دلالة اللون الأسود في السرد عند الأديب عبد الرزاق جبران – قراءة انطباعية*
دلالة اللون الأسود في السرد عند الأديب عبد الرزاق جبران – قراءة انطباعية*
لا يمكن عزل النص الإبداعي المكتوب عن مكوناته، تماما مثل بناء غرفة، وهي
وحدة متكاملة، فلا يكفي لجمالية النص جودة المواد الأساسية من لغة، وحبكة
، فالغرفة المبنية جيدا والمطلية بلون سيئ ،تفقد جمالية النص لحد بعيد ،
و اللون عنصر هام في جمالية النصوص، واستخدامه أو الإيحاء به يعطي هيبة وألق للنص، أحيانا أكثر من الكلمات.
يقال أن اللون الأسود، هو سيد الألوان، وهو لون حيادي، لا اختلاف في
دلالاته، و والبحث عن الأسود تقتضي البحث عن الأبيض بسبب التعارض القائم
بينهما.
فالأبيض يدل على الإشراق والصفاء والنقاء والسعادة والهناء، بينما يدل اللون الأسود على الحداد والحزن والتعاسة والعتامة،
كما جاء في القرآن الكريم:
دلالة اللون الأبيض
اليقين قال تعالى < حتى يتبين الخيط الأبيض > البقرة 187
الفلاح قال تعالى < يوم تبيض وجوه وتسود وجوه > ال عمران 106
الصفاء قال تعالى < يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين > الصافات 46
السلامة من المرض قال تعالى < وأضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء > طه 22
حسن العمل وسلامة السريرة قال صلى الله عليه وسلم < كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس >
دلالة اللون الأسود
الندامة قال تعالى < فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم > ال عمران 106
الحزن قال تعالى < واذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم > النحل 58
الذنوب والمعاصي قال صلى الله عليه وسلم < ان العبد اذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء >
واللون الاسود عند أهل الفن
لون الصمت، حاسم بلا أمل في المستقبل، ويستعمل بكميات قليله، إذ أنه لون
حزين، لكنه مفيد جدا، من حيث استعماله لتوليد تناقضات ،ويرتبط الأسود
بالموت، والخوف، والحزن وفقد البصر، و الوقار أحيانا..
وبعد
فهل كان استخدام عبد الرزاق جبران للون الأسود متمشيا مع نفس المنطق ، أم أنه حمّل اللون الأسود بعدا أخر ؟
لا،
كان اللون الأسود، تعبيرا عن الظلم، و القهر، والاستبداد، والاحتلال
وكان اللون الأبيض، تعبيرا عن الحرية، والتحرر، والخلاص
لنقرأ قصته الحاكم2
الحاكم 2
نظر الحاكم إلى السماء..كانت الغيمة المكتنزة تسحب نفسها ببطء..نزت عنه ابتسامة بلهاء..قال لوزيره:
-ستمطر هذه الليلة
أجاب الوزير في خوف:
-لن تمطر يا مولاي
-لماذا أيها الأبله؟
-لأن الشعب هاجر يا مولاي..
فالغيمة الكبيرة المليئة بالمطر، لا شك أنها سوداء، وتحمل المطر الشديد ، المنذر بالسيل والخراب لا العمار ،
لذا هرب الناس خوفا ،
وفي قصة لوطو يبرز اللون الأسود ، تارة بشكل واضح وتارة مختفي إلا انه يدل على الظلم ، والقهر والاحتلال والإحباط ..
ففي قصة لوطو تتحدث عن شخصية ، تبحث عن الأمل عبر تحقيق الرقم المطلوب ،
رقم الحظ ، فيكسب النقود اللازمة لتغير مسار حياته ، فتدخل حسابات الأرقام
مع حسابات الأفكار الوجودية كأنها تبحث عن المعادلة الحقيقة لهذا العالم ،
ولان الوجودية فيها الموت والخوف والقلق والعبث كان القصة تعبر عن هذا
بامتياز
و الوجودية بشكل عام، تمجد الإنسان، كصاحب فكر، وحر، ويملك الإرادة على
الاختيار ، كان النص وهو يلعب على الأرقام، ما هو بحث عن الماهية،
والذهنية، ومحاولة إدراك الحقائق، ومقياس الكون، والتحرش بالتجارب البشرية
على مر السنين هل هي نظام عشوائي، أم تناسبي وفق قوانين ..
