ـ تكرار الكلمات:
تكررت في القصيدة الكلمات التالية: (خلا ـ خلي), (أمرا ـ الأمر)، (البعث ـ البعث)، (مرام ـ ما رامني)، (الدهرـ الدهر). إذن لتكرار هذه الكلمات وظيفة جمالية تتحدد في الإيقاع الذي تحدثه حين سماع القصيدة وهي تنشد، أو حين قراءتها. ولها كذلك وظيفة تأكيدية يؤكد من خلالها الشاعر المعاني التي تقولها القصيدة: فهو يتنمنى أن يكون له خل(صديق)، وخله بجانبه مما يدل على أنه لا ينتبه إلى من حوله فهو بعيد عن الواقع وعن الناس، وهو ما أكدته الكلمتان (أمر ـ الأمر) فهو يبحث عن أمر وهو يملك ذلك الأمر. فهو بعيد عن الواقع يتأمل في الغيبيات: البعث، الدهر، النفس، والموت، وتلك خصائص الاتجاه الرومانسي جسدتها هذه القصيدة بصدق.
ـ تكرار الجمل أوالعبارات:
يحضر تكرار الجملة أو العبارة في النص في البيتين الثالث والرابع:
وكــم أشـتكي هــما وقــلبي مـفـاخـر بهــمي، وكـم أبـكـي وثـغـري يـفـتـــــر
وكـم أرتـجـي خـلا وخلـي بجـانــبي وكـم أبتـغـي أمـرا وفـي حوزتي الأمــر
فقد افتتحهما الشاعر بأسلوب الخبر "كم"، مكررا جملة: (وكم + فعل مضارع) وكأن الشاعريريد بهذا التكرار إظهار آلامه (أشتكي/ هما / قلبي/ مفاخر بهمي/ أبكي / ثغري يفتر/ أرتجي خلا/ أبتغي أمرا) فهو يشكو همه ويبكي، وقلبه يفاخر بهمه. ويعلم أن خله بجانبه ويبحث عنه، ويعلم أنه يملك أمرا ويبحث عن ذلك الأمر؛ مؤكدا بذلك أن من طبيعة الشاعر الرومانسي البكاء والبحث عن الأجواء الرومانسية في كل ما يحيط به. وقد أفاد أسلوب "كم" الخبرية الذي تكرر أربع مرات في هذين البيتين أن تلك عادة الشاعر، بمعنى آخر فالشاعر يخبرنا أنه كم مرة (دائما) يشتكي، ويبكي، ويرتجي، ويبتغي. مقررا بذلك أن تلك حالته وعادته.
ـ التوازي:
ـ التوازي التركيبي التام:
حضر التوازي التركيبي التام في هذه القصيدة، في الشطر الثاني من البيت الأول، وفي شطري البيت الثاني:
و فـــي عطشي مــاء، و في صحوتي سكــر
و فــي لوعتي عرس، و في غربتـــي لقـــــا
و فـي باطني كشف، و في مظهـري ستـــر
يظهر في هذه النماذج التوازي التركيبي التام جليا فقد وردت جملها هكذا:
الواو + حرف جر + اسم مجرور + اسم + الواو + حرف جر + اسم مجرور + اسم.
ـ التوازي التركيبي الجزئي:
حضر التوازي التركيبي الجزئي في هذه القصيدة، في الشطرين الأولين من البيتين الثالث والرابع:
و كـــم أشـتكــي هــما و قــلبي مـفـاخـر
و كــم أرتـجـي خــلا و خلــي بـ جـانــبي
يظهر في هذين النموذجين التوازي التركيبي الجزئي بالزيادة جليا فقد وردت جملتهما هكذا:
الواو+كم (الخبرية) + فعل مضارع+ اسم منصوب + الواو+ اسم + حضور حرف الجر الباء في البيت الرابع وغيابه في البيت الثالث + اسم.
