نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني
نظرية النظم عند عبد القادر وعلاقتها بالصورة الشعرية
الدكتور/عمرمحمدالطالب كلية التربية - جامعة الموصل
الموصل – العراق
هذ الموضوع يكتسي أهمية بالغة في موضوع الصورة الشعرية و اشكالاتها و قد ارتأيت أن أضعه على حلقات لتعم الفائدة
النظم والصورة الشعرية
شكلت الصورة عنصرا مهما من عناصر العمل الأدبي، وقد ورد معنى كلمة الصورة في لسان العرب أنها :"ترد في كلام العرب على ظاهرها،وعلى معنى
حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته، في أسماء الله تعلى، المصور، الذي صور جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة، وهيئة مفردة متميزة، يتميزبها على اختلافها وكثرتها" (1)
وجاء في تاج العروس: "الصورة بالضم، الشكل والهيئة والحقيقة، وقال ابن الأثير: الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيئ وهيئته، وعلى معنى صفته، قال:صورة الفعل كذا, أي هيئته"(2)
الصورة صيغة جزئية تتشكل في العقل لِخَزن تَمثٌل الذات لجزئيات الواقع الموضوعي، فهي نسيج عقلي، مادته انفعالات الذات الشاعرة مع الموضوع, أي انفعال الداخل مع الخارج، وعلى هذا يمكن عدها" خزانا صغيرا يحتقب كلا من التصورات الذهنية والتفاعلات النفسية المتخارجة, أي رؤية الداخل للخارج من جهة ،واستجابة لهذا الخارج من جهة أخرى"(3)
يمتازالأسلوب الشعري باستخدامه أشكالا من التعبيرالمتخيل قصد إيصال الفكر والعواطف، وبهذا يكاد اعتماده على الصورة يكون كليا في نقل هذه الإحساسات ولانفعالات،وذالك من خلال لإيحاء بها، لامن خلال التعبير المباشر عنها. والصورة الشعرية تركيبية لغوية، تصور معنى عقليا وعاطفيا متخيلا لعلاقة بين شيئين، ولا تقف الصورة الشعرية عند نقل التجربة الحسية للشاعر، بل تتعداه الى نقل انفعالاته ومشاعره الداخلية ، ومعنى ذالك أن للصورة الشعرية مستويين من الفاعلية، المستوى الدلالي، والمستوى النفسي، وتكتسب الصورة حيويتها من مدى الارتباط والانسجام بين المستويين، يقول كمال ابوديب: "ان للصورة مستويين من الفاعلية، هما المستوى النفسي والمستوى الدلالي، أو الوظيفة النفسية والوظيفة المعنوية.
إن حيوية الصورة وقدرتها على الكشف والإثراء، وتفجير بعد تلو بعد من الإيحاءات في الذات المتلقية، يرتبطان بالاتساق والانسجام، اللذين يتحققان بين هذين المستويين للصورة، الصورة بهذا التحديد قد تخفق في الكشف، وتتحول دلالتها إلى عنصر سلبي، إذا بلغ الافتراق بين هذين المستويين درجة معينة من الحدة"(4)
والمقصود بالمستوى الدلالي كون الصورة تركيبية لغوية، تنقل معنى، وبالمستوى النفسي كونها تنقل إحساسات وانفعالات، وتفجر مكبوتات لاشعورية، لذالك أولى علم النفس الصورة أهمية بالغة. ويحدد معجم مصطلحات التحليل النفسي للصورة بأنها"عرفت الهوامية غالبا كتصور واع... ويمكن أن تتجسد الصورة الهوامية في مشاعر، أوتصور كما تتجسد في بعض الصور سواء بسواء، ولا بد أن نضيف أنه (يجب أن لا تفهم بوصفها انعكاسا محضا) للواقع حتى ولو تفاوت في درجة تحويره"(5). فالصورة إذا آلية لغوية ذات فعالية مزدوجة نفسية ودلالية، يستخدمها الأديب قصد التأثير في الملتقى، ولا يتسنى له ذالك إلا إذا استطاع بمهارته وبراعته أن يمازج بين الوظيفتين الدلالية والنفسية، فهي "إعادة إنتاج عقلية، ذكرى لتجربة عاطفية أو إدراكية غابرة، ليست بالضرورة بصرية"(6).
ويرى نصرت عبد الرحمن أن المعاني في الشعر تتصور في عدة أنواع من الصور:
1- الصورة التقريرية:وهي الصورة التي لا تحتوي تشبيها أو مجازا، وهذه الصرة ليست عملية تذكر، بل هي عملية حضور لتجسيم المعنى.
2- الصرة التشبيهية: وهي الصورة التي يتجسم فيها المعنى على هيئة علاقة بين حدثين.
3- الرمز الأيقوني: وهي الصورة التي تدل على صورة مادية، بينهما علاقة تشابه،وتحمل الصورة المادية معنى.