فكان اللون الأسود حاضرا وممهدا للأسئلة الوجودية التي طرحها النص.
ولنتذكر الجمل التي مر فيها اللون الأسود في قصة لوطو
القلق-----(قهوة الصباح ، في الغالب ، تكون مرة . . المرارة تأتي من شئ خارج الفنجان . (
الفقر----(فضحت أسنانه المخرومة)
البطالة----..( أخرج قطعة قماش زرقاء من جيب سرواله الأسود الباهت )..
القهر----(فاجأني صوت الضابط المسوس الأسنان مرة أخرى)
اليأس -----(ولا أظن أن عالما من الدخان الأسود الرديء يمكن أن ينهي حياتي)
الاحباط------(ضغطت من جديد على القلم الأسود..(
العبث---(ومن كان محايدا حشرناه في الخانة السوداء)..
ولعل ما جاء على لسان البطل ، لو رأته أمه على هذه الحالة
(.تذكرت
أمي وهي تدعو لي بالسلامة عند أول سفر لي..لو عاشت إلى الآن ورأت ما يحدث
لي، لانشقت نصفين من الخوف وعرفت أن دعواتها لي بالسلامة تحولت إلى ندامة)
يتطورهذا الهاجس، الباحث عن الحرية الفردية، إلى الحرية الإنسانية في قصته الحمار
ولنرى كيف يلعب اللون الأسود ،دورا قصة الحمار بشقيها 1و2
حيث انه من مقدمة القصة يصف لنا السماء
كانت السماء غريبة في هذا اليوم..جانب منها أسود
داكن والجانب الآخر أزرق صاف..الشمس بينهما حائرة ..نصفها متشح بالسواد
ونصف مبتسم لامع..في هذا اليوم الغريب كانت تمطر في الجانب المعتم بغزارة
وكان يكفينا أن نقف في الجانب المشرق كي لا نبتل..كنا نفسر امتساخ الطبيعة
بقولنا: زوج الذئب ابنته وطلق امرأته في نفس الآن...
في هذا المكان المظلم والمشرق، يقدم لنا بطلي القصة الحمار وصاحبه الشارد (يسافر في شروده المعتم..)ليقدم
لنا ديالوك نفسي ، نفيس، بين الحمار والصاحب، فيختلط علينا التفريق بينهما
فلا نعرف أيهما الحمار وأيهما الصاحب ليوصلنا إلى نتيجة أنه لا فرق بينهما
.
لنخرج قليلا عن موضوعنا ونبتعد عن دلالة اللون للتنويه على قصة الحمار،
اعترف في البدء أنني ضد استخدام الحمار كرمز للغباء فهو من أذكى الحيوانات
ولي تجربة شخصية ذكرتها مرة ، انه كنا في نزهة على النهر ، وكان سرعة
جريان النهر قوية ، ومر بنا فتى يركب حمار حاول إجبار الحمار على اجتياز
النهر، فرفض الحمار، مع انه نال قسطا وافرا من الضرب ، فانصاع الفتى
للحمار وغير طريقه ..
هناك نصوصا رائعا استخدم فيها الحمار، ومن أشهرها قصص الكاتب التركي
الساخر عزيز نسين، ففي إحدى قصصه، يتناول بلدة اجتمعت فيها حميرها تفكر
بالخلاص من ظلم البشر، فلم يجدوا سوى الدعاء للتخلص من جنسهم إلى جنس أخر،
عبد الرزاق جبران استخدم الحمار بطريقة أخرى لا تقل أدهشا عن طريقة عزيز
نسين،فأعطى الاسود صبغة لتاريخ الحمير المستعبد من قبل البشر (ومنذ ذلك
التاريخ بدأ تاريخنا الأسود)لنعرف أن السواد يدل هنا على الظلم الذي تعرض(بالأمس تسللت خفية إلى أغواره المظلمة)،ويعرض لنا جبران طريقة التخلص لا في الدعاء في تغير جنسهم، وإنما بالانصياع وخدمة الأمراء (اخترت مكاني بين الوزراء والولاة والأغنياء...)