ـ التوازي الدلالي:
لا يقع التوازي بين طرفين متماثلين على مستوى البنية فقط، وإنما على مستوى الدلالة أيضا، فالدلالات التي تتضمنها الجمل تولد في ذهن القارئ معنى معينا تلتقي عنده دلالة الأبيات المتوازية دلاليا؛ مثال ذلك:
ســكوتي إنشــاد وجوعــي ثـخـمـــة وفي عطشي ماء، وفي صحوتي سكــر
وفي لوعتي عرس، وفي غربتي لقا وفي باطني كشف، وفي مظهري ستــر
تأمل البيتين الأول والثاني من القصيدة، تقف على مسحة الحزن المسيطر على نفسيةالشاعر، ويتجلى ذلك في نوعية الكلمات والعبارات التي وظفها فيهما من مثل: سكوتي إنشاد، جوعي ثخمة، في عطشي ماء، في صحوتي سكر، في غربتي لقا …. وتدور كلها في محور دلالي واحد، هو محور الإحساس بالمرارة والحزن والغربة. وبين ذلك تكرار عبارة (وفي + الفعل) كما يوضح هذا الرسم:
الشطر الأول من البيت الأول سكوتي إنشاد،
جوعي ثخمة
الشطر الثاني من البيت الأول عطشي ماء،
صحوتي سكـر
وفي
الشطر الأول البيـــــت الثاني لوعتي عرس،
غربتي لقـــــا
الشطر الثاني البيت الثـــــاني باطني كشف،
مظهري ستــر
وهو ما يبينه كذلك البيتان الثالث والرابع:
وكــم أشـتكي هــما وقــلبي مـفـاخـر بهــمي، وكـم أبـكـي وثـغـري يـفـتـــــر
وكـم أرتـجـي خـلا وخلـي بجـانــبي وكـم أبتـغـي أمـرا وفـي حوزتي الأمــر
الشطر الأول من البيت الثالث أشـتكي هــما ………..
الشطر الثاني من البيت الثالث أبـكـي وثـغـري …….
وكم
الشطر الأول من البيت الرابع أرتـجـي خـلا ………
الشطر الثاني من البيت الرابع أبتـغـي أمـرا ……….
ـ التوازي بالترادف:
الترادف هو تشابه الكلمتين في المضمون الدلالي نفسه، واختلافهما في الصيغة الصرفية، والتوازي بالترادف هو إعادة الجزء الثاني للجزء الأول بصياغة تعبيرية مخالفة شكلا ومتفقة مضمونا؛ مثال ذلك:
وكــم أشـتكي هــما وقــلبي مـفـاخـر بهــمي، وكـم أبـكـي وثـغـري يـفـتـــــر
فالشاعر عندما أورد في الشطر الأول لفظة: أشتكي، أتبعها بلفظة أبكي في الشطر الثاني، مصورا بذلك حالته النفسية الأليمة الشاكية الباكية، والتوازي بالترادف وضح معنى هذا البيت. وكذلك نجد هذا التوازي في قوله:
وكـم أرتـجـي خـلا وخلـي بجـانــبي وكـم أبتـغـي أمـرا وفـي حوزتي الأمــر
فإنه عندما أورد في الشطر الأول كلمة: أشتكي، أتبعها بكلمة: أبتغي في الشطر الثاني، مصورا بذلك حيرته النفسية، كأنه لا يدري ماذا يريد، أو لأنه لماذا هو في هذه الدنيا ؟؟؟ هذا ما وضحه التوازي بالترادف.
