أربع مراحل.. التمهيد فضلا عن ثلاثة فصو

    وهو في الأصل رسالة قدّمت في الجامعة المستنصرية لنيل درجة الماجستير في فلسفة اللغة العربية


    الفصل الثالث


    المعايير التداوليّة للخاصّيــّة النصّيــّة

    تعدّ السياقات بنوعيها؛ الداخلي والخارجي، والتداخل النصّي(التناص)،
    والقصد، والقبول، من السمات التي يجب أن يتّصف بها النصّ، لتتحقّق فيه
    الخاصّية النصّية، هذه السمات لا تحقّقها العلاقات البنيوية/التركيبية داخل
    النصّ، بل تتحقّق بفضل الوظائف التداولية، والتواصلية للنصوص. إذ يسعى
    المتكلّم/الكاتب إلى أن يؤثّر في المتلقّي/القارئ بنصوص ومنطوقات في عملية
    التواصل على نحو مقصود؛ فالنصوص تتكون على الدوام في مواقف تواصلية، تؤثر
    بشكل جوهري في تشكيل بنيتها؛ لذا أصبح من الواجب على محلّل النصّ أن يراعي
    جوانب أخرى، بعضها غير لغوي، خارجي، لكنه يفرض نفسه على محلّل النصّ، فلا
    يجد بداً من النظر فيه، ودراسة تأثيره في النصّ من جهة، وفي طرفي الاتصال
    (المرسل والمتلقّي) من جهة أخرى؛ فمحلّل النصّ يعالج مادّته اللغوية بوصفها
    مدوّنة (نصّاً)، لعملية حركية استعمل المتكلّم/الكاتب فيها اللغة أداة
    توصيلية في سياق معيّن للتعبير عن معان، وتحقيق مقاصد الخطاب. ومن هنا يسعى
    محلّل النصّ إلى وصف مظاهر الاطراد في الأحداث اللغوية التي يستعملها
    الناس، لإيصال تلك المعاني والمقاصد([1]
    )

    .


    إن الأمر -بحسب إمبرتو إيكو- يتعلّق بمحاولة فهم النصّ، وباستشراف نسق
    من التمنيات النفسية، والثقافية، والتاريخية من لدن المتلقّي؛ إذ يوجّه
    المرسل تعبيراً ما إلى متلقّ بعينه، وفي سياق معين، إلاّ أنّه ينبغي ألاّ
    نطابق بين التواصل و الإحالة، لأنّنا بذلك لا نتوصّل فقط لمجرد قول شيء ما،
    بل أيضاً لتحقيق أفعال تواصلية أخرى، من قبيل الالتماس، والأمر، والسؤال.
    وخلاصة القول هي أنّنا نريد بعملية التواصل، التعبير عن تنوع كبير في
    المواقف القولية (القضوية)، إذ لا يمثل منها الإثبات والإحالة على المرجع،
    إلاّ حالةً من التنوع، ويمكن أن نفهم التعبير عن أيّ موقف قولي على أنّه
    إحالة.


    يجب أن ينتقل اهتمامنا من النصّ بوصفه نسقاً موضوعياً للمعلومات
    الممكنة، إلى العلاقة التواصلية التي تربطه بالمتلقّي. فاختيار هذا الأخير
    تأويلاً ما، يصبح أحد عناصر القيمة الفعلية للمعلومة، وإذا أردنا تفحّص
    الإمكانات التي تتوافر عليها بنية تواصلية لتصبح ذات معنى، لا يمكن تجاهل
    متلقّي النصّ، فأخذ العامل النفسي بالحسبان، يعادل الاعتراف بكون النصّ لا
    يمكنه أن يؤدّي معنى، إلا إذا أُوّل انطلاقا من وضعية محدّدة (وضعية نفسية
    ومن ثمّ تاريخية، واجتماعية، وأنثربولوجية) بالمعنى الواسع للكلمة([2]
    )

    .


    إذن تقتضي عملية التواصل بيان علاقات النصّ -بوصفه عقدة تتفرّع عنها
    مجموع الوظائف التداولية/التواصلية-، تلك العلاقات التي يختصّ بعضها بعلاقة
    النصّ بالنصوص الأخرى، التي يمثل النصّ حلقة من حلقات سلسلتها، والأخرى
    التي ترتبط بالمؤثرات الاجتماعية والثقافية التي تحدّد علاقة النصّ بكلّ من
    منتجه (المتكلّم/الكاتب)، والمتلقّي (المستمع/القارئ). وهذا ما سنبيّنه
    عند الحديث عن أثر هذه العلاقات في إنتاج النصّ، أو خلق الخاصّية النصّية
    في النصوص.



    3-1 سياق المقام (الموقفية Situationality
    )




    يُطلق هذا المصطلح عادة على مجموع الظروف التي نشأ النصّ/الخطاب في
    وسطها؛ سواء أكان كتابياً، أم شفاهياً، ومن هنا يجب الأخذ بالحسبان المحيط
    المادي والاجتماعي الذي يأخذ فيه النصّ مكانه، والصورة التي يؤلّفها
    المتخاطبون عنه، وهوية هؤلاء المتخاطبين، والفكرة التي يؤلّفها كلّ واحد
    منهم عن الآخر، بما في ذلك إدراك كلّ منهم حقيقة مراد الآخر، أو محاولة
    استكناه ما يفكر به الآخر، و الأخذ بالحسبان أيضاً الأحداث التي سبقت إنتاج
    النصّ/الخطاب، ولاسيّما العلاقات التي كان يمتلكها قبل ذلك المتخاطبون،
    وتبدّلات الكلام، حيث المكان الذي يكون فيه الخطاب([3]
    )

    .


    وللإشارة نود هنا أن نبيّن الفرق بين السياق اللغوي (Context
    )، وسياق الموقف؛ إذ يُعنى الأول بالبناء الداخلي للنصّ، باتّباع الوسائل
    النحوية التي تحدثنا عنها في الفصل السابق، ونعني بها وسائل الإحالة
    والتكرار... وغيرهما ممّا يشير إلى السياق الداخلي في بنية النصّ، وصور
    العلاقات بين مفردات النصّ الواحد، مثل العلاقات بين الوحدات الصوتية في
    الكلمة الواحدة، والكلمة في الجملة، والجمل داخل النصّ([4]
    )

    .


    في حين أن سياق الموقف يتضمّن العوامل التي تقيم الصلة بين النصّ وموقف
    واقعة ما، سواء أكان موقفاً حاضراً، أم قابلاً للاسترجاع. إذ يأتي النصّ في
    صورة عمل يمكن أن يراقب الموقف وأن يغيره. وتتحقّق تأثيرات سياق المقام من
    طريق ما يقوم به منشئ النصّ من تزويد النصّ بمعتقداته وأهدافه الخاصة
    للأنموذج الذي يقيمه للموقف الاتصالي، وتسير هذه العملية جنباً إلى جنب مع
    توقعات مستقبِل النصّ، ومعرفته السابقة عن عالم النصّ. وقد لا تكون إلاّ
    بعض الوساطة في عناصر الموقف، مثلما هي الحال في الاتصال بالمواجهة،
    ولاسيّما في الأمور التي تخضع للإدراك المباشر، وقد تكون الوساطة جوهرية
    حين يتعلّق الأمر بقراءة نصّ قديم ذي طبيعة أدبية، يتحدث عن أمور تنتمي إلى
    عالم غير العالم الذي فيه قارئ النصّ([5]
    )

    .