4- الاستعارة: ويبدو أنها وكبت البشرية من الاعتقاد الى المجاز.
5- الرمز غير الأيقوني: يقوم بتجسيم التصور في مادة، دون أن يكون في المادة علاقة تشبيهية أو استعارية، فنحن أمام رمز غير أيقوني، فهو علاقة باطنية خارجية، وهو لا يعود إلى مادة ومعنى كالرمز الأيقوني، بل يعود إلى معنى فقط.
6- الكناية: وتبدو أنها أخف من الرمز، فهي ضرب من الإشارة، وتكاد الإشارة أن تصبح لغة عصرية(7)وإذا كانت الصورة الأدبية استرجاع حسي لمحسوس، فإنه يمكن إرجاعها إلى أنماط متعددة، كالصورة البصرية والسمعية والذوقية والعضوية والحركية، وكل نمط من هذه الأنماط ينقسم يدوره إلى أقسام متعددة، فتصنيفات علماء النفس وعلماء الجمال متعددة في هذا المجال، ولا تزال الأبحاث تبين مدى انفعال الذات بعالم المحسوسات، تلك الانفعالات المتجددة بتجدد العلاقة بين الإنسان والكون.
إن هذه العلاقة هي التي تشحن الصورة بثقلها الوجداني،لأكن هذا الثقل يختلف بين إنسان وآخر حسب اختلاف البيئة والثقافة والعصر، مما يجعل فاعلية الصورة مختلفة، فالصورة التي يقابلها العربي ببرود قد يجدها الأوربي شحنة حيوية مثيرة.
وتتشكل الصورة ابتغاء إحداث الأثر في وعي الملتقى، أي إنها تحقق الفاعلية الوجدانية والخيالية في النفس، ولعل"من العسير علينا أن نفصل بين الصورة وبين فاعليتها، فالصورة كالمادة تحمل طاقتها في داخلها"(، وتكون فاعلية الصورة أكبر كلما كانت قدرتها على تنشيط الإحساسات أعظم، فالصورة تنشط الإحساسات، وتثير الخيال، وتفجر العاطفة تفجيرا غير إرادي، الأنها تمثل الموضوع داخل الذات، فتغدو "مرآة تقتضي فيها الحاجة التي يتمثلها الشعور"و لا يقدم الشعور صورة عن حالتنا الراهنة فحسب ، بل ينمو إلى تحقيق الحاجة أو رد النقص في مقومات الوجود.
و قد يعز أحيانا إدراك المضمون الشعوري للصورة الأدبية لإختفائه بسبب اعتماد الصورة في تكوينها على اللاشعور و في "هذه الحالة يكون من الخطأ التعامل مع الصورة على أساس دلالتها الظاهرة المباشرة و يتحتم بذل الجهود لاستكناهها " حيث تؤدي عملية التكثيف اللاشعوري إلى ظهور صور مكثفة لا ترد إلى مقومات الواقع و تكون أكثر أغراقا في الذاتية ..
الهوامش
1- لسان العرب - مادة صور
2- تاج العروس : 343
3- مقالات في الشعر الجاهلي :298
4- جدلية الخفاء و التجلي :22
5- معجم مصطلحات التحليل النفسي :307
6- نظرية الأدب :194
7- الصورة الفنية في الشعرالجاهلي :70
8-مقالات في الشعر الجاهلي :316
الصورة الرمزية محمد ولد افاه
النظم والصورة الشعرية عند - عبد القاهر الجرجاني
إنّ سيطرة الموضوع على الصورة يجعلها تبدو في بعض الأحيان انعكاسًا محضًا للواقع في الوعي، فالارتكاز على الواقعة أو الظاهرة الطبيعية شرطٍ لتشكّل الصورة "سيجعل المضمون الداخلي للصورة يجنح نحو المادية، أعني أنّ المادة تشكّل العناصر الجزئيّة المكوّنة للصورة"(11)، ولكنّ الصورة الفنية لا تستمد حيويتها وفاعليّتها من تمثيل محض للواقع، بل إنّ ارتباطها النوعي بالإحساس هو الذي يعطيها تلك الأهمية: "إنّ التصوير الشعري يقوم على أساس حسّي مكين، ولا مفرّ من التسليم بذلك طالما كانت مدركات الحس هي المادة الخام التي يبين بها الشاعر تجاربه"(12)، ولكن حسيّة التصوير لا تعني أنها انعكاسٌ حرفي للواقع، بل هي محتوى فكر يتركّز فيه الانتباه على خاصيّة حسيّة معيّنة، فالصورة البصرية مثلاً إحساس وإدراك حسّي، لكنها تشير إلى شيء غير مرئي، إلى شيءٍ داخلي، ولم يعرف عزرا باوند الصورة بأنها "تمثيلات أثرية للإحساسات"(13)، بل عرّفها بأنها "تلك التي تقوّم عقدة فكرية أو عاطفية في برهة من الزمن، وهو توحيد لأفكار متفاوتة"(14). فالصورة هي المجال الذي يحقق فيه الخيال فاعليّته ونشاطه، ويتيسر التخيل "بالحسيّة؛ لأنّ مادته التي يتعامل معها صور المحسوسات المختزنة في القوة المصورة أو الخيال"(15). والارتباط بين الواقع والخيال ضروري، لكنّ ذالك لا يعني أنه يمكن أن ينحلّ إليه بيسر، بل يسمو عليه، ولا يكون صورة حرفية منه. "فالصورة الخيالية تتوقف قيمتها في الشعر على ما يقوم وراءها من الدوافع النفسيّة، التي كانت السبب الأول في إخراجها إلى حيّز الوجود"(16)؛ أي إنّ الصورة الخيالية "نتاج عناصر موضوعية وذاتية معًا"(17).
