"مرايا الأنا والآخر في رواية "مقامات العشاق والتجار" لأحمد رفيق عوض
١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش
تحمل علاقات الذات بالآخر إشكالية دوماً، فالآخر بوصفه اختلافاً ثقافيا أو دينياً أو جسدياً، يشكل أفقاً للذات، وجزءاً من نظرتنا إليها، سواء تقدم الآخر باعتباره شريكا مسالما أو في هيأة كيان غاز، أو في صفة محتل متغطرس، أو مفاوض مهاون، فهو دائم الحضور في المجال العام للوعي بالذات، لذا يشكل موضوع إغراء ومنبعا للحيطة والحذر معاً.( )
وهنا وفي هذه الدراسة لرواية "مقامات العشاق والتجار"، سنقصر الآخر على اليهودي الذي يشكل أساس الصراع بين الذات والآخر على أرض الواقع، وسنحاول تجلية مرايا الآنا والآخر فيها، واستيضاح الصورة التي يرسمها أحمد رفيق عوض في روايته للذات الفلسطينية، وللآخر اليهودي والتي بدأت متعددة منذ بداية الصراع العربي مع اليهود وقيام دولتهم عام 48 وحتى كتابة الرواية عام 1997. فالكتابة عن اليهود في الأدب الفلسطيني ارتبطت بهذا الصراع، وكانت صدى له، ومرآة تعكس مجرياته، فرغم وجود اليهود على أرض فلسطين قبل وعد بلفور، لم تظهر صورتهم في الأدب الفلسطيني كأقلية مختلفة، لأن الكاتب الفلسطيني لم يكن ير فيهم خطراً، إلا بعد ظهور الحركة الصهيونية وأهدافها الرامية إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، ومع تزايد الهجرة إلى فلسطين ومقاومة أهلها لهذا الخطر القادم، أخذ الأدب الفلسطيني يرسم صورا لليهودي الذي بات عدواً. فكيف بدت صورة اليهودي هل اختلفت هذه الصورة أيام الحرب والانتفاضة عنها بعد اتفاق أوسلو؟ وهل صُور اليهودي من الداخل أم أن صورته لم تتعد كونها نموذجا، فالكتاب الفلسطينيون اختلفوا في تناولهم لشخصية اليهودي باختلاف مراحل الصراع معه، فعندما كان اللقاء معه ممكنا، وجدنا من ميز بين يهودي وصهيوني، وبين عربي ويهودي ومهاجر قادم عبر البحار، كما فعل وديع البستاني في بعض أشعاره( ). وفي مقابل ذلك هناك من اتخذ موقفا معاديا من كل اليهود، معتبرهم أعداءه.
مصادر صورة اليهودي في الأدب الفلسطيني:
تأثرت الكتابة الفلسطينية عن اليهود بما كتب عنهم في الأدب العالمي، وفي العهد القديم والقرآن الكريم، إضافة إلى الاحتكاك المباشر معهم، فخليل بيدس في روايته "الوارث، 1920" تأثر بشخصية (شايلوك) في "تاجر البندقية"، فصور في روايته شخصيات يهودية جشعة تفعل أي شيء للحصول على المال، كذلك فعل محمد العدناني في روايته "السرير" لكننا في تلك الفترة لا نعدم وجود كتاب حاولوا رسم صورة حقيقية للآخر اليهودي، كما هي على أرض الواقع، دون أن يسقطوا رؤاهم الفكرية عليها، لذا بدت صورهم إيجابية تارة وسلبية تارة أخرى، ويبدو ذلك في قصتي نجاتي صدقي "شمعون بزاجلو" و "العابث" وما بين عامي (48-67) اختلف تصوير الكتاب الفلسطينيين للآخر اليهودي لأسباب عدة أهمها اختلاف الموقف والموقع. ففي الأراضي المحتلة عام 48 لجأ كتاب الداخل لاستخدام الرمز خوفا من سلطة الرقيب الإسرائيلي، كما فعل توفيق فياض في مسرحيته "بيت الجنون"، في المقابل تمتع أدباء المنفى بقسط من الحرية، وعبروا عن مشاعرهم القومية التي كانت متأججة بفعل الفكر القومي.
وعلى الرغم من عثورنا على نماذج إيجابية وأخرى سلبية للآخر اليهودي، كما في قصة حنا إبراهيم"المتسللون"، وفي رواية عبد الله منصور "وبقيت سميرة، 1965"، إلا أن الكُتاب ظلوا أٍسرى الصراع القومي بين العرب واليهود، فلم يستطيعوا خلق شخصيات يهودية واقعية، بل صوروا اليهودي كجندي في جيش العدو بلا ملامح فردية، كما في رواية كنفاني"ما تبقي لكم" فاليهودي في بعض القصص وإن تخلص من قالبه النمطي، إلا أنه ظل يمثل العدو حتى لو طالب أقرانه بالعودة من حيث جاؤوا، كما في مسرحية سهيل إدريس "زهرة من دم". وما بعد عام 67، اختلفت صورة اليهودي في الأدب الفلسطيني، فقد ركز كتاب المنفى والداخل على تصوير شخصيات يهودية انسانية انطلاقا من الفكر الماركسي الذي آمن به العديد منهم، فبعضهم التفت لتصوير التمييز داخل المجتمع الاسرائيلي بين اليهود الشرقيين والغربيين، إلى جانب تصويرهم لمعاناة الفلسطينيين وعلاقتهم باليهود، كما في رواية "الصورة الأخيرة في الألبوم" لسميح القاسم،ففيها يأتي القاسم على صورة اليهودي الغربي الذي يشعر بالاستعلاء والتفوق على اليهودي الشرقي، وعلى الفلسطيني على السواء ( ).
وهكذا استمر الكاتب الفلسطيني في رسم صورة الآخر اليهودي بناءً على موقفه السياسي من قضية الصراع معه، ولم يبذل أي جهد لتصوير اليهودي من الداخل لخلق شخصيات إنسانية من لحم ودم. ومنذ عام 87، بداية الانتفاضة الأولى، تزايد التوتر والصراع بين اليهود والفلسطينيين، وانحسر اللقاء بينهم،ليقتصر على اللقاء العسكري، مع الجندي المدجج بالسلاح( ).
هذا الأمر وجد صداه في الأدب الفلسطيني عند أدباء الداخل وأدباء المنفى الذين راحوا يصورون معاناة الفلسطينيين على أيدي الجنود والمستوطنين الإسرائيليين الذين يسلبون أراضيهم ويقتلونهم دون رحمة أو شفقة، كما في رواية أحمد حرب " إسماعيل، 87".
لكن على الرغم من دموية الصراع التفت بعض الكتاب لتصوير نماذج يهودية إنسانية ترفض قتل الفلسطيني واضطهاده، وإن كانت تلك النماذج استثنائية، كما في قصة غريب عسقلان "وردة بيضاء من أجل ديفيد".
وتبدو صورة اليهودي في النصوص التي أنجزت بعد اتفاق أوسلوا سلبية خلافاً عما هو متوقع، ففي "رواية بقايا، 96" لأحمد حرب تمثل (أرنونا) استحالة التعايش في مرحلة السلام، فزواجها من هادي ينتهي بالفشل، بعد أن استمر في فترة الانتفاضة التي قاوما خلالها كل صعوبة واجهتهم، لكن في مرحلة السلام تعود (أرنونا) إلى ديانتها لاعنه اليوم الذي تزوجت فيه من هادي، وفي رواية يحيى يخلف"نهر يستحم في بحيرة" يرى الكاتب أن امكانية التعايش مع الآخر غير واردة أطلاقا. ( ).
هكذا تبدو صورة الآخر اليهودي، رغم محاولة العديد من الكتاب الفلسطينيين الإسهام في الخطاب الفلسطيني المعتدل والهادئ، والتطلع نحو مستقبل أفضل يقوم على التعايش مع اليهودي. من أجل هذا تناسى الفلسطيني جراحه وآلامه رغم عمقها ومرارتها باحثا عن فرصة للحياة دون منفى وقتل ودماء ومؤامرة، لكن السلام الذي حلم به ولد هزيلا غير مكتمل النمو، وظل يعاني من هزاله ونقصه سنوات إلى أن وئد وتلاشى، فالاحتلال في تلك الفترة لم يتخل إلا عن مناطق ضئيلة من الضفة الغربية والقطاع، في حين بقي الجزء الأكبر من الوطن تحت نير الاحتلال.
وعليه يمكن القول أن الأدب الفلسطيني كتب ولا زال يكتب في أجواء من التوتر والصراع ما بين اليهود والعرب، فالاحتلال ما زال جاثما على الأرض الفلسطينية، لذا من الطبيعي أن تعبر النصوص التي أنجزت بعد أوسلو عن خيبة الفلسطيني من هذا الحل الهزيل. وتمثل رواية "مقامات العشاق والتجار" نموذجا للنصوص التي أنجزت بعد أوسلو، وعليه سنبحث عن صورة الآخر وصورة الذات في هذه الرواية، لأن صورة الآخر لن تكتمل إلا من خلال تحديد صورة الذات، حسب منهج المرايا المتقابلة، فنحن نحدد الأنا قياساً إلى لآخر، أو الآخر قياساً إلى الأنا، لذا علينا أن نتتبع كيف تصور الآنا ذاتها، وكيف تصور آخرها، وكيف يصور الآخر ذاته، وكيف يصور الآخر آخره ضمن تخيل الكاتب، لكن قبل ذلك سنبحث عن صورة الآخر في مقالات لكاتب الرواية نشرها في الصحف والمجلات، بدت فيها صورة الآخر لافته .
صورة اليهود في مقالات أحمد رفيق عوض( ).
تحفل مقالات الكاتب بذات متعددة وآخر متعدد، وهو في كتابته عن الآخر لم يسع إلى تحطيمه أو القضاء عليه، وإنما حاول تبصير الجمهور بحقيقته إنسانيا وحضارياً واجتماعيا وثقافيا، تلك الحقيقة عرفها الكاتب عن قرب حينما كان يعمل في مزارعهم ومصانعهم ومطاعمهم.
ففي كتابته عن الآخر (اليهودي) يضع الكاتب أسس للتعامل معه وفق رؤى واقعية تضع الذات في مواجهة حقيقته، يقول: "أرغب في أن أعريه وأرى ندوب جسمه…أريد أن أصغره وأنزع عنه قشرته الصلدة"( )، ولكنه لا يفعل ذلك لأجل السخرية منه، وإنما ليتيح لكل طرف أن يرى ما يقابله في الطرف الآخر، يقول " كانوا مثلي تماماً منهم الذكي والمجنون والطيب والخبيث والمريض والشاذ والسوي"( ) وهو إذ يفعل ذلك يصورهم كما هم في الواقع، بشر مثلنا، تعامل معهم كشخصيات إنسانية من لحم ودم لها مشاعرها وعواطفها وأفكارها الخاصة، فهو لم يكتب عنهم بناء على صوره نمطية أو أفكار مسبقة، بل دخل إلى عالمهم كاشفاً عنه الستار، فبدا هؤلاء في مجملهم شاذون -من وجهة نظر الكاتب-، الجنس عندهم شيء أساسي، يعلون من شأن أجسادهم، ولا يحرمونها من شيء، وهم أيضاً يؤمنون بالسحر والشعوذه والخرافات والأساطير، يقول: "أكاد أقول أن كل يهودي له ميل إلى تصديق كل ما لا يصدق، فيما يتعلق بالأرواح والتنجيم وعلم الغيب"( ) لكنهم على الرغم من ذلك علماء مجدون في كافة المجالات، لهم إسهامات كبيرة في مجالات التطوير الزراعي والصناعي والعسكري. وفي مقالة أخرى بعنوان "وجوه من تل أبيب " يكتب أحمد بطريقة مباشرة عن شخصيات يهودية تحضر بأسمائها، التقاها وتعامل معها حينما كان يعمل غاسلا للصحون في أحد مطاعم تل أبيب ما بين عامي (89-91).
