منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المقاصد الأسلوبية للخطاب الشعري

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    المقاصد الأسلوبية للخطاب الشعري  Empty المقاصد الأسلوبية للخطاب الشعري

    مُساهمة   الإثنين أكتوبر 08, 2012 12:05 pm


    المقاصد الأسلوبية للخطاب الشعري

    الطاهر بومزبر
    جامعة جيجل
    يندرج
    هذا الفرع ضمن العلوم التي تنضوي تحت علم الشعريات (Poetics)، ويسمى هذا
    الفرع علم الأسلوب أو الأسلوبية وغيرها من المصطلحات التي وظفها المختصون
    في هذا العلم، غير أنه حسب القانون العام لترجمة مصطلحات أسماء العلوم التي
    وضعها اللسانيون العرب، "في ملتقى تونس المنعقد سنة 1978 م"(1)، حيث كان
    تركيزهم منصب على مصطلح (اللسانيات)، إذ وضعوا له آليات أو تقنيات
    الاحتجاج، والاستدلال على صحة هذه التسمية.
    ومصطلح العلم الذي يهتم
    "بمقولات الأسلوب" له من الشبه، والتشاكل مع ما لقي مصطلح (اللسانيات) من
    درجة مقبوليته في أوساط الدارسين والمختصين، بالرغم من أنه سمي بمصطلحات
    متباينة كما ذكرنا, وأهمها وأكثرها شيوعا على خطأ أو درجة التلاؤم
    الاصطلاحي الذي تتمتع به مع فرع الشعريات الذي يهتم بأسلوب وطريقة المبدع
    لفظيا مصطلح "الأسلوبية"، حيث جعل عبد السلام المسدي المصطلح عنوانَ كتاب
    بأكمله وهو كتاب "الأسلوب والأسلوبية "، كما أجرى نصر أبو زيد قراءة لكتاب
    واحد من عمالقة الدراسات الأسلوبية والبنيوية التحويلية في إرثنا الحضاري
    اللساني العلامة عبد القاهر الجرجاني وهو "دلائل الإعجاز"، وكان عنوان مقال
    أبي زيد "مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني قراءة في ضوء
    الأسلوبية"(2). كما استعمل مصطلح الأسلوبية عبد اللطيف عبد الحليم، عندما
    ترجم كتاب هوجو مونتيس تحت عنوان "الأسلوب والأسلوبية"(3)، وسمي كذلك
    بمصطلحات أخرى.
    غير أن المصطلح المنسجم مع طبيعة اللغة العربية في
    بنيتها الصرفية الاشتقاقية، يقتضي منّا الأخذ من الإنجليزية (Stylistics)
    وليس من الفرنسية (Stylistique)، فنحلل المصطلح الإنجليزي إلى وحدتين
    صرفيّين وهما الصفة (Stylistic)، الدالة على النسبة إلى الأسلوب أي
    "أسلوبي", ثم الوحدة الثانية وهي أداة بناء صيغة الجمع في اللغة الإنجليزية
    "S"، التي تستعمل للدلالة على صيغة الجمع تذكيرا أو تأنيثا، فنختار صيغة
    التأنيث ونضيفها إلى الصفة الدالة على النسبة، فنحصل على المصطلح الدال على
    علم الأسلوب وهو "الأسلوبيات"، بطريقة عبد الرحمن الحاج صالح الجزائري في
    تعامله مع مصطلح "اللسانيات"، وهذا يتماشى والذوق العربي الذي استأنس
    بمصطلحات: الرياضيات، البصريات... وغيرهما"(4).
    وبالتالي فإن المصطلح
    الأكثر انسجاما مع ما نريد تناوله هو مصطلح "الأسلوبيات" وليس الأسلوبية،
    أو علم الأسلوب، أو غيرها، وهذا له صلة بالناحية الاصطلاحية الخالصة.
    وكلمة
    (أسلوبية) التي عوضناها بمصطلح (الأسلوبيات) "جديدة في لغتنا يرجعها
    (كروميناس) إلى القرن العشرين الميلادي، وهي بالتأكيد مشتقة من (أسلوب)،
    وتعني في معناها العام، طريقة أو فن الكتابة... وتكون الأسلوبية دراسة
    أسلوب العمل الأدبي"(5). كما تستعمل صيغة (الأسلوب) عند العرب للدلالة على
    "الفن"(6).
    بينما تدلّ عند حازم دلالة شاملة، وواسعة تستغرق المسالك
    الممكنة في عملية ما، وكيفية إنجازها، ولهذا أطلق عليها مصطلح (الطريقة)
    التي جاء بها على صيغة الجمع (الطرُق)، ولكيلا تبقى دلالة المصطلح غامضة لا
    نسبة فيها ولا هوية لها، أضاف لها الكلمة المحدِّدة والضابطة لها، وهي
    (الشِّعْرِيَّة)، فأصبحت مجتمعة في عبارة "الطرُق الشعرية"(7).
    وإذا كان
    الدال الأول يحيل على الطريق أو الأسلوب أو الفنّ باصطلاح الرازي، فإن
    إضافة صفة (الشعرية) أماطت الغموض، وأزاحت التعميم عن الدلالة، لتقتصر على
    الخطاب الشعري؛ أي بتعبيرنا الخاص أصبحت التركيبة المشكِّلة لعبارة (الطرق
    الشعرية) تدل على فنون الكتابة الشعرية أو أساليب الخطاب الشعري.
    وهي التي تعتني, في حقيقة الأمر, الأسلوبيات بدراستها، والبحث في كل فنّ أو أسلوب شِعْري مع التخصص والدقة والعمق.
    أما
    موضوع دراستنا فلا ينصب على هذا بصفة موسّعة، لأن فضاء المقام لا يتسع
    لذلك باعتباره مُنْصَبّا على كل ما له صلة بالشعريات (Poetics)، وليس
    الأسلوبيات التي تعد جزءا منها، كما هو الشأن مع الدلاليات الشعرية التي
    تتمحور حول دلالة الخطاب الشعري، كذلك البنية الشِّعْرية، أي مظهرها
    الخارجي، الذي تختص في حقله علوم كثيرة تركيبا، وبلاغة، وعروضا، وقافية،
    وهي التي تحدد أنماط الوجود الفعلي للخطاب الشعري.