ولا ينسج الخيال صورة من ذاته بوصفها فراغًا سابقًا على التجربة، بل يصوغها من مواد تجربته المعاشة. فالصورة "إعادة تشكيل واكتشاف العلاقات الكامنة بين الظواهر والجمع بين العناصر المتضادة والمتباعدة في وحدة"(18)؛ فهي عملية تحليل وتركيب لتلك المدركات، ولا يصبح التحليل عملاً فنيًا "إلاّ إذا كان في كلّ، وليس غاية في ذاته، بل هو خطوة ضرورية من أجل الوصول إلى العمل الإنشائي التركيبي"(19)؛ لأن الشاعر ينظر إلى الأشياء من حيث هي كلّ لا جزء، ويحقّق الخيال الجمال بالجمع بين أشياء متفرقة، لا يكتفي كلّ بذاته: "وفي هذا الضوء نفهم كيف يحقّق الخيال صفة عليا، هي التوازن والاعتدال؛ فيشيع الرضا بالانطلاق والتحرر من جهة، والمتعة بالقالب المتسق من جهة ثانية"(20). وبتحقيق التوافق بين الوحدة والتنوّع يحقّق الخيال الاندماج بين الشعور واللا شعور. إنّ الصورة الشعرية لا تنفصل عن التفكير الكلي، وعلى الرغم من ذلك إلا أنّ ارتباط المفردات الزمانية والمكانية فيها ليس ارتباطًا منطقيًا؛ فالشاعر "كثيرًا ما يفتت الأشياء الواقعة في المكان؛ لكي يفقدها كل تماسكها البنائي، ولا يبقي منها إلاّ على صفاتها، سواء الأصليّة فيها أو المضافة إليها"(21). إنّ هذا الفارق بين المفردات الزمانية والمكانية يعدّ قفزة بالنسبة للعقل الواعي، أمّا في الصورة الشعرية فإنّ الارتباط بينها "لا يزال، ولا بدّ أن يكون، خاضعًا لمنطق الشعور"(22).
ترتبط الصورة ارتباطًا مباشرًا بنظرية المعرفة، لذلك أولتها المذاهب الأدبية اهتمامًا كبيرًا، فعدّتها الرومانتيكية عمليّة إبداع وخلق، تجسّم حالة وجدانية. واهتمت الفلسفة التجريبية ونقاء الواقعية بالصورة الشعرية، مما دعاهم إلى النظر في العلاقة بين الرسم والشعر، وفي نظرية الانعكاس تعدّ الصورة الفنيّة انعكاسًا للعام في شكلٍ محسوس فردي، يعتمد على النموذج. والصورة في النقد الموضعي عند إليوت خاصة معادل موضعي لفكرة في الذهن، أو لعاطفة تهتز بها النفس(23).
وقد اعتمدت الدراسات البلاغية للصورة الشعرية على الطبيعة الزخرفية التزيينية لها منطلقةً من تصوّر قاصر للأسلوب، وعلى أنها عنصر خارجي في العمل الفني، ويتوافر هذا التصوّر في التراث الأوربي بشكلٍ خاصّ منذ أرسطو إلى كولريدج. "ومن الشيّق أنّ التراث العربي يخرج على هذه النظرة للأسلوب والصورة في نقاطٍ عديدة من تطوره، ويبلغ الخروج ذروته في تصوّر عبد القاهر الجرجاني، الناقد الفذّ للخلق الأدبي، والصورة [بصفتها] عنصرًا حيويًا من عناصر التكوين النفسي للتجربة الشعرية وتبلورها اللغوي في بنية معقدة متشابكة، لها نموّها الداخلي الفرد، وتفاعلاتها الفنية"(24).