يرسم الكاتب في هذه المقالة لبعضهم صورة سلبية تارة، وصورة ايجابية تارة أخرى، ومن خلال تلك الصور نتعرف على بعض الملامح الفردية لهؤلاء، لكنهم في مجملهم يمثلون مجموعة خاصة من الناس لها صفاتها وخصائصها، فهم نماذج، والنموذج يمثل الجماعة، هؤلاء يتشابهون على اختلاف سلوكهم وتفكيرهم بالشعور بالاستعلاء والتفوق على الآخر، وأهم هؤلاء:
(الياهو) يهودي عراقي، يملك المطعم الذي كان يعمل فيه الكاتب، نشكل له صورتين مختلفتين، الأولى من خلال ما شاهده الكاتب وما عرفه عنه، فهو ليس لديه ضوابط أخلاقية، يفعل أي شيء من أجل الحصول على المال، يغش باللحوم، ويتاجر بالمخدرات، ويحول مطعمه إلى نادٍ للمقامرة، انتهازي تزوج من يهوديه إيرانية لأن والداها ثريان، في المقابل نتعرف على صورة أخرى (للياهو) من خلال ما يرويه عن نفسه، ومن خلال وصف الكاتب لمعاناته، فهو يرى فيه انسان من لحم ودم مكافح عانى من الفقر والحرمان في صغره.
(رفائيل) طباخ المطعم، منغلق على نفسه لكنه متعدد الوجوه، ويتمنى الموت للناس، يمثل دور المحب للآخر الفلسطيني، لكنه في داخله يضمر له الغدر والخيانة.
أما (عوفر) صانع الحلوى، فهو مجند سابق في الجيش الإسرائيلي، يمثل العلاقة بين الأنا التي تعاني من الحرمان والاضطهاد والآخر صاحب السيادة على الأرض وعلى الإنسان، يؤمن هذا كبعض اليهود بالتعايش السلمي مع الآخر الفلسطيني على طريقة عبد وسيد. يصفة الكاتب بأنه حلو النكبة والحديث، منفتح في علاقته مع العمال العرب، يعلمهم شرب المخدرات، ويعرفهم بشوارع تل أبيب السفلى وعاهراتها لاسقاطهم. و(سعاديا) بطباعه الغريبة يمثل نموذجا لليهودي البذيء، يمارس الجنس أمام الآخرين دون أن يشعر بالخجل، وهو أيضا يحتقر الآخر الفلسطيني ويستعلي عليه ولا يتعامل معه.
أما صورة المرأة اليهودية فتبدو في مقالاته شاذة لا أخلاقية، تسعى وراء الجنس والشهوة، إن كانت من أصول شرقية أو غربية، مثقفة أو غير مثقفة. هذه الصورة تظهر من خلال تذكر الكاتب لسيل من الوجوه الأنثوية التقاها وتعرف إليها أثناء عمله في تل أبيب، تحضر هؤلاء باسمائهن أو بالقابهن، لكنهن يتشابهن رغم اختلاف أصولهن ومستوياتهن المادية والفكرية في الشعور بالاستعلاء على الآخر الفلسطيني. وفي مقابل كل هؤلاء هناك (ياعيل) اليهودية المثقفة، وإن كانت تمثل جانبا من صورة المرأة اليهودية في مقالات الكاتب، إلا أنه يكتب عنها بطريقة مختلفة، يكتب عن ملامحها الخارجية، عن طريقة لبسها وكلامها، وعن شخصيتها التي تختلف عن الأخريات. يروي الكاتب عن أسباب مرضها النفسي، وعن علاقته بها، فقد كان يزورها في بيتها ويخرج بصحبتها إلى المسارح والمعارض، ليتفرج على اللوحات الفنية،وليستمع إلى الفرق الموسيقية، ومن خلالها أيضا تعرف على شعراء يهود من اليمن والعراق، وعلى ما كتبه اليهود في منافيهم. تمثل (ياعيل) نموذجا إنسانياً فهي لا تحمل أفكارا مسبقة عن الآخر الفلسطيني ولا تكرهه، تنظر إلى أحمد كإنسان يجمعها معه حب الأدب والثقافة، وهي أيضاً ترفض التمييز العنصري بين اليهود الشرقيين والغربيين في إسرائيل، لكنها تتعاطف مع التاريخ اليهودي، وتبكي حينما تتذكر مذابح النازية، رغم أنها لم تتعرض لتلك المذابح، وحين يزورها الكاتب في عيد الاستقلال تلبس له ثوباً فلسطينياً، لأنها تعتبر نفسها الصهيونية الوحيدة في إسرائيل. وهنا ورغم محاولة الكاتب رسم صورة إيجابية لـ (ياعيل) ولعلاقته بها المبنية على حب الثقافة والأدب، إلا أن حديثها وتصرفاتها يشفان عن فلسفة الفكر الصهيوني الذي يعتبر بدو هذه البلاد يهوداً قدامى، غيروا دينهم إلى دين آخر، فلبسها الثوب الفلسطيني له يدل على أنها ربما رأت فيه يهوديا انحدر من صلب الأجداد (اليهود القدامى).
وهنا نتساءل هل أراد الكاتب أن يقول حين كتب عن هذه الواقعة الحقيقية أن اليهود رغم اختلافهم، يظل ولاؤهم أولاً وأخيراً ليهوديتهم يغلبونها على انسانيتهم.
بنية الرواية:
تقع الرواية في (120 صفحة) من القطع المتوسط تحوي بين دفتيها ثمانية عشر مقطعاً يحمل كل منها عنواناً مختلفاً عن الآخر، يجمع بينها الشكل الروائي.
يحدد الكاتب فضاء روايته وزمانها ففلسطين هي المكان الأوسع والأشمل لأحداثها "نحن نعش في فلسطين"( )، في حين تعتبر مدينة رام الله المكان الأهم لأحداثها "وجرى كل ذلك … في مدينة رام الله العارية في صخب والصاخبة في عري"( ) إضافة إلى القدس وقدرون. أما الزمان فهو ما بين (95-96)، في حين صدرت روايته عام 97، ما يدل على الفارق الضئيل بين الزمنين الروائي والكتابي، فقد جمد الكاتب الحاضر ليكتب عن فترة محددة كان لها تأثيرها على الشعب الفلسطيني. يفكك الكاتب في روايته المجتمع والخطاب والذات الفلسطينية، فيغوص في التفاصيل الدقيقة للواقع الفلسطيني في ظل الاحتلال، والانكسارات والهزائم العربية والفلسطينية، فيكتب عن الواقع الفلسطيني في ظل انتفاضة عام 1987، وعن فترة اتفاق أوسلو وما قبلها وما بعدها- قدوم السلطة والتغيرات التي حصلت في المجتمع الفلسطيني وحرب الخليج نتائجها المدمرة، والتخاذل العربي، والنظام العالمي الجديد (القطب الواحد) وتفرد امريكا بالعالم كقوة عظمى، وتأثير ذلك المباشر على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والايديولوجي الفلسطيني.
يغرق الكاتب في رسم صورة سوداوية للواقع الفلسطيني، الذي يعبق بأجواء الهزيمة، فيقدم شخوصه للقارئ معراة مكشوفة، تحمل رؤيته الخاصة بما فيها من إدانه وتعرية، وكشف وسخرية، ونقد ولوم، وجنون فنتازيا تمزيق الثياب، ليسخر بالتالي من الواقع الفلسطيني المرّ، هذا الواقع الاستثنائي الذي تحول مع الزمن إلى واقع طبيعي. (لسارد/الكاتب)
يحدد الكاتب جنس نصه الأدبي، إذ يكتب على الغلاف (رواية) السارد والكاتب فيها متقاربان إلى حدّ كبير، نعتمد في هذا على قراءة النص، وقراءة المؤلف في الوقت نفسه للبحث عما هو مشترك بينهما. فما هي علاقة الكاتب بالسارد الذي تنعكس في مرآته صورة الآنا والاخر.
السارد في الرواية ريفي الأصل من قدرون، وهي قرية وهمية ليس لها وجود على أرض الواقع، لكهنا تمثل رمزاً لقرى الضفة الغربية بنسيجها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي( )، يروى السارد عن ذاته ومواقفه وأسراره الشخصية بضمير الأنا لما فيه من حميمية وقدرة على تعرية النفس من الداخل والخارج، فيبدي رأيه معلقاً أو مفسراً، ويروى عن الآخرين بضمير الغائب، لكنه ليس كلي المعرفة، لذا يترك للآخرين حرية السرد ليخبروا حكاياتهم أو حكايات غيرهم، أو ليبدوا رأيهم في شخصه (شخص السارد). يتهم السارد بالعماله، تلك التهمة غيرت مجرى حياته يقول: "كان علي أن أعيش حياتين، حياتي الداخلية التي أعرف فيها حجم روعتي وحياتي الخارجية التي كان علي فيها أن أدافع عن نفسي أمام كل شيء…فعلت كل شيء قضيت أوقاتاً خارج قادرون بحجة البحث عن عمل في تل أبيب… حصل ذلك معي أنا بالذات تصور ذلك جرى قبل أوسلو( )، وإذا عدنا إلى الكاتب نجده ريفي الأصل كما هو حال السارد، كتب في بداية الثمانينات في جريدة روابط القرى التي انشأتها اسرائيل لتكون بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية، فشكك بوطنيته وأتهم بالعمالة، ففي إحدى مقالاته كتب "ذهبت إلى تل أبيب وكلي حزن ونقمة وشفقة على الذات .." ( )، وبعد مجيء السلطة عمل الكاتب في إحدى مؤسساتها تماماً مثل السارد.
وهنا يلتقي الكاتب مع السارد إلى حد التطابق، ويعزز ذلك ما أورده الكاتب في النص الموازي، فروايته يهديها إلى السارد الذي يعرف حجم روعته وحجم عذابه ومعاناته، فهو يرى فيه إنساناً جديراً بالاحترام والتقدير، ما يدل على العلاقة الحميمية التي تربطه بهذا السارد الذي نتعرف من خلال مرآته على صورة الآخر وصورة الذات التي بدت سافرة معراة ممزقة الثياب، ربما ليبرئ نفسه، أو ليثأر من شخوصه على اختلاف أطيافهم، وليقول لمن ينظر إليه بعين الشك والريبة ويوجه له الاتهامات كلنا سواء. صورة الآخر: تحفل الرواية بذات متعددة وبأخر متعدد، بيد أنها "لم تتعرض لخطاب الذات وخطاب الاخر من منطلق الخطأ والصواب، فكلاهما فارق الصواب وجافي الحقيقة، تحت ثقل الوهم وضرورات الصراع"( )، فكاتب الرواية ليس له موقف متعصب من الآخر اليهودي، ونلمس ذلك من خلال قراءتنا للرواية، وللكاتب نفسه.