    ويتمّ تحديد أنماط
    الوجود الفعلي للخطاب الشعري حسب تضارب الأبعاد والمقاصد الأسلوبية، وكذلك
    سياق الحال الذي يفرض وجوده، وهيمنته على الخطاب دلالة وبنية.
    إن ما
    ينبغي الإحالة عليه من أول الأمر، هو الحصر المطلق لهذه المقاصد في أسلوبي
    الهزل والجد، وإن اختلف الدارسون للشعريات في تحديد أنماطها، أي في إحصائها
    لاختلاف المنطلقات التي اعتمدها كل واحد منهم في تحديد أنماط المقاصد
    الأسلوبية للخطاب الشعري.
    وهناك أمر آخر جدير بالذكر، وهو أن المقاصد
    التي يريدها الشعراء بمنزلة الأيديولوجيا في الخطاب النثري، فكما أن إفراغ
    هذا الأخير من محتواه الأيديولوجي يحوله إلى وعاء لفظي فارغ، أو سلسلة
    أوعية فارغة لا تحتوي على أي مؤثر في ذهن المتلقي، فكذلك المقاصد في الخطاب
    الشعري، حيث يؤكد استقراء الدارسين في حقل الشعريات على انعدام تشكل بنية
    خطاب شعري شاغرة، بل لا بد من شحنها بمقاصد يصبو المخاطب إلى إيقاعها في
    نفس المتلقي، وتحقيق الصفات الذاتية للخطاب.
    وقد اختلف المنظرون الأوائل
    للشعرية العربية في تحديدها، وإحصاء أنماطها، غير أن الملفت للنظر هو
    الرفض المطلق لكل هذه التقسيمات والتصنيفات من قبل أحد الأعلام المنظرين
    للشعريات العربية التراثية وهو حازم القرطاجني في كتابه "منهاج البلغاء
    وسراج الأدباء"، حيث اقترح نموذجا سنخلص إلى ذكره عندما نأتي على آراء بعض
    الدارسين في ميدان الشعريات العربية التراثية.
    ومن باب الذكر لا الحصر
    نعرض ثلاثة آراء سبقت الثورة المنهجية الحازمية؛ الأول لقدامة بن جعفر,
    والثاني للرماني, أما الثالث فلابن رشيق القيرواني .
    أ- تصنيف قدامة بن جعفر:
    يرى
    هذا الناقد البلاغي أن مقاصد الشعراء من جهة الغرض "ستة أقسام: مدح وهجاء
    ونسيب ورثاء ووصف وتشبيه"(Cool، وهي قسمة تهتم – في نظري – بعملية التلقي، أي
    تقوم بتصنيف مقاصد الشعراء من وراء إنجاز خطابهم الشعري على أساس الوضع
    الخطابي الذي يجمعه بالمتلقي، فتكون الصدارة فيه للمخاطَب، فتصير عملية
    التلقي في نهاية المطاف عملية محورية – عند قدامة – في تحديد مقاصد
    الشعراء, بل ينطلقون منها لإنشاء وبناء هيكل ودلالة خطابهم الشعري.
    ب- تصنيف الرماني:
    يرى
    الرماني أن "الصحيح أن تكون أقسامه خمسة؛ لأن التشبيه راجع على معنى
    الوصف"(9)، وهو بذلك يسقط التشبيه لأنه عملية تنعيت وتقريب لصورة بصورة أو
    شيء بشيء من خلال الأوصاف الجامعة بينهما، ويحتفظ بالمدح والذم والنسيب
    والرثاء والوصف، لكنه يحتفظ مع ذلك بإجماع التفكير البلاغي الأسلوبي الذي
    يعتمد على منهج اختياري في إثبات (حضور) المتقبل في عملية الإبلاغ، "فإذا
    استندنا على التجربة اهتدينا إلى أن المتكلم عامة "يكيف" صيغة خطابه حسب
    أصناف الذين يخاطبهم، وهذا (التكيّف) أو (التأقلُم) ليس اصطناعيا لأنه عفوي
    قلما يصحبه الوعي المدرك"(10).
    ويعقب حازم على قول الرماني ناقدا إياه
    بإمكانية إسقاط الوصف تدليلا واحتجاجا على فساد رأيه، لأنه فتح بابا للنقد
    إذ من "الممكن أن يقول قائل: إن قسم الوصف أيضا داخل في قسم الحمد أو
    الذم"(11)، خاصة وأن الوصف هو ذكر لأشياء أو لصفات أو لأفعال وحالات, وكلها
    تدخل في وصف للأفعال والأحداث أو للأشياء والموجودات، وهي الأطر المرجعية
    في بناء الخطاب الشعري بكل أساليبه وأنواع مقاصده.
    ودليل ميله إلى الشعرية هو الاعتبار الذي انطلق منه، وهو المرسل، وليس المتقبل كما مر.
    ج- تصنيف ابن رشيق القيرواني:
    وهو
    الذي نعرفه ناقدا أكثر من كونه مختصا في علوم الشعريات الدلالية
    والبنائية، وإن كان على الناقد أن يكون عارفا بها، وليس على اللغوي أو
    اللساني أن يكون ناقدا للشعر، لأن الشعريات تقتضي معرفة بلاغية وعروضية
    ونحوية و...، فالشعريات "تؤول أثر الشاعر من خلال موشور اللغة"(12), و"يجعل
    أركان الشعر أربعة: الرغبة والرهبة والطرب والغضب"، فيكون منشأ الخلاف في
    مقاصد الخطاب الشعري باعتبار المنجز له, لأن الإنتاج الأدبي كما يقول يوزف
    شتريلكا "كل متكامل، وروح المؤلف هي المحور الشمسي الذي تدور حوله بقية
    كواكب العمل ونجومه، ولا بد من البحث عن التلاحم الداخلي"(13) بين المرسل
    وروح النص النابغة من روحه.
    وتكون الصدارة عند شتريلكا للمرسل باعتبار
    نزعته البرغسونية الروحية، فكل شيء يدور حول المرسل، والنص جزء منه أو جزء
    من مجموعته الشمسية الأدبية التي تحوم حوله.
