تقشير نواة السرد بحثا عن مداخل الأنا المشتركة
بعد
منجزها الأول أوهام شرقية الذي سلط الضوء من الداخل علي الخيوط الشائكة
بين الحقيقة والوهم في مفكرة المرأة المشرقية التي لا تنفصل كثيرا عن
نظيرتها في الغرب الإسلامي، باحثا عن العطب الذي جعل الذات تنصرف إلي
الزمان الخطأ والمكان الخطأ والوجهة غير الصائبة، محاولا تنبيه الذات
المشتركة إلي وجهها في المرآة المعكوسة المشروخة بالخيبات والهزائم
المتراكمة، ولإن كان هذا المنجز الأول قد قصر اهتمامه علي تفاصيل الجراح
الأنثوية، فإن القارئ اللبيب لا يفوته التنبه اليقظ للإشارات التي تنساق
إلي الجمعي الإنساني العام الذي لا يستثني كائنا حيا، إنه منجز بطعم الحياة
التي تختار الكاتبة أن تري عليها العالم الذي تصنعه من الكلمات، وتسلط
رؤياها عليه كي يكون بؤرة الوجود برمته.
قلت
بعد منجزها هذا، أصدرت الكاتبة والصحافية لنا عبد الرحمن منجزا قصصيا
ثانيا اختارت له من الأسماء الموتي لا يكذبون ، وهو في عمقه امتداد للصرخة
الأولي التي كشفت سر انتمائها وهويتها في الكتابة، وتجسيد لعمق الصوت الذي
ينحفر وفق خصوصيات ملتبسة تفرض نوعا من التراكم الكمي والنوعي، ليمتد هذا
الصوت ويتطور وينحت له مسارا خاصا، فكانت مجموعة الموتي لا يكذبون الوصلة
التي تشي برغبة الكاتبة في مواصلة العزف علي هذه السمفونية الجميلة التي
تغرف من الحياة في تعددها، توحدها، جراحها وأفراحها، بقدر ما تحفل بالذاتي
والمتخيل. إن بناء القصة بالرغم من تعدد الأصوات فيه إلا أنه يكشف تورط
الذات في نوع من المحكي الذي يميزها عن باقي الأصوات النسائية المشرقية،
فهي من جهة تراود الذاكرة والمتخيل، ومن جهة أخري تستدعي اليومي المعيش
الذي يجد تأثيره بشكل أو بآخر في هذه الذات، ولعل ما يجمع شتات هذه
المكونات المتداخلة في جسد المحكي داخل التجربة هو عنصر السرد.
فالكاتبة
لنا مبهورة بطرائق السرد وفية لها، تحكي بدهشة وشغف، وتحير بها السبل
السردية، حتي أنها تضمن قصصا كثيرة في قصة لتصبح نصوصها طويلة نسبيا ومؤهلة
بدراميتها وانفتاح آفاق الحكاية فيها لأن تصير خلفية لرواية محتملة، وهذا
يجعلنا نتمثل الخيال الخصب لدي الكاتبة ومدي انسيابية المقدرة لديها علي
ابتكار الحكايات وصنع حوارات وخلق عوالم تستمد كينونتها من الواقع والمتخيل
والمتداعي.
وإذا انطلقنا لمحاورة المجموعة ومشاكستها، من العتبات الأولية نجد أن المقولة العنوانية تمتح جذورها المرجعية من عنصرين:
ـ عنصر تراثي متمثل في المثل الشعبي الذي يرسخ مقولة عدم كذب الأموات القادمين من العالم الآخر.
ـ عنصر دلالي ـ تداولي يهاجم فكرة إلقاء الأخطاء علي مشجب الآخرين.
أما
اللوحة الأنيقة التي تزين الغلاف فهي تضع المشاهد أمام ترف من الألوان
والأشكال المنسجمة، وكأنها جدارية من العهد القديم، وفيها ما فيها من عبق
التاريخ والجمال، حيث عصفورة تجلس بفرح علي كتف فتاة تقف جنبا إلي جنب مع
رفيقها الغامض، وحيث يتصاعد دخان أصفر من أقبية لا تظهر ومداخن مستترة. كل
هذه المشيرات التي تجعل النص في حيرة من عتباته، وتضع القارئ أمام فسحة
كبري لبناء كشوفاته.