وقد اهتم النقّاد العرب القدماء بالصورة، فقال الجاحظ: "إنّ الشعر ضربٌ من النسج وجنس من التصوير"(25)، ومثّل ابن وكيع المعنى بالصورة واللفظ بالكسوة، فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس، فقد بُخِسَت حقها وتضاءلت في عين مبصرها(26).
ويعدّد ابن الأثير دلالته للصورة من خلال تقسيمه للتشبيه، فيقول: "واعلم أنه لا يخلو تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر من أربعة أقسام: إمّا تشبيه معنى بمعنى: زيد أسد. إمّا تشبيه صورة بصورة كقوله تعلى: {وعندهم قاصراتُ الطَّرفِ عين كأٌنّهنّ َبيضٌ مكنون}. وإما تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: {والذين كفروا أعمالُهُم كسراب بقيعة}، وهذا القسم أبلغ الأقسام الأربعة؛ لتمثيله المعاني الموهومة بالصورة المشاهدة. وإما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام:
فشبّه فتكه بالمال وبالعدا، وذالك صورة مرئية، بفتك الصبابة، وهو فتكٌ معنوي، وهذا القسم ألطف الأقسام الأربعة؛ لأنه نقل صورة إلى غير صورة"(27).
وقد أورد ابن المعتز لفظة (صورة) في بعض أبياته، بمعناها المعجمي؛ أي المقابل لهيئة الشيء ودالّته كقوله28)
الحواشي
11 – مقالات في الشعر الجاهلي: 35.
12 – الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: 373.
13 – نظرية الأدب: 241.
14 – المرجع السابق: 241.
15 – الصورة الفنية: 45.
16 – نظرات جديدة في الفن الشعري: 41.
17 – الصورة الأدبية: 44.
18 – الصورة الفنية: 313.
19 – الصورة الأدبية: 13.
20 – المرجع السابق: 14.
21 – التفسير النفسي للأدب: 153.
22 – المرجع السابق: 159.
23 – ينظر: في النقد الحديث.
24 – جدلية الخفاء والتجلّي: 19.
25 – الحيوان: 3/131.
26 – العمدة: 127.
27 – المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 2/136.
28 – ديوان ابن المعتز: 1/ 350 – 351.
الصورة الرمزية محمد ولد افاه
الصورة عند عبد القاهر
الصورة عند عبد القاهر
إنّ مصطلح الصورة لا يستعمل عند عبد القاهر استعمالاً موحّدًا، بل نراه مرة يُستعمل للدلالة على الشكل العام لصياغة الكلام، وأخرى للدلالة على التقديم الحسِّي للمعنى، فالمصطلح "يحمل في طيّاته الدلالة على الصورة والشكل في الوقت نفسه"(29). يقول عبد القاهر: "وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب شيءٍ حتى يكون هناك قصده إلى صورة وصفه، إن لم يقدّم فيه ما قدّم، ولم يؤخّر فيه ما أخّر، وبدأ بالذي ثنّى به، أو ثنّى بالذي ثلث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة"(30)، ويقول في موضعٍ آخر: "هذا كلامٌ وجيز يطّلع به الناظر على أصول النحو جملةً، وكلّ ما به يكون النظم دفعة، وينظر فيه في مرآةٍ تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكانٍ واحد، ويرى بها مُشئمًا قد ضُمّ إلى مُعرٍق ومغرِّبًا قد أخذ بيد مُشَرِّق"(31). ولم يكن هذا المصطلح من ابتداعه، فقد سبقه إليه آخرون – كما بيّنّا سابقًا – ويقول عبد القاهر في هذا الصدد: "وليس العبارة من ذلك بالصورة شيئًا نحن ابتدأ ناه، فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: وأما الشعر فهو صناعة وضرب من التصوير"(32). والصورة عند عبد القاهر: "تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا"(33). فإذا كان التباين بين الأشياء في الطبيعة إنما تكون في الصور المختلفة، التي تتخذها تلك الأشياء، فالأمر يختلف بالنسبة للمعاني. فالتباين بين المعاني في أبيات الشعر المختلفة راجعٌ إلى الاختلاف بين الصور التي تتخذها المعاني في تلك الأبيات المختلفة. فقد جعل الجرجاني مناط الفضيلة في الكلام راجع إلى الصورة التي يرسمها النظم، تلك