    وقد اعتبر ف. دي لوفر (F.
    de Loffre) أن "الأسلوب الفردي حقيقة بما أنه يتسنى لمن كان له بعض الخبرة
    أن يميز عشرين بيتا إن كانت لراسين (Racine) أم لكرناي (Corneille) أم
    لستاندال (Stendhal)... وإذا عسر على بعض أبناء اللسان العربي تمثل هذا
    التقرير فقد لا يعسر عليهم إقرار القدرة على أن يميّزوا ببعض الخبرة فقرة
    يسمعونها لأول مرة"(14).
    فيتضح من كل ما سبق أن الاعتبار الأول في عملية
    تحليل الخطاب الشعري يعود إلى المناهج النفسية، لحصر هذه المقاصد
    وخصائصها، ثم إدراج الخطاب المعني بالتحليل، أو التلقي ضمن مقصد من المقاصد
    السابقة الذكر. وقال بعض الدارسين للخطاب الشعري هي في مجملها "رغبة
    ورهبة"(15).
    د- تصنيف حازم القرطاجني:
    يرفض حازم كل التقسيمات بحجة
    أن "كل تقسيم منها لا يخلو من أن يكون فيه نقص أو تداخل"(16)، أي إما أن
    تكون قد جمعت أطرافا غير ملمّة بكل المقاصد الأسلوبية للخطاب الشعري، أو
    متداخلة مع بعضها يمكن إدراجها في قسم واحد مثل المدح والذم في قسم الوصف.
    ولهذا
    فهو يرفض التقسيم باعتبارات متعلقة بالمخاطِب أو المخاطَب، أي (المرسِل
    والمرسل إليه)، وإنما باعتبار مقاصد الرسالة الخطابية الشعرية ذاتها، فيحدد
    في نظره "ماهية الأسلوب جوهر الخطاب في ذاته (حين) يمتد حبل التواصل بينه
    وبين لافظه ومحتضنه لا شك، ولكن دون أن تعلق ماهيته على أحد منهما"(17).
    ويتم
    تحديد أصناف المقاصد بحسب ما تهدف إلى تحقيقه بواسطة السيطرة على نفس
    المتلقي باستعمال أدوات شعرية في غاية الجمال، والقصد بالرسالة الشعرية
    عموما هو "استجلاب المنافع واستدفاع المضار ببسطها النفوس على ما يراد من
    ذلك وقبضها عما لا يراد بما يخيّل لها فيه من خير أو شر"(18).
    فالتخييل
    والمحاكاة في الخطاب الشعري، إنما يقصد منهما دفع النفس عما يرى الشاعر فيه
    ضر، واستجلابها إلى ما يرى فيه خير، وكم من قصيدة بل بيت شعري واحد ألهب
    حربا دامت سنوات وعقودا، وآخر أوقفها أو أخمد لهيبها، وخاصة في العصر
    الجاهلي عندما كان الشاعر أمير البيان، ولسان قومه.
    والمنفعة والمضرة في الخطاب الشعري باعتبار عملية التلقي تجرّان حازم إلى تقسيمات باعتبار ما يلي:
    1- الظفر: وبما أنه منفعة فإنه يذكر عند حصول ما يسعى إلى تحقيقه.
    2- الإخفاق: وهو مضرة يذكر عند العجز عن تحقيق الشيء، فتأتي محاكاة الأشياء أو تخييلها تعبيرا عن الإخفاق.
    3- الأذاة أو الرزء: ويحصلان بتخيّل ما من شان المرء أن يهرب وينفر منه.
    4- النجاة: وهي الكفاية في مظنة الحصول، ويمكن الجمع بينها وبين الظفر.
    ومن خلال هذه الأمور الحاصلة يمكن أن نستنبط المقاصد المرجوة من خطاب شعري، والتي حصرها حازم فيما يلي:
    1- التهنئة: وذلك عندما يكون "القول في الظفر أو النجاة"(19)، ويقابل الفخر عند أصحاب التصنيفات السابقة.
    2-
    التأسف: ويندرج تحته كل خطاب رومانسي خاص مثل شعر أبي القاسم الشابي "الذي
    ذهب إلى الغاب ينشر رسالته ويشكو آلامه معتقدا أن المجتمع قد ظلمه"(20)،
    ويأتي الشعر تأسفا إذا قصدت النفس "تحسُّرها"(21) على ما فات أو ما حلّ.
    3-
    التأسِّي: وهو مقصود كل خطاب يكون القول فيه حديثا عن الإخفاق مع أن القصد
    منه "تسلية النفس عنه"(22)، ويتجذر هذا النمط من الخطابات الشعرية في
    أعماق شعراء المهجر، أو من يعرفون بأصحاب (الرابطة القلمية)، وخاصة الشاعر
    المتشائم (إليا أبو ماضي) في عدة قصائد مثل "الكنار الصامت، رأي الأكثرية،
    مجاهد، لبنان، الغابة المفقودة، و..." (23).
    4- التعزية: تتفق قصائد هذا
    المقصد من حيث ما تهدف إليه، فتكون مدعاة إلى التحمل والصبر لمن حل به ألم
    أو رزء بفقدان الأحبة والخلان، لكنه يختلف من جهة الإطار المرجعي المقصود
    بالمحاكاة والتخييل، فقد يكون المرجع هو أحد الأشخاص غير المرسل، "مثل
    الخنساء في رثاء أخيها صخر حتى ارتبط بها الرثاء، وارتبطت به، فاتحد اسم
    الخنساء بالتعزية، وإن كانت له علقة، أو مرتبطا بالأشياء مثل اللذات
    الهاربة التي يجري وراءها دوما الشعراء، وخاصة في العصر الحديث مع أبي ماضي
    في قصيدته ابتسم"(24)، حيث يسلّي أحد المتشائمين ويعزيه، ويدعوه إلى الصبر
    ونشر نفحات بسمة الأمل، وبالتالي تكون "في الرزء قصد استدعاء الجلد"(25).