ـ التوازي بالتضاد:
نقصد بالتوازي بالتضاد التشابه القائم بين شطرين شعريين متعادلين ومتتاليين من حيث ترتيب عناصرهما على مستوى البنية التركيبية، ولكنهما متقابلان ومتضادان من حيث دلالة تلك العناصر، كما في هذه الأمثلة:
وفي لوعتي عرس، وفي غربتي لقا وفي باطني كشف، وفي مظهري ستــر
فقد صور الشاعر من خلال هذين الجملتين المتضادتين: (باطني كشف # مظهري ستر) حقيقة مهمة مفادها أن ظاهره لا يعكس باطنه، فهما مختلفان: ففي باطنه توجد الحقيقة، وفي ظاهره تختفي الحقيقة، فحقيقته موجودة في باطنه ووجدانه.
وقـد ينـثـر اللـيل البـهـيم مـنـازعــي علـى بسط أحلامـي فيجمعـهـا الفـجــــر
وقد بين التضاد في هذا البيت أن الشاعر الرومانسي متعلق بالليل كأنه لا يحيا إلا في الليل، ففي الليل يستحضر ذكرياته، ويحلم بحياة سعيدة كما يتخيلها ويريدها، لكن هذه اللحظات الجميلة سرعان ما يقتلها طلوع الفجر وضوء الصباح، فيرجع ثانية إلى عالمه المادي الواقعي الأليم. ولولا الحياة لما كانت الموت كما يظهر هذا البيت:
فلـو لـم أكـن حـيا لـما كـنت مائـتــــا ولــولا مـرام الـنـفس ما رامـني الـقـبــر
إذن فالتوازي بالتضاد يوظفه الشاعر لتأكيد الدلالة المتولدة عن تضاد كلمتين أو جملتين: فباطن الشاعر حقيقة، وظاهره زيف أي لا يظهر حقيقته فضحكه ليس ضحكا حقيقيا وإنما هو نوع من الهروب من الألم الذي يعتصر وجدانه وباطنه.
تركيب:
عملت مجموعة من الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية على تجاوز التيار البعثي الإحيائي وميلاد اتجاه سؤال الذات والوجدان (الاتجاه الرومانسي) أنشئت القصيدة على بحر الطويل، وقافيتها موحدة ورويها "الراء" المضمومة، جاءت في شكلها محافظة على نظام القصيدة العمودية النموذجية، ويتضح من خلال دراسة مضامينها معالم التيار الرومانسي القائمة على الشكوى والبكاء والألم، وهو ما أكده مضمون النص، وكذلك معجم النصالمؤسس على كلمات سهلة، والذي هيمن فيه حقل المعاناة والذات، وكذلك الصورة الشعرية التي وضح فيها الشاعر أن خاطره (وجدانه) مرآة تعكس حقيقة ذاته ونفسيته وهو ما عملت الوظيفة التأثيرية للصورة على إيصاله إلى المتلقي، وكذلك الوظيفة التخييلية المؤسسة على الخيال كما أظهر التحليل. وأظهر التكرار بأنواعه جهر الشاعر بشكواه وألمه، وحيرته في هذا الكون، وهو ما أظهره التوازي بالترادف إضافة إلى تصوير آلامه وأحزانه. وأفاد التوازي بالتضاد أن حقيقة الشاعر الرومانسي ليست بادية في مظهره ولكنها مختفية في باطنه ووجدانه.
تقويم:
يبدو من خلال هذه الاستنتاجات أن جبران خليل جبران خاصة، والتيار الرومانسي عامة استطاع أن يجعل ذاته وهمومه هي موضوع النص، وهو بذلك ظل مبتعدا عن الواقع الذي كان ينتظر من الشاعر التغيير ومسايرة شعار المرحلة المطالب بالتغيير، وظل غارقا في همومه الذاتية، وهو ما جعله تيارا شعريا فشل في مسايرة الواقع، وأنه أوصل التجربة الشعرية إلى أفقها المسدود (انظر: ظاهرة الشعر الحديث، ص:18). وأرى أن جبران خليل جبران قد استطاع بحسه الشاعري المرهف تجسيد مقومات التيار الرومانسي الذي أعطى قيمة للذات بعد أن فقدت قيمتها (عائشة احميد
[/size]ات).