    والسياق أحد العناصر الستة في مخطط رومان جاكبسون، الذي أكمل فيه عمل
    بوهلر في كتابه نظرية اللغة، والذي حلّل فيه وظائف الرموز اللغوية، وخلص
    إلى أنّها أدوات لكلّ منها وظيفتها التي تختلف باختلاف ما تعلّق بها؛
    فالرمز اللغوي يؤدّي إحدى الوظائف الآتية:


    1- وظيفة تعبيرية تخصّ المتكلّم.

    2- وظيفة استدعائية تخصّ السامع.

    3- وظيفة توضيح الشيء المعبّر عنه.

    هذه الوظائف الثلاث للغة وسّعها جاكبسون في مخططه الاتصالي، الذي حدّد
    فيه وظائف اللغة، بحسب عناصر الاتصال؛ إذ إنّ الوظيفة الأساسية للغة لدى
    جاكبسون هي التواصل، إلا أنّ ثمّة وظائف أخرى تتفاعل فيما بينها، أو تهيمن
    أحداها على الأخرى بحسب خصوصيات النصّ/الخطاب؛ وهكذا يختص كلّ عنصر من
    عناصر الاتصال بوظيفة خاصة به؛ فالمرسل/المتكلّم، العنصر الأول في عملية
    الاتصال، تكون وظيفته انفعالية أو تعبيرية؛ إذ يعبّر المرسل/المتكلّم
    بوساطتها، وبصورة مباشرة عن موقفه إزاء ما يتحدث عنه، ويحاول بها أن يعطي
    انطباعاً بانفعال معيّن (غضب، استغاثة، سرور...)، وسواء أكان ذلك الانطباع
    صادقاً أم كاذباً.. وتمثّل صيغ التعجب في اللغة، أو طريقة النطق (سريع،
    بطيء، مرتفع، منخفض،...)، أو التنغيم والنبر، الطبقة الانفعالية الخالصة.


    أمّا الطرف الآخر في عملية الاتصال؛ أي المرسل إليه/المتلقّي، فالوظيفة
    التي تقابله هي الوظيفة الإفهامية، وتتمثّل في العبارات التي يطلقها
    المرسل/المتكلّم لإثارة انتباه المرسل إليه/المستمع، لطلب القيام بعمل ما،
    ويأخذ بوساطتها النصّ قيمته التداولية، وتتجلّى هذه الوظيفة
    "في النداء،
    أو الأمر، أو الاستفهام، أو التمني، أو في الأساليب الخبرية والإنشائية
    عموماً. ولنأخذ الأمر مثالاً على ذلك؛ فجملة الأمر لايمكن أن يقال لقائلها
    صادق أو كاذب، بل هي تتطلب إنجازاً بخلاف الجمل الخبرية، إضافة إلى أنّ فعل
    الأمر يتخذ دلالاته انطلاقاً من المتلقّي الذي يحدّد الاستلزام الحواري
    للخطاب: دعاء، إلزام، التماس، أو غير ذلك"
    ([6]
    )

    .


    أما الوظيفة التي تختص بالنصّ بوصفه رسالة، فهي الوظيفة الشعرية، أو
    الجمالية، أو البلاغية. في حين تستهدف الوظيفة الانتباهية قناة التواصل
    التي تنتقل عبرها الرسالة/النصّ، وتهدف هذه الوظيفة إلى إقامة التواصل،
    وتمديده أو فصمه، وتوظّف للتأكد ممّا إذا كانت دورة الكلام تشتغل (ألو،
    أتسمعني؟)، وتوظَّف كذلك لإثارة انتباه المتلقّي، أو للتأكد من أن انتباهه
    لم ينصرف عن المتكلّم (قل، أتسمعني؟).


    وتظهر وظيفة ما وراء اللغة (Metalinguistics function
    ) -التي تقابل النظام الإشاري/التشفيري- في الرسائل التي تكون اللغة مادّة
    دراستها، أي التي تقوم على وصف اللغة، وذكر عناصرها وتعريف مفرداتها. ولكي
    نفهم هذه الوظيفة، ينبغي التفريق بين اللغة الموضوع، واللغة الواصفة،
    "فاللغة
    الموضوع هي التي تتحدث عن الأشياء، في حين أنّ اللغة الواصفة تتحدث عن
    الكلمات؛ إنّها لغة عن لغة؛ أي هي لغة ثانية تخالف اللغة التقريرية التي هي
    دليل يتكوّن من دال ومدلول، وتخالف اللغة الإيحائية التي يصير فيها الدال
    دليلاً"
    ([7]
    )

    .


    أما الوظيفة التي تعنينا هنا، هي تلك التي تختصّ بالسياق؛ ونقصد بها
    الوظيفة المرجعية، وهي الوظيفة المهيمنة على الوظائف الأخرى -بحسب
    جاكبسون-، وتسمّى أيضاً وضعية، أو معرفية، وهي أساس كلّ تواصل؛ فهي تجسّد
    العلاقة بين الدليل والموضوع الخارجي، الذي نملك عنه تصوّراً ذهنياً؛ إذ
    تقوم بتحديد العلاقة بين الرسالة/النصّ والشيء الذي ترجع إليه، فهي لهذا
    عدّت أكثر وظائف اللغة أهمية في عملية الاتصال([8]
    )

    . وفي أدناه صورة المخطط الذي وضعه جاكبسون مع تأشير وظيفة كلّ عنصر من عناصر الاتصال:




    السياق الوظيفة المرجعية

    الرسالة الوظيفة الشعرية

    المرسل المرسل إليه

    الوظيفة الانفعالية القناة الوظيفة الانتباهية الوظيفة الإفهامية

    الشيفرة وظيفة ما وراء اللغة



    وكان للبحوث الأنثروبولوجية التي تناولت بالدرس لغات المجتمعات
    البدائية، أهمية بالغةً في تحديد قيمة السياق في فهم المعنى اللغوي لعبارات
    ونصوص تلك اللغات، ولعلّ من أهمّ الأبحاث تلك التي قدّمها في النصف الأول
    من القرن العشرين عالم الأنثروبولوجيا الروسي (برونسلا مالينوفسكي) عند
    دراسته بعض العادات اللغوية عند بعض المجتمعات البدائية في جزر (تروبرياند)
    في جنوب الباسفيك، إذ وجد صعوبات كبيرة عند محاولته ترجمة نصوص من لغة هذه
    المجتمعات إلى الإنكليزية، فوجد نفسه أمام مشاكل لغوية لم يجد لها
    تفسيراً، ما جعله يربط بين الكثير من العبارات، والمواقف التي قيلت فيها،
    وبنوع النشاط السكاني الذي يصاحب هذه التعبيرات، أو الفعل الذي تصاحبه هذه
    التعبيرات، حينها وجد أنّ هذا الربط بين النصوص وسياق مقامها هو الحلّ
    المناسب لهذه الصعوبات التي واجهته. هذا الحلّ قاده إلى كتابة مقاله (مشكلة
    المعنى في اللغات البدائية)، الذي نشر ملحقاً بكتاب (معنى المعنى) لأوجدن
    وريتشاردز([9]
    )