    5-
    التفجع: ويخص الأحزان والمآسي، ويحتوي دلاليا على مكروه يرِدُ ذكره للتألم
    والحزن، مثل مراثي الخنساء، وقد جمع أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي
    في القرن الثالث الهجري مدونة خصها للرثاء(26)، فاختار مقطعات لمرات متنوعة
    للكثير من الشعراء السابقين، وهذا العمل يعد دليلا قاطعا على اهتمام
    الشعراء العرب بشعر التفجُّع لأن المكاره يتتالى ويتعاقب حلولها ومرها في
    ديار أهليهم وذويهم ، فيكون القصد من التفجع "استدعاء الجزع"(27) عكس
    التعزية التي تستدعي الصبر.
    6- المديح: ويكون المقصد فيه القول في كل ما
    تم نيله لاستجلاب النفع أي إن "كان المظفر به على يد قاصد للنفع جُوزيَ
    على ذلك بالذكر الجميل"(28)، وإن اختفى ذكر أهل الكثير من الفضل، و"كم
    فضيلة لم تستثرها المحاسد"(29).
    7- الهجاء: ويكون المقصد فيه القول في
    كل ما تم فعله لاستجلاب المضار، أي "إن كان الضار على يَدَيْ قاصد الأذى
    فأدّى ذلك إلى ذكر قبيح"(30).
    8- الرثاء: وهو مقصد كل خطاب عندما يحل
    "الرزء بفقد شيء، فيندب ذلك الشيء"(31)، والمقصد عنه رثاء؛ لأن مقصد الخطاب
    المنجز يتمحور حول مصيبة ألمَّت به أو بغيره، أو بموضوع المحاكاة أو
    التخييل عموما.
    لكن إذا تسنّا لنا أن نعلق نحن على قول حازم كما فعل
    بِسابقيه، لأن "القارئ الذي يعذب النص لا ينجو من العقاب"(32)، وبلغة أقل
    حدّة كما نقد السابقين وتصنيفاتهم الثمانية لمقاصد الخطاب الشعري، إذ
    بإمكانه أن يقلص ذلك إلى ستة مقاصد لأن التعزية والتأسف والرثاء يندرجان
    تحت وصف الموجودات المفقودة، لكن الاختلاف فقط في المنحى الوظيفي لكل عنصر
    من العناصر الثلاثة.
    وإذا عُدنا إلى ما بُنيت عليه هذه المقاصد الأسلوبية وجدناه على اعتبارين:
    الاعتبار الأول:
    وهي
    الغاية العامة من إنتاج خطاب شعري، والتي تتمحور حول المضار والمنافع –
    دفعا أو استجلابا – بواسطة التخييل والمحاكاة، لتوجيه رأي، وتصور، ومشاعر
    المتلقي لحظة تلقيه الخطاب، ولو لحظة قليلة فقط كما هو في شعر أبي نواس
    الذي يصور - كما قال إيليا حاوي – "حالة شعورية هاربة"(33)، أو تطول كما هو
    في شعر المتنبي المتسم بالحكمة والرصانة.
    الاعتبار الثاني:
    نتائج
    الأفعال الممكنة الحدوث، والمستنبطة من خلال استقراء مادة الخطاب الشعري
    التراثي، وهي: الظفر، أو الإخفاق ، أو الرزء، أو النجاة.
    وبتفاعل حاصل
    بين معادلة الغاية العامة للخطاب الشعري القائم على التخييل والمحاكاة مع
    معادلة نتائج الأفعال البشرية نتحصل على مقاصد الأساليب المفرزة من هذا
    التفاعل الحاصل عند نقطة التقاء المخاطَب، والخطاب مع التركيز على بنية
    الخطاب ذاتها لا عما هو خارج عن بنيته.
    غير أنه يستدرك في نهاية المطاف
    النقد الموجه إليه، أو الذي توقع أن يوجه إليه، فأرجع المقاصد إلى أربع
    طرائق شعرية "وهي: التهاني وما معها، والتعازي وما معها، والمدائح وما
    معها، والأهاجي وما معها، وأن ذلك راجع إلى ما الباعث عليه الارتياح، وما
    الباعث عليه الاكتراث، وإلى ما الباعث عليه الارتياح والاكتراث معا"(34).
    وهذه
    هي التي حصرها ابن رشيق من زاوية الوضع الخطابي بالنسبة للمخاطِب، وما جاء
    به حازم من تقسيمات وتفصيلات واصطلاحات مهمة جدا لأنّها وُلُوج في عمق
    التخصص, وتفصيل دقيق لجزئيات القوانين الشعرية، وإن كانت لا تخرج في نهاية
    الأمر عن مجال "الرغبة والرهبة"(35) المشكلين – حسب ابن رشيق – لبواعث
    تفجير الطاقة الإبداعية في أعماق الشاعر.
    المبادئ المرجعية لمقاصد الخطاب الشعري:
    هناك
    قيد عام يحكم كل مقاصد الخطاب الشعري، وهو الاحتزاز والحذر من "الجمع بين
    غرضين متضادين من هذه الأغراض، ويقبح من ذلك أن يكون الغرضان المتضادان
    كالحمد والذم، أو البكاء والإطراب، قد جمع بين أحدهما والآخر من جهة
    واحدة"(36)، وهذا لأنّ مقام البكاء مثلا لا يليق أن يؤتى فيه بالعبارات
    الدالّة على الطرَب والفرح لتخالفه وتعارضه مع الوضع الخطابي الذي يُعَدّ
    شرطا من شروط العملية التواصلية في الخطاب الشعري, فالمبدع "نحلة من النحل
    تلم بالأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور... ويضع فيها روحا
    موسيقية بحيث يجيء الشعر بها وله وزن في شكله وروحه فيكون هذا الانسجام
    الروحي متناغما مع نفس المتلقي وحاله"(37).
    غير أن الجمع بين المتضادين
    قد يكون مستساغا في كثير من الأوضاع التخاطبية، وذلك عندما "يكون المقصدان
    غير منصرفين إلى محل واحد، أو غير منبعثين من محل واحد، فلكل واحد منهما
    هدف معين لا يتحقق إلا في إطاره، ولا يمكن تحققه في إطار غيره"(38).
