ـ الكرامة الصوفية نموذجا ـ
إنجاز: المصطفى مويقن
تندرج رواية
جارات أبي موسى في خانة النصوص الروائية الواقعية المرتبطة بالتاريخ. فهي لا
تلجأ إلى محاكاة الواقع إلا من خلال وسيط ثقافي وآخر نصي، شديدي الارتباط بالذات
العربية وعوالمها التخييلية والرمزية؛ عالم الكرامات والولاية، بغية بناء ضمير
جمعي هو عالم بطل تنسج حوله حكايات التقديس وكرامات الأولياء ومناقبهم. الرواية
بؤرة لجمع الأفعال المتعالية والخارقة المميزة لذات أبي موسى الشخصية المحورية في
النص.
تضعنا
الرواية –منذ البداية- أمام فترة تاريخية مضطربة من تاريخ المغرب، حيث سعى الروائي
ليجعل التاريخ في خدمة الحدث الروائي، حتى غدت اللحظات التاريخية في مرتبة ثانية،
بعد الحدث الروائي. ومن هنا أيضا استدعى الروائي الكرامة الصوفية وتدخلها لضحد
التاريخ وانتصارا للرواية.
تستثمر
رواية أحمد التوفيق جارات أبي موسى المعطيات الشعبية المرتكزة على التفكير
الصوفي، من مناقب الأولياء وكراماتهم. وتمثل ذلك نصيا من خلال حالتين، هما:
أولا: كرامة
المجذوب "غريب الأحوال يلقبه العامة باسم "العجاج"، ومن غريب أطوار
هذا المجذوب أنه جاء ذات يوم بأتان إلى ساحة المسجد الأعظم وقت خروج المصلين من
صلاة الجمعة فأخذ يلاعبها…"(الرواية، ص66).
ثانيا:
كرامات أبي موسى "رجل طويل القامة خمري السحنة يرتدي أطمارا مرقعة ولكنها
نظيفة… الملقب عند من يعرفونه من أهل سلا باسم كنيته "تامسنا". رجل لا
يشتغل عند أحد ولا يتكفف لأحد، يعيش من عساليج البحر" (الرواية، ص65).
لنتساءل –في
البدء- عما تكون الكرامة؟ إنها معجزة خاصة بالصوفي، إذ يكررها فعلا، ووفقا لرغبته
ولشطحات خاصة وظرفية. إنها بحث ومسعى عن ضرورة توازن وحدة الذات. هي "تفسير
غير عقلاني للتاريخ والظواهر، وهو نمط فكري، واجتماعي أيضا، شمولي النظرة. ثم هو
يأخذ ويعلل كل شيء باللجوء للخيال، وأواليات الدفاع عن الذات، والإشباعات النفسية
الوهمية. كما هو يرضي الوعي تجاه كل التحديات والحواجز ترضية سهلة"[2].
ومن تم
فللكرامة ثلاث وظائف:
1 ـ تأتي من
حيث كونها تنتصر دائما. وهذا الانتصار يجعل الذات مأخوذة من جانبها اللاواعي،
فينسى الفرد أحزان الواقع، وينتشي بالقوة وبالسلطة مما يعيد للذات استقرارها ويقضي
على مشاعرها بالخصاء والقلق المتنوع، وينفس عن مكبوتاتها.
2 ـ تمدنا
بمعرفة الجانب المهمل أو المنسي أو المظلم في تلك الذات
3 ـ هي صورة
للعالم المثالي وللسلطة المثالية والمجتمع الأكمل، ولشتى الفضائل والقيم العليا
التي كان يتخيلها الإنسان ويتمناها[3].
تستحضر
رواية أحمد التوفيق الكرامة الصوفية لهذه الاعتبارات، وتستدعيها لبناء عوالمها،
لتعيد إنتاجها في معمار مغاير، وفقا لجملة معطيات تراهن على العامل المناقبي في
الرواية. ويتمثل ذلك في التماثل بين بنيتي الشكلين التعبيريين: الروائي والمناقبي،
وفي تعالقهما واندماجهما، داخل النص الروائي، لخلق دلالة مخضرمة، تعيد الاعتبار
للكرامة الصوفية وخدمة لمعمارية النص الروائي في مقابل الطرح التاريخي.
تجسدت
الكرامة الصوفية، في النص الروائي، في شكل مواقف وملفوظات ومن خلال الفعل المناقبي
المرتبط بالمجذوب وبأبي موسى، باعتبارهما مثالين خارقين، كتجسيد رمزي لظواهر فوق
طبيعية قاهرة، ذات "الارتباط بالإكراهات (الضغوط) الاجتماعية، والتمثلات
العامة والوعي الجماعي"[4]
لطبقات وفئات مجتمعية مسحوقة. فأبو موسى والمجذوب يتدخلان في نواميس الكون،
ويمارسان تأثيرا على محيطهما من خلال استدعاء الكرامة.
من هنا تعمد
رواية جارات أبي موسى إلى ما يلي:
1 ـ إعادة
إنتاج سلوكات وتعابير تنتمي إلى حقل دلالي مرتبط بالحكي الشفهي، ومن تم التداخل
بين ما هو شفاهي (الحكاية الصوفية) وما هو كتابي (النص الروائي)؛ كل ذلك في ارتباط
بنظرية التلفظ: فالدعاء، مثلا، ينتقل من صيغته الشفهية العفوية إلى صيغة نصية
مساهمة في بناء النص.
2 ـ إخضاع
الكرامة الصوفية لبناء الرواية، بغية التحكم في مصير الأحداث، وبالتالي سلب
السببية التاريخية منطقها الموجه للأحداث.
3 ـ سعت
الرواية إلى "قول" الكرامة بطريقة مغايرة، أي أنها تلجأ إلى عملية
التحويل، أي تحويل الحكاية الصوفية الأصل من سياقها المناقبي إلى سياق روائي مغاير
للسياق الأول، وإن حافظ على شحناته الدينية والقدسية.
4 ـ تقوم
الرواية على التشاكل، بين بنية النص وبنيات إحالية مرجعية؛ مرجعية تاريخية(*)
ومرجعية صوفية(**).