    ؛ والذي فتح الباب أمام الدراسات الكثيرة في الأنثروبولوجيا، وعلم
    الاجتماع، التي عنيت عناية فائقة بأثر السياق في فهم المعنى اللغوي، ومنها
    الأبحاث التي كتبها عالم الأجناس الانكليزي هايمز، وطوّر فيها العديد من
    الآراء السابقة؛ إذ اعتمد منهجاً قائماً على أهمية الموقف الاجتماعي في فهم
    عملية التواصل بين المجموعات اللغوية، إذ يجد هايمز أن أثر السياق يتمثّل
    في عملية الفهم؛ فهو يحصر من جهة عدد المعاني الممكنة، ويساعد من جهة أخرى
    على تبنّي المعنى المقصود؛ فاستعمال صيغة لغوية ما يحدّد مجموعة من
    المعاني، ومن ثمّ بإمكان سياق المقام أن يساعد في تحديد عدد من المعاني،
    فحين نستعمل خطاباً لغوياً في سياق ما؛ فإنّ الخطاب يستبعد كلّ المعاني
    المحتملة التي لا توافق ذلك السياق، ومن ثمّ فإنّ السياق لايسمح إلا
    بالمعاني التي يحتملها هو([10]
    )

    .


    وحدّد هايمز العناصر المميزة للسياق، التي يمكن أن تكون لها علاقة بتحديد نمط من الأحداث الكلامية، بأربعة؛ وهي:

    1- المشاركون في الحدث الكلامي (المتكلّم و المتلقّي)؛ فالمتكلّم هو من
    يحدث القول، والمتلقّي هو من يستقبل القول. إذ تتيح معرفة المحلّل اللغوي
    للمتكلّم في حدث كلامي معين، تصوّر ما يحتمل أن يقوله ذلك الشخص. أمّا
    معرفة المتلقّي فتحدّد توقعات المحلّل بصفة أكبر؛ إذ تختلف التوقعات عن
    اللغة المستعملة باختلاف معرفة المتكلّم (هل هو رئيس الوزراء، أو الأستاذ،
    أو طبيب العائلة، أو الأم؟)، وباختلاف المتلقّي (أهو زميل، أم طالب، أم
    مريض، أم طفل صغير؟).


    2- معرفة الموضوع المتحدّث عنه، أو بتعبير هايمز، محور الحديث، إذ تجعل معرفة الموضوع عملية الفهم أكثر دقة وتحديداً.

    3- معرفة الظرف الذي قيل فيه الخطاب؛ أي معرفة السياق الزماني والمكاني للحدث الكلامي.

    4- الوضع الجسّمي للمشاركين في الحدث الكلامي، من حيث هيئة الجسم،
    وطبيعة الحركة، وتقاسيم الوجه، فهي تساعد على توجيه عملية الفهم توجيهاً
    دقيقاً([11]
    )

    .


    والعناية بالسياق من لدن اللغويين بدأت مع فيرث الذي عدّ سياق المقام
    جزءاً من أداة اللسان، مثلها في ذلك مثل التصنيفات القواعدية، فالمعنى
    اللغوي -بحسب فيرث- هو علاقة بين العناصر اللغوية والسياق الذي ترد فيه؛ إذ
    تتحدّد معاني العناصر اللغوية على وفق استعمالها في المواقف الاجتماعية
    المختلفة؛ فقد شرع فيرث في وضع نظام يطبّق على المواقف اللغوية يجعلها أكثر
    تجريداً بفضل تحديد سياق مقامها على النحو الذي يجعله مكوّناً ممّا يأتي:


    1- الخاصّيات المتعلّقة بالأطراف المشتركة في الخطاب، ممّن لهم علاقة بالحدث اللغوي؛ وتتمثّل في:

    - الفعل الكلامي للأطراف المشاركة.

    - الفعل غير الكلامي للأطراف المشاركة.

    2- الأشياء المتعلّقة بالموضوع.

    3- وقع الفعل الكلامي.

    وقدم فيرث مثالاً تطبيقاً على فكرته، العبارة الآتية (Say when)
    ،
    التي تتعدّد معانيها بتعدّد السياقات التي ترد فيها، ومن دون هذه السياقات لايكون لها معنى([12]
    )

    .


    ومن الواضح من آراء فيرث أنّه وظّف الكثير من الأبحاث الأنثروبولوجية،
    والاجتماعية، في نظريته السياقية، ولاسيّما آراء مالينوفسكي الخاصة بسياق
    المقام، فكلاهما كان يسعى إلى تحديد فهم دقيق للمعنى اللغوي، وكلّ بحسب
    آلياته المعرفية، وطبيعة تأثر كلّ منهما بأدوات تخصصه؛ إلاّ أنّ نظرة فيرث
    للسياق كانت مختلفة عن نظرة مالينوفسكي إليها، إذ استعان فيرث كونه عالماً
    لغوياً بالثقافة الإنسانية التي تعينه على تكوين نظرية لغوية؛ أي إنّ غاية
    اهتماماته هي دراسة اللغة. في حين أنّ مالينوفسكي قادته دراسته للأجناس
    البشرية بوصفه عالماً أنثروبولوجياً، إلى الاهتمام العارض باللغة، بوصفها
    فعلا بشرياً. ومن هنا مصدر الاختلاف بين نظرتيهما إلى سياق المقام؛ فسياق
    المقام عند مالينوفسكي يتألّف من خصائص واقعية فعلية ترتبط بالبيئة
    الثقافية والطبيعية التي وقع فيها الحدث الكلامي، وهو الذي جلب عليه
    الاتهام بالتخصّصية، والافتقار إلى التعميم، وقد عدّ فيرث اتجاه مالينوفسكي
    في تطبيق فكرة سياق المقام بأنّه اتجاه نفعي (براغماتي)، إذ يرى أنّه خلط
    بين ما يمكن أن يكون إطاراً نظرياً، والأحداث العملية، التي يصح أن تؤخذ
    على أنّها أمثلة أنموذجية لهذا الاستعمال اللغوي أو ذاك، ليس إلاّ.


