منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الأنا والآخر

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الأنا والآخر Empty الأنا والآخر

    مُساهمة   الإثنين ديسمبر 14, 2009 10:28 am

    يولد الإنسان في كل مكان ٍ مثقلا بالقيود !

    لا يولد الإنسان إنساناً، إنه يكتسب إنسانيته اكتسابا؛ يولد في أسرة أو قبيلةٍ أو أمـّةٍ، محدوداً بحدودِ هذه الواقعة الثقافية، تماماً مثلما يولد الإنسانُ محدوداً بواقعةِ إرثه البيولوجي، أي مثقلا بالقيود، وتقف لحظة الميلاد الأول ضد لحظة الميلاد الثاني. فهذه الأخيرة محتشدة بالإحتمالاتِ والوعود والتوقعات، وبإمكانيةِ تجاوز حدود الواقعة الثقافية، واقعة الانتماء إلى الأسرة والقبيلة والأمـّة، حيث يكتسب الفرد بمجرد الولادة، ومنذ الوهلة الأولى، نمطا من أنماط الشخصية يجري تعزيزه في البيت والمدرسة والسوق والمجتمع كله بلا هوادة.

    إنه يكتسب تصوراً للآخر في هذه الأماكن نفسها، وفي هذه الأماكن نفسها يجري تعزيز هذا التصور. والحصيلة النهائية هي شكلٌ من أشكال المعايير والقيم يتخذ منحى متدرجاً، ويصلح للاستخدام في هذا السياق أو ذاك. ومهما استمدّ هذا الشكل من معايير وقيم ذات طابع إنساني أشمل، فإن له حدودا لا يتخطاها. فإما أن يتوقف عند المرحلة الشهيرة، مرحلة تعتقد فيها الجماعة أنها هي "الإنسانية" وما دونها من جماعاتٍ هي "البربرية"، وإما أن يتنازل قليلاً عن احتكار هذا الامتياز ويعممّه على جماعةٍ أوسع. في كلا الحالين، تظل "إنسانية" الفرد في هكذا جماعاتٍ منقوصة. إنه واقف دون الحدود حارساً لإنسانيةٍ وهميةٍ ضد بربرية الآخر.

    قد يتصور بعض الناس أن عملية الاكتساب تسري عبر حدود الأسرة فالقبيلة فالدولة، وتتوقف بالطبيعة، ولكن هذا التصور ناتجٌ عن واقع مصطنع صنعته العادة والتكرار. إنها في الواقع عملية لانهائية، ولا سبيل إلى وقفها مادام الإنسان يسعى باحثا عن نفسه، أي عن غايته. ومثلما أن طالب العلم لم يكن يُكرّس أستاذاً إلا بعد رحلةٍ شاقةٍ في طلب العلم بين الأجناس والأعراق والأمم، فإن الإنسان قبل هذه الرحلة الشاقة إلى الإنسان فيه يظل في مرحلة الإنتماء المنقوص إلى عرق أو لونٍ أو مذهب وما إلى ذلك، وهي مراحل تصلح للاستثمار السياسي وتنفيع العاطلين عن الإنسانية إلا أنها لا تصلح منهج نظر وحياة. في هذه الرحلة الشاقة يخرج طالب العلم على المعايير والقيم الخاصة بهذه الجماعة أو تلك إلى معايير وقيم متعددة ومتنوعة، وبالمقارنة يصل إلى نسبية المعتقدات والآلهة والأعراف. وكذلك يفعل الإنسان الباحث عن ذاته في ما وراء قيود الميلاد، وتحدد له مهمة قد لا تخطر بباله. إنه يكتسب انسانيته رافضاً الإقتناع بصغائر الفروق العائلية والإجتماعية والقومية، ومحلقاً، مثلما حلق "جيمس جويس" ذات يوم ليتحرر من إيرلندا (العائلة والمذهب والأرض) متخيلاً لنفسه مصيراً غير "إيرلندي"، كفنان وإنسان.