الصورة " التي ارتسمت في نفس المتكلّم بأصباغ العلاقات بين معاني الكلم التي رتّبت في النفس ترتيبًا خاضعًا لتلك العلاقات"(34)، فإذا كان النظم يهدف إلى رسم صورة، فإنّ منها ما هو بدائي غفل، ومنها ما هو رائعٌ عجيب، وعلى هذا الأساس كان بعض النظم أسمى من بعض، والمعني الذي تنسب إليه المزية في النظم ليس المعنى الخام الغفل، بل المعنى المصوّر "هو صورة المعنى لا المعنى مجرّدًا من الصورة"(35). إنّ هذه الفكرة التي جعلها عبد القاهر أصلاً في أسرار البلاغة: "قريبة من فكرة قدامة في هيولى الشعر وصورته – وهي – بعينها فكرة ابن سينا أنّ العمل الشعري يكون في صورة المعاني لا في مادتها، ولن تراها بعد ذلك بعيدة عن فكرة أرسطو في أنّ الشعر محاكاة لأفعال أو محاكاة لمعانٍ؛ أي صورة ما تتشكّل بها الأفكار والمعاني"(36). فإذا نقلت الجملة العلمية الحقيقية نقلا مباشرًا، فإنّ الجملة الأدبية تشير إلى المعنى بطريقٍ غير مباشر، إنها ترسم صورة، وعلينا أن ننظر إلى تلك الصورة، ونتأملها، حتى تنقلنا إلى المعنى أو الموقف الذي يريد الشاعر أن يسوقه، فلماذا لا نذكر تلك الحقيقة المقصودة مباشرةً من دون الرجوع إلى التصوير؟ يرى الجرجاني أنّ الصورة التي توازي الحقيقة المقصودة إنما تكتسب قيمتها، لأنها تنقلنا من حالة الغموض إلى حالة الوضوح، فإذا كانت الحقيقة مكتنفة بجوٍّ من الغموض، فإن الصورة، وهي مادة مأخوذة من خبراتنا المألوفة، تزيل ذلك الغموض، كما يرى أن الإدراك الإنساني يقوم على التدرّج من المحسوس إلى المعقول: "أي مما ندركه بإحدى حواسنا من بصرٍ وسمع وغيرها، إلى ما ندركه بعقولنا وهو في حالةٍ من الفكر المجرّد"(37). إنّ الصورة بحسب هذا المفهوم "طريقة خاصة من طرق التعبير، أو وجه من أوجه الدلالة"(38) تنحصر قيمتها فيما تقدّمه لنا من معانٍ، لكنها لا تحدث أثرًا في طبيعة تلك المعاني، ولا تغيّر إلاّ من طريقة عرضها وكيفية تقديمها، وهي بذاتها: "لا يمكن أن تخلق معنى، بل إنها يمكن أن تحذف دون أن يتأثر الهيكل الذهني المجرّد للمعنى الذي تحسّنه وتزيّنه" (39).ولعل هذه النظرة إلى الصورة مرتبطة بنظرة عبد القاهر إلى اللغة بصفتها وعاءً محضًا للمعنى ، فلم يدرك أنّ الصورة شيءٌ أساسيّ لا يمكن الاستغناء عنه وحذفه ، وأنها وسيلة حتميّة لإدراك نوعٍ متميّز من الحقائق ، تعجز اللغة العاديّة عن إدراكه وتوصيله ، كما أنه لم يفطن إلى أن الصورة "قرينة الكشف والتعرّف على جوانب خفيّة من التجربة الإنسانية" (40).
تتمثّل أهمية الصورة عند عبد القاهر في تلك القدرة على جذب انتباهنا إلى المعنى الذي تعرضه، فتجعلنا نتفاعل مع ذلك المعنى ونتأثّر به، إنّ هذا التصوّر النفعي المباشر للصورة جعل أنظار عبد القاهر تتجه إلى المتلقّي دون الفنان الخالق ، فنراه يتحدّث عن إثارة الصورة لانفعال المتلقي ، وتوجيه مواقفه بما يتماشى والأغراض الاجتماعية للشعر، لكنه لم يهمل البحث في طبيعته الحسّية للتصوير الشعري، وهو يقتصر في بحثه على الجوانب البصريّة فحسب، وبخاصة حين عرض للاستعارة والتشبيه ، وقد تبعت المقابلة بين الرسم والشعر هذا التصوّر، فقد جاء "الربط بين الجوانب الحسّية بالتصوير، والقدرة على نقل جزئيات العالم الخارجي ، وإعادة تمثيل مشاهده في ذهن المتلقّي، يرد إلى المبادئ العامة لنظرية المحاكاة بمفهومها الساذج، الذي جعل الفن بعامّة والأدب بخاصّة نقلاً أو نسخاً للطبيعة الخارجية"(41).
لقد تجاوز عبد القاهر هذا المفهوم السائد عند النقّاد العرب القدامى ، وسلّم للشاعر: "بحقّه في إعادة تشكيل المدركات من صور فنيّة جديدة؛ ليست مدركة للحسي من قبل" (42)؛ أي إنّه كان يفضل تلك الصور التي تتشكّل في الخيال على تلك التي تلتزم بمدركات الواقع.