وتأتي روعة القصة حين يرفض الحمار قوانين البشر معبرا عن قوته ..(; بمهمازه
المدبب..لم يملك معه إلا أن يواصل السير ..أحمق هذا الحيوان لا يحترم
القوانين ..دوت صفارة الشرطي فانتبه المغلوب على أمره..دس يده في جيبه ثم
مدها نحو الشرطي، تبسم هذا الأخير وعاتبه برفق ثم أمره بالانصراف..لم
يمتلك الحمار نفسه..فثار وقفز بقوة،انقلبت منها العربة وركل صاحبه،ثم اتجه
نحو الشرطي وعالجه بركلة قوية،وفر هاربا لا يلوي على شيء...]
هل نجح الحمار التخلص من الظلم ؟
لا ؟
يكمل عبد الرزاق قصته في الحمار 2 فنكتشف ان الحمار يهرب ويحاول الخلاص باكتشاف النور
(فررت من قدر إلى قدر...
الطريق تطول وتطول وأنا أركض وأركض..يكاد قلبي أن ينفطر من الركض..أرغب في
شيء من الراحة لكني لا أستطيع..أخاف من أولئك الذين تركتهم مشبوحين على
الأرض..تابعت الركض إلى الغروب..بدت لي كثلة من ضوء على مد البصر)
اذا هرب الحمار بعد تمرده، على القوانين، ورغم إحساسه بالجوع، فقد تفتحت
لديه الوعي، فيسخر من البشر الذين يتحملون الجوع ،ويسخر من أحلام صاحبه
ويصمم على تحرير جنسه (..سأحرر أبناء جلدتي من المذلة..والأكيد أن الغضب المشتعل في صدورهم سيجعلهم يفهمون خطابي الثوري)
ويرتكز على قوة رصيده التاريخي (ففي الأول والأخير نبقى من سلالة الحمير الأسطورية التي مهدت للإنسان الحقير دروب الحضارة المتوهجة.)
وتحت هذا التمرد والتفتح يرى على الضوء مشهد (خفق قلبي للمشهد المثير..التفت يمنة ..حمير شديدة السواد تتهادى بدورها على الرصيف المقابل)
فيذكرنا بالديالوك النفسي ، الذي حصل في القسم الأول من هذه القصة، حيث لا نميز من الحمار؟ ومن الصاحب ؟
ويدخل في المباشرة (لا فرق بين الناس والحمير. ..الكل ينعم بما يشبه السعادة.)
وتبدأ اللحظة الساحرة من ديالوك حميري مع حمار من المدنية المنصاع،
والحمار المتمرد الذي يلاحظ شهباء فليحقها ويكاد يقتل في سبيل الوصول
إليها ومن سيارة سوداء (انعقد
لساني وابتعدت عنهما ،التفت نحو الرصيف المقابل ..كانت تقف هناك..شهباء
تمشي في خيلاء..غنجها سهام أصابت سويدائي..عبرت الشارع نحوها..كادت تدهسني
سيارة سوداء لولا ألطاف القدر..اقتربت منها، )
هل انتصر الحمار ؟ لا فالنهاية تثبت عودته وانتصار السيد لا هو
(وسرنا
في انتظام خارج المدينة..خذرني عشقها فلم أنتبه إلا وأنا في مدينتي التي
فررت منها..كان t; يعد الحمير ويسلمها لسائقي العربات وكنت أنا الحمار
الرافض من نصيبه..ربت على ظهري وهمس لي ها قد تحقق حلمي.(..