    أمّا فيرث فقدّم السياق على أنّه إطار منهجي يمكن تطبيقه على الأحداث
    اللغوية، بوصفه أداة من أدوات عالم اللغة، شأنه في ذلك شأن الأدوات النحوية
    التي يستعملها. أي إنّه أراد أن يعزز دراسة عناصر التركيب اللغوي (أصوات،
    وكلمات، وجمل)، بالدراسة الدلالية لمعاني العناصر اللغوية، حتى أنّه عدّ
    مهمة البحث اللغوي منحصرة في تقصي هذه المعاني دون سواها([13]
    )

    .


    ومع سبعينيات القرن الماضي أَولى اللغويون اهتماماً متزايداً
    بالسياق، ولاسيّما عند محلّلي الخطاب، الذين أفادوا من مباحث فلسفة اللغة،
    عند أوستن وسيرل وغرايس، ومباحث المنطق الحديث عند برتراند راسل
    وفتغنشتاين، التي كانت المهاد النظري للدراسة التداولية للغة، فقد وصف فان
    دايك -أحد أقطاب التداولية- السياق بأنّه موقف تواصلي بين شخصين، أحدهما
    فاعل حقيقي، والآخر فاعل على جهة الإمكان؛ أي المرسل والمتلقّي، فكلاهما
    ينتمي إلى الجماعة اللغوية نفسها، وتربط بينهما ضروب من الاتفاق والتواطؤ
    للقيام بالفعل الإنجازي المشترك.


    ويرى أنّ الصفة (الديناميكية) المحرّكة، هي الخاصّية الأولى للسياق؛ "فليس
    السياق مجرد حالة لفظ، وإنّما هو على الأقل متوالية من أحوال اللفظ،
    وفضلاً عن ذلك، لا تظلّ المواقف متماثلة في الزمان، وإنّما تتغير. وعلى ذلك
    فكلّ سياق هو عبارة عن اتجاه مجرى الأحداث، وقد يكون اتجاه الأحداث هذا
    (...) دالاً على حالة ابتدائية، وأحوال وسطى، وحالة نهائية"
    ([14]
    )

    . ولما كان من الوجهة النظرية وجوب تحديد السياقات، كان من الواجب أيضاً أن
    تكون لها نهايات؛ إذ يتعين علينا معرفة الشروط التي يجب أن تستوفيها
    ممكنات العالم، كي نتمكّن من وصف الحالة الابتدائية، أو النهائية للسياق،
    وإن كان السياق في بعده المتناهي لا يحتاج إلى أن يحدّد بطول([15]
    )

    .


    ومن ثمّ فإنّ لدينا -بحسب فان دايك- مجموعة لا متناهية من السياقات
    الممكنة التي يستطيع أحدنا أن يؤلّف له فيها حالة سياق واقعي يتحدّد بعنصري
    الزمان والمكان، حتى تتحقّق النشاطات المشتركة لكلّ من المتكلّم والمخاطب،
    وتستوفي خواص الزمان (الآن)، والمكان (هنا) من الوجهة المنطقية،
    والفيزيائية، والمعرفية؛ إذ تتعرف السياقات، بوصفها اتجاهات لمجرى الأحداث،
    بمجموعة مرتبة من (الآن، هنا)، ويتغير السياق من آن لآخر، ويجب أن يؤثر
    هذا المتغير في الموضوعات، وعلى مدى الأحوال المتعاقبة من السياق([16]
    )

    .


    إذن مفهوم السياق لدى فان دايك مرتبط بطرفي الاتصال (المتكلّم
    والمتلقّي)، بوصفهما فاعلين، ومرتبط أيضاً بالآنية والمكانية، العنصرين
    اللذين يتحدّد بهما السياق الواقعي أو الفعلي الذي يكون فيه الخطاب، فهما
    يضمان مجموعة كبيرة ومتنوعة من السياقات التي تنتجها مجموع الظروف العقلية،
    والاجتماعية والنفسية والثقافية، التي يتألف في ظلّها الخطاب. وهو بهذا لا
    يبتعد كثيراً عمن سبقه ممن نظّروا للسياق من الأنثروبولوجيين، أو
    اللغويين، وهو ما يفرضه أيضاً النظر المنطقي، لما قد يحدثه السياق من أثر
    في توجيه فهم أي حدث لغوي، فالعنصر الزماني (الآن)، يتجلى تأثيره في
    الرسالة/النصّ بما تتركه السياقات النفسية، والإدراكية، والفكرية على كلّ
    من المتكلّم والمتلقّي، عند إنتاج المتكلّم للنصّ، أو حين يستقبل المتلقّي
    النصّ. والحال تنطبق على العنصر المكاني الذي يؤثر في فهم الرسالة/النصّ
    عبر سياقات اجتماعية، وثقافية تلقّي بظلالها على عملية إنتاج النصوص
    وفهمها. وهنا يأتي عمل محلّل الخطاب، الذي عليه أن يراعي مجموع الظروف التي
    أنتج فيها النصّ، أو تلك التي أثرت بصورة مباشرة في منتج النصّ؛ سواء أكان
    متكلّماً، أم كاتباً. وهو ما سننطلق منه في تبيين أثر سياق المقام في
    قصائد السيّاب الثلاث.


    بداية نشير إلى الحقبة الزمنية التي كتبت فيها النصوص/القصائد الثلاث،
    وهي النصف الأول من العقد الخامس من القرن الماضي، وتحديدا بين الأعوام
    (1952-1955)، هذه الحقبة التي ما زالت ذكريات الحرب العالمية الأليمة بكلّ
    مآسيها تراود مخيلة الكثير من الناس، ولاسيّما المثقفون منهم ممن سمع أو
    قرأ عن أهوال تلك الحرب، ونهايتها المفجعة، وما تركته أنباء الدمار الذي
    أحدثته القنبلة الذرية الأميركية، التي ألقيت على المدن اليابانية، من رعب
    حقيقي في نفوس الناس، ومن المسار التدميري الذي سلكته آلة الدمار الحربية.


    وشهدت هذه الحقبة صعود التيارات الأيديولوجية، المتمثّلة في الحركات
    القومية، والحركات الثورية التي كان أبرزها آنذاك الحزب الشيوعي العراقي،
    الذي ترك أثره في قصائد السيّاب، ولاسيّما في هذه الحقبة التي وسمها ناجي
    علوش في مقدمته لديوان السيّاب بالواقعية، إذ أثرت الأفكار الشيوعية التي
    كان قد تبناها السيّاب في تلك المرحلة من حياته، في نصوصه الشعرية، وفي
    نظرته إلى الواقع، وإلى مصير الإنسان الذي هو ليس مصيراً فردياً منعزلاً،
    بل هو جزء من حالة المجتمع، وحركة التأريخ، وإن غلبة عناصر الشرّ وقوى
    الظلم على المجتمع، لا يمنع من وجود قوى الخير المناهضة لقوى الشرّ والظلم([17]
    )

    .