    وأما
    ما يُعد فنا من أفانين الشعر البديعية، فهو ذلك الذي "يكون أحد المتضادين
    يقصد به في الباطن غير ما يقصد به في الظاهر، فيكون في الحقيقة موافقا
    لمضاده فيما يدل على جهة من المجاز والتأويل, وذلك نحو قول النابغة:
    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
    فجَمَعَ
    بين المدح وما يوهم أنه ذم، وهو في الحقيقة مدْح"(39)، يعتبر محسّنا
    بديعيا معنويا له بعد جمالي دلالي خالص، يزيد من شعرية الخطاب المنجَز.
    إنّ
    ظاهر البيت السابق يوهم المتقبل في شطره الأول أنه مدحهم ونزّههم عن كل
    عيب إلا عيبا واحدا، وهو أن سيوفهم أَفَلَتْ، وصارت مسنَّنَةً قليلة
    الحِدَّة من شدَّة الحروب، وكثرة المعارك، وهذه الكثرة دليل على شجاعتهم
    وحبهم للقتال، لا خوفهم من الأعداء، فصار الاستثناء مدحا كذلك لأنه نزَّلهم
    منزلة الأبطال.
    وقد تكون المعادلة عكسية، فتظهر الذم بما يشبه المدح نحو "قول ابن الرومي:
    خير ما فيهم ولا خير فيهم أنهم غير آثمي المغتاب
    فجمَعَ بين الذمّ وما أَوْهَم قبل استيفاء العبارة بصفته أنه حمد وهو في الحقيقة من أكبر الذم"(40).
    وتحليل
    مضمون البيت يعلّل ذلك ويوضحه حيث بدأ بعبارة مدح (خير ما فيهم) وهي ما
    تجعل الشطر الأول من الوحدة الخطابية الشعرية نقيضا يحمل في دواله تناقضا
    صريحا، وثنائية ضدية تدفع المتقبل إلى التساؤل حول الجمع بين المدح والذم،
    فيليه الشطر الثاني موضّحا ثنائية الشطر الأول بقوله (أنهم غير آثمي
    المغتاب)، فيتحوّل الذمّ المبهم في نهاية الشطر الأول إلى صفة واضحة وجلية
    تعبر عن أسوإ ذم، فيجعل أحسن صفاتهم أسوأ الصفات عند الناس.
    وهذه
    الثنائيات الضدّية في قمة هرم الروعة والجمال البديعي، وهذا مطلوب ونادر في
    الخطاب الشعري العربي التراثي، مما يجعل قيمته الجمالية تزداد وتيرتها،
    لأن الشيء إذا عَزَّ صار أداة ووسيلة لإحداث المفاجأة في نفس المتقَبِّل،
    ويختص كل مقصد من مقاصد الخطاب الشعري بميزات تجعل المتقبل يميز بينها،
    ويتخذها المرسل مبادئ يبني على أساسها خطابه لحظة الإنجاز.
    فيختص المديح
    مثلا في نقل التجربة الشعرية، أو الشعور تجاه الممدوح بدوال خاصة ينبغي أن
    تتجلى وتبرز وتهيمن على سطح الخطاب الشعري المدحي خاصة وأنه "بالقدر الذي
    يكون فيه اللفظ مطابقا للمعنى، بالقدر نفسه يتمكن المبدع – سواء أكان ناثرا
    أم شاعرا – من توصيل تجربته النفسية والشعورية إلى الآخر"(41)، ولهذا يجب
    على الشاعر, تحقيقا لإنجاز تجربته الشعرية, أن يسمو "بكل طبقة من الممدوحين
    إلى ما يجب لها من الأوصاف... ويجب أن يتوسط في مقادير الأمداح... فإن
    الإطالة مدعاة إلى السآمة والضجر... ويجب أن تكون ألفاظ المديح ومعانيه
    جزلة مذهوبا بها مذهب الفخامة"(42)، مثل "التيمن للمهنأ"(43)، وهو ما يغيب
    عن الفخر لأنه مقام اعتزاز يهيمن فيه حضور المخاطب على سطح الوضع الخطابي
    عكس التهاني التي تكون الصدارة للمخاطَب.
    بينما الرثاء أسلوب جدي لا
    مجال فيه للخفة والرشاقة أو الطيش والسخف، بل قصيدة الرثاء "تمجد المرثي،
    وتعدد محاسنه، وتسجل ذكراه"(44)، ومن ثم وجب أن تكون وحداته الخطابية
    منسجمة مع المقام، فيأتي مضمونها "شاجي الأقاويل، مبكي المعاني، مثيرا
    للتباريح، وأن يكون بألفاظ مألوفة سهلة في وزن متناسب ملذوذ"(45).
    ولا
    يقبل هذا الصنف من المقاصد المطلع العزلي، لأن الرثاء أسلوب جدي خالص
    يتنافى والمطلع العزلي ذا الطابع الهزلي المحض، وإنما "سيفتح فيه بالدلالة
    على المقصد، ولا يصدر بنسيب، لأنه مناقض لغرض الرثاء وإن كان هذا وقع
    للقدماء نحو قصيدة دريد يرثي أخاه التي أولها:
    أرث جديد الوصل من أم معبد بعاقبة أم أخلفت كل موعد"(46)
    وهذا غير لائق بغرض الرثاء، لأن النسيب فيه خفة وسخف، فيما يحتاج الرثاء إلى ذبول ورزانة، والدخول المباشر إلى مقصد الخطاب.
    وأما
    ما يختص به الهجاء فيتضمن التركيز بالجملة على الجانب النفسي لمضمون
    الهجاء أي (إثارة المخاطَب)، إذ يجب أن تكون للشاعر في هذا المقصد قدرة
    عالية في أفق التوقع، لكي "يقصد فيه ما يعلم أو يقدر أن المهجو يجزع من
    ذكره، ويتألم من سمعه مما له به علقة"(47).
    أما النسيب الذي هيمن على
    صدارة الاحتجاج والاستدلال اللغوي بما في ذلك الشعريات، فيحتاج, باعتباره
    ضمن أساليب الهزل, إلى "أن يكون مستعذب الألفاظ، حسن السبك، حلو المعاني،
    لطيف المنازع سهلا غير متوعر، وينبغي أن يكون مقدار التغزل قبل المدح قصدا،
    لا قصيرا مخلا، ولا طويلا مملا"(48).