فعلى صعيد الرواية لا يفرق السارد الكاتب بين يهودي وإسرائيلي وصهيوني، فهي مصطلحات لا تضيف سوى تنويعا لفظياً لآخر محتل، وعدو بالدرجة الأولى. لذا لا يتردد في استخدام مصطلح إسرائيلي كنوع من الاعتراف بواقع قائم رغم مرارته وسواده، كما فعل غيره من الكاتب مثل سحر خليفة في روايتها "الصبار" و"عباد الشمس" ومعين بسيسو في مسرحيته "شمشون ودليلة"( ).
وعلى صعيد الكاتب نفسه فهو يؤمن بالتعايش مع الآخر اليهودي، فقد عمل عنده وحاوره، وحاول تلمس انسانيته، تعرف على نماذج مختلفة من الآخر وصفهم في مقالاته بأنهم بشر مثلنا، لكنهم يتشابهون جميعا بشعورهم بأنهم أفضل منا، لأننا "من الغوييم (الأغيار)…حتى الزانية تعتقد ذلك"( )، هذه الرؤية نلمسها أيضاً في رواياته المختلفة فمثلاً في روايته "قدرون"، يأتي على غير شخصية يهودية، كلها تشعر بالتفوق على الآخر الفلسطيني، هذا المويتف يتكرر من خلال إحدى شخصياته الروائية التي تقول" هل سمعت العاهرة التي شتمت العربي، حتى هذه تشتمنا وتشعر بالتفوق علينا"( )،فالشعور بالتفوق على الآخر الفلسطيني لا يقتصر على يهودي دون آخر، فكلهم سواء يرون في إقامة المستوطنات علامة حضارية، يستفيد منها العرب، وهم أيضاً يؤمنون بالفكر الصهيوني ويدافعون عنه، فهم ليسوا محتلين وإنما يعودون إلى وطنهم القديم الجديد.
وفي "مقامات العشاق والتجار" يدخل (الآخر) اليهودي اللعبة مع (الآنا) الفلسطيني، يبحث عن الشخصيات الضعيفة المهزومة سياسياً وايديولوجيا وعاطفياً. يحاول تجنديها ومحو ذاكرتها وتوظيفها لخدمة أهدافه ومخططاته، فهمه الغاء الآخر وسحقه، فالجندي وضابط المخابرات والمثقف والتاجر والمرأة اليهودية جميعهم يتشابهون في موقفهم من الآخر الفلسطيني مهما كان موقعهم.
ضابط المخابرات:
يستخدم هذا شتى الطرق والأساليب لاسقاط الشاب الفلسطيني وتجنيده ليعمل جاسوساً على أبناء شعبه، وهو خبير بنضب الشباك والمصائد لتحقيق أغراضه، يستخدم لذلك أسلوب العصا والجزرة، تارة يستخدم الوعيد والتهديد، وتارة يقدم الإغراءات ويعرض المساعدة. المحقق:
لا يقل سوءاً عن ضابط المخابرات فهو يعذب الفلسطيني ليجبره على الاعتراف، ويبدو ذلك في كلام السجين الذي يصرخ "استحلفك بالله أن لا تضربني"( )، تذكرنا هذه الصورة بقصة محمود قدري "ساعات ما قبل الفجر" وبالصورة الوحشية التي رسمها الكاتب للمحقق الإسرائيلي، خلافا لما ذهب إليه بعض الكتاب مثل سامي كيلاني في قصته "التلفون لا ينفتح" وفيها صور الكيلاني السجان الإسرائيلي كانسان ينتابه الضعف ويتعاطف مع السجين الفلسطيني.
الجندي الإسرائيلي:
يأتي الكاتب في روايته إلى جانب صورة المحقق وضابط المخابرات على صورة الجندي الاسرائيلي الذي يبدو مجرداً من ملامحه الخاصة، لكنه في المقابل يمثل نموذجا للعدو المحتل الذي يجثم فوق الأرض الفلسطينية، ويحرم الفلسطيني من الحرية ومن العيش الكريم، تماما كما يفعل الجندي الامريكي في العراق، فكلاهما يصوره الكاتب قاتلا يسعى لاقتلاع الانسان العربي في أرضه وجذوره.
يظهر الجندي الاسرائيلي عدوا قاتلاً، يفرض منع التجوال، ويطلق النار على الفتيه الفلسطينيين الذين يرشقون الحجارة، يطاردهم في أزقة الشوارع والطرقات ليقتلهم دون رحمه او شفقة( )، هذه الصورة تعيدنا إلى أدب الانتفاضة عام 87، وإلى صورة اليهودي فيها، حيث اقتصر اللقاء معه على الجندي المدجج بالسلاح الذي يقتل بوحشية ودون رحمة، كما في قصة "حكايات عن براعم الصغار" لغريب عسقلاني( ).
وخلافا لهذه الصورة يأتي بعض الأدباء الفلسطينيين على صورة اليهودي المضلل الذي يغير من أرائه وأفكارة كما قصة "المواجهة" لجمال بنوره، وكما في قصيدة درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" وفيها يتعاطف الشاعر مع الجندي مصورا انسانيته.
العاد وزوجته غراسيا:
إضافة إلى ما سبق يأتي الكاتب على صورة أخرى للآخر اليهودي من خلال ما يرويه عطا الله السمسار عن العاد وزوجته، فتنطبع لهما صورة في الذاكرة، يقول: "قدما لي نفسهما على أنهما يعملان في تجارة الذهب والمجوهرات"( )، تذكرنا هذه الصورة بصورة اليهودي التقليدية، خاصة في قصيدة الشاعر سليمان التاجي الفاروقي التي وصف فيها اليهود ببني الأصفر الرنان( ).
لا يتحفظ العاد وزوجته في علاقتهما بالآخر، كما هو الحال عند عطا الله الذي لا يتردد في توطيد علاقته بهما من خلال الشراكة في التجارة، لذا يصفها بأنهما لطيفان وفاتنان، خاصة غراسيا فائقة الجمال والاغراء التي لا تلبث أن تقيم معه علاقة جنسية لتحقيق أغراضها، وبعملها هذا تمثل الصورة النمطية للمرأة اليهودية التي توظف جسدها لخدمة أهدافها.
تذكرنا هذه الصورة بصورة (استير) في رواية "الوارث " لخليل بيدس وبصورة (راشيل) في مسرحية "شمشون ودليلة" لمعين بسيسو، صورة نمطية مسبقة يعززها الواقع والتجربة المعيشة بين الفلسطينيين واليهود، فغراسيا تأخذ عطا الله إلى أحد فنادق القدس، وتقضي معه ثلاثة أيام بعيدا عن زوجها، حين ينجح في استئجار مكتب للشركة في وسط القدس، وهناك تحاول استغلاله جنسيا وعاطفيا، فهي تصف زوجها كوحش لئيم، كي تستدر شفقته، وعطفه وبالتالي ثقته.
وهنا يتشابه وصف (غراسيا) لزوجها، بوصف (ريتا) لزوجها في قصة "أيام من العمر" لنجاتي صدقي( )، ولكن (غراسيا) توظف جسدها من أجل خدمة أهداف الحركة الصهونية وليس لأجل المتعة أو المال بل هي ذات رؤية أيديولوجية وسياسية، تسعى من خلال هذا العمل لاسقاط الشباب الفلسطينيين لتجنيدهم كعملاء وسماسرة للأراضي والعقارات في القدس، للاستيلاء على أكبر عدد من مبانيها وأراضيها، لتهوديها ولتصفية الوجود الفلسطيني فيها. ويأتي الكاتب على صورة أخرى (لغراسيا) تمثل فيها دور اليهودي الذي يشعر بالتفوق على الآخر الفلسطيني، ويبدو ذلك من خلال حوارها مع عطا الله، فهي ترى أن على الفلسطينيين، أن يقبلوا الحل كما يريده الاسرائيليون لأنه لا مستقبل للأقليات، ولأن الاسرائيليين هم الأقوى حضاريا وعسكريا وثقافيا.
المثقف اليهودي:
نتعرف على صورته من خلال مرآة الراوي الذي يروي عن لقائه بأحد المثقفين اليهود، هذا المثقف لا يختلف كثيرا عن الآخرين، فهو يرى أن الاحتلال دوره من دورات التاريخ، وأن على الفلسيطيني أن يتفهمها، وأن ينبذ الأرهاب.
صورة الآنا:
يغوص الكاتب في التفاصيل الدقيقة للواقع الفلسطيني في ظل الاحتلال، وظل الهزائم الداخلية والخارجية، ليصور لنا ألوان الطيف الفلسطيني، فهو لم يضع رأسه في الرمال ليصور لنا ذاتاً مثالية، بل نفذ إلى الواقع فصور الوطني والمتخاذل والعميل واليساري والثوري، والانتهازي، والداعر والفاسق والمنظر. فكانت الأنا في روايته تنتمي إلى شرائح اجتماعية وتيارات فكرية متعددة، تعاني على تعددها عن الأنكسار والهزيمة.
ففي أجواء تعبق بالخيبة والهزائم -هزيمة العراق ، وتراجع الحلم الفلسطيني، والتخاذل العربي والنظام العالمي الجديد –تغير كل شيء، الثوري ترك نضاله والحزبي تخلى عن أيديولوجيته ومبادئه وركض هؤلاء وراء مصالحهم سعيا وراء المال أو الشهرة أو من أجل شهواتهم ونزواتهم.
الفلسطيني المهزوم:
نتعرف عليه من خلال محمد الحامض، ومن خلال سرد الراوي عنه، لكن الراوي هنا ليس كلي المعرفة، لذا يترك له حرية السرد عن ذاته، كما يترك للآخرين حرية سرد جوانب قد يكون الراوي أو المروي عنه قد أغفلها أثناء سرده عن ذاته.
يتحول محمد من مناضل يساري إلى شخصية انتهازية إلى ذات مهشمة، تسعى وراء مصالحها ونزواتها، فبعد اتفاق أوسلو وقدوم السلطة وانشقاق الحزب الذي ينتمي إليه يتغير محمد، ويتغير الحزب وتتغير الأيديولوجيات، وتتغير العقليات( ).
يتحول محمد من مناضل مطارد في الجبال ومن كهوف جنين زمن الانتفاضة إلى فنادق جنيف وباريس، وواشنطن لمفاوضة الإسرائليين، ومن ثم لالمانيا لاكمال دراسة الماجستير والعمل في مؤسسة المانية، إلى مستشار عند أحد العملاء الذين أصبحوا من نجوم الاقتصاد الفلسطيني، ومن امرأة إلى أخرى ليغدو كما وصفه أحد المثقفين اليسارين رمزا لمرحلة انتقالية تضطرب فيها القيم والأخلاق والأشخاص( ).
ويتكرر نموذج الذات المهشمة في شخص عطا الله الذي ذاق ويلات سجون الاحتلال، حينما كان يسارياً، لكن بعد خروجه من السجن ترك الحزب وترك المرأة التي أحبته وضحت من أجله، ليبيع نفسه لأمرأة أخرى، من أجل المال والهوية الإسرائيلية.