ونلخص القول إن اللون الأسود عند الأديب عبد الرزاق جبران، يدل على الظلم،
وتارة على الاستبداد (سيارة سوداء ، ضابط مسوس الأسنان)وما هذا الاستخدام
وتوليد التناقضات إلا لإبراز الهاجس الحقيقي والشغل الشاغل إلا وهو هاجس
الحرية وما إبراز اللون الاسود إلا تنبيها عن اللون الأخر المطلوب الأبيض
والذي حتى نحصل عليه نحتاج الى الدم
ولعل قصته الرائعة جدا شاعر واقعي تختصر ذلك لنقرأ
شاعر واقعي
تقدم نحو المنصة...وقف في دائرة الضوء المغلقة ..نظر إلى الرؤوس المتطاولة
أمامه..وضع يده اليسرى على مكبر الصوت..مال برأسه إلى الخلف..رأى طيورا
بيضاء تحلق في فضاء القاعة..عاود النظر إلى الرؤوس المتطاولة..بدت له
مستطيلة أكثر من اللازم..ابتسم ومط شفتيه قائلا: أيها الحضور
الكريم...عنوان القصيدة;ذبح;.. رفع يده اليمنى بسكين حادة وذبح نفسه من
الوريد إلى الوريد..فاشتعلت القاعة بالتصفيق..
ثمة شاعر في قاعة مظلمة (السواد)، يقف عند بقعة الضوء، يرى الوجوه مظلمة،
والطيور البيضاء تحوم في سماء القاعة. فهو يرى اليقين، وهم بعيدون عنه
عندها يقدم نفسه ضحية، لإنارة العقول ،فالسكين لا شك ستكون لماعة لحد تشع
النور في القاعة المظلمة ، فينتبه إليه الناس ..
فكان الأبيض للمعرفة والوعي، والظلام للتخلف، و الدم ما هو إلا شرارة لإنارة العقول..
اللون الأسود، يكتسب عند الأديب عبد الرزاق جبران دلالات أخرى، تعطي
جمالية مميزة لسرده وأنه عاشق، للون الأبيض، بمطاردته للون النقيض .
وإن أغفلت الدراسة ، نصوصه الشعرية، والتي لم أطلع عليها، بحكم جنوني في
السرد، إلا أن هذا الهوس لم يمنعني بأن استشهد في ختام المقال، بقصيدة
رائعة له، تعبر عن هاجسه بوضوح.
نيرون
لِنَيْرُونَ خَبَرْ..
لَمْ تَرْوِهِ السَّمَاءُ،
لَمْ تَرْوِهِ
- فِي الْمَتَاحِفِ-
الْكُتُبُ السَّجِينَةْ..
رَوَتْهُ شِفَاهُ الأرْضِ
مِنْ دَمِ الزُّهُورِ الْمُسْتَكِينَةْ :
كَانَتْ رُومَا – الْمَدِينَةْ،
تَرْفُلُ فِي الْجُوعِ وَالرَّمَادِ
تَبْنِي مِنْ أَحْلامِ الْفُقَرَاءِ
قُبُورًا،
مِنْ أَصَابِعِهِمْ،
قُصُورًا ..
تُهَيِّئُ لِلرَّبِّ قُدَّاسَ السَّكِينَةْ ..
فِي لَيْلِ الْجُنُونِ- النَّبِيْ،
هَزَّتْ صَرْخَةٌ
قَلْبَ الصَّبَاح..
رَجَّتْ،أَجْرَاسَ الْكَنَائِسِ،
الرِّيَاحْ ..
نَجْمٌ بَهِيّْ،
فِي الأفْقِ، عَبَرْ..
شَجَّ جَبِينَ النَّهَارْ..
بَذَرَ الْحُلْمَ الشَّجِيّْ
فِي الأسْوَارْ،
فِي قَلْبِ الْيَاسَمِينِ
أَسْكَنَ الأثَرْ..
وَسَاحَ فِي الْهَوَاءِ،
طَائِرًا،
مِنْ حَجَرْ..
يَتَسَيَّدُ الْغُبَارْ،
تَارِكًا،
جَحِيمَ النَّارْ..
يَفْتَرِسُ الْمَدِينَةْ،
يَفْرِشُ لِلصِّغَارْ..
حُقُولا،
مِنَ الْوَرْد ِوَالصُّبَّارْ..
يَهُدُّ نَيْرُونَ،
يَهُدُّ الْجِدَارْ،
يُزَيِّنُ – بِالْحُرِّيةِ-
رُومَا الْحَزِينَةْ .