    بالطبع هذه هرطقة في عرف حماة العروق والأنساب الذين يجاهدون لمحاصرة المولود في أحواضهم الثقافية والسياسية، حتى باستخدام التقنيات الحديثة وعرض الصور على شاشة الحاضنة لإيهام المولود أنه في مركز الكون دائما، ولكنها هرطقة لها منطقها الخاص ولها أسلافٌ يبجلهم الناس الآن ويقولونهم ما لم يقولوا، أو يقيمون لهم أنصاباً تقيدهم حرصاً وتبجيلا. إن أسلاف هذه الهرطقة هم حملة الفلسفات والديانات الكبرى.

    يروي "كازانتزاكي" في مذكراته هذه الحادثة: (كنتُ محاطاً بالكروم وغابات الزيتون ولم يكن القطاف قد حان آوانه، العناقيد تتدلى مثقلةً وتلامس الأرض والجو محتشدٌ برائحةِ أوراق التين. جاءت سيدة عجوز وتوقفت. رفعت أوراق التين التي تغطي السلة المعلقة بذراعها، وأمسكت حبتي تين وقدمتهما لي. سألتها: "هل تعرفينني ياجدتي؟" نظرت إلي بدهشة وقالت: "لا يابني. أعليّ أن أعرفكَ لكي أعطيكَ شيئاً ما؟ أنت إنسان ... أليس كذلك؟ وكذلك أنا. ألا يكفي هذا؟")
    ما عرفته هذه العجوز لم يأتِ من تأمل الكتب والأوراق بل من معايشة الطبيعة والبشر. ولعل ما يدهش، المعاصرين على الأقل، أن يكتشفوا أن نصوص المذاهب الشرقية القديمة مثل الطاوية والبوذية والهندوسية لا تتوجه في تعليمها إلى بشر محددي الجنسية أو اللون أو الدين، فهذا أمر ولد في ما بعد، وعلى أيدي نهابي تراث هذه النصوص. إن لفظة "الإنسان" هي اللفظة المتكررة دائما، لا لفظة "الصيني" أو "الهندي" أو "العربي". وكذلك هو الأمر مع الديانات الكبرى مثل المسيحية والإسلام التي خاطبت "الإنسان" قبل كل شيء، سواء بكلمة "الإنسان" أو "ابن آدم"، من دون أدنى اعتبارٍ لحدود مولده العائلي أو القبلي أو القومي. وبذلك خاطبت فيه الإمكانية الكامنة لا واقعه المفروض عليه بحكم الميلاد هنا أو هناك، أي بحكم ظروف تاريخية طارئة، رغم أن هذه الظروف الطارئة هي القوالب التي ظهرت في إطارها هذه الفلسفات والديانات. جوهر الخطاب الفلسفي والديني يظل مفتوحا بطبيعة توجهه على التجسد خارج المعطى وعلى إعادة التفسير مثلما تنفتح المعزوفات الكبرى تحت قيادة عبقري أوركسترا يمنحها طابعاً ويطلق وجوهاً ممكنة لها.

    ولكن اكتساب الإنسانية بالخروج على الشروط المقيدة (شروط العائلة والقبيلة والأرض ... إلخ) قد يعني في بعض وجوهه انتزاع الفرد من مكانه المحوري كما يقال عادة، أي من المكان الذي يبدو فيه راسخاً في مركز الكون، وإطلاقه في فضاءٍ بلا جاذبية. هذا صحيح إذا فهمنا هذه التعابير، مثل "مركز الكون" و "فضاء بلا جاذبية"، فهما سلبياً، إلا أن هذا الفهم خاطئ حتى بمعايير الفيزياء الحديثة التي جعلت المركز في الزمان والمكان يمكن أن يكون في أي لحظة وفي أي مكان، وإن من الحماقة أن يتخيل الإنسان إنه في المركز. اعتقاد الإنسان أن معناه محكوم بجاذبية ما أو زمان ما لهو عادة من عادات التفكير، وليس اتساقا مع قانون كوني. أن معناه كامن في التحرر من الجاذبيات مهما كانت. وهذا يقتضي بالطبع أن يكون مركز جاذبيته في داخله، في شخصيته لا خارجها.