يدوس عطا الله على مبادئه وقيمه ويعمل في تهريب الأدوية، زمن الانتفاضة ويصبح ثريا، يمتلك العقارات في مدينة القدس. نتعرف عليه من خلال ما ترويه عايدة عن علاقتها به، ومن خلال ما يعرفه الرواي عنه، إضافة إلى سرده عن ذاته، يقول عطا الله واصفاً القدس "حيث القداسة يكثر الوهم وتكثر الخطيئة، وتقل الهيبة والجلال"( )، وفي القدس، تكثر خطايا عطا الله لينتهي به المطاف مهربا وداعراً، وسمساراً للعقارات فيها يدمر شعبه ووطنه، يقول: "هكذا تنتهي الحياة، لا شيء فيها إلا طعم الاحساس بالمرارة والخسارة( )، وهكذا هي حياته مفعمة بالانهيارات التي بدأت بأسرته، وانتهت بالاحتلال واعتقاده بأن فلسطين للأقوى.
ويتوالي سيل الشخصيات المهزومة في هذه الرواية فننتقل من هزيمة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، لنقف عند رشيد مهباش الذي منحه الراوي فرصة ليروي حكايته بنفسه، لكنه يرويها غير مرة وفي كل مرة يدعي الكذب، رغم أنه أدرى الناس بها.
فقد خرج من وطنه مهزوماً مطاردا، وفي بلاد الغربة باع نفسه من أجل المال وعاش حياته طولاً وعرضاً، لكن لعنة الهزيمة ظلت تلاحقه، فقد خسر كل شيء وعاد إلى وطنه يعاني الانكسار داخليا وخارجيا. المرأة:
لا تختلف صورة المرأة في هذه الرواية كثيرا عن صورة الرجل، فقد بدت مهزومة منكسرة كما هو الرجل، فعايدة مناضلة يسارية مثقفة أفنت سنوات من حياتها في العمل الوطني تناضل إلى جانب عطا الله الذي أحبته حينما كان يسارياً، لكنه خيب أملها وتركها ليتزوج من أخرى. نتعرف على صورتها من خلال ما ترويه عن ذاتها حينا، ومن خلال ما يرويه الراوي حيناً آخر. تتغير عايدة كما هو حال الآخرين، تخون الحزب وتبيع المبادئ وتضرب بالاخلاق عرض الحائط، فتنتقل من علاقة إلى أخرى، ومن رجل إلى آخر، تقول: " كل شيء ينهار ..الحزب وأنا وأبو الراجح… لا شيء يبقى"( ).
أما هالة فتمثل مرآة لبعض الفلسطينيين الذين عاشوا في الغرب وتطبعوا بطباعه، فهي لا تتوانى عن بيع شرفها في سبيل الحصول على عمل أو بيت أو مال.
تنتمي هالة لأسرة مفككة ولجيل ولد عاش في الخارج، فلسطينية بالاسم فقط لا تعرف شيئا عن وطنها، ولا تشعر بالانتماء إليه، لذا تصدم حين تعود للوطن، بالفقر وبالطبيعة الجافة والجبال الجرداء.
المثقف الفلسطيني:
تبدو صورة المثقف الفلسطيني متعددة بتعدد الوجوه والأسماء، لكنهم في مجملهم لا يقلون سوءا عن السماسرة والحزبيين المنشقين والتجار الساقطين، منهم من يتفلسف ويكذب ويرسم واقعا بذيئاً، ومنهم من يتحول إلى منظر يعزف على وتر الإصلاح والطهارة، وهو أقذر الناس، ومنهم من يتاجر بما يكتب مقابل المال أو الجنس.
في مقابل هؤلاء يُجمع الراوي والشخصيات الروائية جميعاً على رسم صورة استثنائية لأحد المثقفين الأيديولوجيين يدعى منصور عبد الهادي، منصور كان استثناءً بقي على مبادئه، ولم يعبأ بالنجومية وبالمراكز السياسية وبالمال.
سماسرة الأراضي والعملاء:
تتعدد مرايا الذات الواحدة تلو الأخرى، لنصل إلى أقذر هذه المرايا، سماسرة الأراضي والمتعاونون في مدينة القدس وغيرها من المدن، هؤلاء نتعرف على صورهم من خلال مرآة السارد الذي يصفهم بأنهم شباب في منتصف الثلاثين من العمر، أذكياء وطموحين، يسخرون من نضال الشعب الفلسطيني، ويرون في محادثات مدريد ارتماء في الحضن الإسرائيلي، ويشعرون بعدم جدوى القتال، طالما تمخض عن هذا السلام الهزيل. وهنا يلاحظ القارئ أن السارد /الكاتب نفذ إلى أعماق هؤلاء محللاً نفسياتهم ودوافعهم وكأنه يحاول أن يتلمس لهم الأعذار والمبررات لما يقومون به.
ومن خلال مرآة السارد نتعرف أيضا على نوع خاص من العملاء (مخضرم) يمثله شخص البعبول، وهو عميل سابق للأردن، ومن ثم لإسرائيل، أمي، لكنه يمتلك المال والعقارات والحسابات السرية في بنوك سويسرا، شخصية قذرة تلهث دائما وراء الشهورة والجنس.
يهرب البعبول في زمن الانتفاضة إلى أمريكا، وهناك يتزوج من هالة ذات الماضي السيء، لكنه لا يعبأ بماضيها، فماضيه أكثر سوءاً، وفي زمن التحولات التي أطاحت بالمجتمع الفلسطيني عاد إلى رام الله، ليصبح نجماً اقتصادياً براقاً في سمائها، يتسابق للعمل عنده وعند أمثاله من العملاء مناضلي الأمس الذين طالت الهزائم نفوسهم ومبادئهم من أجل حفنة من النقود.
الفلسطيني النقي:
تظهر صورة عبد الرحمن الصوفي المناضل السابق، من ركام الفلسطيني المهزوم والمنكسر واللامبالي، عبد الرحمن لم يقو على احتمال الواقع فآثر العزلة في جبال قريته لأنه أيقن أن هذا الزمن ليس للصالحين، وإلى جانب صورته تظهر أيضاً صورة كمال ناجي، قائد الفهد الأسود في زمن الانتفاضة، والذي يغص حلقة بالمرارة التي لا يقوى على التخلص منها. يعمل كمال في أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، لكن لا يشعر بالسعادة، فما يحدث على أرض الواقع لا يلبي طموحات شعبه التي ناضل من أجلها.
لكن رغم سوداوية المشهد وأجواء الهزيمة تسطع في مرآة الذات صورة مشرقة لبعض الفلسطينيين الذين لا يزالون يؤمنون بقضيتهم وعدالتها ويقدمون أرواحهم دفاعاً عنها، وتبدو صورة هؤلاء من خلال أطفال الحجارة أصحاب الأرواح المسكون بالأمل والحلم، هؤلاء الذين يؤرقون ليل الاحتلال ويواجهون الموت بحجر من أجل غد مشرق ووطن محرر.
الخاتمة
وأخيرا نقول أن الكاتب لم يبالغ في رسم صورة سوداوية للمكان والزمان والشخوص في روايته، "مقامات العشاق والتجار" فالزمن الذي حدده لروايته كان استثنائيا كما هي الأحداث استثنائية، غير عادية تركت بصماتها وتأثيرها على المكان والإنسان فأعادت صياغة كل شيء، العواطف والأفكار والأيديولوجيا.
لذا مثلت شخصيات روايته مرحلة من أهم المراحل التي مرت في حياة الشعب الفلسطيني وأخطرها، فكانت تلك الشخصيات عشاقاً وتجارا انتهازية أنانية وشهوانية، ومن يتسم فيهم بالنقاء يعتزل الناس ولا يعيش بينهم.
أما صورة الآخر اليهودي في روايته فهي لم تختلف كثيرا عن صورة اليهود الذين كتب عنهم في مقالاته، والذين كان له تجربة معيشه معهم، وأن كانت صورهم في بعض الأحيان تتطابق مع أراء مسبقة وصور نمطية تعززها التجربة المعيشة وتؤكد صدقها.
فالكاتب ورغم محاولته عدم تقسيم العالم إلى يهود ولا يهود، إلا أنه كان يكتشف دائما بأن اليهودي يفضل يهوديته على إنسانيته، فولاؤهم أولا وأخيرا ليهوديتهم، مهما كان موقعهم.
الهوامش
1- ينظر: نور الدين أفاية، الغرب المتخيل، صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000، ص50.
2- ينظر: عادل الأسطة: اليهود في الأدب الفلسطيني بين 1913-1987، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، غزة 1992 (ص18-ص19).
3- ينظر: شمعون بلاص، الأدب العربي في ظل الحرب 1948-1973، ت:محمد حمزة غنايم، دار المشرق ، 1984، (ص94-ص95).
4- ينظر: سميح القاسم: الصورة الأخيرة في الألبوم، دار النورس، القدس، 1990.
5- ينظر عادل الأسطة، أثر الانتفاضة على رؤية قصاصي المناطق المحتلة عام 1967 لليهود، غريب عسقلاني ويعقوب الأطرش نموذجا، مجلة النجاح للأبحاث،ج3، ع9، 1995.
6- عادل الاسطة: أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلىخيبة النهايات، وزارة الثقافة، رام الله1998، ص29.
7- مقالات الكاتب: أ- أحمد رفيق عوض: وجوه من تل أبيب، مشارف، حيفا، 1995، ع1. ب- أحمد رفيق عوض: وجوه من تل أبيب،الجزء الثاني، مشارف حيفا، 1996، ع15. ت- أحمد رفيق عوض: متعة أن ترى التاريخ بين يديك، دفاتر ثقافية، رام الله، 1997، ع11.
8- أحمد رفيق عوض، متعة أن ترى التاريخ يجري بين يديك، دفاتر ثقافة، 1997، ع11، ص30.
9- السابق، ص30.
10- السابق، ص30.
11- احمد رفيق عوض:مقامات العشاق والتجار، دار الفاروق، نابلس، 1997، ص9.
12- السابق، ص34.
13- عادل الأسطة: من بؤس قدرون وتخلفها إلى فساد، رام الله وفجرها، الحياة.
14- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص123.
15- أحمد رفيق عوض: وجوه من تل أبيب، مشارف حيفا، 1995، ص 39.
16- مالك الريماوي: رواية مقامات العشاق والتجار لأحمد رفيق عوض (القداسة والوهم والخطيئة) دفاتر ثقافية، ع12، 1997، ص22.
17- عادل الأسطة: اليهود في الأدب الفلسطيني بين 1913-1987، ص95، ص96.
18- أحمد رفيق عوض: متعة أن ترى التاريخ يجري بين يديك، دفاتر ثقافية، ع11، 1997، ص30.
19- أحمد رفيق عوض: قدرون، اتحاد الكتاب الفلسطينية، غزة، 1995، ص70.
20- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص72.
21- ينظر: السابق، ص23.
22- عادل الأسطة: أثر الانتفاضة على رؤية قصاصي المناطق المحتلة عام 1997 لليهود: غريب عسقلاني ويعقوب الاطرش نموذجا، ص106.
23- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص80.
24- عادل الأسطة: اليهودية في الأدب الفلسطيني ما بين 1973-1987، ص16.
25- صدقي: الأخوات الحزينات، القاهرة، د.ت، ص17.
26- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص39.
27- ينظر السابق، ص94.
28- السابق، ص79،
29- السابق، ص80.