المصادر
نصوص عبد الرزاق جبران المنشورة في المنتديات .
دلالة اللون الأسود في السرد عند الأديب عبد الرزاق جبران – قراءة انطباعية*
لا يمكن عزل النص الإبداعي المكتوب عن مكوناته، تماما مثل بناء غرفة، وهي
وحدة متكاملة، فلا يكفي لجمالية النص جودة المواد الأساسية من لغة، وحبكة
، فالغرفة المبنية جيدا والمطلية بلون سيئ ،تفقد جمالية النص لحد بعيد ،
و اللون عنصر هام في جمالية النصوص، واستخدامه أو الإيحاء به يعطي هيبة وألق للنص، أحيانا أكثر من الكلمات.
يقال أن اللون الأسود، هو سيد الألوان، وهو لون حيادي، لا اختلاف في
دلالاته، و والبحث عن الأسود تقتضي البحث عن الأبيض بسبب التعارض القائم
بينهما.
فالأبيض يدل على الإشراق والصفاء والنقاء والسعادة والهناء، بينما يدل اللون الأسود على الحداد والحزن والتعاسة والعتامة،
كما جاء في القرآن الكريم:
دلالة اللون الأبيض
اليقين قال تعالى < حتى يتبين الخيط الأبيض > البقرة 187
الفلاح قال تعالى < يوم تبيض وجوه وتسود وجوه > ال عمران 106
الصفاء قال تعالى < يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين > الصافات 46
السلامة من المرض قال تعالى < وأضمم يدك الى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء > طه 22
حسن العمل وسلامة السريرة قال صلى الله عليه وسلم < كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس >
دلالة اللون الأسود
الندامة قال تعالى < فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم > ال عمران 106
الحزن قال تعالى < واذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم > النحل 58
الذنوب والمعاصي قال صلى الله عليه وسلم < ان العبد اذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء >
واللون الاسود عند أهل الفن
لون الصمت، حاسم بلا أمل في المستقبل، ويستعمل بكميات قليله، إذ أنه لون
حزين، لكنه مفيد جدا، من حيث استعماله لتوليد تناقضات ،ويرتبط الأسود
بالموت، والخوف، والحزن وفقد البصر، و الوقار أحيانا..
وبعد
فهل كان استخدام عبد الرزاق جبران للون الأسود متمشيا مع نفس المنطق ، أم أنه حمّل اللون الأسود بعدا أخر ؟
لا،
كان اللون الأسود، تعبيرا عن الظلم، و القهر، والاستبداد، والاحتلال
وكان اللون الأبيض، تعبيرا عن الحرية، والتحرر، والخلاص
لنقرأ قصته الحاكم2
الحاكم 2
نظر الحاكم إلى السماء..كانت الغيمة المكتنزة تسحب نفسها ببطء..نزت عنه ابتسامة بلهاء..قال لوزيره:
-ستمطر هذه الليلة
أجاب الوزير في خوف:
-لن تمطر يا مولاي
-لماذا أيها الأبله؟
-لأن الشعب هاجر يا مولاي..
فالغيمة الكبيرة المليئة بالمطر، لا شك أنها سوداء، وتحمل المطر الشديد ، المنذر بالسيل والخراب لا العمار ،
لذا هرب الناس خوفا ،
وفي قصة لوطو يبرز اللون الأسود ، تارة بشكل واضح وتارة مختفي إلا انه يدل على الظلم ، والقهر والاحتلال والإحباط ..
ففي قصة لوطو تتحدث عن شخصية ، تبحث عن الأمل عبر تحقيق الرقم المطلوب ،
رقم الحظ ، فيكسب النقود اللازمة لتغير مسار حياته ، فتدخل حسابات الأرقام
مع حسابات الأفكار الوجودية كأنها تبحث عن المعادلة الحقيقة لهذا العالم ،
ولان الوجودية فيها الموت والخوف والقلق والعبث كان القصة تعبر عن هذا
بامتياز
و الوجودية بشكل عام، تمجد الإنسان، كصاحب فكر، وحر، ويملك الإرادة على
الاختيار ، كان النص وهو يلعب على الأرقام، ما هو بحث عن الماهية،
والذهنية، ومحاولة إدراك الحقائق، ومقياس الكون، والتحرش بالتجارب البشرية
على مر السنين هل هي نظام عشوائي، أم تناسبي وفق قوانين ..