إن تركيز عبد القاهر على الجانب البصري في التصوير الشعري جعله يلجأ في العديد من المواطن إلى المقابلة بين الشعر والرسم ، وقد تواردت على ذهنه خواطر متشابكة بين المعنى في النحو ، والمعنى في الزخرفة ، والمعنى في جماليات الشعر، وبعبارةٍ أخرى "شعر عبد القاهر بصلة غامضة بين هذه الجوانب"(43)، فمفهومه للصورة يتردّد بين الدلالة على الشكل والدلالة على التصوير الفنّي في مقابلته بين الصورة الشعرية والزخرفة في النسيج والتحبير على أنهما مبنيّتان على هذا الأساس ، فهو يقابل بينهما من ناحية الجمال الشكلي حينًا ، ومن ناحية إثارتهما للحواس والتخيّلات حينًا آخر.
وشرح عبد القاهر في كتابه (دلائل الإعجاز) نظريته في النظم اعتمادًا على علوم اللغة، فنظر إلى الصورة على أنها أسلوبٌ في نظم الكلام فجاءت المقابلة بين هذه الصورة والصورة في الزخرف والنسيج مبنية على أساسٍ شكليّ ، حيث يقول:"ووجدت المعول على أنّ هاهنا نظمًا وترتيبًا وتأليفًا وتركيبًا وصياغة ونسجًا وتصويرًا وتحبيرًا"(44)، فالنظم لا يعني"ضمّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتّفق ، وكذلك كان عندهم نظيرًا للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك ، مما يوجب عدّ الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كلّ حيث وضع علّة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكانٍ غيره لم يصلح"(45).
ويواجهنا مصطلح التصوير في كتاب (أسرار البلاغة) بشكلٍ آخر: "وهو يحمل في جانبٍ من جوانبه فكرة تجسيم المعنوي وتمثيل الشيء في المخيلة، مما يجعل عبد القاهر يقارن بين التصويرات والتخييلات الشعرية وبين تصاوير الرسامين"(46).
إنّ الانشغال بتوضيح تأثيرات الاستعارة والتمثيل والتشبيه قد دفع عبد القاهر إلى الحديث عن التصوير والتخييل، ومن "ثم بدأ مفهوم الصورة في الوضوح والبروز بأكثر مما جاء في دلائل الإعجاز"(47).فقد نظر عبد القاهر في الشبه بين طريقة الشاعر في تشكيل مادته وطريقة الرسام من زاوية حسن التأليف وبراعة المحاكاة ، فلاحظ أنهما يهدفان إلى إحداث التآلف والتناسب بين عناصر مادتيهما، فالشاعر يحدث التناسب والتآلف بين أحرفه وكلماته في القصيدة، أمّا الرّسام فيحقّق ذلك بين ألوانه على اللوحة، وهذا شبه مبنيٌّ على أساس شكلي، لكن عبد القاهر لم يقف عند هذا الحدّ، بل نظر كذلك في الشبه بين طريقتي الشاعر والرسّام من حيث قدرتهما على إثارة إحساسات وتخييلات المتلقي. فلاحظ " أنّ كلاًّ من الشاعر والرسّام، بطريقته الحسيّة في التقديم، ونجاحه في صياغة مادته، يمكن أن يحدث تأثيرًا خاصًا في نفوس المتلقين، ويمكن أن يوقع المحاكيات في أوهامهم وحواسهم بطريقة تجعلهم ينفعلون أشدّ الانفعال"(48) إنّ طريقة الشاعر والرسّام في نقل العالم وتقديمه للمتلقي تعتمد على مادة ذات صلةٍ بالحواس، تلك المادة التي تنبع من الإحساس، إحساس الشاعر والرسّام؛ لتخاطب الإحساس – إحساس المتلقّي – ومن هنا فإنهما "عند ما يقومان بفعل المحاكاة، سواء كانت لمعنوي مجرّد أو لمادّي محسوس، فإنما يخاطبان الإحساس والمخيلة، ويجسّمان الأشياء والأفكار في أشكالٍ محسوسة، يمكن رؤيتها إمّا عن طريق العين الباصرة – كما في حالة الرسّام – وإمّا عن طريق العقل أو المخيلة – كما في حالة الشاعر.."(49).
إنّ عمل الشاعر والرسّام خاضعان لقوانين العالم الأساسية، "بل لعلة كشف وتكميل لها في الوقت نفسه"(50)، فهما حين ينقلان العالم في أشكالٍ فنيّة، لا يلتزمان بالحدود الظاهرية له، بل يتجاوزان تلك الحدود، ولكنّ هذا التجاوز لا يمسّ القوانين الأساسية للطبيعة، وهذه النظرة مرتبطة بفكرة الاحتمال والإمكان الأرسطية، فالشاعر أو الرسّام "قد ينقل الواقع أو يحاكيه كما هو، وقد ينقله أو يحاكيه بأقبح وأحسن من ما هو عليه، ولكنّ هذا الحسن أو القبح ليس مسخًا وتشويهًا للعالم أو قوانينه، وإنّما هو أمرٌ يمكن حدوثه أو يحتمل حدوثه"(51).