والأكيد
أن النص حافل بفكرة البحث عن حقيقة ما أو لنقل يحرض علي الكشف عنها في
زاوية ما من الكون، وهو لا يمنحها بقدر ما يجعلك تستمتع بالمسرود وأنت
تتمرد، في الآن نفسه ضد الطمأنينة التي غالبا ما تكون من المنتظرات الكبري
لقارئ السرد العربي، فأول نص من المجموعة ينطلق من فكرة البحث عن حقيقة موت
الخال، الرجل الذي ترك في الروح فراغا كبيرا، فراح السارد الشخصية يتقمص
له وجودا أسطوريا يشبه الوهم، في كل الأماكن والطرقات والمحافل، إن الخال
هنا مجرد فكرة معينة لا علاقة لها برجل من شحم ولحم، يتعلق الأمر بفلسفة
طرح السؤال وعدم الركون إلي القراءة الجاهزة التي تريد المعني جاهزا وبدون
رتوش. الكتابة هنا تستنفر القارئ ليعيد بناء مفاهيمه وتجديد رؤاه لتتكيف مع
منطق التحول الذي يقتضيه تناغم النص مع محيطاته المتعددة وانسجام خطاباته
مع ما يحفه من نماذج.
وتحاول
لنا عبد الرحمن في مجموعتها هذه، القبض علي تفاصيل يومية من المعيش المليء
بالغرابة والقلق والسؤال والفوضي، ساعية إلي إعادة بناء الواقع نفسه وفق
نظام ما يجعل أمر الخلوص من شرنقته محتملا، مستعينة بخيالها الجامح وقدرتها
علي التوهم وافتراض اللامعقول والغرائبي. وقد صنعت الكتابة لعبتها في
المجموعة بآجور هذه العناصر كلها بلغة تقريرية همها السرد، باحثة عن
فرادتها وجوهرها من جودة السبك وتلميح العبارة لا من بريق الكلمة
ومخاتلاتها. إن بلاغة النص تكمن في حفره عن القيم الجمالية في الكون،
ونزوعه الإنساني العميق، ومراهنته علي بسترة اللقطة الواقعية اليومية بسؤال
الذات وفبركة الكل بدسم الخيال والتقاط الغريب، وهكذا تنطلق الذات الساردة
من جوهر قضيتها الفردية لتنتهي إلي جوهر القضية الإنسانية المشتركة التي
تذوب فيها الفوارق والأجناس والعقليات والألوان. إن المجموعة لا تتخذ بعد
البحث عن مطمح الذات وسؤالها الفردي بل تتخذ من هذه الذات فجوة للإطلال علي
أسئلة الوجود والعلاقة بين الذات الجمعية والآخر الذي يعكس، بصورة ما،
الحلم أو الوجع السري للمشترك الجمعي.
تراهن
المجموعة، ذات المظهر الأنيق، علي جمالية العبارة وبساطة المعني وغور
الفكرة وعمق الفلسفة التي تتجسد في القيم الجمالية والفنية التي تطفح بها
اللغة والخطاب معا، فلنا عبد الرحمن تلتمس الجمل السردية وتستعين بحدة
الملاحظة عندها، وخصب الخيال، وحصافة الذهن، وقوة الذاكرة، قصد ابتكار
قصصها وعالمها السردي من اللقطة الملاحظة ذاتها، تلك التي يشاهدها المتلقي
يوميا، غير أن الحس الفني لديها يجعل الواقعي مغلفا بالعجيب واللغوي ملتبسا
بالذهني، وتتحول البياضات والسوادات مخبأ للأحلام المحطمة علي مرايا
الواقـــع المتعددة التي تبخس هذه اللمعات فتنتها وقوة جذبها في الحياة.
وتستطيع أن تدرك الرؤية المغتالة، عبر المنجز، بريقها وان تختطفه من صميم
عالم آخر هو، بالتحديد عالم النص.إن سحر الكتابة، كما سبقت الإشارة إلي
ذلك، يتأتي من قدرة لنا عبد الرحمن علي فتل أحبولتها الحكائية من خيوط
الواقع والخيال، تلك الأحبولة المطلسمة بكثير من الوعي بالذات وبالآخر في
تواشجاتهما وتماساتهما القلقة الأقرب إلي التماس الكهربائي.
إن
الوعي بالواقع وبالذات وبالآخر هو ما يجعل الفعل السردي مغريا، لما ينغل
به من حياة، وما يتفتق عنه من أسرار التأويل. لنا عبد الرحمن، إذن، تفتح
لنا بوابة اكتشاف الذات المتسربلة بوعيها المغترب، داخل النص وخارجه، حتي
ما إذا أغوتك الحكاية، تجد نفسك أسير عوالم المتاهة النصية التي تفاجئك
بعمق رؤاها وبفخاخ وعيها القاسي المضرج بدماء الفضيحة والخداع والسخرية،
فتحار أين تموقع نفسك: في الساخر أم المسخر منه، في المقروء أم القارئ، في
النص أم خارجه، وتلك قيمة مضافة للنص السردي لدي لنا عبد الرحمن.