    جاءت قصيدة حفّار القبور لتعبر عن صورة من صور بعض المنتفعين على حساب
    آلام الناس، والذين يعتاشون على موت الآخرين، ففي هذه القصيدة أمسك السيّاب
    بموضوع الكائن الفرد المعزول، ليقلبه حيثما يشاء، برؤية شاعر يجد في
    الكتابة
    "تجاذباً نفسياً وتحقيقاً لا شعورياً لفرد معزول فيه، منبته على أرض خصبة بالموت وبالمياه"
    ([18]
    )

    .


    أو هو صورة للطغاة الذين يحيَون بموت الآخرين -مثلما يراها د.إحسان عباس-([19]
    )

    . أو هو الصورة النقيضة،
    "فحفّار القبور ليس رمزاً للشر(...)، بل هو رمز
    لآلام الجماهير المعزولة والمعطلة التي ليس في يدها صنع السلام أو الحرب،
    بل المغتربة وسط ألمها، والمدفوعة بعملها إلى الحياة"
    ([20]
    )

    . وعلى أيّة حال كانت هذه الصورة؛ فهي تمثّل واقعاً اجتماعياً حاضراً صوّره
    النصّ، وعبر عنه سياقه التداولي؛ إذ توحي آنية الحدث الكلامي، الذي عبرت
    عنه الأفعال المضارعة التي بدأ الشاعر بها أبيات القصيدة، بصورة الحال التي
    عليها المقبرة، وبواقع معاش يعكس صورة المدينة، ومن ثمّ صورة البلاد
    بأسرها؛ فالأفعال: (يغيم، يهوم، تهب، ترعب، تثاءب، يحدق، يملؤه...)، تشير
    في دلالتها الزمنية إلى صورة الحياة القاتمة التي تحياها المقبرة/المدينة،
    في الزمن الداخلي الذي يعبر عنه النصّ، وثمّة أفعال جاءت بصيغة الماضي،
    وهي: (راوح، أدبر، أطبق، رأى، اتأدَ)، إلا أن دلالتها توحي باستمرارية زمن
    الفعل، فهي -بحسب تعبير النصير-
    "تدير وجهها إلى الخلف. ويكون الفعل هنا
    حال الديمومة لتكرار القبر، فهو -أي القبر- عابر من الأمس إلى اليوم، لكن
    وجودها الأكثر فاعلية هو وجودها المرهون بالقبر نفسه، وتنتهي فاعليتها
    عندما ينغلق القبر"
    ([21]
    )

    .


    وهذا يدعو المتلقّي/القارئ إلى الاستعانة بالسياقات الاجتماعية،
    والنفسية، والثقافية التي أحاطت بالنصّ، ومن ثمّ معرفة دلالات المفردات
    الواردة فيه، والمعبرة عن الأجواء الكئيبة التي أراد منشئ النصّ أن يوصلها
    إلى المتلقّي عبر النصّ. فالذي يناسب سياق المقام هنا، هو أن تصور هذه
    المفردات حالة الظلام التي تلف المكان، على الرغم من ضوء الأصيل الخافت،
    الباهت كابتسامة اليتامى، فتنبعث الكآبة في النفوس، وكأنّها كابوس،
    فالعبارات التي ألفتها هذه الألفاظ، والتي تصور سياق المقام الذي أراد أن
    ينقله لنا النصّ، في حالة وصف للأجواء التي تدور فيها بنيته الكبرى، وهذه
    العبارات التي تمثّل مطلع القصيدة النصّ هي:


    "يغيم، كالحلم الكئيب"


    "ابتسم اليتامى"


    "
    بهتت شموع"


    "يهوم ظلّهن على
    دموع"


    "أسراب
    الطيور كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديم"


    "وتثاءب الطلل البعيد"


    "يحدق الليل البهيم
    من بابه الأعمى ومن شباكه الخرب البليد"


    "الجو يملؤه النعيب"



    "فتردد الصحراء، في يأس وإعوال رتيب،
    أصداءه المتلاشيات"


    "وكأن بعض الساحرات
    مدَّت أصابعها العجاف الشاحبات"


    "
    كأن ديدان القبور
    فارت لتلتهم الفضاء"


    "كأنما أزف النشور، فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون"


    "وظلاله السوداء تزحف كالليالي الموحشات"



    "
    تنفس الضوء الضئيل
    بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام
    "



    جاءت لتعبر _هذه العبارات- عن الصورة المعتمة والكئيبة للحياة
    الاجتماعية التي حاول أن ينقلها لنا النصّ، وأثر هذه الحياة في الحالة
    النفسية لمنشئ النصّ. والملاحظ هنا أن ثمّة مفردات لا تتماشى دلالاتها
    الفردية مع الدلالة العامة لسياق المقام، والمعبر عن صورة بكائية لمكان
    يملؤه الحزن والكآبة؛ فمفردات مثل: ( الحلم، ابتسامة، شموع، أسراب الطيور)،
    تستعمل عادة في سياق يختلف عن السياق الذي وردت فيه أبيات القصيدة،
    فـ(الحلم) عادة يرد في سياق الفرح والأمل، والمفردة التي ترد في استعمال
    يضاده هي (الكابوس)، والأمر ينطبق على المفردات الأخرى؛ إذ يوجب السياق هنا
    أن تستعمل الألفاظ التي تناسبه في هذا المقام وهي تُناقض بلاشك المفردات
    التي أشرنا إليها. إلا أن الملاحظ أيضاً أن الشاعر راعى مقتضيات السياق
    فقرن كلّ مفردة منها بأخرى، جعلها وصفاً لها، تلائم المقام، فوصف الحلم
    بالكآبة، وكانت الابتسامة، ابتسامة يتيم، والشموع باهتة كأن نورها موشك على
    الانطفاء، وأسراب الطيور كالعاصفة السوداء التي تنذر بالشرور. ولعل الدافع
    وراء استعمال هذه المفردات مع اللجوء إلى إيضاحها بمفردات وعبارات تحمل
    معنى مضاداً لمعناها، ومن ثمّ جعلها توافق سياق النصّ، وفضلاً عن كونه
    أسلوبا شعرياً يعمد الشعراء إليه، هو بصيص الأمل الذي تستشرفه نفس الشاعر
    من كلّ هذا الركام، وهذا البؤس الذي يغلف الحياة، إذ مازال ثمّة أمل في
    شروق فجر حياة جديدة، يزيح كابوس الظلم والظلام.


    وتصور لنا الأبيات التي تصف حفّار القبور، وحالة الجوع التي يعانيها،
    وحالة انتظاره موت أحدٍ ليدفنه، وينعم بأجره أكلاً وشراباً ونساءً، فيدفعه
    الانتظار إلى الصراخ منادياً ربّه، مطالباً إياه بإبادة البشر، بحوار عبثي
    أقرب منه إلى الحديث عن فلسفة الحياة والموت، حوار يعبر عن حال اليأس
    والاستلاب، صوّرتها المجاورة الزمنية للأفعال في الأبيات التي انتقلت من
    الماضي (هزّ، صاح)، المقترن بالزمن الآني، إلى الأفعال المضارعة (تثور،
    تبيد، تحرق)، ذلك الزمن الذي أراد الشاعر منه أن لا يتوقف عند لحظته، بل
    يستمر حتى تتحقّق رغائب حفّار القبور بهلاك الناس، ومن ثمّ دفنهم، إذ حاول
    الشاعر الإيحاء بترابط السياق الزمني، واستمرارية فعل الهلاك الذي كان نصيب
    (قوم عاد)/الأجداد في الماضي، أن يصيب الأحفاد؛ فهم في نظره سواء في العار
    والجريمة.


