منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    اكتشاف الأنا و الآخر

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    اكتشاف الأنا و الآخر Empty اكتشاف الأنا و الآخر

    مُساهمة   الإثنين ديسمبر 14, 2009 10:31 am

    مساقات
    اكتشاف (الأنا) و(الآخر)
    د. عبد الله الفَيْفي

    أشرتُ في المساق السابق من هذه القراءة في نَصّ (الحزام) لأحمد أبي دهمان إلى أن التداخل بين الطبيعة والإنسان في رمزية النصّ هو تداخل عضويّ؛ يصبح فيه (قوس قزح) رمزًا كلّيًّا لكل معاني الخصب، والعطاء، والتجدّد. والسارد يراه دائماً في أبهى تجلّياته حينما يستيقظ على إدراك الحقائق، بصحبة حزام غالباً، أي حينما تشفّ بصيرته عن أمله المنشود في التحوّل المستقبليّ الأفضل. وعندئذٍ يكتشف أنه ليس بمجنون، (وأنه بمجرّد أن يتوقّف عن الغِناء سيصبح رجلاً). (ص85). أي أنه سيرى العالم على حقيقته بعيداً عن سلبيات الشِّعْر. وهنا المفارقة تتبدّى من أن الكاتب يتبنّى خطاباً شِعْريًّا في الوقت الذي يُدين- رمزيًّا- الخطاب الشِّعْريّ. كأنما في هذا صورة عن الشخصية العربية، (المتشعرنة)، المتشبثة بخطابها الشعري السلبي الاستلابي المراهق. تظن أن بوسعها أن تصلح الكون عبر قصيدة، وإن ادّعت ظاهريًّا خلاف ذلك. ولقد عبر أبو دهمان - كما مرّ في مساق سابق من هذه القراءة - عن هذا المأزق الروحي والحضاري من خلال رمزية الماء الذي أخذ يغرق الحرث والنسل. ذلك أن قراءة التاريخ تنبئنا أننا غارقون كثيرًا في الوهم، وأننا نعيش أحلامًا عتيقة أهلكتنا، كانت بمثابة أفيون، عطّل حسنا النقدي حول ما نحن فيه من تداعيات، هي ممّا جنته أيدينا قبل كل شيء. إذ ركنّا - منذ حامل لوائنا الأول امرئ القيس - إلى أحلام يقظة، عودًا على بدءٍ زَخْرَفَهُ لنا التاريخ أو زيّفه، أو إلى منامات ليلٍ (وهرانيّة)، ترينا ميلاد فجر، يأتي هكذا بغتة، متخطيًا سنن الله في كونه! ولا شك في أن من وظيفة اللغة الشعرية أن تبني واقعًا بديلاً جميلاً عن واقع مأزوم قبيح.. لكن لغة الشعر تلك نفسها قد تُسهم أيضاً في تجميل قبحٍ، وفي خداع النفس والمجتمع، ومن ثم فهي لا تعالج بمقدار ما تسكّن الآلام، أو ربما تعمّي على مناعتنا الذاتية، الفطرية والمكتسبة، مقاومتها أمراضًا سرطانية، (تخفي وهي تستشري)، على حدّ قول البردّوني.
    في هذا المخاض - وسارد (الحزام) ينهض لحماية الحقول من اجتياح الطيور- يرى الشمس، كما قال، تغيّر وجهتها مشرقة من المغرب، لتغيب في المشرق، ويستيقظ على الليل يلفّ كل شيء حوله، وإذا هو محمول على ظهر أمّه، (التي نجحتْ في العثور عليه، حيث كان أهل القرية قد قضوا وقتاً طويلاً في البحث عن الفتى المجنون). (ص85). في إشارات إلى اكتشاف (الأنا) و(الآخر)، الشرق (العربيّ) والغرب، الماضي والحاضر. وهو اكتشاف له ما بعده في تجربة السارد.
    وهكذا يستغل الكاتب تلك العناصر الأسطورية الشعرية ليوظّفها على هذا النحو - المختلف بطبيعة الحال عمّا كانت عليه في القصيدة العربية القديمة - لتصوير تلك الجدليّة بين التراث والحداثة، وبين الذات والآخر. لكن هذه الطريقة في التعبير والتصوير ظلّت لدى أبي دهمان طريقة شيفريّة، شعريّة في النهاية، تتطلّب القراءة والتأويل، وتنفتح على تعدّدهما، كما هو الحال مع أي نصّ رمزيّ شعريّ.. ولذلك، فإنني - على كثرة ما اطلعت عليه من قراءات في هذا النص - لم أجد قراءة لامست تلك الطوايا الدلالية، التي تمنح النصّ خصوصيته وعمقه. غير أنه ينبغي الاعتراف هنا بأن تلك الطوايا لا تخدم الغرض الروائي المألوف، بل إن تلك الطاقة الأسطورية الشعريّة ليست في متناول قارئ الرواية الاعتياديّ، لا العربيّ ولا الفرنسيّ، ما لم يكن مسلّحاً بخلفية النص الميثولوجية التراثية، إلى خلفيته الأجناسية بوصفه (قصيدة - رواية)، لا رواية محضة.
    وهل من جدوى إذن لهذه التهويمات الأسطورية في عمل سرديّ يسعى إلى معالجة مثل تلك القضايا الحضارية والإنسانية.. لولا أن أبا دهمان لا يتوخّى في عمله هذا كتابة رواية بالمعنى التقليديّ، بمقدار ما يتوخّى كتابة أسطورة شعرية في ثوب روائيّ؟! وذلك ما يُخرج عمله هذا عن أن يكون رواية إلى كونه (قصيدة - رواية).