    ولهذا استنكر ابن خلدون الخلط بين
    الجد والهزل، واستعمال ما لا ضرورة تستدعيه، أو مسحة جمالية تبرر حضوره،
    لأن "أساليب الشعر تنافيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف
    وضرب الأمثال، وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في
    الخطاب"(49).
    وأما التهاني والفخر فيجاريان المديح في نسبتهما إلى
    الجد، ولو أن أسلوب التهاني يعتمد الشاعر فيها المعاني السارة، والأوصاف
    المستطابة، وأن يكنِز فيهما عمق الخطاب بما يناسب ما ألَمّ بالشاعر، لا
    بالحديث عن سلمى، وأم معبد و... الخ.
    ويوجد نوع آخر من أساليب الرثاء هو
    رثاء الذات، فيندمج المخاطب في الذات المخاطبة أو يتّحد المرجع مع مرسل
    الخطاب الشعري الرثائي، مثل رثائية مالك بن الريب التي "تنفرد عن قصائد
    الرثاء في أنها رثاء للنفس، وهذا جعلها بالتالي نمطا وصفيا مختلفا... تصور
    معاناة ذاتية في وقت عصيب يعيشه الشاعر، فالمنية تتراءى أمامه وتتمثل بين
    عينيه، وهو بعيد كل البعد عن دياره، ومن تحويهم من القريبين إلى نفسه، حبا
    وشوقا وعاطفة"(50)، لكنها مع ذلك تقيدت بمقومات ومبادئ المطلع الاستهلالي
    المناسب لغرض وأسلوب الرثاء.
    وهناك أسلوب من الأساليب الشعرية لا هو إلى
    الجد أقرب، ولا هو من الهزل أبعد، فلا يمكن نسبته إلى أحد منهما، لأنه
    يختلف من قصيدة إلى أخرى وهو أسلوب الاعتذار والمعاتبات والاستعطافات, فهو
    يجمع بين الأسلوبين، ويأخذ منهما حسب ما تمليه الحاجة، وما يقتضيه المقصد
    (الغرض)، فنجد فيه "التلطف والإثلاج إلى كل معتذر إليه، أو معاتب، أو
    مستعطف"(51).
    وتختلف أيضا الأساليب في هذا الأخير بحسب الشخص المتلقي
    للخطاب الاعتذاري، أو العتابي, أو الاستعطافي، فكل شخص يجب اتجاهه، لفظا
    خاصا، وعبارة، ودلالة، ونظما ... الخ.
    أسلوب الخداع والأوضاع التخاطبية:
    تقوم
    عملية إبداع الخطاب الشعري – إلى جانب العناصر السابقة – على ما اصطلح
    عليه حازم "الحيل الشعرية"(52)، لأنها تعطي درجات التلوين الشعري أطيافا
    تشكلها الصور الشعرية المخيلة، فتصير "قابلة للقراءة بكل شهية"(53)، وأطلق
    عليها غابرييل غارسيا ماركيز (Gabriel Garcia Marquez) اسم "موارد الحيل
    الأدبية"(54)، لأنه بهذا المصطلح يدرج أعمال المبدع في خانة فنون الاحتيال
    على المتقبِّل، فتكون الخطابات الشعرية مختلفة في مذاهبها...، وأنحاء
    الاعتماد فيها بحسب الجهة أو الجهات التي يعتني فيها بإيقاع الحيَل التي هي
    عُمدة إنهاض النفوس لفعل الشيء أو تركه، أو التي هي أعوان للعمدة(55)،
    وتقوم هذه الحيل أو الخداع على معطيات الوضع الخطابي (التخاطب).
    فإلى
    جانب الوظيفة الشعرية، تهيمن وظيفة أخرى خاصة إذا علمنا أن "الكلام أولى
    الأشياء بأن يجعل دليلا على المعاني التي احتاج الناس إلى تفاهمها بحسب
    احتياجهم إلى معاونة بعضهم بعضا على تحصيل المنافع، وإزاحة المضارة إلى
    استفادتهم حقائق الأمور، وجب أن يكون المتكلم يبتغي إما إفادة المخاطَب، أو
    الاستفادة منه، إما بأن يلقي لفظا يدل المخاطَب، إما على تأدية شيء من
    المتكلم إليه بالفعل، أو معرفة بجميع أحواله، وإما بأن يلقي إليه لفظا يدل
    على اقتضاء شيئا منه إلى المتكلم بالفعل، أو اقتضاء معرفة بجميع أحواله أو
    بعضها بالقول"(56).
    فإفادة المخاطَب أو الاستفادة منه، أو تحصيل معرفة
    بجميع أحواله، أو أحوال أحدهما، أو إرشاده إلى شيء يدل عليه، أو يقوم
    بأدائه يتجسد بشكل واضح في النموذج الثلاثي للنمساوي كارل بوهلر الذي بنى
    على منواله رومان جاكبسون نظريته في التواصل اللفظي، لكنها بشكل تطبيقي على
    الشعرية العربية، حيث تبدو واضحة في حصر حازم قبول الكلام من ثلاث جهات
    منها "ما يرجع إليه، وما يرجع إلى القائل، وما يرجع إلى المقول فيه والمقول
    له"(57).
    فأما ما يرجع إلى الكلام فيركز فيه المرسِل على الخطاب الشعري
    ذاته، فتهيمن الوظيفة الشعرية على كل الوظائف الأخرى، لأنَّ بؤرة العملية
    التخاطبية هي (الرسالة الشعرية ذاتها).
    وأما ما يرجع إلى المقول فيه أو
    المقول له فتبرز فيه وظيفتان إلى جانب الوظيفة الشعرية وهما: الوظيفة
    الإفهامية والوظيفة المرجعية باعتبار عامل المقول فيه (المرجع)، والتي
    "كثيرا ما تقع فيها الأوصاف والتشبيهات وأكثر ما يستعمل ذلك مع ضمائر
    الغيبة"(58)، لعدم حضوره داخل محيط التخاطب، فتستعمل الدوال اللغوية (ضمائر
    الغائب، أسماء...) عوض إحضاره، غير أن الخطاب لا يوجه إليه مباشرة، وإنما
    هو موضوع الخطاب.