----
قاص وناقد من المغرب
بعد
منجزها الأول أوهام شرقية الذي سلط الضوء من الداخل علي الخيوط الشائكة
بين الحقيقة والوهم في مفكرة المرأة المشرقية التي لا تنفصل كثيرا عن
نظيرتها في الغرب الإسلامي، باحثا عن العطب الذي جعل الذات تنصرف إلي
الزمان الخطأ والمكان الخطأ والوجهة غير الصائبة، محاولا تنبيه الذات
المشتركة إلي وجهها في المرآة المعكوسة المشروخة بالخيبات والهزائم
المتراكمة، ولإن كان هذا المنجز الأول قد قصر اهتمامه علي تفاصيل الجراح
الأنثوية، فإن القارئ اللبيب لا يفوته التنبه اليقظ للإشارات التي تنساق
إلي الجمعي الإنساني العام الذي لا يستثني كائنا حيا، إنه منجز بطعم الحياة
التي تختار الكاتبة أن تري عليها العالم الذي تصنعه من الكلمات، وتسلط
رؤياها عليه كي يكون بؤرة الوجود برمته.
قلت
بعد منجزها هذا، أصدرت الكاتبة والصحافية لنا عبد الرحمن منجزا قصصيا
ثانيا اختارت له من الأسماء الموتي لا يكذبون ، وهو في عمقه امتداد للصرخة
الأولي التي كشفت سر انتمائها وهويتها في الكتابة، وتجسيد لعمق الصوت الذي
ينحفر وفق خصوصيات ملتبسة تفرض نوعا من التراكم الكمي والنوعي، ليمتد هذا
الصوت ويتطور وينحت له مسارا خاصا، فكانت مجموعة الموتي لا يكذبون الوصلة
التي تشي برغبة الكاتبة في مواصلة العزف علي هذه السمفونية الجميلة التي
تغرف من الحياة في تعددها، توحدها، جراحها وأفراحها، بقدر ما تحفل بالذاتي
والمتخيل. إن بناء القصة بالرغم من تعدد الأصوات فيه إلا أنه يكشف تورط
الذات في نوع من المحكي الذي يميزها عن باقي الأصوات النسائية المشرقية،
فهي من جهة تراود الذاكرة والمتخيل، ومن جهة أخري تستدعي اليومي المعيش
الذي يجد تأثيره بشكل أو بآخر في هذه الذات، ولعل ما يجمع شتات هذه
المكونات المتداخلة في جسد المحكي داخل التجربة هو عنصر السرد.
فالكاتبة
لنا مبهورة بطرائق السرد وفية لها، تحكي بدهشة وشغف، وتحير بها السبل
السردية، حتي أنها تضمن قصصا كثيرة في قصة لتصبح نصوصها طويلة نسبيا ومؤهلة
بدراميتها وانفتاح آفاق الحكاية فيها لأن تصير خلفية لرواية محتملة، وهذا
يجعلنا نتمثل الخيال الخصب لدي الكاتبة ومدي انسيابية المقدرة لديها علي
ابتكار الحكايات وصنع حوارات وخلق عوالم تستمد كينونتها من الواقع والمتخيل
والمتداعي.
وإذا انطلقنا لمحاورة المجموعة ومشاكستها، من العتبات الأولية نجد أن المقولة العنوانية تمتح جذورها المرجعية من عنصرين:
ـ عنصر تراثي متمثل في المثل الشعبي الذي يرسخ مقولة عدم كذب الأموات القادمين من العالم الآخر.
ـ عنصر دلالي ـ تداولي يهاجم فكرة إلقاء الأخطاء علي مشجب الآخرين.
أما
اللوحة الأنيقة التي تزين الغلاف فهي تضع المشاهد أمام ترف من الألوان
والأشكال المنسجمة، وكأنها جدارية من العهد القديم، وفيها ما فيها من عبق
التاريخ والجمال، حيث عصفورة تجلس بفرح علي كتف فتاة تقف جنبا إلي جنب مع
رفيقها الغامض، وحيث يتصاعد دخان أصفر من أقبية لا تظهر ومداخن مستترة. كل
هذه المشيرات التي تجعل النص في حيرة من عتباته، وتضع القارئ أمام فسحة
كبري لبناء كشوفاته.