    هذه الرغبة الشاذة والأنانية، التي يبديها حفّار القبور في فناء
    البشر، يحاول الشاعر أن يسوغها له بالغاية الفلسفية من الوجود؛ إذ ما دامت
    غاية الحياة هي الموت، إذن فليهلك الناس، ليحيا هو! ولعل هذه الرغبة هي بعض
    ممّا يعتمل في نفس الشاعر من مشاعر إحباط، بسبب ما يعانيه من عوز نتيجة
    الظروف التي مرّ بها بعد اعتقاله بسبب نشاطه السياسي([22]
    )

    ، وبسبب دمامة خَلقه التي كانت عقدة نغصت عليه حياته، التي كانت وراء نفور
    النساء منه، فظلّ معلقاً بحبال الخيال، ممنياً النفس بأنّ فناء الآخرين، قد
    يحقّق له ما تمناه، فصراخ حفّار القبور هو صراخ الشاعر، الذي تدفعه
    الرغبة المقموعة بالعشق، ومطارحة النساء الغرام، إلى الدعاء بفناء الناس،
    إذ لا يرى في حرمانه شيئاً من العدل، في حين تصبح أجساد الحسان طعاماً
    لظلام القبور، وديدانها، وهو ما تتحدث عنه الأبيات الآتية:


    69.
    واها لهاتيك النواهد، والمآقي،
    والشفاه!


    70.
    واها لأجساد الحسان! أيأكل الليل
    الرهيب


    71.
    والدود، منها ما تمناه الهوى؟
    واخيبتاه!


    72.
    كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا
    حبيب


    73.
    أمسى يضاجعها الرغام؟


    74.
    هل كان عدلا أن أحنّ إلى السراب،
    و لا أنال


    75.
    إلا الحنين - و ألف أنثى تحت
    أقدامي تنام؟


    الأمنيات في ملامسة النساء، بل في اغتصابهن بالقوة مثلما يفعل الغزاة
    والفاتحون، تلك الأمنيات التي مافتئ الشاعر يكررها على لسان شخصيته (حفّار
    القبور) في الأبيات (121-126)، والأبيات (185-209)، وهي تكرار للرغبة
    العارمة في نفس الشاعر، الرغبة الشاذة في القتل من أجل استباحة النساء
    اللائي أعرضن عنه، واللائي لم يستطع جذبهن إليه بالود مثلما يفعل غيره من
    الرجال.


    في حين نجد الشاعر يحاول أيضاً أن يسوغ لحفّار القبور تفكيره الشاذ
    هذا بكونه ليس الوحيد الذي يفكر بهذه الطريقة، بل هو أهون شراً من الطغاة،
    فهو جاهل جائع يحيا بعيداً عن الحضارة، وهؤلاء المتحضرون يقتلون الناس باسم
    الحضارة والعلم، وأنّه نوى أن يفعل، وهم فعلوا:


    127.
    أنا لست أحقر من سواي، و إن قسوت فلي شفيع



    128.
    أني كوحش في الفلاء...



    129.
    لم أقرأ الكتب الضخام - و شافعي ظمأ و جوع



    130.
    أوَ ما ترى المتحضرين



    131.
    المزدهين من الحديد بما يطير و
    ما يذيع؟


    132.
    مهما ادنأت فلن أسف كما أسفوا..
    لي شفيع


    133.
    أني نويت.. و يفعلون؛ و إن من يئد
    البنين


    134.
    و الأمهات و يستحل دم الشيوخ
    العاجزين


    135.
    لأحطَّ من زان بما انتهك الغزاة و ما
    استباحوا!


    136.
    و القاتلون هم الجناة و ليس
    حفّار القبور؛


    137.
    و هم الذين يلونون لي البغايا
    بالخمور،


    138.
    و هم المجاعة، و الحرائق، و
    المذابح، و النواح،


    139.
    و هم الذين سيتركون أبي وعمته
    الضريره


    140.
    بين الخرائب ينبشان ركامهن عن
    العظام،


    141.
    أو يفحصان عن الجذور، و يلهثان من الأوام..



    142.
    و الصخر كالمقل الضريرة



    143.
    و سيوثقون بشعر أختي قبضتي.. و
    كالظلام


    144.
    و كخضة الحمى، تسمّرها على دمها
    صدور


    145.
    تعلو و تهبط باللهاث، كأنّهن رحى
    تدور


    146.
    يا مجرمون إلى الوراء! فسوف
    تنتفض القبور


    147.
    و تقيء موتاها و يا موتى، على
    اسم الله ثوروا


    لو أنعمنا النظر في الأبيات السابقة، والأبيات الخمسة التي سبقتها،
    فهل نستطيع القول إن النصّ عبر عن سياق موحد شمل الأبيات كلّها، سواء أكان
    سياقاً نفسياً، كشف خبايا مايدور في نفس حفّار القبور، أم سياقاً ثقافياً
    عبر بجلاء عن الثقافة المتدنية لهذه الشخصية؟


    الملاحظ أن الأبيات (110-126) صور بها الشاعر حفّار القبور كائناً
    طفيلياً، مضطرباً نفسياً، يندب حظه لأنّه لا يعيش إلاّ من مآسي الآخرين،
    فكلّ ما ينعم به من طعام وشراب ونساء، هو ممّا يمن به الأموات عليه،
    فالسياق الذي عليه الأبيات يبين أنّه غير راضٍ عن معيشته، وأن نبلاً قد
    يُرى في رفضه طريقة عيشه. لكن هذا الإحساس بالنبل يختفي حينما يجعل خيبته
    من عيشه سبيلاً إلى قسوة الأمنيات بالدمار والفناء، ونذره إن حلّ الفناء،
    أنّه يقيم احتفالاً محموماً، يعبر فيه عن كلّ رغباته الشاذة.


    وفي صحوة أو ربّما انتباهة لبشاعة ما يفكر فيه، يحاول الشاعر في
    الأبيات (127-133) أن يسوغ أمنيات شخصيته هذه، فهو مهما كانت أمنياته
    منكرة، فإنّها تبقى أمنيات، ولا تصل إلى ما فعله ويفعله الغزاة والطغاة، من
    كلّ منكر فكر فيه، أو لم يفكر فيه. إلاّ أننا نلاحظ في الأبيات اللاحقة
    (134-147)، أن هذا الوحش قد حوله الشاعر إلى ضحية. فالجناة القتلة هم من
    دفعه إلى التفكير بهذه البشاعات، وهم سبب المجاعات والحروب، فهو ضحية كغيره
    من ضحاياهم، ثمّ أن هذا الأمي الجاهل يتحول إلى ثوري يحض الجماهير على
    الثورة، فالقبور ستنتفض وتخرج موتاها ثائرين على قدرهم!