1 ـ بناء
الرواية:
تتأسس الحبكة
الروائية في رواية جارات أبي موسى على فترة تاريخية عصيبة، من تاريخ المغرب
ممثلة في القرن الرابع عشر، وما عرفه من كوارث، ذلك أنه "كان قرنا حافلا
بالكوارث كتزايد برودة المناخ وتلاحق فترات القحط وانتشار الأوبئة كالطاعون مثلا،
مما جعل الباحثين الأوربيين والمشارقة يجعلون من هذا القرن منعطفا حاسما في
التاريخ الإنساني"[5].
تقوم حكاية جارات
أبي موسى على تمفصلين أساسيين:
[i]1-1-التمفصل
الأول:
نعيش في
الفصول الأولى للرواية حكاية شامة، التي بدأت حياتها كخادمة في دار ابن الحفيد
قاضي قضاة سلا. "دخلت إلى القبة فتاتان تحملان الطست، خادمة سودانية شابة
تحمل جفنة الغسيل، وشقراء فارهة تحمل البقراج الذي به الماء وعلى كتفها فوط بيضاء.
لم يكن ابن
الحفيد ينتظر ظهور خادمته الشقراء واسمها شامة في هذا المجلس"(الرواية، ص.
إن دخول
شامة إلى مجلس ضيوف ابن الحفيد ليس بالدخول العادي، إنه دخول سيقلب موازين عالم
الرواية، فدخولها يوازيه خروج زوجة دحمان ابن القاضي ابن الحفيد، إذ طلقت وأعيدت
إلى أهلها، باعتبارها المدبرة لدخول شامة المجلس. ويوازيه أيضا خروج شامة نفسها
زوجة/عروسا للجورائي، قاضي قضاة السلطان. كما يوازيه تغير حتى على مستوى اسم العلم،
فشامة عندما تغادر مدينة سلا تدفع لتغيير اسمها. مع ما يحمل اسم العلم من تاريخ
صاحبه وماضيه؛ وكأن الجورائي، بفعله ذاك، يريد أن يتخلص من ماضي شامة كخادمة ذات
نسب وضيع "حضر العجال وهو والد شامة ولا علم له بموضوع استدعائه، فأدخل
الحمام لينفض أوساخه ويطرد عنه روائح الروث"(الرواية، ص11). وليعطيها اسما
جديدا هو ورقاء، مع ما يحمله هذا الاسم من حمولة صوفية، إذ يعني: النفس الكلية[6].
"أيها الأديب الأريب، أين صهرنا والد شامة؟
فليأذن أن
نغير اسمها من شامة إلى ورقاء، ثم قال: ها هو قد أذن حفظنا الله فيه، خذوا مني
دنانير من سكة سيدنا وادفعوا منها قيمة شراء كبش سمين نعلن به هذا الاسم الجديد
لحرمنا" (الرواية، ص17).
فقراءة
الرواية قراءة أفقية تجعلنا نقسم النص الروائي، وحسب فصوله، إلى قسمين: قسم تشغله
شامة/ورقاء وقسم يشغله أبو موسى بكراماته.
القسم الأول
يبدأ قبيل خروج شامة من سلا عروسا في اتجاه فاس حتى عودتها إلى سلا من جديد أرملة.
بمعنى أن الرواية تدور أحداثها في حلقة تبدأ من سلا لتعود إليها.
القسم
الثاني، ويبدأ بانتقال شامة إلى سكناها الجديد بفندق الزيت مع زوجها علي الحديث
العهد بالإسلام وصراعها الظاهر والخفي مع عامل سلا جرمون ومجاورتها للقطب أبي
موسى.
1-2-التمفصل
الثاني: هو حكاية أبي موسى القطب، الذي يعيش في غرفة بفندق الزيت،
وهو ما ستحاول هذه الورقة ملامسته.
2 – الكرامة
الصوفية والحكي الروائي:
عادة ما
تقوم بين ثنايا كل نص نصوص أخرى، وفي مستويات متغيرة، وبأشكال مختلفة، سواء أكانت
منتمية إلى ثقافة سابقة أم إلى ثقافة محاينة. مما يتيح للقارئ إمكانية إدراك أسباب
ومسببات ما وقع وما ترتب عنها من وجهات نظر مختلفة قد تغدو أكثر صحة وأكثر واقعية.
2-1-كرامة
العجاج:
"
مجذوب غريب الأحوال يلقبه العامة باسم "العجاج"، ومن غريب أطوار هذا المجذوب
أنه جاء ذات يوم بأتان إلى ساحة المسجد الأعظم وقت خروج المصلين من صلاة الجمعة
فأخذ يلاعبها، فلما اشمأز المارون من شغله وسأله بعض من تعودوا ممازحته عن سر فعله
قال لهم: أنا مشتغل برتق الخرق الذي وقع في السفينة"(الرواية، ص66).
ما يهمنا من
هذه الحادثة هو كونها إخبار لما سيقع على مستوى الحدث الروائي، والمتعلق بما وقع
لسفينة السلطان عندما اصطدمت بحجر وسط البحر. وثانيا أن عملية رتق الخرق تتجسد في
فعل جنسي وهو سلوك يدخل في إطار العجيب.
نقرأ في نفس
الصفحة ما يلي: "ولما وصل إلى سلا بعض من كانوا مع السلطان المخلوع في سفينته
التي نجت من كارثة الأسطول العائد من حملة الأطراف الشرقية قالوا إن سفينتهم دفعها
الريح دفعا قويا فارتطمت بحجرة وسط البحر فوقع فيها خرق تسربت منه المياه إليها
بشدة وكثرة حتى يئس من فيها من حذاق البحارين من سده وظنوا أنه الغرق والموت
المحقق، فإذا بهم يرون شخصا كأنه من صناعتهم في صورة الرجل هذا المدعو العجاج،
يحمل الألواح ويدافع الماء ويطرق المسامير ويسدد الشقق بقير لم يروا شدته في أنواع
اللزاق".
إن فعل
العجاج هو نوع من الكرامة/المعجزة والمكاشفة، عملت الرواية على مؤازرتها، إن على
مستوى الشخصية الروائية (العجاج) التي تعلم أسرار الغيب. فالقطب الصوفي ممثلا في
شخص العجاج يخبر الناس، وهم في سلا، بما وقع أو سيقع لسفينة السلطان، هذا من جهة.