    أما ما يرجع إلى المقول له فتهيمن الوظيفة الإفهامية
    داخله على هرمية الخطاب، لأن التخاطب "يرجع إلى السامع"(59)، ويتميز بهيمنة
    نوع من الصيغ تجعل الرسالة موجهة بدقة إلى قوم، أو شخص بعينه، "وتتجسم هذه
    الوظيفة خيْر تجسيم في صيغة الدعاء، وصيغة الأمر، وهما صيغتان متميزتان في
    تركيبهما وأدائهما ونبرة وقعهما"(60)، وبحكم هيمنة أبنية الأمر والدعاء
    على نظام دوالها والتي توجه إلى المتقبل "تكثر فيها المسموعات التي هي
    أعلام على المخاطبة"(61).
    وقد جمعنا بين هاتين الوظيفتين لإمكانية
    وقوعهما لحظة واحدة، وفي وضع خطابي واحد عندما يكون المقول له هو عينه
    المقول فيه، وهذا يكثر في الخطاب الشعري المدحي، والنسيب، بينما ينفرد
    المقول فيه في الرثاء، أما انفراد المقول له فيحصل في عملية التلقي، فيكون
    المتلقي شخصا معيّنا، والمقول فيه شيئا أو شخصا، فتنكسر رابطة التلازم
    بينهما.
    وأما باعتبار القائل فيكون في الشعر الرومانسي الذي يركز على
    الذات الشاعرة، وقد تجلت "هذه النزعة في الأدب المهجري، أو أدب الرابطة
    القلمية والعصبة الأندلسية، وكانت الأولى بأمريكا الشمالية والثانية
    بالبرازيل"(62)، لكن وجوده في الشعر العربي التراثي غير عزيز، بل يوجد
    بكثرة، وخاصة في الخطاب المدحي، والعزلي أو الشكوى، والاعتذار، وتهيمن فيه
    الوظيفة الانفعالية "المسندة إلى ضمير المتكلم كثيرا"(63).
    غير أن ما يؤكد عليه حازم، ويلح على ضرورة النظر فيه ومراعاته هو التنويع الحاصل بين هذه الضمائر.
    فالخطاب
    الشعري قام على عملية التنويع المستمر بينها على الرغم من هيمنة ضمير معين
    ليترجم هيمنة وظيفة بعينها، لكن هذه الهيمنة لا تقصي أو تبعد حضور الوظائف
    الأخرى عبر الضمائر المناسبة لها، وإن كان حضورها متفاوتا.
    لكن هذا
    الحضور للوظائف الأخرى إلى جانب الوظيفة الأخرى المهيمنة مهم للغاية, لأنه
    يولِّد طاقة تعبيرية شعرية إضافية، ويجعل داخل النص حيوية مستمرة تترك
    دائما المتلقي متحفزا على الاستقبال والتلقّي، "فلذلك كان الكلام المتوالي
    فيه ضمير متكلم أو مخاطب لا يستطاب، وإنما يحسُن الانتقال من بعضها إلى
    بعض"(64).
    لكن السؤال المطروح الآن: ما العلاقة بين هذه الوظائف وهذه
    الاعتبارات والخدع والحيل الواقعتين في الخطاب الشعري، بل لماذا جعلها حازم
    عمدة من أعمدة بنيته المتميزة عن غيرها؟
    إن الشاعر يتخذ مواقف متباينة
    بحسب تباين هذه العبارات داخل الوضع التخاطبي، فيفرض ذلك على الشاعر خداعا
    كلاميا يحقق به القناعة التامّة لدى المتلقي، يقوم على اللغزية (Aporia)،
    التي اقترحها (جاك ديريدا، وبول ولمان) ليتألف الخطاب من "إنشاء مزدوج يؤدي
    بالتالي إلى تناقض المعاني التي تصبح بعد ذلك غير قابلة للتحديد، ومن ثم
    فإن اختيارنا إحداها وإعطائها الأسبقية والأهمية يصبح مجرد ابتسار وقمع
    لانتشار المعنى، من خلال هذه الممارسة يقول التقويض إن (الحقيقة) الوحيدة
    هي وجود هذه اللغزيّة المطلقة في ثنايا وطيات الخطاب عموما"(65).
    وهذا
    الغموض الدلالي مهارة يعتمدها الشاعر في مخادعة القارئ، ويكون من التعسف
    اختيار دلالة ونقول: هذه هي مقصد الشاعر، لأنه يعمل دائما على إيهامنا بصدق
    ما يقول "بإظهار القائل من المبالغة في تشكّيه، أو تظلّمه، أو غير ذلك،
    وإشراب الكآبة والروعة وغير ذلك كلامه ما يوهِم أنه صادق، فيكون ذلك بمنزلة
    الحال فيمن ادعى أن عدوا وراءه، وهو مع ذلك سليب ممتقع اللون، فإن النفوس
    تميل إلى تصديقه، وتقنعها دعواه"(66)، وهذا الصنف من الخطابات الشعرية
    تهيمن فيه الوظيفة الانفعالية التعبيرية (Expressive)؛ لأن الشاعر يوهم
    المتلقي أن ما يقوله صادق وهو مخادع له باعتماد المبالغات، وما شاكلها من
    أدوات الخداع الفني الشعري.
    أما إذا تمحور حديث المرسل حول المتلقي فإنه
    "يحتال في انفعال السامع لمقتضى القول باستلطافه وتقريضه بالصفة التي من
    شأنها أن يكون عنها الانفعال لذلك الشيء المقصود بالكلام ومدحه إياه بأن
    تكون عادته، وأنها من أفضل العادات"(67)؛ فنلاحظ على الخطاب هيمنة الوظيفة
    الانفعالية مع الوظيفة المرجعية لما لها علاقة بالمتلقي وبالذات المرجعية
    الموصوفة.
    وخلاصة القول، فإن الخطاب الشعري قائم على أغراض تتحدد
    وتتبلور وفقا للوضع الخطابي، وحالة المخاطِب والمخاطَب، وانطلاقا من مراعاة
    هذه المعطيات الخارجية المحيطة بإنشاء بنية ومقصد الخطاب يتلاعب ويبدع
    الشاعر في الاحتيال على المتقبل، لإيهامه بصدق ما يقول، فيصير الخطاب
    الشعري عنده – في نهاية المطاف – لعبة فنية قائمة على عوامل الدارة
    التواصلية اللغوية لحظة التواصل اللفظي في الخطابات المتعالية.