30- السابق، ص24.
منقول
١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش
تحمل علاقات الذات بالآخر إشكالية دوماً، فالآخر بوصفه اختلافاً ثقافيا أو دينياً أو جسدياً، يشكل أفقاً للذات، وجزءاً من نظرتنا إليها، سواء تقدم الآخر باعتباره شريكا مسالما أو في هيأة كيان غاز، أو في صفة محتل متغطرس، أو مفاوض مهاون، فهو دائم الحضور في المجال العام للوعي بالذات، لذا يشكل موضوع إغراء ومنبعا للحيطة والحذر معاً.( )
وهنا وفي هذه الدراسة لرواية "مقامات العشاق والتجار"، سنقصر الآخر على اليهودي الذي يشكل أساس الصراع بين الذات والآخر على أرض الواقع، وسنحاول تجلية مرايا الآنا والآخر فيها، واستيضاح الصورة التي يرسمها أحمد رفيق عوض في روايته للذات الفلسطينية، وللآخر اليهودي والتي بدأت متعددة منذ بداية الصراع العربي مع اليهود وقيام دولتهم عام 48 وحتى كتابة الرواية عام 1997. فالكتابة عن اليهود في الأدب الفلسطيني ارتبطت بهذا الصراع، وكانت صدى له، ومرآة تعكس مجرياته، فرغم وجود اليهود على أرض فلسطين قبل وعد بلفور، لم تظهر صورتهم في الأدب الفلسطيني كأقلية مختلفة، لأن الكاتب الفلسطيني لم يكن ير فيهم خطراً، إلا بعد ظهور الحركة الصهيونية وأهدافها الرامية إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، ومع تزايد الهجرة إلى فلسطين ومقاومة أهلها لهذا الخطر القادم، أخذ الأدب الفلسطيني يرسم صورا لليهودي الذي بات عدواً. فكيف بدت صورة اليهودي هل اختلفت هذه الصورة أيام الحرب والانتفاضة عنها بعد اتفاق أوسلو؟ وهل صُور اليهودي من الداخل أم أن صورته لم تتعد كونها نموذجا، فالكتاب الفلسطينيون اختلفوا في تناولهم لشخصية اليهودي باختلاف مراحل الصراع معه، فعندما كان اللقاء معه ممكنا، وجدنا من ميز بين يهودي وصهيوني، وبين عربي ويهودي ومهاجر قادم عبر البحار، كما فعل وديع البستاني في بعض أشعاره( ). وفي مقابل ذلك هناك من اتخذ موقفا معاديا من كل اليهود، معتبرهم أعداءه.
مصادر صورة اليهودي في الأدب الفلسطيني:
تأثرت الكتابة الفلسطينية عن اليهود بما كتب عنهم في الأدب العالمي، وفي العهد القديم والقرآن الكريم، إضافة إلى الاحتكاك المباشر معهم، فخليل بيدس في روايته "الوارث، 1920" تأثر بشخصية (شايلوك) في "تاجر البندقية"، فصور في روايته شخصيات يهودية جشعة تفعل أي شيء للحصول على المال، كذلك فعل محمد العدناني في روايته "السرير" لكننا في تلك الفترة لا نعدم وجود كتاب حاولوا رسم صورة حقيقية للآخر اليهودي، كما هي على أرض الواقع، دون أن يسقطوا رؤاهم الفكرية عليها، لذا بدت صورهم إيجابية تارة وسلبية تارة أخرى، ويبدو ذلك في قصتي نجاتي صدقي "شمعون بزاجلو" و "العابث" وما بين عامي (48-67) اختلف تصوير الكتاب الفلسطينيين للآخر اليهودي لأسباب عدة أهمها اختلاف الموقف والموقع. ففي الأراضي المحتلة عام 48 لجأ كتاب الداخل لاستخدام الرمز خوفا من سلطة الرقيب الإسرائيلي، كما فعل توفيق فياض في مسرحيته "بيت الجنون"، في المقابل تمتع أدباء المنفى بقسط من الحرية، وعبروا عن مشاعرهم القومية التي كانت متأججة بفعل الفكر القومي.
وعلى الرغم من عثورنا على نماذج إيجابية وأخرى سلبية للآخر اليهودي، كما في قصة حنا إبراهيم"المتسللون"، وفي رواية عبد الله منصور "وبقيت سميرة، 1965"، إلا أن الكُتاب ظلوا أٍسرى الصراع القومي بين العرب واليهود، فلم يستطيعوا خلق شخصيات يهودية واقعية، بل صوروا اليهودي كجندي في جيش العدو بلا ملامح فردية، كما في رواية كنفاني"ما تبقي لكم" فاليهودي في بعض القصص وإن تخلص من قالبه النمطي، إلا أنه ظل يمثل العدو حتى لو طالب أقرانه بالعودة من حيث جاؤوا، كما في مسرحية سهيل إدريس "زهرة من دم". وما بعد عام 67، اختلفت صورة اليهودي في الأدب الفلسطيني، فقد ركز كتاب المنفى والداخل على تصوير شخصيات يهودية انسانية انطلاقا من الفكر الماركسي الذي آمن به العديد منهم، فبعضهم التفت لتصوير التمييز داخل المجتمع الاسرائيلي بين اليهود الشرقيين والغربيين، إلى جانب تصويرهم لمعاناة الفلسطينيين وعلاقتهم باليهود، كما في رواية "الصورة الأخيرة في الألبوم" لسميح القاسم،ففيها يأتي القاسم على صورة اليهودي الغربي الذي يشعر بالاستعلاء والتفوق على اليهودي الشرقي، وعلى الفلسطيني على السواء ( ).
وهكذا استمر الكاتب الفلسطيني في رسم صورة الآخر اليهودي بناءً على موقفه السياسي من قضية الصراع معه، ولم يبذل أي جهد لتصوير اليهودي من الداخل لخلق شخصيات إنسانية من لحم ودم. ومنذ عام 87، بداية الانتفاضة الأولى، تزايد التوتر والصراع بين اليهود والفلسطينيين، وانحسر اللقاء بينهم،ليقتصر على اللقاء العسكري، مع الجندي المدجج بالسلاح( ).
هذا الأمر وجد صداه في الأدب الفلسطيني عند أدباء الداخل وأدباء المنفى الذين راحوا يصورون معاناة الفلسطينيين على أيدي الجنود والمستوطنين الإسرائيليين الذين يسلبون أراضيهم ويقتلونهم دون رحمة أو شفقة، كما في رواية أحمد حرب " إسماعيل، 87".
لكن على الرغم من دموية الصراع التفت بعض الكتاب لتصوير نماذج يهودية إنسانية ترفض قتل الفلسطيني واضطهاده، وإن كانت تلك النماذج استثنائية، كما في قصة غريب عسقلان "وردة بيضاء من أجل ديفيد".
وتبدو صورة اليهودي في النصوص التي أنجزت بعد اتفاق أوسلوا سلبية خلافاً عما هو متوقع، ففي "رواية بقايا، 96" لأحمد حرب تمثل (أرنونا) استحالة التعايش في مرحلة السلام، فزواجها من هادي ينتهي بالفشل، بعد أن استمر في فترة الانتفاضة التي قاوما خلالها كل صعوبة واجهتهم، لكن في مرحلة السلام تعود (أرنونا) إلى ديانتها لاعنه اليوم الذي تزوجت فيه من هادي، وفي رواية يحيى يخلف"نهر يستحم في بحيرة" يرى الكاتب أن امكانية التعايش مع الآخر غير واردة أطلاقا. ( ).
هكذا تبدو صورة الآخر اليهودي، رغم محاولة العديد من الكتاب الفلسطينيين الإسهام في الخطاب الفلسطيني المعتدل والهادئ، والتطلع نحو مستقبل أفضل يقوم على التعايش مع اليهودي. من أجل هذا تناسى الفلسطيني جراحه وآلامه رغم عمقها ومرارتها باحثا عن فرصة للحياة دون منفى وقتل ودماء ومؤامرة، لكن السلام الذي حلم به ولد هزيلا غير مكتمل النمو، وظل يعاني من هزاله ونقصه سنوات إلى أن وئد وتلاشى، فالاحتلال في تلك الفترة لم يتخل إلا عن مناطق ضئيلة من الضفة الغربية والقطاع، في حين بقي الجزء الأكبر من الوطن تحت نير الاحتلال.
وعليه يمكن القول أن الأدب الفلسطيني كتب ولا زال يكتب في أجواء من التوتر والصراع ما بين اليهود والعرب، فالاحتلال ما زال جاثما على الأرض الفلسطينية، لذا من الطبيعي أن تعبر النصوص التي أنجزت بعد أوسلو عن خيبة الفلسطيني من هذا الحل الهزيل. وتمثل رواية "مقامات العشاق والتجار" نموذجا للنصوص التي أنجزت بعد أوسلو، وعليه سنبحث عن صورة الآخر وصورة الذات في هذه الرواية، لأن صورة الآخر لن تكتمل إلا من خلال تحديد صورة الذات، حسب منهج المرايا المتقابلة، فنحن نحدد الأنا قياساً إلى لآخر، أو الآخر قياساً إلى الأنا، لذا علينا أن نتتبع كيف تصور الآنا ذاتها، وكيف تصور آخرها، وكيف يصور الآخر ذاته، وكيف يصور الآخر آخره ضمن تخيل الكاتب، لكن قبل ذلك سنبحث عن صورة الآخر في مقالات لكاتب الرواية نشرها في الصحف والمجلات، بدت فيها صورة الآخر لافته .
صورة اليهود في مقالات أحمد رفيق عوض( ).
تحفل مقالات الكاتب بذات متعددة وآخر متعدد، وهو في كتابته عن الآخر لم يسع إلى تحطيمه أو القضاء عليه، وإنما حاول تبصير الجمهور بحقيقته إنسانيا وحضارياً واجتماعيا وثقافيا، تلك الحقيقة عرفها الكاتب عن قرب حينما كان يعمل في مزارعهم ومصانعهم ومطاعمهم.
ففي كتابته عن الآخر (اليهودي) يضع الكاتب أسس للتعامل معه وفق رؤى واقعية تضع الذات في مواجهة حقيقته، يقول: "أرغب في أن أعريه وأرى ندوب جسمه…أريد أن أصغره وأنزع عنه قشرته الصلدة"( )، ولكنه لا يفعل ذلك لأجل السخرية منه، وإنما ليتيح لكل طرف أن يرى ما يقابله في الطرف الآخر، يقول " كانوا مثلي تماماً منهم الذكي والمجنون والطيب والخبيث والمريض والشاذ والسوي"( ) وهو إذ يفعل ذلك يصورهم كما هم في الواقع، بشر مثلنا، تعامل معهم كشخصيات إنسانية من لحم ودم لها مشاعرها وعواطفها وأفكارها الخاصة، فهو لم يكتب عنهم بناء على صوره نمطية أو أفكار مسبقة، بل دخل إلى عالمهم كاشفاً عنه الستار، فبدا هؤلاء في مجملهم شاذون -من وجهة نظر الكاتب-، الجنس عندهم شيء أساسي، يعلون من شأن أجسادهم، ولا يحرمونها من شيء، وهم أيضاً يؤمنون بالسحر والشعوذه والخرافات والأساطير، يقول: "أكاد أقول أن كل يهودي له ميل إلى تصديق كل ما لا يصدق، فيما يتعلق بالأرواح والتنجيم وعلم الغيب"( ) لكنهم على الرغم من ذلك علماء مجدون في كافة المجالات، لهم إسهامات كبيرة في مجالات التطوير الزراعي والصناعي والعسكري. وفي مقالة أخرى بعنوان "وجوه من تل أبيب " يكتب أحمد بطريقة مباشرة عن شخصيات يهودية تحضر بأسمائها، التقاها وتعامل معها حينما كان يعمل غاسلا للصحون في أحد مطاعم تل أبيب ما بين عامي (89-91).