كما أنه يتواجد في مكانين في وقت واحد (ساحة المسجد الأعظم وعلى ظهر سفينة
السلطان).
2-2-كرامات
أبي موسى:
من اليسير
جدا أن يقف القارئ على العلاقة التي تربط رواية جارات أبي موسى بكتاب التشوف
في أخبار التصوف لابن الزيات التادلي، حيث نقرأ تحت الترجمة الثالثة والسبعين،
من الكتاب المذكور أعلاه، ما يلي: "أبو موسى الدكالي: من كبار الأولياء. كان
سكناه فندق الزيت بمدينة سلا وكان زاهدا في الدنيا منفردا لا يأوي إلى أحد…"[7].
ومع ذلك
فالرواية، عند أحمد التوفيق،لا تستهدف محاكاة واقع معين أو إعادة كتابته تاريخيا
برؤية مغايرة، ولكنها تهدف إلى إقامة موازنة نصية تسعى لإدماج المكون المناقبي في
تلابيب الحبكة الروائية، ما دامت الكرامة (الحكاية الصوفية) "مثال قديم للقصة
العربية اللاواقعية"[8].
وكرامات أبي
موسى نتتبعها في النص الروائي من خلال ثلاثة مشاهد:
2-2-1-مشهد
كرامة حج أبي موسى:
"في
ذلك الاحتفال بالجامع الكبير قال بعض من حج إنه رأى في الطواف وفي أثناء قضاء مناسك
أخرى أحد سكان فندق الزيت وهو أبو موسى. صرح بذلك أكثر من واحد، وناقشوا مع من حضر
من المستقبلين حول صحة ذلك أو عدم صحته، وأنكر البعض ذلك الادعاء لأن أبا موسى لم
يغادر الفندق في موسم الحج، وحتى إن غاب فإنه كان يغيب بمغارته المعروفة بجانب
البحر شمالي سلا، حيث يمكث يومين أو ثلاثة على التوالي ثم يعود" (الرواية،
ص88).
وظف الروائي
الكرامة كتجربة صوفية ممثلة في التواجد في مكانين مختلفتين. تواجد بسلا لحماية
أهلها وسفر إلى الحج كصورة ذات غنى روحي، استغله المتن الروائي للتسامي عن السلطة
الزمنية. فالعلاقة بين فكر الصوفي (أبو موسى) ومجتمعه، علاقة محكومة بما هو غيبي
ديني، وهي علاقة تزكيها الحكاية الصوفية كما عاشها القطب أبو موسى الدكالي،
الشخصية التاريخية: "إذا أتت أيام الحج يقول: أريد أن أزور أهلي فيغيب أياما
قليلة ويعود، وأقام على تلك الحال إثني عشر عاما"[9].
2-2-2-مشهد
كرامة حك الجلد:
"ثم
أنهى النظر في المصحف، واتكأ وكأنه لا يشعر بوجود أحد معه، يحرك ملامح وجهه كأنه
يتكلم في داخله، بل يبدي ما قد يشعر بأنه يرى أمامه أشياء ويتبعها، وفجأة انفعل
ووجم ثم تجهم ثم أخذ يحك لحيته بكلتا يديه، ثم أخذ يحك بطنه وظهره وكل مكان في جسمه
كمن يتعرض لجرب في جلده أو كمن وقع فريسة لجيوش من البق أو القمل، فهو في حكه لا
يفتر ولا يكل ولكن لا يظهر عليه أنه يتألم" (الرواية، ص100-101).
إذا نظرنا
إلى حدث "الحك" عند أبي موسى نرى أنه فعل عاد، كما جاء في تفسير السارد
وفي تفسير علي زوج شامة عندما حدثها بما وقع لأبي موسى. غير أن هذا التفسير قد
يبطل إذا ما ربطناه بما وقع للعامل جرمون.
"ولما
ظلت كما هي لا تجيب، بقي في مكانه ثم شعر بالحاجة إلي حك لحيته بشيء من العنف غير
معتاد، ثم شعر أيضا بالحاجة إلى حك ما تحت إبطيه، ثم بدأ يحك بين أصابع رجليه،
وحملق بعينيه في البساط وفي أغطية الطنافس وفي الجدران كأنه يبحث عن حشرات ظنها
سبب ما يجده من ألم في جلده، فلم يتبين شيئا.
كانت شامة
تسترق النظر إليه وهي شبه مطرقة مخافة أن يفاجئها بعدوان لم تكن تترقبه، وتعجبت من
انشغاله بحك جلده بحدة غير معهودة، وفجأة أحست به في شديد الحاجة إلى حك مواقع من
ظهره لا تصل إليها يده، فخرج من القبة، وسمعت رتاج باب غرفة أخرى يتحرك وتصورت أن
جرمون أسند ظهره إلى ذلك الرتاج.
عاد إلى
القبة وجلس وعادت إليه حاجته الملحة إلى حك كل موضع في جسمه، فخرج مرة أخرى، وأحست
به وكأنه دخل إلى الحمام ومكث مدة ثم عاد، وما أن يجلس حتى تعاوده حكته من جديد.
مر عليه وقت طويل وهو يدخل ويخرج ولا يسرى عليه مما نزل به، وأخيرا غضب وقال
لشامة:
هل حملت معك
تمائم من صنع السحارين؟" (الرواية، ص107) إن التفسير الذي نصادفه في هذا
المقطع، وهو تفسير العامل جرمون الذي اعتقد في بادئ الأمر أن حكه ناتج عن بعض
الحشرات ثم ما يفتأ أن ينسب هذا الحك إلى شامة معتقدا أنها تحمل معها تمائم. ولكن
إذا ضممنا المشهدين إلى بعضهما، وهذا ما فعلته شامة، تماشيا مع الطرح الروائي نجد
أن ما حدث للعامل جرمون هو ناتج فعل تدخل علوي قطبي قام به أبو موسى الكاشف عن
الغيب. وهنا تلتقي كرامة العجاج مع كرامة أبي موسى في فعل شيء ما (إتيان الأتان/حك
الجلد) في مكان ما ليتحقق أثر هذا الشيء في مكان ثان. مما يترتب عن هذا كون
الكرامة وأثرها هو خروج عما هو واقعي وخروج عن معايير الزمان والمكان.