فكان اللون الأسود حاضرا وممهدا للأسئلة الوجودية التي طرحها النص.
ولنتذكر الجمل التي مر فيها اللون الأسود في قصة لوطو
القلق-----(قهوة الصباح ، في الغالب ، تكون مرة . . المرارة تأتي من شئ خارج الفنجان . (
الفقر----(فضحت أسنانه المخرومة)
البطالة----..( أخرج قطعة قماش زرقاء من جيب سرواله الأسود الباهت )..
القهر----(فاجأني صوت الضابط المسوس الأسنان مرة أخرى)
اليأس -----(ولا أظن أن عالما من الدخان الأسود الرديء يمكن أن ينهي حياتي)
الاحباط------(ضغطت من جديد على القلم الأسود..(
العبث---(ومن كان محايدا حشرناه في الخانة السوداء)..
ولعل ما جاء على لسان البطل ، لو رأته أمه على هذه الحالة
(.تذكرت
أمي وهي تدعو لي بالسلامة عند أول سفر لي..لو عاشت إلى الآن ورأت ما يحدث
لي، لانشقت نصفين من الخوف وعرفت أن دعواتها لي بالسلامة تحولت إلى ندامة)
يتطورهذا الهاجس، الباحث عن الحرية الفردية، إلى الحرية الإنسانية في قصته الحمار
ولنرى كيف يلعب اللون الأسود ،دورا قصة الحمار بشقيها 1و2
حيث انه من مقدمة القصة يصف لنا السماء
كانت السماء غريبة في هذا اليوم..جانب منها أسود
داكن والجانب الآخر أزرق صاف..الشمس بينهما حائرة ..نصفها متشح بالسواد
ونصف مبتسم لامع..في هذا اليوم الغريب كانت تمطر في الجانب المعتم بغزارة
وكان يكفينا أن نقف في الجانب المشرق كي لا نبتل..كنا نفسر امتساخ الطبيعة
بقولنا: زوج الذئب ابنته وطلق امرأته في نفس الآن...
في هذا المكان المظلم والمشرق، يقدم لنا بطلي القصة الحمار وصاحبه الشارد (يسافر في شروده المعتم..)ليقدم
لنا ديالوك نفسي ، نفيس، بين الحمار والصاحب، فيختلط علينا التفريق بينهما
فلا نعرف أيهما الحمار وأيهما الصاحب ليوصلنا إلى نتيجة أنه لا فرق بينهما
.
لنخرج قليلا عن موضوعنا ونبتعد عن دلالة اللون للتنويه على قصة الحمار،
اعترف في البدء أنني ضد استخدام الحمار كرمز للغباء فهو من أذكى الحيوانات
ولي تجربة شخصية ذكرتها مرة ، انه كنا في نزهة على النهر ، وكان سرعة
جريان النهر قوية ، ومر بنا فتى يركب حمار حاول إجبار الحمار على اجتياز
النهر، فرفض الحمار، مع انه نال قسطا وافرا من الضرب ، فانصاع الفتى
للحمار وغير طريقه ..
هناك نصوصا رائعا استخدم فيها الحمار، ومن أشهرها قصص الكاتب التركي
الساخر عزيز نسين، ففي إحدى قصصه، يتناول بلدة اجتمعت فيها حميرها تفكر
بالخلاص من ظلم البشر، فلم يجدوا سوى الدعاء للتخلص من جنسهم إلى جنس أخر،
عبد الرزاق جبران استخدم الحمار بطريقة أخرى لا تقل أدهشا عن طريقة عزيز
نسين،فأعطى الاسود صبغة لتاريخ الحمير المستعبد من قبل البشر (ومنذ ذلك
التاريخ بدأ تاريخنا الأسود)لنعرف أن السواد يدل هنا على الظلم الذي تعرض(بالأمس تسللت خفية إلى أغواره المظلمة)،ويعرض لنا جبران طريقة التخلص لا في الدعاء في تغير جنسهم، وإنما بالانصياع وخدمة الأمراء (اخترت مكاني بين الوزراء والولاة والأغنياء...)