    إن تعلق الإنسان بمركزٍ أو جاذبيةٍ ما لهو نوع من الضعف لا القوة. القوة تكمن في التحرر وليس في الالتصاق بأي وكرٍ أو كهفٍ أو مرقد. اكتساب الإنسانية بهذا المعنى تخففٌ من أثقال معيقة، ومن روابط تتحكم في التفكير والسلوك، واستبدال فضاء الحرية بهذه الأثقال والروابط ؛ فضاء له مآثره وقيمه، ولكن بشروط وحدودٍ مختلفة نوعياً. هنا لا يوجد "آخر" كضدٍ لــ "الأنا"، أو الإنسانية كضدٍ للقومية. هنا يسقط حد التضاد، لأن الفضاء الذي يمنح الأجساد ثقلها واتجاهها ويمنح الكلمات دلالاتها مختلف. إنه أرضٌ أخرى يعرف الناسُ فيها بعضهم بعضاً مباشرةً وبمجرد النظر والسماع، لا بوساطةِ بطاقات التعريف.

    إن أخطر ما يعانيه الوعي الراهن من استلاب هو الإيمان بمسلماتٍ لا دليل عليها سوى الاعتياد والتكرار، مثل مسلمة أن يحمل "الإنسان" بطاقة هوية بصورة وبيانات حتى يصبح معروفاً. في هذا المثال يستمد الإنسان كينونته وشرعيتها من شيء آخر لا من خصائص متأصلة فيه، من سلطةٍ ما أو حكومة أو هيئة. وهذا أمرٌ غريب رغم أن لا أحد يشعر بغرابته حتى هذه اللحظة؛ اللحظة التي اعتادت فيها "الأنا" على التعامل مع "الآخر" عبر بطاقة الهوية وصورتها، هذه العلامة التجارية العجيبة التي تلصق على المصنوعات والبشر على حد سواء. إنها نوع من السياج الخارجي لتحديد الماهيات وإقامة الحدود وإلقاء البشر وراءها بعيداً عن إنسانيتهم.

    لقد اضطر بعض الناس خلال المذابح الطائفية في لبنان إلى المطالبة بمحو اسم الطائفة من الهويات الشخصية حتى لا يُقتل الإنسان على الهوية. واكتشف الناس كم كان غريباً وخبيثاً هذا التقليد الذي درج على وضع كل إنسان في طائفة كما يوضع السجين وراء القضبان. كانت هذه المطالبة نوعاً من التحرر واختراق الشرط الطائفي نحو شروط أكثر رحابة، ولا ندري هل تواصل محو الصفات الطائفية أم تمت إعادة الخراف إلى الحظائر الطائفية بعد كل هذا الزمن. مهما يكن الأمر، هذا الانتباه إلى ضيق الطائفة يتجاوز ظروف الأحداث اليومية العابرة، فحين تحولت الهوية الطائفية إلى كمين خطر بدأت المطالبة بإخراج الناس منها؛ فكم من كمائن هناك مشابهة تجتاح مساحة الحياة إذاً؟ بدءاً من كمين العائلة فالقبيلة فالقومية فالدولة؟

    إن اكتساب الشرط الإنساني لا ينشأ بالمولد، بل بالرحلة الشاقة التي يتعرف فيها الإنسانُ على بني جنسه مباشرة، مسقطاً اللافتات والعلامات التجارية والهويات، وصولا إلى أن كل هذه الصفات المفروضة ليست هي التي تفاضل بين البشر، بل هناك خصائص أكثر جوهرية ومعايير أشمل، أعني خصائص الذات بما هي عليه، أي بكونها حامل الخير والشر من دون مسبقات، وتلك هي معايير الحق والعدالة الكونية حيث تتساوى الأعراق والألوان والمذاهب، ولا ترتفع أو تنخفض كفة الميزان لأي سبب من هذه الأسباب، بل لأسباب أعمق ذات علاقة بموقف الإنسان من أخيه الإنسان.

    محمد الأسعد/ ناقد وروائي فلسطيني
    malhardan@hotmail.com
    منقول

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 5:17 am