2-2-3-مشهد
كرامة طلب الغيث:
تتبدى كارثة
الجفاف في المعتقدات الشعبية من خلال تصور ديني ينزع عنها صبغتها الطبيعية، ويلفها
بغطاء غيبي، حيث يعزوها إلى كونها عقابا من السماء نزل بسبب كثرة الخطايا…
وهذا التصور
لا زال ساريا إلى يومنا هذا، إذ يرتبط بالتصور الديني: "لم يكن هذا التصور
خاصا بالفقهاء أو بعامة الناس، بل نجده بارزا في خطاب السلاطين والحكام"[10].
لذلك كلما حلت كارثة الجفاف بادر الناس إلى صلاة الاستسقاء بإيعاز من أولي الأمر.
"خرج
الناس في سلا لصلاة الاستسقاء مرات عديدة منذ انقطاع المطر، ولم تأت صلواتهم بشيء
مع تعدد الأئمة المقدمين وشهرتهم عند الناس بمتانة الدين. كان الناس يقصدون
المساجد بكثرة غير معتادة، وكان يؤتى إليها ببعض الطعام صدقة. وكان الوعاظ
يتناوبون على المنابر وكلهم يفسرون البلاء النازل بالعصيان الذي عليه العباد. وقد
خطب شيخ جماعة العلماء يوم جمعة على غير عادته، ففسر انحباس المطر بكثرة
المناكر"(الرواية، ص183).
سارعت رواية
جارات أبي موسى إلى نقل صورة حية عن الإسلام الشعبي الظاهري، ممثلا في مشهد
صلاة الاستسقاء وما يصحبها من طقوس، غير أن الرواية تغوص في الجانب العرفاني ممثلا
في استدرار الغيث عن طريق الكرامة الصوفية: "خرج أبو موسى وجاراته من الباب
الشرقي والبوابون لا يقدرون هذه المرة على حبسه ومن ورائه جم غفير متدافع من
الرجال والنساء، وفي فضاء المصلى خلع أبو موسى عمامته الخضراء وكشف عن رأس أشعت
وبدأ يتضرع والنساء يرددن من بعده ويطفن من خلفه وكأنه يطوف بقطب وسط
المصلى"(الرواية، ص187).
إن توظيف
أحمد التوفيق للكرامة ذو مسعى فني لبناء النص الروائي، وللنبش عن رد الفعل الشعبي،
ومعرفة مدى تجاوبه أو طرحه للتفكير الصوفي. وهذا ما حدا بالرواية إلى العزف على
وتر نمط التفكير السائد في القرن الرابع عشر. فلا غرو أن تشتغل الرواية بالكرامة
كتيمة أساسية ما دامت اهتمامات الروائي، في المقام الأول، هي اهتمامات الباحث في
التاريخ الاجتماعي، وفي تاريخ العقليات.
والرواية،
من هذه الزاوية، بحث أركيولوجي في طبقات وأوعاء الإنسان المغربية.
3 – البطل
الصوفي:
يعتبر مفهوم
البطل من أقدم المفاهيم الموظفة في حقل الأدب، إذ ظهر في الملاحم والأساطير
اليونانية وفي الخرافات والسير الشعبية. فالبطل هو ذلك الشخص القوي، ذي الفعل
الخارق. وبطل جارات أبي موسى حاضر منذ عنوان الرواية، إذ يحضر كمحمول في
قضية. فالجارات المتحدث عنهن في العنوان، وهن موضوع القضية، يحضرن نكرة. أما
المحمول فيذكر معرفة (اسم علم). وهذا يعني ضمنيا عكس ما تقوله القضية كتركيب منطقي
(موضوع + محمول). إنه "علاج للذات المنسحقة، والشاعرة بقلق الخصاء وبالدونية
والعجز والفشل"[11].
فأبو موسى فاعل فيما حوله، ما دامت الفترة التاريخية المتحدث عنها فترة تحتاج إلى
التدخل والفعل؛ تدخل لإيقاف شطط جرمون عامل سلا، وفعل لطلب غيث السماء، وللتخفيف
من حدة الجفاء ووطأة الجوع والموت، ما دامت السلطة الزمنية لا حول لها ولا قوة.
ما هي خصائص
البطل الصوفي في رواية جارات أبي موسى؟
1 ـ النجدة:
يعمل أبو موسى على توظيف كراماته لخدمة المظلومين (شامة) والتنكيل بالظالمين
(جرمون) وتقديم المساعدة للمحتاجين ".. سمكتان لكل امرأة في الأسبوع يأتي
بهما أبو موسى ويضعهما عند باب كل غرفة منذ بدأ اشتداد المجاعة، وكأنما كان يرعى
جاراته ويعرف أنهن معرضات للهلاك أكثر من غيرهن في هذا البلد، وفي كل شهر كان يدفع
للواحدة منهن مدا من دقيق عروق برية تصلح أن يصنع منها خبز لا أطعم منه ولا
ألذ" (الرواية، ص181).
2 ـ
الوساطة: يقوم البطل الصوفي بفعل التوسط بين الله والناس، ويتمثل ذلك في حادثة
الاستسقاء لأهل سلا "شاع الخبر أن أبا موسى خرج بجاراته إلى المصلى لا للصلاة
على الوجه المعتاد، بل للاستغاثة في المطر بالتضرع"(الرواية، ص188).
3 ـ التحول:
ونعني يه التحول من مكان إلى مكان (حادثة الحج مثلا).
4 ـ
العجائبي: يكمن الفعل العجائبي في رواية جارات أبي موسى في إنزاله المطر
زمن الجفاف وحصوله على الطعام لجاراته بفندق الزيت ووقوفه ضد قوى الشر.