وتأتي روعة القصة حين يرفض الحمار قوانين البشر معبرا عن قوته ..(; بمهمازه
المدبب..لم يملك معه إلا أن يواصل السير ..أحمق هذا الحيوان لا يحترم
القوانين ..دوت صفارة الشرطي فانتبه المغلوب على أمره..دس يده في جيبه ثم
مدها نحو الشرطي، تبسم هذا الأخير وعاتبه برفق ثم أمره بالانصراف..لم
يمتلك الحمار نفسه..فثار وقفز بقوة،انقلبت منها العربة وركل صاحبه،ثم اتجه
نحو الشرطي وعالجه بركلة قوية،وفر هاربا لا يلوي على شيء...]
هل نجح الحمار التخلص من الظلم ؟
لا ؟
يكمل عبد الرزاق قصته في الحمار 2 فنكتشف ان الحمار يهرب ويحاول الخلاص باكتشاف النور
(فررت من قدر إلى قدر...
الطريق تطول وتطول وأنا أركض وأركض..يكاد قلبي أن ينفطر من الركض..أرغب في
شيء من الراحة لكني لا أستطيع..أخاف من أولئك الذين تركتهم مشبوحين على
الأرض..تابعت الركض إلى الغروب..بدت لي كثلة من ضوء على مد البصر)
اذا هرب الحمار بعد تمرده، على القوانين، ورغم إحساسه بالجوع، فقد تفتحت
لديه الوعي، فيسخر من البشر الذين يتحملون الجوع ،ويسخر من أحلام صاحبه
ويصمم على تحرير جنسه (..سأحرر أبناء جلدتي من المذلة..والأكيد أن الغضب المشتعل في صدورهم سيجعلهم يفهمون خطابي الثوري)
ويرتكز على قوة رصيده التاريخي (ففي الأول والأخير نبقى من سلالة الحمير الأسطورية التي مهدت للإنسان الحقير دروب الحضارة المتوهجة.)
وتحت هذا التمرد والتفتح يرى على الضوء مشهد (خفق قلبي للمشهد المثير..التفت يمنة ..حمير شديدة السواد تتهادى بدورها على الرصيف المقابل)
فيذكرنا بالديالوك النفسي ، الذي حصل في القسم الأول من هذه القصة، حيث لا نميز من الحمار؟ ومن الصاحب ؟
ويدخل في المباشرة (لا فرق بين الناس والحمير. ..الكل ينعم بما يشبه السعادة.)
وتبدأ اللحظة الساحرة من ديالوك حميري مع حمار من المدنية المنصاع،
والحمار المتمرد الذي يلاحظ شهباء فليحقها ويكاد يقتل في سبيل الوصول
إليها ومن سيارة سوداء (انعقد
لساني وابتعدت عنهما ،التفت نحو الرصيف المقابل ..كانت تقف هناك..شهباء
تمشي في خيلاء..غنجها سهام أصابت سويدائي..عبرت الشارع نحوها..كادت تدهسني
سيارة سوداء لولا ألطاف القدر..اقتربت منها، )
هل انتصر الحمار ؟ لا فالنهاية تثبت عودته وانتصار السيد لا هو
(وسرنا
في انتظام خارج المدينة..خذرني عشقها فلم أنتبه إلا وأنا في مدينتي التي
فررت منها..كان t; يعد الحمير ويسلمها لسائقي العربات وكنت أنا الحمار
الرافض من نصيبه..ربت على ظهري وهمس لي ها قد تحقق حلمي.(..