    عند هذا المنعطف يعرب البطلُ لأُمِّه عن رؤيته قوس قزحه الحقيقي. ومع ذلك فليس بقوس قزحه نفسه. وحينما تسأله أُمُّهُ لماذا لم يغنّ لقوس قزحه كما أوصته، يجيبها: (لن أغني ثانية، وإلاّ فإنّي لن أصبح رجلاً على الإطلاق). (ص85). ذلك أن الغناء لديه قد أصبح رديف الجنون، فهو يخشى أن يُطلق عليه حزامٌ تسمية: (المجنون ابن المجنونة). (ص86). وهذا وجه اختلاف في الرأي بينه وبين أُمِّهُ.
    إنه يعبّر في هذا المقطع من النصّ عن بدايات التحوّل في موقف القرية منه، بتوسّطهم بين كفّهم عن النظر إليه على أنه (مجنون) وما يسمعه من جُمَل لاذعة عن (مجانين) العائلة. مشيراً إلى موقف (أخته - ذاكرته) المتميّز، الذي استحقّت عليه الأخرى أن ينعتها بقوس قزحه، ممّا يؤكّد اتخاذه هذا النعت (قوس قزح) - بما يعنيه فيزيقيًّا من انكسار شعاعٍ بقطرة ماء، لا يظهر في سمائنا إلا لمامًا، بالتقاء ضياء الشمس والمطر - إشارة إلى كل خصبٍ مُشرق، ماضيًا أو حاضراً، من داخل العائلة الثقافية نفسها أو من خارجها.
    وهاهنا بدأ السارد لعبة الجنون بمفهوم أهل القرية - بمعنى الخروج على قوالب الثقافة التقليدية - ممّا كان منشأ صدامٍ بينه وبينهم، بما فيهم حزام نفسه، الذي كان يَقْبَل منه ممارسة جنونه الغنائي، إلا أن يمسّ بيته وعائلته. وبذا تبدو مفردة (الغناء) في النص قد تحوّلتْ عن دلالتها السلبية إلى دلالة إيجابية، بما تحمله من دلالة التغيير والتجديد والثورة على السائد. (مارستُ جنوني تماماً، وأسمعتُ كلاًّ منهم حكايته التي رَوَتْها لي العجوز، ولم يَعُدْ أحدٌ يجرؤ على مواجهتي). (ص87). وفي هذه الدوّامة، التي تصوّر إعصاراً من التحوّل، الذي يكتسب به البطل صفة التفوّق العلميّ والجنون الثقافي عند أهل القرية، تموت الجارة العجوز.
    وإذا صحّ القول بأن الجارة العجوز ترمز إلى التيار الحضاريّ الغربيّ، فإن موتها يبدو معادلاً لموت الاستعمار، بمعناه المادي أو الذهني. وقد أوصتْ الجارة العجوز - كما قال - بكامل حقولها لشاعر القرية ومغنيها ومجنونها، أي إليه هو: بطل النص. ما أثار مرارة حزام، الذي كان يحلم بأن يشتري هو حقول العجوز قبل موتها. ومع هذا فقد احتفل أهل القرية بهذه المناسبة، لجلاء العجوز عن حياتهم، وتمكّن البطل من تركتها، واحتضنوا بطلهم مجدَّدا.
    لكن حُلم أبيه وحُلم أساتذته في أن يصبح صحفيًّا قد اضطره إلى مغادرة القرية إلى المدينة. وهي مغادرة تنبئ عن مغادرة لاحقة أكبر، من القرية الكبرى إلى المدينة الكبرى، أي من الشرق إلى الغرب. تلك المرحلة من لقاء القرية بالمدينة كانت مرحلة التباسٍ، وجَذْبٍ ورَدّ بين الطرفين، جسّده الكاتب من خلال عودة أحد أبناء القرية، لقّبه الناس ب(العاصمة)، وما بدا عليه من هيئة وسلوك غريبين، وما أظهره أبناء القرية من سلوكيات ومواقف متباينة حياله. تلك المرحلة التي يعبّر عنها خير تعبير قولُ الكاتب أن أهل القرية قد لَبِسُوا هدايا (العاصمة) على ملابسهم القديمة، (كما لو أننا نضع العاصمة فوق القرية. (ص89). إذ ذاك تشهد القرية (ثورة الكبسة) لأول مرة! ثم (ثورة الدخان)، التي جلبها ابن القرية المتمدين! ثم شرعتْ الجارة العجوز تُمدّ بها أبناء القرية أنفسهم، في الوقت الذي يذهب فيه غير المدخّنين إلى صلاة الجمعة! وعلى الرغم ممّا يصفه من مظاهر الثراء والأبّهة التي لابستْ ملابسةً عضويّة ذلك العائد من المدينة - وشخّصها في صورة (سِنِّه الذهبية) - فقد نَفَرَ منه حزام وأبناء القرية نفوراً، بل نَفَرَ منه أهلُه أنفسهم، وتحوّل الفرح به (إلى ريبة وحذر تجاهه وتجاه الحياة الحضارية التي يمجّدها، وبدتْ القرية حزينة وجريحة، وعرفنا فيما بعد أن أباه كان قد بكى طويلاً لهذه المأساة)، (ص92): (مأساة لقاء القرية بالمدينة)... والقراءة مستمرة.


    aalfaify@hotmail.com
    منقول

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:43 am