4 ـ المرأة
بين الروائي والكرماتي:
إذا كانت
أغلب النصوص الروائية تجعل من المرأة رمزا للغواية ومكمن المتعة الجسدية، فإن
رواية جارات أبي موسى، وباعتمادها على الكرامة، سعت إلى تطهير المرأة، ما
دامت هذه الأخيرة قد احتكت بالقطب الصوفي، بل لقد جعل الروائي المرأة طرفا في
الكرامة. فشتات نساء فندق الزيت، باستثناء شامة، هن نساء ساقطات عاهرات (تودة –
خوليا – بية – إجا – ملالة – كبيرة – رقوش – مماس). لقد عمدت الرواية، عن طريق
كرامة أبي موسى، إلى تغيير المصائر وتبديلها، وبالتالي إزالة عنصر النقص والخصاء،
لقد انتقلت نساء فندق الزيت من التجربة الجسدية المبنية على الغواية إلى تجربة
روحية صافية، إذ انتقلن من اللاوعي إلى الوعي، من قهر المرأة إلى انتصارها وفرض
وجودها ككائن مدفوع للفعل بنفس سماوي/كرماتي، لقد نجحت الرواية في تحويل المرأة،
حيث "مثلت الروح والأنثى الخصبة والحياة والأمل، بل والتغيير أي الخلق
والانبعاث"[12]
فتحولت نساء فندق الزيت من عاهرات إلى زوجات "وتهافتت النساء على النساء كما
لو كن من ملائكة الرحمان، كل تريد أن تفوز بواحدة منهن لتكون ضرة
لها"(الرواية، ص189).
لقد مثلت
شامة/ورقاء النموذج الأكمل للمرأة سواء من حيث جمالها ("فجمالها الخارق يذكر
بالله ولا يمكن على هذا الاعتبار أن يكون عورة توقع في الفتنة") (الرواية،
ص123)، ومن خلال سلوكها، وتأثيرها فيمن حولها ("أما في مهارة التدبير وتوقد
الذكاء ورقة الحديث وخفة الروح مع إلمام بطرف من علم الشرائع، فشامة مدينة لكبرى
زوجتي القاضي مولاتها الطاهرة…" (الرواية، ص9)).
إذا كانت
علاقة شامة بمخدومتها الطاهرة ونساء الشرفاء قد اتسمت بالتواصل والحب، فإن علاقتها
مع نساء فندق الزيت اتسمت بالنفور.
وعلى هذا
الأساس، يمكن قراءة المرأة في رواية جارات أبي موسى في ضوء ثنائية المقدس
والمدنس، ذلك أن الرواية تزخر بالتناقض (الخير/الشر). فشامة هي نموذج الخير الأمثل
وتودة، وجارات أبي موسى، في مرحلة معينة، هن رمز الشر؛ غير أن الرواية، وتماشيا مع
تواجد الكرامة، تصبح كل نساء الرواية نماذج صغرى للخير.
من هنا
يتحول المكان من فضاء مشوه إلى زاوية الأولياء، وتحولت نساء فندق الزيت من بائعات
الهوى إلى عاشقات لله.
فإذا كانت
الكرامة هي تتبع لحكاية الصوفي، فإن جارات أبي موسى هي تتبع لسيرة الشيخ
والمريد (أبو موسى/شامة).
خاتمـة:
تنتمي رواية
جارات أبي موسى إلى عينة الرواية الجديدة، حيث يسعى أحمد التوفيق إلى استثمار
المكون التراثي بغية التوصل إلى الأجوبة المتحكمة في الثقافي والسياسي الراهنين.
من هنا أيضا
يظل الروائي، واعيا بالحدود الفاصلة بين المكون المناقبي والمكون الروائي، فهو وإن
استلهم التراث التاريخي والصوفي، لإغناء المتخيل الروائي ولتطعيم الرواية وتطريزها
بلوحات فنية ولتشييد معمارية روائية، فقد حافظ للسرد الروائي على عناصره البنائية
من حبكة وشخصية وفضاء وزمان ولغة واصفة… مراعيا القواعد الفنية الرابطة والمتحكمة
في مختلف العناصر.
إن اهتمام
الروائي بالكرامة هو اهتمام بالتجربة الصوفية في حد ذاتها باعتبارها إمكانية للقفز
فوق كل أشكال السببية المنطقية، وتحقيق كل أمنيات العالم. من هنا يتفق الروائي مع
الصوفي من حيث "النظرة إلى الطبيعة والحتميات. كما أنهما يخلقان أو يلتقطان
الإشارات والرموز عينها، ويعبران عنها من خلال التجربة المعاشة والنفاذ إلى
الأعماق"[13].
تتأتى هذه التمظهرات
بحمولتها الروحية في القدرة السياقية للنص الروائي، مع إدماج هذه الوحدات وإعادة
إنتاجها في صور جديدة تحمل بصمات الصورة المناقبية، وإن ارتبطت بسياق جديد ذي
النبرة التخييلية..
وعليه،
فالكرامة الصوفية في جارات أبي موسى هي أساس المادة الروائية، والتي على
أساسها يفسر الروائي منطق الأحداث وأفعال الشخوص، ذلك أن ما لم يستطع الروائي
تمثله على مستوى الفعل الروائي نسبه، وهذا حقه، إلى الفعل المناقبي، ممثلا في
كرامات أبي موسى
--------
التأويل
وأنطولوجيا الانفلات
عبد الصمد الكباص
"إن تأويلي الجديد يضمن لفلاسفة
المستقبل الذين سيكونون سادة الأرض، الوقاحة الضرورية" (نيتشه)
المستقبل الذين سيكونون سادة الأرض، الوقاحة الضرورية" (نيتشه)
يقول جيل
دولوز: "سنظل لايبنتزيين… سنكتشف كيفيات جديدة للثني كأغشية جديدة،
لكن سنبقى لايبنتزيين لأن الأمر يتعلق دائما بالثني وفك الثني، وإعادة
الثني…"[14].
كالمناداة اللايبنتزية [نسبة للفيلسوف لايبنتز] التي تنثني على عالم، على
اللامتناهي، يجعلنا كتاب الشعر والتأويل[15]
أمام فعالية غير متناهية للثني، فعالية تحدث وفق حركة مسترسلة لمضاعفة ذاتها. حيث
كل ثنية تنثني على ثنايا. وحيث الطي يأخذ مجرى تستحيل معه العودة إلى الأصل، أو
إلى نواة جوهرية يمكن الوقوف عندها. فكل فك أو حل للطية يفضي إلى ثنية أخرى[16].