والأكيد
أن النص حافل بفكرة البحث عن حقيقة ما أو لنقل يحرض علي الكشف عنها في
زاوية ما من الكون، وهو لا يمنحها بقدر ما يجعلك تستمتع بالمسرود وأنت
تتمرد، في الآن نفسه ضد الطمأنينة التي غالبا ما تكون من المنتظرات الكبري
لقارئ السرد العربي، فأول نص من المجموعة ينطلق من فكرة البحث عن حقيقة موت
الخال، الرجل الذي ترك في الروح فراغا كبيرا، فراح السارد الشخصية يتقمص
له وجودا أسطوريا يشبه الوهم، في كل الأماكن والطرقات والمحافل، إن الخال
هنا مجرد فكرة معينة لا علاقة لها برجل من شحم ولحم، يتعلق الأمر بفلسفة
طرح السؤال وعدم الركون إلي القراءة الجاهزة التي تريد المعني جاهزا وبدون
رتوش. الكتابة هنا تستنفر القارئ ليعيد بناء مفاهيمه وتجديد رؤاه لتتكيف مع
منطق التحول الذي يقتضيه تناغم النص مع محيطاته المتعددة وانسجام خطاباته
مع ما يحفه من نماذج.
وتحاول
لنا عبد الرحمن في مجموعتها هذه، القبض علي تفاصيل يومية من المعيش المليء
بالغرابة والقلق والسؤال والفوضي، ساعية إلي إعادة بناء الواقع نفسه وفق
نظام ما يجعل أمر الخلوص من شرنقته محتملا، مستعينة بخيالها الجامح وقدرتها
علي التوهم وافتراض اللامعقول والغرائبي. وقد صنعت الكتابة لعبتها في
المجموعة بآجور هذه العناصر كلها بلغة تقريرية همها السرد، باحثة عن
فرادتها وجوهرها من جودة السبك وتلميح العبارة لا من بريق الكلمة
ومخاتلاتها. إن بلاغة النص تكمن في حفره عن القيم الجمالية في الكون،
ونزوعه الإنساني العميق، ومراهنته علي بسترة اللقطة الواقعية اليومية بسؤال
الذات وفبركة الكل بدسم الخيال والتقاط الغريب، وهكذا تنطلق الذات الساردة
من جوهر قضيتها الفردية لتنتهي إلي جوهر القضية الإنسانية المشتركة التي
تذوب فيها الفوارق والأجناس والعقليات والألوان. إن المجموعة لا تتخذ بعد
البحث عن مطمح الذات وسؤالها الفردي بل تتخذ من هذه الذات فجوة للإطلال علي
أسئلة الوجود والعلاقة بين الذات الجمعية والآخر الذي يعكس، بصورة ما،
الحلم أو الوجع السري للمشترك الجمعي.
تراهن
المجموعة، ذات المظهر الأنيق، علي جمالية العبارة وبساطة المعني وغور
الفكرة وعمق الفلسفة التي تتجسد في القيم الجمالية والفنية التي تطفح بها
اللغة والخطاب معا، فلنا عبد الرحمن تلتمس الجمل السردية وتستعين بحدة
الملاحظة عندها، وخصب الخيال، وحصافة الذهن، وقوة الذاكرة، قصد ابتكار
قصصها وعالمها السردي من اللقطة الملاحظة ذاتها، تلك التي يشاهدها المتلقي
يوميا، غير أن الحس الفني لديها يجعل الواقعي مغلفا بالعجيب واللغوي ملتبسا
بالذهني، وتتحول البياضات والسوادات مخبأ للأحلام المحطمة علي مرايا
الواقـــع المتعددة التي تبخس هذه اللمعات فتنتها وقوة جذبها في الحياة.
وتستطيع أن تدرك الرؤية المغتالة، عبر المنجز، بريقها وان تختطفه من صميم
عالم آخر هو، بالتحديد عالم النص.إن سحر الكتابة، كما سبقت الإشارة إلي
ذلك، يتأتي من قدرة لنا عبد الرحمن علي فتل أحبولتها الحكائية من خيوط
الواقع والخيال، تلك الأحبولة المطلسمة بكثير من الوعي بالذات وبالآخر في
تواشجاتهما وتماساتهما القلقة الأقرب إلي التماس الكهربائي.
إن
الوعي بالواقع وبالذات وبالآخر هو ما يجعل الفعل السردي مغريا، لما ينغل
به من حياة، وما يتفتق عنه من أسرار التأويل. لنا عبد الرحمن، إذن، تفتح
لنا بوابة اكتشاف الذات المتسربلة بوعيها المغترب، داخل النص وخارجه، حتي
ما إذا أغوتك الحكاية، تجد نفسك أسير عوالم المتاهة النصية التي تفاجئك
بعمق رؤاها وبفخاخ وعيها القاسي المضرج بدماء الفضيحة والخداع والسخرية،
فتحار أين تموقع نفسك: في الساخر أم المسخر منه، في المقروء أم القارئ، في
النص أم خارجه، وتلك قيمة مضافة للنص السردي لدي لنا عبد الرحمن.
----
قاص وناقد من المغرب