    الهوامش:
    1 - د. رابح بوحوش: محاضرة ألقاها على طلبة الماجستير عام 1999 في جامعة عنابة بالجزائر، حول مصطلح اللسانيات ومدلوله.
    2 - نشر المقال في مجلة الفصول، المجلد السابع، العدد الأول، سنة 1984، وقد خصص العدد لقضايا هذا العلم، فسُمي العدد الأسلوبية.
    3 - هوجو مونتيس: الأسلوب والأسلوبية، ترجمة الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم، مجلة الفيصل، العدد 109 لعام 1986، ص 41.
    4 - د. رابح بوحوش: البدائل اللسانية في الأبحاث السميائية الحديثة، ملتقى السميائية والنص الأدبي، جامعة عنابة، سنة 1995، ص 70.
    5 - د. عبد اللطيف عبد الحليم: تقديم مترجم لكتاب هوجو مونتيس، مجلة الفيصل، العدد 109، ص 41.
    6
    - الإمام محمد بن أبي بكر الرازي: مختار الصحاح، تحقيق الدكتور مصطفى ديب
    البغا، الطبعة الرابعة، دار الهدى، عين مليلة 1990، ص 202.
    7 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: د. محمد الحبيب بن الخوجة، الطبعة الثانية، بيروت 1981، ص 323.
    8 - المصدر نفسه، ص 80.
    9 - المصدر نفسه، ص 336.
    10 - د. عبد السلام المسدي: الأسلوب والأسلوبية، الدار العربية للكتاب، تونس، ص 80.
    11 - المصدر السابق، ص 336.
    12 - رومان جاكبسون: قضايا الشعرية, ترجمة، محمد الوالي ومبارك حنون، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 1988، ص 79.
    13 - مصطفى ماهر: الأسلوب الأدبي من كتاب "مناهج علم الأدب" ليوزف شتريلكا، مجلة فصول، المجلد السابع، العدد الأول، 1984، ص 69.
    14 - د. عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، ص 59 - 60.
    15 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 336.
    16 - المصدر نفسه، ص 337.
    17 - د. عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، ص 80.
    18 - المصدر السابق, ص 337.
    19 - نفسه.
    20 - أم سهام عمارية بلال: جولة مع القصيدة، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ص 35.
    21 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، ص 337.
    22 - نفسه.
    23 - إليا أبو ماضي: الخمائل، دار العلم للملايين، بيروت، ص 67 - 156.
    24 - المرجع نفسه، ص 58.
    25 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 337.
    26
    - محمد بن زياد الأعرابي: مقطعات مراث، برواية ثعلب، تحقيق، محمد حسين
    الأعرجي، منشورات مجلة اللغة والأدب، سلسلة الأعداد الخاصة، العدد الثاني،
    الجزائر 1994.
    27 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، ص 337.
    28 - نفسه.
    29
    - القاضي عبد العزيز الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق، محمد
    أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت، ص 1.
    30 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، ص 337.
    31 - نفسه.
    32 - عبد الفتاح كليطو: مسألة القراءة، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية, الطبعة الثانية، دار توبقال للنشر، المغرب 1993، ص 20.
    33 - جورج عبدو معتوق: أبو نواس في شعره الخمري، الطبعة الثانية، دار الكتب اللبناني، بيروت 1981، ص 132.
    34 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 132.
    35 - المصدر نفسه، ص 341.
    36 - المصدر نفسه، ص 336.
    37 - مصطفى صادق الرافعي: وحي القلم، الجزء الثالث، سلسلة الأنيس، موفم للنشر، الجزائر 1990، ص 318.
    38 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 350.
    39 - نفسه.
    40 - نفسه.
    40 - سمير أبو حمدان: الإبلاغية في البلاغة العربية، منشورات عويدات، بيروت 1991، ص 105 - 106.
    41 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 351.
    42 - المرجع نفسه، ص 352.
    43
    - د. عبد العزيز السبيل: ثنائية النص، قراءة في رثائية مالك بن الريب،
    مجلة عالم المعرفة، المجلد السابع والعشرون، العدد الأول، ص 63.
    44 - حازم القرطاجني: المصدر السابق، ص 351.
    45 - المصدر نفسه، ص 352.
    46 - المصدر نفسه، ص 351 - 352.
    47 - المصدر نفسه, ص 351.
    48 - عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة، دار الجيل، بيروت، ص 628.
    49
    - د. عبد العزيز السبيل: ثنائية النص قراءة في رثائية مالك بن الريب، مجلة
    عالم الفكر، المجلد السابع والعشرون، العدد الأول، ص 65.
    50 - حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 352.
    51 - المصدر نفسه، ص 346.
    52
    - بلينيو أبو لييو ميندوثا: غابرييل غارسيا ماركيز رائد الواقعية السحرية،
    ترجمة، د. عبد الله حمادي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1982، ص 109.
    53 - المرجع نفسه، ص 111.
    54 - حازم القرطاجني: المصدر السابق، ص 346.
    55 - المصدر نفسه، ص 344 - 345.
    56 - المصدر نفسه، ص 347.
    57 - المصدر نفسه، ص 348.
    58 - نفسه.
    59 - د. عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، ص 159.
    60 - حازم القرطاجني: المصدر السابق، ص 348.
    61 - أم سهام عمارية بلال: جولة مع القصيدة، ص 34 - 35.
    62 - حازم القرطاجني: المصدر السابق، ص 347.
    63 - المصدر نفسه، ص 348.
    64 - د. ميجان الرويلي وسعد البازغي: دليل الناقد الأدبي، الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2000، ص 133.
    65 - حازم القرطاجني: المصدر السابق، ص 346.
    66 - المصدر نفسه، ص 347.
    مجلة حوليات التراث / جامعة مستغانم / العدد التاسع - 2009

    المصدر: منتديات تخاطب ta5atub.com

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 1:25 pm