ونلخص القول إن اللون الأسود عند الأديب عبد الرزاق جبران، يدل على الظلم،
وتارة على الاستبداد (سيارة سوداء ، ضابط مسوس الأسنان)وما هذا الاستخدام
وتوليد التناقضات إلا لإبراز الهاجس الحقيقي والشغل الشاغل إلا وهو هاجس
الحرية وما إبراز اللون الاسود إلا تنبيها عن اللون الأخر المطلوب الأبيض
والذي حتى نحصل عليه نحتاج الى الدم
ولعل قصته الرائعة جدا شاعر واقعي تختصر ذلك لنقرأ
شاعر واقعي
تقدم نحو المنصة...وقف في دائرة الضوء المغلقة ..نظر إلى الرؤوس المتطاولة
أمامه..وضع يده اليسرى على مكبر الصوت..مال برأسه إلى الخلف..رأى طيورا
بيضاء تحلق في فضاء القاعة..عاود النظر إلى الرؤوس المتطاولة..بدت له
مستطيلة أكثر من اللازم..ابتسم ومط شفتيه قائلا: أيها الحضور
الكريم...عنوان القصيدة;ذبح;.. رفع يده اليمنى بسكين حادة وذبح نفسه من
الوريد إلى الوريد..فاشتعلت القاعة بالتصفيق..
ثمة شاعر في قاعة مظلمة (السواد)، يقف عند بقعة الضوء، يرى الوجوه مظلمة،
والطيور البيضاء تحوم في سماء القاعة. فهو يرى اليقين، وهم بعيدون عنه
عندها يقدم نفسه ضحية، لإنارة العقول ،فالسكين لا شك ستكون لماعة لحد تشع
النور في القاعة المظلمة ، فينتبه إليه الناس ..
فكان الأبيض للمعرفة والوعي، والظلام للتخلف، و الدم ما هو إلا شرارة لإنارة العقول..
اللون الأسود، يكتسب عند الأديب عبد الرزاق جبران دلالات أخرى، تعطي
جمالية مميزة لسرده وأنه عاشق، للون الأبيض، بمطاردته للون النقيض .
وإن أغفلت الدراسة ، نصوصه الشعرية، والتي لم أطلع عليها، بحكم جنوني في
السرد، إلا أن هذا الهوس لم يمنعني بأن استشهد في ختام المقال، بقصيدة
رائعة له، تعبر عن هاجسه بوضوح.
نيرون
لِنَيْرُونَ خَبَرْ..
لَمْ تَرْوِهِ السَّمَاءُ،
لَمْ تَرْوِهِ
- فِي الْمَتَاحِفِ-
الْكُتُبُ السَّجِينَةْ..
رَوَتْهُ شِفَاهُ الأرْضِ
مِنْ دَمِ الزُّهُورِ الْمُسْتَكِينَةْ :
كَانَتْ رُومَا – الْمَدِينَةْ،
تَرْفُلُ فِي الْجُوعِ وَالرَّمَادِ
تَبْنِي مِنْ أَحْلامِ الْفُقَرَاءِ
قُبُورًا،
مِنْ أَصَابِعِهِمْ،
قُصُورًا ..
تُهَيِّئُ لِلرَّبِّ قُدَّاسَ السَّكِينَةْ ..
فِي لَيْلِ الْجُنُونِ- النَّبِيْ،
هَزَّتْ صَرْخَةٌ
قَلْبَ الصَّبَاح..
رَجَّتْ،أَجْرَاسَ الْكَنَائِسِ،
الرِّيَاحْ ..
نَجْمٌ بَهِيّْ،
فِي الأفْقِ، عَبَرْ..
شَجَّ جَبِينَ النَّهَارْ..
بَذَرَ الْحُلْمَ الشَّجِيّْ
فِي الأسْوَارْ،
فِي قَلْبِ الْيَاسَمِينِ
أَسْكَنَ الأثَرْ..
وَسَاحَ فِي الْهَوَاءِ،
طَائِرًا،
مِنْ حَجَرْ..
يَتَسَيَّدُ الْغُبَارْ،
تَارِكًا،
جَحِيمَ النَّارْ..
يَفْتَرِسُ الْمَدِينَةْ،
يَفْرِشُ لِلصِّغَارْ..
حُقُولا،
مِنَ الْوَرْد ِوَالصُّبَّارْ..
يَهُدُّ نَيْرُونَ،
يَهُدُّ الْجِدَارْ،
يُزَيِّنُ – بِالْحُرِّيةِ-
رُومَا الْحَزِينَةْ .
المصادر
نصوص عبد الرزاق جبران المنشورة في المنتديات .