إن الكائن هو حصيلة انثناءات لا متناهية التي من خلالها يتعدد ويتضاعف في كثرة
داخلية لا يمكن أن تؤسس طوية أو لحمة جوانية بقدر ما تشكل انثناء للخارج الذي
يرتسم كحد. وتاريخية الكائن هي هذه الصيرورة من الأنثناءات، هي الحركة الدائمة
التي تحفر في عمق المتناهي سراديب لا متناهية متشعبة، لا تقيم فيها حقيقة أصلية
توحدها. إنها الانتشار المبعثر لهذا الكائن الذي يقذفه وجوده في عرضية عالم يمزقه
الزمان ويحيله إلى شظايا. يقول جيل دولوز: "دائما هناك ثنية داخل ثنية ككهف
داخل كهف"[17].
فالأمر شبيه بأقنعة نيتشه التي لا ينزع الواحد منها إلا ليكشف عن قناع آخر. وهذا
هو الإمكان الخاص لكتاب الشعر والتأويل. الذي يعرض نفسه كحيز للانثناء،
كإعمال قصدي لفعالية الثني التي تشكل جذرا أنطولوجيا لكينونة تجبر نفسها على
مواجهة حدها الخاص، وتجاوزه، مسكونة بعنف يقودها إلى اختبار أقصى إمكاناتها. هذا
الاختبار الذي لا يتحقق إلا على قاعدة من الاستنفاذ والتعديم، تجعل هذه الكينونة
تحقق نفسها من خلال ما يخترقها من فراغ وما يفتحه عدمها من أفق للتلاشي والتحلل،
إنها بقدر ما تعمل على تجاوز حدها، تجد نفسها حبيسة محدودية عملية التجاوز هذه.
لكن، على أي
نحو يشكل كتاب الشعر والتأويل حيزا للانثناء؟ إنه تأويل ينطوي على تأويل،
ممارسة تأويلية لا تؤول نصا خاما. وإنما تؤول ممارسة تأويلية أخرى. فحيز الانثناء
هنا الذي يشكله كتاب الشعر والتأويل يتجاوز المحدودية المادية لهذا الأخير [
أي الكتاب ] ليصبح ممتدا امتدادا لا محدودا، وغير قابل للاختزال. لأنه يضاعف
انثناءاته عبر المدى المتجدد للقراءات التي لا تتكرر أبدا ولا تستنسخ والتي لا
يمكن حصرها زمنيا ولا مكانيا. والانثناءات هنا ليست تكرارا لذات الواحد (le
même) ولا استنساخا تعدديا
لهوية أصلية واحدة. بل هي ما يبدد كل لحمة جوهرية. إنها المضاعفة اللامتناهية
للاختلاف والتعدد الذي ينفي كل إمكانية للإمساك بالتطابق أو الوحدة أو النظام.
إن الشعر،
حسب الكتاب، هو ممارسة هرمونيطقية تؤول الوجود والتاريخ والذات واللغة.. ممارسة لا
تستكين أبدا إلى صنمية الدلالة المفروضة مسبقا من طرف شبكة الفهم المحبوكة سلفا.
التي لا تعمل إلا على خلق الملاءمة بين المحتمل والمعهود، بين المختلف والنمطي من
أجل الانتصار النهائي للشائع والمشترك وتكريس هيمنته. إنه هيرمينوطيقا مسكونة
بتوتر حيوي، ليس لها أي هاجس كانطي [ نسبة إلى كانط] همه الأساسي هو التوافق مع
قبليات ثابتة وذلك لأنها لا تشرط نفسها بأي تواطؤ عقلاني، ولا تحدد مسارها كتركيب
وتوحيد للمتنوع. أنها امتداد كاووسي يقتطع كسيلان من التأويلات التي ينثني كل
تأويل منها على تدفق لا متناهي من التأويلات. وهكذا فالشعر كهرمونيطيقا هو تلك
الثنية الأولية التي يغمرها مجرى غير محدود من التأويلات، والتي يتحدد مصيرها من
خلال هذا المجرى كعملية تأويل لا تنتهي. ميزتها الأساسية إنها غير قابلة لأن ترد
إلى ذات حائزة قبليا على كل ما يجعل المعرفة ممكنة. ذات تسطير على نفسها، في حضور
مطلق وصاف يمكنها من الإمساك بامتلائها الذي يخصب العالم بالمعنى. إن الذات لن
تكون بالنسبة لهذه التأويلية إلا فراغا يتجوهر في كلمات مناسبة تكون لغة هي بمثابة
الامحاء القصدي لكل كائن من شأنه أن يجعل من نفسه فاعلا لها. يقول م.فوكو في الكلمات
والأشياء: "يجيب ملارميه على السؤال الذي يطرحه نيتشه حول من هو المتكلم؟
مرددا أن المتكلم هو الكلمة، في وحدتها، في تذبذها الهش، وحتى في عدمها ذاته –لا
معنى الكلمة، بل كيانها اللغزي العابر-"[18].
إن اللغة لن تكون إلا حيزا لاضمحلال الذات وتلاشيها، وهي في نفس الوقت هذا التذكير
الدائم بهذا التلاشي والتحلل. فما يفرزه الشعر كتأويل هو هذا الانبثاق لكائن هو
مفعول للغة أكثر منه فاعلا. كائن تنذره الكلمات
للتيه والعتمة والشرود. تبدده في حضورها العابر، وتستعيده كذاكرة منسية غير
قابلة للاستحضار أبدا. إنها تبعثره وتنشره عبر تشتتها. وبذلك لن يكون هم هذه
التأويلية هو الفوز بالوحدة الضائعة لكائن هشمته اللغة، وأعادته لوضعه الأصلي
المفقود. فبالنسبة للشعر كتأويل ليس هناك أي وضع أصلي. وليس هناك أي كائن يتحدد
كوجود سابق عن التأويل. فالكل يبدأ ويولد مع التأويل. وحتى لو جارينا النزوع
المنطقي الذي يفرض أن يكون وراء كل تأويل مؤول، فإن هذا الأخير لن يكون هو نفسه
إلا تأويلا.