لقد ظهرت المقابلة بين الشعر والرسم إذًا في بيئة الفلاسفة من شرّاح أرسطو وفي بيئة النقاد الذين كانوا على اتصال بهؤلاء الفلاسفة، وكانت هذه المقابلة تؤكّد على الخصائص البصرية والوضوح في عملية التصوير، ومن ثمّ " قيل إنّ الشعر – بما يقوم عليه من تخييل – يمثّل لمخيلة المتلقّي مشاهد بصرية واضحة، وإنّ أفضل الوصف الشعري ما قلب السمع بصرًا، وجعل المتلقّي يتمثّل مشهدًا منظورًا كأنّه يراه ويعاينه"(52)، فتأكيد الجوانب الحسية في عملية التصوير – والنمط البصري منها خاصّة – راجعٌ أساسًا إلى التأثّر بنظرة أرسطو التي "تترتب على الحواس ترتيبًا طبقيًا، ينتهي إلى أنّ حاسّة البصر هي أشرف الحواس"(53)، وقد ترتب على هذه النظرة "أن أصبح نمط الخيال الذي يعرفه مترجمو أرسطو وشُرّاحه من العرب هو النمط البصري، الذي يلحّ على تجميع الصور البصرية وتركيبها دون أن يكون ثمّة تركيز مقابل على الصور الشمسية أو الذوقية أو غيرها"(54).
إنّ هذه النظرة إلى الخيال أدّت إلى الخلط بين الصورة واللوحة بصفتهما تقدّمان صورًا بصرية أساسًا، ومن الطبيعي "أن تتجاهل هذه النظرة الإحساسات المتنوّعة التي تتداخل وتشارك في تشكيل مادة التصوير الشعري، ذلك أنّ مثل هذه الإحساسات لا بدّ أن تضيع عند الإلحاح على (المقارنة) بين الشعر والرسم، وما يتبع ذلك من تضخيم الدور الذي تلعبه الإحساسات البصرية، واستبعاد كلّ ما عداها أوتجاهلها، وفي هذا تضييقٌ للقدرات المتنوعة التي ينطوي عليها التصوير الشعري"(55).
تهمل هذه النظرة إذًا العناية بخيال الفنان المبدع، وتحصر عمله في نقل جزئيات العالم الخارجي في شكل صورٍ فنيّة، تعيد تمثيل مشاهد الواقع في ذهن المتلقّي، أي إنّ خيال الفنّان ما هو إلاّ تقديم الصور الحقيقية البصرية خاصة، ولم يفهم النقّاد القدماء عمومًا أنّ الأصل في العمل الإبداعي هو الفنان الخالق قبل المتلقّي، لذلك راح عبد القاهر يتحدّث في أكثر من موضع من كتابه (أسرار البلاغة) عن المتلقّي وما تثيره في خياله وإحساساته تلك الصور، التي تقدّم إليه في الشعر أو الرسم، ولعلّ تأكيده على الاستعارة والتشبيه والتمثيل راجعٌ إلى قدرة هذه الصور على إثارة خيال المتلقي، فالخيال إذًا "طريقة خاصّة في مخاطبة المخيلة، تعتمد على أن ترسم فيها صورًا ذهنية ذات خصائص حسيّة" (56).
فقد كان عبد القاهر متأثّرًا في هذه النظرة بمقولات الفلاسفة، لكنه في الواقع العملي؛ أي حين عرض للاستعارة والتشبيه بالدرس، اكتشف أنّ التخييل ليس طريقة خاصّة في مخاطبة مخيلة المتلقّي وإثارتها بالصور الحسيّة فقط، بل قدرة ذهنية تجعل الشاعر ينظر إلى أبعد مما ينظر سواه، ويكشف علاقات لم يفطن لها غيره، فالشاعر:"إنسانٌ متخيّل، والتخيّل قدرةُ ذهنية إذا عملت في رعاية عقلٍ مفرط الذكاء، دائم الوعي والجهد، انتهى صاحبها إلى ما لم ينته إليه سواه، فيتوصّل إلى إدراك اتّساق العناصر، ويكشف عن الاتفاق الكامن بين الأشياء، ومن ثمّ تتوافق الأنواع المختلفة وتتآلف الأجناس البعيدة"(57).
29 – الصورة الفنية: 341.
30 – دلائل الإعجاز: 195.
31 – المرجع السابق: 1.
32 – المرجع السابق: 269.
33 – المرجع السابق: 269.
34 – نظرية عبد القاهر في النظم: 73.
35 – المرجع السابق: 74.
36 – مقدمة في الشعر: 240.
37 – المعقول واللا معقول:254.
38 – الصورة الفنية: 392.