يرسم الكاتب في هذه المقالة لبعضهم صورة سلبية تارة، وصورة ايجابية تارة أخرى، ومن خلال تلك الصور نتعرف على بعض الملامح الفردية لهؤلاء، لكنهم في مجملهم يمثلون مجموعة خاصة من الناس لها صفاتها وخصائصها، فهم نماذج، والنموذج يمثل الجماعة، هؤلاء يتشابهون على اختلاف سلوكهم وتفكيرهم بالشعور بالاستعلاء والتفوق على الآخر، وأهم هؤلاء:
(الياهو) يهودي عراقي، يملك المطعم الذي كان يعمل فيه الكاتب، نشكل له صورتين مختلفتين، الأولى من خلال ما شاهده الكاتب وما عرفه عنه، فهو ليس لديه ضوابط أخلاقية، يفعل أي شيء من أجل الحصول على المال، يغش باللحوم، ويتاجر بالمخدرات، ويحول مطعمه إلى نادٍ للمقامرة، انتهازي تزوج من يهوديه إيرانية لأن والداها ثريان، في المقابل نتعرف على صورة أخرى (للياهو) من خلال ما يرويه عن نفسه، ومن خلال وصف الكاتب لمعاناته، فهو يرى فيه انسان من لحم ودم مكافح عانى من الفقر والحرمان في صغره.
(رفائيل) طباخ المطعم، منغلق على نفسه لكنه متعدد الوجوه، ويتمنى الموت للناس، يمثل دور المحب للآخر الفلسطيني، لكنه في داخله يضمر له الغدر والخيانة.
أما (عوفر) صانع الحلوى، فهو مجند سابق في الجيش الإسرائيلي، يمثل العلاقة بين الأنا التي تعاني من الحرمان والاضطهاد والآخر صاحب السيادة على الأرض وعلى الإنسان، يؤمن هذا كبعض اليهود بالتعايش السلمي مع الآخر الفلسطيني على طريقة عبد وسيد. يصفة الكاتب بأنه حلو النكبة والحديث، منفتح في علاقته مع العمال العرب، يعلمهم شرب المخدرات، ويعرفهم بشوارع تل أبيب السفلى وعاهراتها لاسقاطهم. و(سعاديا) بطباعه الغريبة يمثل نموذجا لليهودي البذيء، يمارس الجنس أمام الآخرين دون أن يشعر بالخجل، وهو أيضا يحتقر الآخر الفلسطيني ويستعلي عليه ولا يتعامل معه.
أما صورة المرأة اليهودية فتبدو في مقالاته شاذة لا أخلاقية، تسعى وراء الجنس والشهوة، إن كانت من أصول شرقية أو غربية، مثقفة أو غير مثقفة. هذه الصورة تظهر من خلال تذكر الكاتب لسيل من الوجوه الأنثوية التقاها وتعرف إليها أثناء عمله في تل أبيب، تحضر هؤلاء باسمائهن أو بالقابهن، لكنهن يتشابهن رغم اختلاف أصولهن ومستوياتهن المادية والفكرية في الشعور بالاستعلاء على الآخر الفلسطيني. وفي مقابل كل هؤلاء هناك (ياعيل) اليهودية المثقفة، وإن كانت تمثل جانبا من صورة المرأة اليهودية في مقالات الكاتب، إلا أنه يكتب عنها بطريقة مختلفة، يكتب عن ملامحها الخارجية، عن طريقة لبسها وكلامها، وعن شخصيتها التي تختلف عن الأخريات. يروي الكاتب عن أسباب مرضها النفسي، وعن علاقته بها، فقد كان يزورها في بيتها ويخرج بصحبتها إلى المسارح والمعارض، ليتفرج على اللوحات الفنية،وليستمع إلى الفرق الموسيقية، ومن خلالها أيضا تعرف على شعراء يهود من اليمن والعراق، وعلى ما كتبه اليهود في منافيهم. تمثل (ياعيل) نموذجا إنسانياً فهي لا تحمل أفكارا مسبقة عن الآخر الفلسطيني ولا تكرهه، تنظر إلى أحمد كإنسان يجمعها معه حب الأدب والثقافة، وهي أيضاً ترفض التمييز العنصري بين اليهود الشرقيين والغربيين في إسرائيل، لكنها تتعاطف مع التاريخ اليهودي، وتبكي حينما تتذكر مذابح النازية، رغم أنها لم تتعرض لتلك المذابح، وحين يزورها الكاتب في عيد الاستقلال تلبس له ثوباً فلسطينياً، لأنها تعتبر نفسها الصهيونية الوحيدة في إسرائيل. وهنا ورغم محاولة الكاتب رسم صورة إيجابية لـ (ياعيل) ولعلاقته بها المبنية على حب الثقافة والأدب، إلا أن حديثها وتصرفاتها يشفان عن فلسفة الفكر الصهيوني الذي يعتبر بدو هذه البلاد يهوداً قدامى، غيروا دينهم إلى دين آخر، فلبسها الثوب الفلسطيني له يدل على أنها ربما رأت فيه يهوديا انحدر من صلب الأجداد (اليهود القدامى).
وهنا نتساءل هل أراد الكاتب أن يقول حين كتب عن هذه الواقعة الحقيقية أن اليهود رغم اختلافهم، يظل ولاؤهم أولاً وأخيراً ليهوديتهم يغلبونها على انسانيتهم.
بنية الرواية:
تقع الرواية في (120 صفحة) من القطع المتوسط تحوي بين دفتيها ثمانية عشر مقطعاً يحمل كل منها عنواناً مختلفاً عن الآخر، يجمع بينها الشكل الروائي.
يحدد الكاتب فضاء روايته وزمانها ففلسطين هي المكان الأوسع والأشمل لأحداثها "نحن نعش في فلسطين"( )، في حين تعتبر مدينة رام الله المكان الأهم لأحداثها "وجرى كل ذلك … في مدينة رام الله العارية في صخب والصاخبة في عري"( ) إضافة إلى القدس وقدرون. أما الزمان فهو ما بين (95-96)، في حين صدرت روايته عام 97، ما يدل على الفارق الضئيل بين الزمنين الروائي والكتابي، فقد جمد الكاتب الحاضر ليكتب عن فترة محددة كان لها تأثيرها على الشعب الفلسطيني. يفكك الكاتب في روايته المجتمع والخطاب والذات الفلسطينية، فيغوص في التفاصيل الدقيقة للواقع الفلسطيني في ظل الاحتلال، والانكسارات والهزائم العربية والفلسطينية، فيكتب عن الواقع الفلسطيني في ظل انتفاضة عام 1987، وعن فترة اتفاق أوسلو وما قبلها وما بعدها- قدوم السلطة والتغيرات التي حصلت في المجتمع الفلسطيني وحرب الخليج نتائجها المدمرة، والتخاذل العربي، والنظام العالمي الجديد (القطب الواحد) وتفرد امريكا بالعالم كقوة عظمى، وتأثير ذلك المباشر على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والايديولوجي الفلسطيني.
يغرق الكاتب في رسم صورة سوداوية للواقع الفلسطيني، الذي يعبق بأجواء الهزيمة، فيقدم شخوصه للقارئ معراة مكشوفة، تحمل رؤيته الخاصة بما فيها من إدانه وتعرية، وكشف وسخرية، ونقد ولوم، وجنون فنتازيا تمزيق الثياب، ليسخر بالتالي من الواقع الفلسطيني المرّ، هذا الواقع الاستثنائي الذي تحول مع الزمن إلى واقع طبيعي. (لسارد/الكاتب)
يحدد الكاتب جنس نصه الأدبي، إذ يكتب على الغلاف (رواية) السارد والكاتب فيها متقاربان إلى حدّ كبير، نعتمد في هذا على قراءة النص، وقراءة المؤلف في الوقت نفسه للبحث عما هو مشترك بينهما. فما هي علاقة الكاتب بالسارد الذي تنعكس في مرآته صورة الآنا والاخر.
السارد في الرواية ريفي الأصل من قدرون، وهي قرية وهمية ليس لها وجود على أرض الواقع، لكهنا تمثل رمزاً لقرى الضفة الغربية بنسيجها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي( )، يروى السارد عن ذاته ومواقفه وأسراره الشخصية بضمير الأنا لما فيه من حميمية وقدرة على تعرية النفس من الداخل والخارج، فيبدي رأيه معلقاً أو مفسراً، ويروى عن الآخرين بضمير الغائب، لكنه ليس كلي المعرفة، لذا يترك للآخرين حرية السرد ليخبروا حكاياتهم أو حكايات غيرهم، أو ليبدوا رأيهم في شخصه (شخص السارد). يتهم السارد بالعماله، تلك التهمة غيرت مجرى حياته يقول: "كان علي أن أعيش حياتين، حياتي الداخلية التي أعرف فيها حجم روعتي وحياتي الخارجية التي كان علي فيها أن أدافع عن نفسي أمام كل شيء…فعلت كل شيء قضيت أوقاتاً خارج قادرون بحجة البحث عن عمل في تل أبيب… حصل ذلك معي أنا بالذات تصور ذلك جرى قبل أوسلو( )، وإذا عدنا إلى الكاتب نجده ريفي الأصل كما هو حال السارد، كتب في بداية الثمانينات في جريدة روابط القرى التي انشأتها اسرائيل لتكون بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية، فشكك بوطنيته وأتهم بالعمالة، ففي إحدى مقالاته كتب "ذهبت إلى تل أبيب وكلي حزن ونقمة وشفقة على الذات .." ( )، وبعد مجيء السلطة عمل الكاتب في إحدى مؤسساتها تماماً مثل السارد.
وهنا يلتقي الكاتب مع السارد إلى حد التطابق، ويعزز ذلك ما أورده الكاتب في النص الموازي، فروايته يهديها إلى السارد الذي يعرف حجم روعته وحجم عذابه ومعاناته، فهو يرى فيه إنساناً جديراً بالاحترام والتقدير، ما يدل على العلاقة الحميمية التي تربطه بهذا السارد الذي نتعرف من خلال مرآته على صورة الآخر وصورة الذات التي بدت سافرة معراة ممزقة الثياب، ربما ليبرئ نفسه، أو ليثأر من شخوصه على اختلاف أطيافهم، وليقول لمن ينظر إليه بعين الشك والريبة ويوجه له الاتهامات كلنا سواء. صورة الآخر: تحفل الرواية بذات متعددة وبأخر متعدد، بيد أنها "لم تتعرض لخطاب الذات وخطاب الاخر من منطلق الخطأ والصواب، فكلاهما فارق الصواب وجافي الحقيقة، تحت ثقل الوهم وضرورات الصراع"( )، فكاتب الرواية ليس له موقف متعصب من الآخر اليهودي، ونلمس ذلك من خلال قراءتنا للرواية، وللكاتب نفسه.