ورد في
(الشعر وأسئلة الوجود) لعبد العزيز بومسهولي.
"فالشعر
في جوهره تيه، بقدر ما هو مشروع لا مكتمل لا يتحدد بهدف غائي، تتوقف عنده حركة
الشعرية، ومن ثم فهو ضد الحقيقة التي تظهر كموجود يمارس إكراهاته على الكائن
الجوهراني الشعري. إن اللاحقيقة في الشعر هي الوجود الأصلاني المنفتح، أو التجلي
الأكثر تميزا في تعدديته"[19].
إن الشعر
باعتباره تيه، يرتسم كتأويل متحرر من كل غائية مسبقة، ومن كل توجيه قبلي. وهذا هو
ما يمكن التأويل الشعري من الانبثاق من حيز لا واجب فيه. فهو حركة دؤوبة، لكن بدون
غاية محددة سلفا. حركة لا تحكمها قوانين أو قواعد، تحدث خارج ثنائيات الظاهر
والباطن، البراني والجواني، الحقيقة والزيف، الخطأ والصواب. وبما هي كذلك فهي لا
تعين نفسها بإزاء مرجع ما، ثابت ومضمون، وحاضر حضورا ممتلئا، ستحاول أن تخبر عنه،
أوتطابقه أو تصفه. إنها الحركة التي لا تتولد إلا من ذاتها باعتبارها كيانا
متفجرا. والتي لا تعد إلا بالمفاجئ والمباغث، بالمعتم والغامض. إنها صيرورة
انثناءات لا تبسط وإنما تثني. وهكذا فالشعر بما هو تأويل ليس رهانا إبستمولوجيا
صرفا، بقدر ما هو رهان لا زمني يشغله الزمن ضد نفسه. إنه كينونة تحقق نفسها على حد
الإضافة والنقص، غير قابلة للاستفادة من مفهوم.
جاء في كتاب
الشعر والتأويل: "فالشعر لا يحفز على رؤية يقينية، لأنه يقع في الصف
المناقض للإكراه المعرفي، إن وظيفته هي إثراء الحدوس الظنية…"[20].
إن الشعر
بهذا تأسيس لأنطولوجيا الانفلات: ذلك البعد المشرع الذي يغمرنا ورغم ذلك لا يمكن
الإمساك به ولا إخضاعه للضبط. ذاك القريب الموغل في الابتعاد، ذاك الذي ليس له
شبيه ولا يمكن تأطيره ضمن مقولة سابقة. ذاك الذي لا يمكن للغة إلا أن تبدده كلما
أرادت أن تؤكده. لذلك فإن تأويلية الشعر تجيء متحررة من كل وصاية للمعنى، وللفهم
المشترك. إنها قوة محررة للغة من صنمية الإحالية التي تأسر كل استعمال لغوي في
شبكة التواصل التي تكرس سيادة الشائع والمعهود. والتي لا تسمح بمختلف إلا من حيث
هو شبيه لنموذج سابق. يقول مطاع صفدي في كتابه نقد العقل الغربي: الحداثة ما
بعد الحداثة: "كون اللغة أداة للتفاهم يعني كونها شبكة إيصالية للتفاهم
المطلوب المقنن مقدما، ذلك التفاهم الذي تم التفاهم حوله على أنه كذلك، فلا ينبغي
أن نخدع بما يقال: إن تلك اللغة الشائعة هي اللغة الحية.. فالتداول ليس حجة على
كون اللغة حية أولا، بقدر ما يبرهن التداول على الفعالية الأمرية، على السلطة
الواجبة المحملة للقول. فهو دليل موت للغة الحقيقة وليس برهان حياة أبدا. ذلك أن
التداول لا يعني الإيصال إلا لما هو موصل وواصل مقدما. إنه لا ينقل دلالة، لكنه
يطلب فعلا ما، سبق للحس العام أن أقره وقرره، ودعم صلاحيته للشيوع والمداولة"[21].
إن اللغة بما هي إحالة مقننة سلفا، لا تسمح إلا بما "قد تم وكان" [
العبارة لفوكو]. إنها لا تتيح إمكانية الجديد إلا من حيث هو قديم. إنها بهذا كيان
ميتافيزيقي يعرض العالم كتجلي لوحدة مطلقة، ويجعل الكثرة مجرد استنساخ لنموذج
موحد، فيصير كل تكلم انضباطا لأوامر هذا المطلق الذي يسكنها واستعادة للواحد الذي
يقيم في كل مكان.
واستشعارا
لخطورتها التشميلية هذه الممثلة في الإدماج القسري والقهري لكل اختلاف في الوحدة،
ولكل منفرد في الشبه الأصلي، ولكل تشتت في النظام، والشذوذ في المألوف والمعهود،
فإن الشعر كتأويل يشتغل كقوة مضادة لهذا المفعول التشميلي للغة بما هي معقل
ميتافيزيقا الوحدة. وهو بهذا لا ينخرط ضمن أي رهان تواصلي. لأنه مسكون بالتيه،
باختراق المفاجئ بما هو كذلك: "… لولا التيه لما كان هناك تاريخ ومعنى ذلك أن
الوجود يتيه بالموجود ولا يعرض الموجود إلا في التيه، فيقيم بذلك عالم الضلال، ذلك
هو مجال حصول التاريح…"[22].
وهكذا فإن هرمونيطيقا الشعر ليست نسقية، ولا تعمل على تأسيس نسق. إنها لا تصادر
على الانسجام والتناغم والنظام. إنها هرمونيطيقا كاووسية[23]
تعرض وجودا منقسما، مهشما، ممزقا، لا يأتلف مع ذاته، هو فوران من الاختلالات
والتوترات لا ينتظمها أي قانون ولا يستطيع أن يحتويها أي نظام. مثلما تعرض كائنا
ليس هو أكثر من شروخ تنثني على هوات، فجوات، وثغرات. كائن تجتاحه قدرة تشتته
وتبعده عن ذاته، تنذره كينونته للحركة وللتيه، لكن دون أي حل شبيه بالحل الهيغلي.