    هذا التداخل أو ربّما الاضطراب إنما يعبر عن خلجات الشاعر الثائر،
    فحين استرسل في ذكر ما يعانيه حفّار القبور، والمآسي التي مرت به وبعائلته،
    عندها خرج الشاعر من ثياب الشخصية ليسمعنا صوته ويفصح عن أيديولوجية
    ثورية، تعكس ثقافته السياسية التي كان قد تبناها آنذاك، وهذا ما جره إليه
    سياق النصّ؛ فالحديث السياسي ـ الذي يبدو غريبا صدوره من فم حفّار قبور
    جاهل، جلّ ما يتمناه، أو يفكر به جنازة تأتيه، فيملأ بها فم القبر الفاغر،
    ومن ثمّ يملأ جوفه بالطعام والشراب بما يجنيه من عمله ـ كشف صوت الشاعر
    واضحاً معبراً عن همّه الأيديولوجي، وشعوره بالظلم الذي يعانيه الشاعر
    والمجتمع.


    فصورة حفّار القبور ذلك الكائن الفرد المعزول، تعبر عن صورة اجتماعية
    تحوي خصالاً تشترك فيها قطاعات كثيرة من المجتمع، العاجزة عن إحداث
    التغيير في أوضاعها السياسية والاجتماعية، ومن ثمّ فهي ناقمة على كلّ شيء،
    يائسة من صلاح واقعها، الذي يجعلها تنشد الخلاص في هلاك وفناء كلّ ما
    حولها.


    القصيدة الثانية (المومس العمياء)، التي يُنظر إليها على أنّها
    امتداد لـ(حفّار القبور)، فبين القصيدتين كثير من الوشائج الفكرية، إذ عمقت
    قصيدة المومس العمياء
    "مجرى الحياة للكائن الفرد المعزول، وجعلتها حياة
    مليئة بالحس التراجيدي العام، وبالموقف السياسي المشبع بالعراقية، إذن فهي
    قصيدة عن العراق وعن العالم، عن الكائن المفرد، وعن الكيان الاجتماعي"
    ([23]
    ).



    في هذه القصيدة تتعدد السياقات، فالسياق الزمني الذي يحدث فيه
    النصّ/القصيدة، والذي يتجلى في تنقل الزمن بين الماضي المتصل بالحاضر،
    والحاضر الذي يومئ إلى مستقبل لا يكاد يختلف عن الماضي بظلامه، فتوالي
    الأفعال في مطلع القصيدة، وتعاقبها مضارع (يطبق، تشربه، تفتحت، تحجر،
    تبشر)، ثمّ ماضٍ (جاء، دفَّ)، يشير بوضوح إلى تواصل زمني يوحي باستمرار
    الواقع المرير المظلم الذي تعيشه المدينة التي وصفها الشاعر بالعمى ليفسح
    المجال أمام المتلقّي لإيجاد الرابط بين المدينة العمياء، والمومس العمياء؛
    إذ كلاهما يعيش حالة الظلام([24]
    )

    .


    والأبناء، أبناء المدينة العابرون، بقلوبهم الوجلة المتحجرة، وظهورهم
    الحانية على المخاوف والهموم، فهم ليسوا إلاّ أشباحاً يخشون النور،
    مختبئون خلف أبواب المواخير وحوانيت الخمور، وهم الأموات اللائذون بالقبور
    من القبور.


    علاقة التلازم بين الزمان والمكان (الآن و أين)، هذه الثنائية
    المتمثّلة في حالة التلازم بين الليل/الزمان، والمدينة/المكان، تتطلب
    الإحاطة بالسياق الذي يدور فيه النصّ/القصيدة، وهو ما يتطلب أيضاً معرفة
    السياق الاجتماعي/السياسي الذي يعبر عنه النصّ، ليتسنى فهم معانيه، ومن ثمّ
    تحقيق الخاصّية النصّية له.


    وترشدنا معرفة السياق الاجتماعي/السياسي إلى فهم سياق الموقف للأبيات
    (129-154)، التي يتحدث فيها النصّ عن الظلم الذي كان سائداً جراء تسلط
    الإقطاعي، وتحكمه بمصائر الناس، والذي كان سبباً في اليتم الذي أمست عليه
    شخصية القصيدة، بعد مقتل الأب، وكان سببا في جوعها وملايين من أبناء الشعب
    أمثالها، وكان سبباً في أن تبيع جسدها لتسد جوعها، جسدها الذي مزقه الطغاة،
    مثلما مزق جسد أبيها من قبل، فأمست يتيمة وحيدة تطاردها أشداق الذئاب
    لتلتهم طهارة جسدها، فألقتها في دنس الخطيئة.


    والسياق الاجتماعي الآخر الذي يتحدث عن الظلم الاجتماعي الذي يقع على
    المرأة، ونظرة المجتمع الدونية إليها، ولاسيّما إذا كانت امرأة فقيرة
    مستباحة، لا شيء يحميها، إذ هي فريسة سهلة الصيد، لابد أن يدفعها جوعها
    وذلها إلى مخالب الذئاب، فلا تجد ومثيلاتها من المحرومات سبيلاً غير الهرب،
    ولا معيلاً غير البغاء، أو يكنَّ جواري في بيوت المترفين الذين لايتوانون
    عن أن يتخذوهن سراري متى شاؤوا، بالمال الذي ملكوا به أجسادهن، أو يستجدين
    الصدقات المخبوءة تحتها شهوات المحسنين، وتحرشاتهم؛ وهو ما تشير إليه
    الأبيات الآتية:


    176. ومن الذي جعل النساء


    177.
    دون الرجال، أفلا سبيل إلى الرغيف سوى البغاء؟



    178.
    الله- عز وجل- شاء


    179.
    ألا يكنّ سوى بغايا أو حواضن أو إماء


    180.
    أو خادمات يستبيح عفافهن المترفون


    181.
    سائلات يشتهيهن الرجال المحسنون!!


    والسياق الاجتماعي الآخر الذي يقدمه النصّ، والمرتبط بالسياق الذي
    قبله، والذي يتحدث عن ما يسمى بجرائم الشرف، وهو موضوع دارت عليه الكثير من
    قصائد الشعر الحديث، ولاسيّما في ظلّ الواقعية التي سادت موضوعات الشعر
    الحديث نهاية الأربعينيات من القرن الماضي؛ وقد ضمت دواوين الشعراء
    المعاصرين قصائد كثيرة، تعرض أصحابها، لهذه الظاهرة، ونقدها بوصفها، ظاهرة
    تعكس تخلّف المجتمع، ومن ثمّ تمثّل انتهاكاً لإنسانية المرأة([25]
    )

    ،الذي يجسد ضعف المرأة أمام سطوة التقاليد التي وضعها الرجال، ليكونوا هم
    بمنأى عن العقوبة التي اختصوا بها النساء، وأباحوا لأنفسهم ما أسموه عاراً،
    بل الأنكى أن بعضهم يراه فخراً، وتعبيراً عن الرجولة!