فعلى صعيد الرواية لا يفرق السارد الكاتب بين يهودي وإسرائيلي وصهيوني، فهي مصطلحات لا تضيف سوى تنويعا لفظياً لآخر محتل، وعدو بالدرجة الأولى. لذا لا يتردد في استخدام مصطلح إسرائيلي كنوع من الاعتراف بواقع قائم رغم مرارته وسواده، كما فعل غيره من الكاتب مثل سحر خليفة في روايتها "الصبار" و"عباد الشمس" ومعين بسيسو في مسرحيته "شمشون ودليلة"( ).
وعلى صعيد الكاتب نفسه فهو يؤمن بالتعايش مع الآخر اليهودي، فقد عمل عنده وحاوره، وحاول تلمس انسانيته، تعرف على نماذج مختلفة من الآخر وصفهم في مقالاته بأنهم بشر مثلنا، لكنهم يتشابهون جميعا بشعورهم بأنهم أفضل منا، لأننا "من الغوييم (الأغيار)…حتى الزانية تعتقد ذلك"( )، هذه الرؤية نلمسها أيضاً في رواياته المختلفة فمثلاً في روايته "قدرون"، يأتي على غير شخصية يهودية، كلها تشعر بالتفوق على الآخر الفلسطيني، هذا المويتف يتكرر من خلال إحدى شخصياته الروائية التي تقول" هل سمعت العاهرة التي شتمت العربي، حتى هذه تشتمنا وتشعر بالتفوق علينا"( )،فالشعور بالتفوق على الآخر الفلسطيني لا يقتصر على يهودي دون آخر، فكلهم سواء يرون في إقامة المستوطنات علامة حضارية، يستفيد منها العرب، وهم أيضاً يؤمنون بالفكر الصهيوني ويدافعون عنه، فهم ليسوا محتلين وإنما يعودون إلى وطنهم القديم الجديد.
وفي "مقامات العشاق والتجار" يدخل (الآخر) اليهودي اللعبة مع (الآنا) الفلسطيني، يبحث عن الشخصيات الضعيفة المهزومة سياسياً وايديولوجيا وعاطفياً. يحاول تجنديها ومحو ذاكرتها وتوظيفها لخدمة أهدافه ومخططاته، فهمه الغاء الآخر وسحقه، فالجندي وضابط المخابرات والمثقف والتاجر والمرأة اليهودية جميعهم يتشابهون في موقفهم من الآخر الفلسطيني مهما كان موقعهم.
ضابط المخابرات:
يستخدم هذا شتى الطرق والأساليب لاسقاط الشاب الفلسطيني وتجنيده ليعمل جاسوساً على أبناء شعبه، وهو خبير بنضب الشباك والمصائد لتحقيق أغراضه، يستخدم لذلك أسلوب العصا والجزرة، تارة يستخدم الوعيد والتهديد، وتارة يقدم الإغراءات ويعرض المساعدة. المحقق:
لا يقل سوءاً عن ضابط المخابرات فهو يعذب الفلسطيني ليجبره على الاعتراف، ويبدو ذلك في كلام السجين الذي يصرخ "استحلفك بالله أن لا تضربني"( )، تذكرنا هذه الصورة بقصة محمود قدري "ساعات ما قبل الفجر" وبالصورة الوحشية التي رسمها الكاتب للمحقق الإسرائيلي، خلافا لما ذهب إليه بعض الكتاب مثل سامي كيلاني في قصته "التلفون لا ينفتح" وفيها صور الكيلاني السجان الإسرائيلي كانسان ينتابه الضعف ويتعاطف مع السجين الفلسطيني.
الجندي الإسرائيلي:
يأتي الكاتب في روايته إلى جانب صورة المحقق وضابط المخابرات على صورة الجندي الاسرائيلي الذي يبدو مجرداً من ملامحه الخاصة، لكنه في المقابل يمثل نموذجا للعدو المحتل الذي يجثم فوق الأرض الفلسطينية، ويحرم الفلسطيني من الحرية ومن العيش الكريم، تماما كما يفعل الجندي الامريكي في العراق، فكلاهما يصوره الكاتب قاتلا يسعى لاقتلاع الانسان العربي في أرضه وجذوره.
يظهر الجندي الاسرائيلي عدوا قاتلاً، يفرض منع التجوال، ويطلق النار على الفتيه الفلسطينيين الذين يرشقون الحجارة، يطاردهم في أزقة الشوارع والطرقات ليقتلهم دون رحمه او شفقة( )، هذه الصورة تعيدنا إلى أدب الانتفاضة عام 87، وإلى صورة اليهودي فيها، حيث اقتصر اللقاء معه على الجندي المدجج بالسلاح الذي يقتل بوحشية ودون رحمة، كما في قصة "حكايات عن براعم الصغار" لغريب عسقلاني( ).
وخلافا لهذه الصورة يأتي بعض الأدباء الفلسطينيين على صورة اليهودي المضلل الذي يغير من أرائه وأفكارة كما قصة "المواجهة" لجمال بنوره، وكما في قصيدة درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" وفيها يتعاطف الشاعر مع الجندي مصورا انسانيته.
العاد وزوجته غراسيا:
إضافة إلى ما سبق يأتي الكاتب على صورة أخرى للآخر اليهودي من خلال ما يرويه عطا الله السمسار عن العاد وزوجته، فتنطبع لهما صورة في الذاكرة، يقول: "قدما لي نفسهما على أنهما يعملان في تجارة الذهب والمجوهرات"( )، تذكرنا هذه الصورة بصورة اليهودي التقليدية، خاصة في قصيدة الشاعر سليمان التاجي الفاروقي التي وصف فيها اليهود ببني الأصفر الرنان( ).
لا يتحفظ العاد وزوجته في علاقتهما بالآخر، كما هو الحال عند عطا الله الذي لا يتردد في توطيد علاقته بهما من خلال الشراكة في التجارة، لذا يصفها بأنهما لطيفان وفاتنان، خاصة غراسيا فائقة الجمال والاغراء التي لا تلبث أن تقيم معه علاقة جنسية لتحقيق أغراضها، وبعملها هذا تمثل الصورة النمطية للمرأة اليهودية التي توظف جسدها لخدمة أهدافها.
تذكرنا هذه الصورة بصورة (استير) في رواية "الوارث " لخليل بيدس وبصورة (راشيل) في مسرحية "شمشون ودليلة" لمعين بسيسو، صورة نمطية مسبقة يعززها الواقع والتجربة المعيشة بين الفلسطينيين واليهود، فغراسيا تأخذ عطا الله إلى أحد فنادق القدس، وتقضي معه ثلاثة أيام بعيدا عن زوجها، حين ينجح في استئجار مكتب للشركة في وسط القدس، وهناك تحاول استغلاله جنسيا وعاطفيا، فهي تصف زوجها كوحش لئيم، كي تستدر شفقته، وعطفه وبالتالي ثقته.
وهنا يتشابه وصف (غراسيا) لزوجها، بوصف (ريتا) لزوجها في قصة "أيام من العمر" لنجاتي صدقي( )، ولكن (غراسيا) توظف جسدها من أجل خدمة أهداف الحركة الصهونية وليس لأجل المتعة أو المال بل هي ذات رؤية أيديولوجية وسياسية، تسعى من خلال هذا العمل لاسقاط الشباب الفلسطينيين لتجنيدهم كعملاء وسماسرة للأراضي والعقارات في القدس، للاستيلاء على أكبر عدد من مبانيها وأراضيها، لتهوديها ولتصفية الوجود الفلسطيني فيها. ويأتي الكاتب على صورة أخرى (لغراسيا) تمثل فيها دور اليهودي الذي يشعر بالتفوق على الآخر الفلسطيني، ويبدو ذلك من خلال حوارها مع عطا الله، فهي ترى أن على الفلسطينيين، أن يقبلوا الحل كما يريده الاسرائيليون لأنه لا مستقبل للأقليات، ولأن الاسرائيليين هم الأقوى حضاريا وعسكريا وثقافيا.
المثقف اليهودي:
نتعرف على صورته من خلال مرآة الراوي الذي يروي عن لقائه بأحد المثقفين اليهود، هذا المثقف لا يختلف كثيرا عن الآخرين، فهو يرى أن الاحتلال دوره من دورات التاريخ، وأن على الفلسيطيني أن يتفهمها، وأن ينبذ الأرهاب.
صورة الآنا:
يغوص الكاتب في التفاصيل الدقيقة للواقع الفلسطيني في ظل الاحتلال، وظل الهزائم الداخلية والخارجية، ليصور لنا ألوان الطيف الفلسطيني، فهو لم يضع رأسه في الرمال ليصور لنا ذاتاً مثالية، بل نفذ إلى الواقع فصور الوطني والمتخاذل والعميل واليساري والثوري، والانتهازي، والداعر والفاسق والمنظر. فكانت الأنا في روايته تنتمي إلى شرائح اجتماعية وتيارات فكرية متعددة، تعاني على تعددها عن الأنكسار والهزيمة.
ففي أجواء تعبق بالخيبة والهزائم -هزيمة العراق ، وتراجع الحلم الفلسطيني، والتخاذل العربي والنظام العالمي الجديد –تغير كل شيء، الثوري ترك نضاله والحزبي تخلى عن أيديولوجيته ومبادئه وركض هؤلاء وراء مصالحهم سعيا وراء المال أو الشهرة أو من أجل شهواتهم ونزواتهم.
الفلسطيني المهزوم:
نتعرف عليه من خلال محمد الحامض، ومن خلال سرد الراوي عنه، لكن الراوي هنا ليس كلي المعرفة، لذا يترك له حرية السرد عن ذاته، كما يترك للآخرين حرية سرد جوانب قد يكون الراوي أو المروي عنه قد أغفلها أثناء سرده عن ذاته.
يتحول محمد من مناضل يساري إلى شخصية انتهازية إلى ذات مهشمة، تسعى وراء مصالحها ونزواتها، فبعد اتفاق أوسلو وقدوم السلطة وانشقاق الحزب الذي ينتمي إليه يتغير محمد، ويتغير الحزب وتتغير الأيديولوجيات، وتتغير العقليات( ).
يتحول محمد من مناضل مطارد في الجبال ومن كهوف جنين زمن الانتفاضة إلى فنادق جنيف وباريس، وواشنطن لمفاوضة الإسرائليين، ومن ثم لالمانيا لاكمال دراسة الماجستير والعمل في مؤسسة المانية، إلى مستشار عند أحد العملاء الذين أصبحوا من نجوم الاقتصاد الفلسطيني، ومن امرأة إلى أخرى ليغدو كما وصفه أحد المثقفين اليسارين رمزا لمرحلة انتقالية تضطرب فيها القيم والأخلاق والأشخاص( ).
ويتكرر نموذج الذات المهشمة في شخص عطا الله الذي ذاق ويلات سجون الاحتلال، حينما كان يسارياً، لكن بعد خروجه من السجن ترك الحزب وترك المرأة التي أحبته وضحت من أجله، ليبيع نفسه لأمرأة أخرى، من أجل المال والهوية الإسرائيلية.