لذلك فإن
هذه الهرمونيطيقا لا تبحث عن النظام في فوضى عارضة، كما تفعل الهرمونيطيقا
الميتافيزيقية. بل بالعكس إنها ترى إلى النظام كحالة لا نظامية. وهي بذلك
تكشف عن الفوضى داخل كل نظام. يقول عبد العزيز بومسهولي في الصفحة 108 من كتابه:
"… الشعر يعري الإعتام الذي يقدم الوجود كبعد أحادي منظم تحكمه عناية
القوانين، وفي هذه الرؤية إقصاء لإحدى أهم مكونات الصيرورة والوجود التي تخالف
رؤيا الشعر الخلاقة التي فيما هي تخلخل الفضاء فإنها في الوقت ذاته تكشف عن الفوضى
في صلب النظام لأنها لا تأخذ بالمنهج المنطقي، لأن منهجها هو اللامنهج ذاته"[24].
ويضيف قائلا في الصفحة 115: "إن إدراك الفوضى داخل النظام العام للأشياء هو
إحدى أهم أركان الرؤية الشعرية بما هي التوتر الحيوي للعالم"[25].
من خلال ما
ورد أعلاه ندرك أن ما يقدمه كتاب الشعر والتأويل، هو رؤية تأويلية تقع على
النقيض من التأويل الميتافيزيقي الذي يصادر على الحضور الدؤوب للمعنى. والمسكون
بهوس الفوز بالدلالة الأولية، وبالحقيقة الثابتة والماهية الدائمة. والذي يتصور
نفسه كعملية مسترسلة لقهر الالتباس، وجعل الغامض واضحا، والقضاء على كل مظاهر
الفوضى وإحلال النظام بدلها… أي مواجهة كل ما من شأنه أن يتأسس على أنطولوجيا
الانفلات.
ليس التأويل
إعطاء الكلام لخطاب صامت ثاو في عمق نص مفترض. إنه إعطاء الكلام للصمت والفراغ
الذي يجتاح المؤول ككيان لغوي أنتجته معاناة اللامعنى. وليس هو إرادة الكشف عن
المعنى الأصلي والدلالة الحقيقية التي تغترب في قلب المجازات والاستعارات. إنه ليس
تجربة لحضور المعنى بقدر ما هو معاناة انفلات كل معنى. إنه ليس حركة توضيح مسترسلة
للغامض والمتلبس والمعتم. وليس محاولة لفك طلاسيم المجهول، أو تبسيط المعقد. مثلما
إنه ليس تقويما لكل تحوير قد يطرأ على النسق الإحالي للكلمات ورده إلى وضعه الأصلي
المقنن. إنه ليس وقوفا على صفاء الباطن ونقائه خلف خدع المظاهر وزيفها. إنه حركة
انثناءات تجعل كل كيان ينطوي على تشتته اللامتناهي وعلى انفلاته غير القابل للضبط.
حركة تنصب القراءة كإمكان لمضاعفة الانثناء. وبالمقابل تجعل النص حصيلة هذه
الانثناءات اللانهائية التي تحدثها القراءة.. هذه الأخيرة التي تحدث على النقيض من
القراءة الميتافيزيقية التي تفترض نفسها مسبوقة بالنص بما هو وحدة قائمة بمثابة
كثلة متجانسة يسكنها معنى متعالي يحتفظ بنفسه في معترك التغيرات والاختلالات.
فبالعكس إنها قراءة تلد نصها الذي يظهر ويختفي معها، يولد ويموت فيها، يبدأ
ببدايتها وينتهي بنهايتها. إنها قراءة لا تتكرر، والتي تكون كتابة دائمة لنص جديد.
بقي أن نشير
إلى أن كتاب الشعر والتأويل بما هو حيز للانثناء، وبما هو رؤية تحرر الشعر
من التصور الميتافيزيقي القديم الذي يعتبر الشعر مجرد تعبير، بأخذ إمكانه هو كذلك
من هذه الثنية التي جعلت أسئلة وإشكالات الفكر المعاصر ممكنة. إنها الثنية
النتشوية-الهايدغرية. نيتشه الذي فتح بجنيالوجيته أفقا جعل فيه الوجود سلسلة من
التأويلات المتصارعة المخترقة بإرادة القوة. وهايدغر الذي كشف البعد الأنطولوجي
للغة من حيث هي سكن الوجود. واعتبرها: "ما يضمن إمكان الوجود وسط موجود ينبغي
أن يكون منكشفا… فليست اللغة أداة طيعة ولكنها على العكس من ذلك هي هذا التاريخي
نفسه الذي يتصرف في الإمكانيات العليا لوجود الإنسان"[26].
مثلما اعتبر الشعر تأسيسا للوجود بواسطة الكلام14.
إن أهمية الكتاب تكمن
في هذه الورطة التي يضعنا فيها، والمتمثلة في جعلنا ننفتح على قلق هذا السؤال الذي
ما نكاد ننتهي من قراءة الكتاب حتى يبدأ صداه يتردد داخلنا وهو: "لماذا هناك
تأويل؟ وأي ضرورة تفرضه؟ هل الأمر يعود إلى ما يفصل كل كينونة على عدمها؟ ويثني كل
هوية للذات على تشتت الغير؟ هل لأن هناك واجبا أخلاقيا يفرض أن يكون شيء حقيقي؟ هل
لأن الإنسان مجتاح بتلك المنطقة المظلمة والشاسعة من اللامفكر الذي يشكل –على حد
تعبير فوكو- بالنسبة للإنسان: "الآخر الأخوي والتوأم، المولود لا منه ولا
فيه، بل هو إلى جانبه. وفي الوقت ذاته هو تجدد مماثل لذاته في ازدواجية لا
تنقض"15؟ هل لأن هناك دائما كينونة تتجاوز حركة الفكر وتنفلت منه؟ أم إن
الأمر يتعلق باللغة بما هي مخترقة بفقدان جذري للمدلول يجعلها تنساب متدفقة من أجل
الإمساك بأثر هذا الفقدان؟…
إن قلق هذه
الأسئلة هي الضريبة التي يدفعها القارئ لكتاب هو بمثابة نهر يجري في تجدد دائم
تشكل الفلسفة ضفته الأولى والشعر ضفته الثانية، مثلما هو كتاب الشعر والتأويلn
[i][font:29e9=&