    ففي الأبيات الآتية:

    90.
    من صدرك النخر العريض. وأنت ويحك ياأخاها


    91.
    ماذا تريد، وعمّ تبحث في الوجوه؟ وياأباها


    92.
    اطعن بخنجرك الهواء.. فأنتما لن تقتلاها.


    93.
    هي لن تموت:


    94.
    سيظلّ غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت


    يتحدث النصّ عن هذه الظاهرة ليبين لنا هذا العرف الاجتماعي الذي كان
    مازال سائداً في مجتمعاتنا، ولاسيّما الريفية منها؛ إذ ينتقد النصّ هنا هذه
    العقلية التي تطارد الضحية لتقتصّ منها، وتترك الجاني طليقاً يمارس فعلته
    مع ضحايا أخريات، وتظلّ الضحية طريدة العار الذي سببته هذه الفعلة، حتى وإن
    نجت من القتل، فليس أمامها سوى الهرب من العار إلى الرذيلة، إذ لا ملاذ
    لها إلا المواخير.


    أمّا الحديث عن السياق النفسي الذي أراد النصّ أن ينقله لنا عبر
    الأجواء الحزينة والكئيبة التي تعبر عنها المفردات (الليل، أغنية حزينة،
    عيون ميدوزا، ضغينة، حريق، الطير السجين، أوصال جندي قتيل...)، التي توالت
    منذ مطلع القصيدة، والتي تصور البؤس والاستلاب، التي عليها المدينة
    وأبناؤها، ومنهم (المومس العمياء)، التي هي واحدة من شرائح المجتمع، عانت
    من القهر والظلم، فدفعها كلّ ذلك إلى حالة من اليأس و الحنق والرغبة في
    الثأر، هذه الأحاسيس التي تجول في نفس المرأة ، الثأر ممن أوصلها إلى ما هي
    عليه، والثأر من الغزاة والفاتحين الذين قذفتهم المدن البعيدة والبحار،
    ليدنسوا الأرض، ويستبيحوا أعراض الناس فيها.


    واليأس الناتج عن إحساسها بالعجز، لأنّها عمياء مستباحة، لا إرادة
    لها ولا قوة، فتضطرب الأحاسيس في داخلها، فيدفعها ذلك إلى التفكير في
    الانتحار، للخلاص من مرارة واقعها. هذا الواقع الذي يلقي بظلاله على النصّ،
    هو صورة لحالة الإحباط التي تسيطر على الشاعر وأبناء شعبه، جراء الظروف
    الاجتماعية والسياسية الضاغطة نتيجة الشعور بالهزيمة، والانكسار، الذي ولد
    الإحساس باليأس والضياع والاستسلام، وهو الذي دفع الشاعر إلى أن يتحدث
    بسخرية مريرة -على لسان شخصيته (المومس) في الأبيات (395-407)- عن مشاعر
    الهزيمة و الانخذال من جراء هذا الواقع الذي فرضه عبث الغزاة بالبلاد،
    وتسلطهم على رقاب العباد.


    إن تحقّق عناصر السياق الأربعة -ما كان منها متعلّقاً بطرفي الاتصال؛
    المتكلّم و المتلقّي؛ ونعني بها السياقات الاجتماعية والنفسية
    والثقافية... وزمان النصّ، ومكانه، في النصّ/القصيدة- منحها وحدة الموضوع،
    الذي تسعى إليه الخاصّية النصّية، وتتحقّق عندها الغاية التداولية،
    والتواصلية للنصّ.


    فالسياق الزمني -الذي أشرنا إليه آنفا- حدّدناه اعتماداً على معرفتنا
    السابقة للحقبة التي كتب بها النصّ/القصيدة، وهي حقبة ما بعد الحرب
    العالمية الثانية([26]
    )

    ، وصعود الفكر الثوري الداعي إلى التحرر من نير الاستعمار، وظهور الواقعية
    في الأدب العربي بنحو عام، والعراقي على نحو خاص، نتيجة تبني كثير من
    الأدباء والمثقفين في هذه الحقبة الفكر الشيوعي الذي كان ينظر إلى الأدب
    الروسي على أنّه المثال الذي يجب أن يحتذى، ذلك الأدب الذي توجه نحو
    الطبقات الدنيا، من المجتمع (العمال والفلاحين)، عارضاً ما يتعرضون إليه من
    اضطهاد وحرمان، وحثهم على تغيير واقعهم، ودعوتهم لقيادة المجتمع وتخليصه
    من الطبقات الارستقراطية الحاكمة، التي تعيش في رخاء وكسل، من عرق وجهد
    هؤلاء المحرومين.


    وأعانتنا أيضاً معرفتنا السابقة بعالم النصّ، بتحديد سياق المكان
    الذي يتجلى ابتداءً بمعرفتنا بجنسية منشئ النصّ، ومعرفة البيئة الاجتماعية
    والثقافية التي عاش فيها، فالنصّ لا يتحدث عن تجربة فردية تعيشها (المومس
    العمياء)، بل هي تجربة جماعية تتحدث عن حياة مجتمع، ربّما أبعد من المكان
    الذي صوره النصّ، مجتمع الريف في العراق([27]
    )

    ، تجربة تجتاز الحدود الضيقة لبيئة الشاعر، لتصل إلى كلّ أرض يعاني أبناؤها
    الظلم والحرمان، في ظلّ التخلف الذي فرضته سياسات المستعمرين، ومن جاء
    بعدهم من طغاة حكموا بالسيف والنار، فجعلوا الأبرياء من أبناء الشعب وقوداً
    لنزواتهم وحروبهم، وهو ما تشير إليه القصيدة الأخرى (الأسلحة والأطفال).


    إذ أشر كثير من النقاد أن قصيدة (الأسلحة والأطفال)، تمثّل آخر مرحلة
    الواقعية في شعر السيّاب، أو هي مرحلة انفصال السيّاب عن الهموم المحلية
    الضيقة التي بدت عليها قصيدتاه السابقتان، ووقوفه عند المشكلات الإنسانية
    الكبيرة، وقضايا السلم العالمي، وحماية الأطفال من أن يكونوا طعاماً لحروب
    يشعلها الطغاة، فهذا الهمّ الذي تحدثت عنه القصيدة، تشترك فيه جميع شعوب
    الأرض، ولاسيّما شعوب ما يسمى بالعالم الثالث([28]
    )

    . هذه المرحلة التي تلتها مرحلة الانكفاء على الذات، ولاسيّما بعد عودته من
    غربته، وإحساسه القريب بالموت بعد أن بدأ المرض يوهن نفسه قبل جسده.


      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين نوفمبر 25, 2024 6:31 am