يدوس عطا الله على مبادئه وقيمه ويعمل في تهريب الأدوية، زمن الانتفاضة ويصبح ثريا، يمتلك العقارات في مدينة القدس. نتعرف عليه من خلال ما ترويه عايدة عن علاقتها به، ومن خلال ما يعرفه الرواي عنه، إضافة إلى سرده عن ذاته، يقول عطا الله واصفاً القدس "حيث القداسة يكثر الوهم وتكثر الخطيئة، وتقل الهيبة والجلال"( )، وفي القدس، تكثر خطايا عطا الله لينتهي به المطاف مهربا وداعراً، وسمساراً للعقارات فيها يدمر شعبه ووطنه، يقول: "هكذا تنتهي الحياة، لا شيء فيها إلا طعم الاحساس بالمرارة والخسارة( )، وهكذا هي حياته مفعمة بالانهيارات التي بدأت بأسرته، وانتهت بالاحتلال واعتقاده بأن فلسطين للأقوى.
ويتوالي سيل الشخصيات المهزومة في هذه الرواية فننتقل من هزيمة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، لنقف عند رشيد مهباش الذي منحه الراوي فرصة ليروي حكايته بنفسه، لكنه يرويها غير مرة وفي كل مرة يدعي الكذب، رغم أنه أدرى الناس بها.
فقد خرج من وطنه مهزوماً مطاردا، وفي بلاد الغربة باع نفسه من أجل المال وعاش حياته طولاً وعرضاً، لكن لعنة الهزيمة ظلت تلاحقه، فقد خسر كل شيء وعاد إلى وطنه يعاني الانكسار داخليا وخارجيا. المرأة:
لا تختلف صورة المرأة في هذه الرواية كثيرا عن صورة الرجل، فقد بدت مهزومة منكسرة كما هو الرجل، فعايدة مناضلة يسارية مثقفة أفنت سنوات من حياتها في العمل الوطني تناضل إلى جانب عطا الله الذي أحبته حينما كان يسارياً، لكنه خيب أملها وتركها ليتزوج من أخرى. نتعرف على صورتها من خلال ما ترويه عن ذاتها حينا، ومن خلال ما يرويه الراوي حيناً آخر. تتغير عايدة كما هو حال الآخرين، تخون الحزب وتبيع المبادئ وتضرب بالاخلاق عرض الحائط، فتنتقل من علاقة إلى أخرى، ومن رجل إلى آخر، تقول: " كل شيء ينهار ..الحزب وأنا وأبو الراجح… لا شيء يبقى"( ).
أما هالة فتمثل مرآة لبعض الفلسطينيين الذين عاشوا في الغرب وتطبعوا بطباعه، فهي لا تتوانى عن بيع شرفها في سبيل الحصول على عمل أو بيت أو مال.
تنتمي هالة لأسرة مفككة ولجيل ولد عاش في الخارج، فلسطينية بالاسم فقط لا تعرف شيئا عن وطنها، ولا تشعر بالانتماء إليه، لذا تصدم حين تعود للوطن، بالفقر وبالطبيعة الجافة والجبال الجرداء.
المثقف الفلسطيني:
تبدو صورة المثقف الفلسطيني متعددة بتعدد الوجوه والأسماء، لكنهم في مجملهم لا يقلون سوءا عن السماسرة والحزبيين المنشقين والتجار الساقطين، منهم من يتفلسف ويكذب ويرسم واقعا بذيئاً، ومنهم من يتحول إلى منظر يعزف على وتر الإصلاح والطهارة، وهو أقذر الناس، ومنهم من يتاجر بما يكتب مقابل المال أو الجنس.
في مقابل هؤلاء يُجمع الراوي والشخصيات الروائية جميعاً على رسم صورة استثنائية لأحد المثقفين الأيديولوجيين يدعى منصور عبد الهادي، منصور كان استثناءً بقي على مبادئه، ولم يعبأ بالنجومية وبالمراكز السياسية وبالمال.
سماسرة الأراضي والعملاء:
تتعدد مرايا الذات الواحدة تلو الأخرى، لنصل إلى أقذر هذه المرايا، سماسرة الأراضي والمتعاونون في مدينة القدس وغيرها من المدن، هؤلاء نتعرف على صورهم من خلال مرآة السارد الذي يصفهم بأنهم شباب في منتصف الثلاثين من العمر، أذكياء وطموحين، يسخرون من نضال الشعب الفلسطيني، ويرون في محادثات مدريد ارتماء في الحضن الإسرائيلي، ويشعرون بعدم جدوى القتال، طالما تمخض عن هذا السلام الهزيل. وهنا يلاحظ القارئ أن السارد /الكاتب نفذ إلى أعماق هؤلاء محللاً نفسياتهم ودوافعهم وكأنه يحاول أن يتلمس لهم الأعذار والمبررات لما يقومون به.
ومن خلال مرآة السارد نتعرف أيضا على نوع خاص من العملاء (مخضرم) يمثله شخص البعبول، وهو عميل سابق للأردن، ومن ثم لإسرائيل، أمي، لكنه يمتلك المال والعقارات والحسابات السرية في بنوك سويسرا، شخصية قذرة تلهث دائما وراء الشهورة والجنس.
يهرب البعبول في زمن الانتفاضة إلى أمريكا، وهناك يتزوج من هالة ذات الماضي السيء، لكنه لا يعبأ بماضيها، فماضيه أكثر سوءاً، وفي زمن التحولات التي أطاحت بالمجتمع الفلسطيني عاد إلى رام الله، ليصبح نجماً اقتصادياً براقاً في سمائها، يتسابق للعمل عنده وعند أمثاله من العملاء مناضلي الأمس الذين طالت الهزائم نفوسهم ومبادئهم من أجل حفنة من النقود.
الفلسطيني النقي:
تظهر صورة عبد الرحمن الصوفي المناضل السابق، من ركام الفلسطيني المهزوم والمنكسر واللامبالي، عبد الرحمن لم يقو على احتمال الواقع فآثر العزلة في جبال قريته لأنه أيقن أن هذا الزمن ليس للصالحين، وإلى جانب صورته تظهر أيضاً صورة كمال ناجي، قائد الفهد الأسود في زمن الانتفاضة، والذي يغص حلقة بالمرارة التي لا يقوى على التخلص منها. يعمل كمال في أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، لكن لا يشعر بالسعادة، فما يحدث على أرض الواقع لا يلبي طموحات شعبه التي ناضل من أجلها.
لكن رغم سوداوية المشهد وأجواء الهزيمة تسطع في مرآة الذات صورة مشرقة لبعض الفلسطينيين الذين لا يزالون يؤمنون بقضيتهم وعدالتها ويقدمون أرواحهم دفاعاً عنها، وتبدو صورة هؤلاء من خلال أطفال الحجارة أصحاب الأرواح المسكون بالأمل والحلم، هؤلاء الذين يؤرقون ليل الاحتلال ويواجهون الموت بحجر من أجل غد مشرق ووطن محرر.
الخاتمة
وأخيرا نقول أن الكاتب لم يبالغ في رسم صورة سوداوية للمكان والزمان والشخوص في روايته، "مقامات العشاق والتجار" فالزمن الذي حدده لروايته كان استثنائيا كما هي الأحداث استثنائية، غير عادية تركت بصماتها وتأثيرها على المكان والإنسان فأعادت صياغة كل شيء، العواطف والأفكار والأيديولوجيا.
لذا مثلت شخصيات روايته مرحلة من أهم المراحل التي مرت في حياة الشعب الفلسطيني وأخطرها، فكانت تلك الشخصيات عشاقاً وتجارا انتهازية أنانية وشهوانية، ومن يتسم فيهم بالنقاء يعتزل الناس ولا يعيش بينهم.
أما صورة الآخر اليهودي في روايته فهي لم تختلف كثيرا عن صورة اليهود الذين كتب عنهم في مقالاته، والذين كان له تجربة معيشه معهم، وأن كانت صورهم في بعض الأحيان تتطابق مع أراء مسبقة وصور نمطية تعززها التجربة المعيشة وتؤكد صدقها.
فالكاتب ورغم محاولته عدم تقسيم العالم إلى يهود ولا يهود، إلا أنه كان يكتشف دائما بأن اليهودي يفضل يهوديته على إنسانيته، فولاؤهم أولا وأخيرا ليهوديتهم، مهما كان موقعهم.
الهوامش
1- ينظر: نور الدين أفاية، الغرب المتخيل، صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000، ص50.
2- ينظر: عادل الأسطة: اليهود في الأدب الفلسطيني بين 1913-1987، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، غزة 1992 (ص18-ص19).
3- ينظر: شمعون بلاص، الأدب العربي في ظل الحرب 1948-1973، ت:محمد حمزة غنايم، دار المشرق ، 1984، (ص94-ص95).
4- ينظر: سميح القاسم: الصورة الأخيرة في الألبوم، دار النورس، القدس، 1990.
5- ينظر عادل الأسطة، أثر الانتفاضة على رؤية قصاصي المناطق المحتلة عام 1967 لليهود، غريب عسقلاني ويعقوب الأطرش نموذجا، مجلة النجاح للأبحاث،ج3، ع9، 1995.
6- عادل الاسطة: أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلىخيبة النهايات، وزارة الثقافة، رام الله1998، ص29.
7- مقالات الكاتب: أ- أحمد رفيق عوض: وجوه من تل أبيب، مشارف، حيفا، 1995، ع1. ب- أحمد رفيق عوض: وجوه من تل أبيب،الجزء الثاني، مشارف حيفا، 1996، ع15. ت- أحمد رفيق عوض: متعة أن ترى التاريخ بين يديك، دفاتر ثقافية، رام الله، 1997، ع11.
8- أحمد رفيق عوض، متعة أن ترى التاريخ يجري بين يديك، دفاتر ثقافة، 1997، ع11، ص30.
9- السابق، ص30.
10- السابق، ص30.
11- احمد رفيق عوض:مقامات العشاق والتجار، دار الفاروق، نابلس، 1997، ص9.
12- السابق، ص34.
13- عادل الأسطة: من بؤس قدرون وتخلفها إلى فساد، رام الله وفجرها، الحياة.
14- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص123.
15- أحمد رفيق عوض: وجوه من تل أبيب، مشارف حيفا، 1995، ص 39.
16- مالك الريماوي: رواية مقامات العشاق والتجار لأحمد رفيق عوض (القداسة والوهم والخطيئة) دفاتر ثقافية، ع12، 1997، ص22.
17- عادل الأسطة: اليهود في الأدب الفلسطيني بين 1913-1987، ص95، ص96.
18- أحمد رفيق عوض: متعة أن ترى التاريخ يجري بين يديك، دفاتر ثقافية، ع11، 1997، ص30.
19- أحمد رفيق عوض: قدرون، اتحاد الكتاب الفلسطينية، غزة، 1995، ص70.
20- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص72.
21- ينظر: السابق، ص23.
22- عادل الأسطة: أثر الانتفاضة على رؤية قصاصي المناطق المحتلة عام 1997 لليهود: غريب عسقلاني ويعقوب الاطرش نموذجا، ص106.
23- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص80.
24- عادل الأسطة: اليهودية في الأدب الفلسطيني ما بين 1973-1987، ص16.
25- صدقي: الأخوات الحزينات، القاهرة، د.ت، ص17.
26- أحمد رفيق عوض: مقامات العشاق والتجار، ص39.
27- ينظر السابق، ص94.
28- السابق، ص79،
29- السابق، ص80.
30- السابق، ص24.
منقول