39 – المرجع السابق: 393.
40 – المرجع السابق:464 .
41 – المرجع السابق: 370.
42 – المرجع السابق:68.
43 – نظرية المعنى:310.
44 – دلائل الإعجاز: 26.
45 – المرجع السابق: 33.
46 – الصورة الفنية: 342.
47 – المرجع السابق:342.
48 – المرجع السابق : 341.
49 – المرجع السابق: 345.
50 – المرجع السابق:344.
51 – المرجع السابق:344.
52 – المرجع السابق:371.
53 – المرجع السابق: 376.
54 – المرجع السابق: 376.
55 – المرجع السابق: 371.
56 – المرجع السابق: .346.
57 – المرجع السابق: 226[/center][/color]
الصورة الرمزية محمد ولد افاه
التشبيه والاستعارة وعلاقتهما بالصورة عند /عبد القاهر
ربط عبد القاهر الاستعمالات البلاغية، ولاسيّما التشبيه والاستعارة، بقدرتهما على التصوير والتعبير؛ أي التقديم الحسّي للمعنوي قال: "وأوّل ذلك وأولاه وأحقّه بأن يستوفيه النظر ويتقفّاه القول على التشبيه والتمثيل والاستعارة، فإنّ هذه أصول كبيرة كان جلّ محاسن الكلام – إن لم نقل كلّها – متفرعة عنها وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها"(58).
والاستعارة: أن يكون اللفظ أصلٌ في الواقع اللغوي، تدل الشواهد على أنه اختفى به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر وغير الشاعر في غير ذلك الأصل، وهي: "ضربٌ من التشبيه، ونمطٌ من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتدركه العقول، وتستفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والأذان"(59)، فالاستعارة إذاً علاقة لغوية تقوم على المقارنة، شأنها في ذلك شأن التشبيه، لكنها "تتمايز عنه بأنها تعتمد على الاستبدال أو الانتقال بين الدلالات الثنائية للكلمات المختلفة"(60). وتنظيم الكلمات عنصرٌ مهم في جماليّات الاستعارة، لكن إدارة هذا الجمال لا يتأتّى من الكلمات بل من المعاني الخفية وراءها، فنحن في الشعر "نتطلب من الاستعمال الاستعاري أن يكون ذا نغمة داخلية" (61)، ويقوم البحث الاستعاري على فهم التنظيمات الداخلية للألفاظ المكوّنة لها.
إنّ الجمال في الاستعارة لا يتأتّى من اللفظة ذاتها، بل من النظم الذي يقع في العبارة، ذلك النظم الذي يدلّ على معنى معيّن يرجع إليه السبب في الجمال، فلا شبهة إذاً في أنّ التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع إنّما يكون الحسن فيها أو القبح:"من جهة المعنى خاصّة من غير أن يكون للألفاظ في ذلك نصيب، أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيدٌ وتصويب"(62). و إذا وجدنا ذلك أمرًا بيّنًا، لننظر إلى الأشعار التي أثنوا عليها من جهة الألفاظ، وقالوا: كأنّها الماء جريانًا، والهواء لطفًا، كقول الشاعر:
فإذا تأملنا هذه الأبيات لا نجد سبيلاً إلى مدح هذه الأبيات غير الصورة الاستعارية؛ لأنها وقعت موقعها وأصابت غرضها، وحسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرّ في الفهم، مع وقوع العبارة في الأذن، وإلاّ إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد. إنّ أوّل ما يلقانا من محاسن هذا الشعر أنّه قال:
ولما قضينا من منى كلّ حاجة
فعبّر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها، وأكّد طواف الوداع الأخير بقوله:
ومسح بالأركان من هو ماسح
وأعطى دليل المسير الذي هو قصده من الشعر، ووصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زمّ الركائب وركوب الركبان بقوله:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
ودلّ بلفظة (الأطراف) على الصفة التي يختصّ بها رفاق السفر من التصرّف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطوفين من
لإشارة والتلويح والرمز والإيحاء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه الألفة والمحبة، وتنسم عبير الأوطان والأحبة، واستماع التهاني والتحيات من الأحباب والخلاّن، وزان كل ذلك باستعارة لطيفة، أفاد منها بلطف الوحي والتنبيه، فصرّح أولاً بما أومأ إليه من الأخذ بأطراف الحديث، من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل في حال توجّههم إلى الأوطان، وأخبر بعد ذلك بسرعة السير؛ إذ جعل سلاسة السير بمسيل الماء في الأباطح، وكان في ذلك تأكيدٌ لما قبله؛ لأنّ الظهور إذا كانت وطيئة وطيدة جاء سيرها أسهل وأسرع، وزاد ذلك في نشاط الركبان، ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيبًا ثمّ قال: (بأعناق المطي)، ولم يقل (بالمطي)؛ لأنّ السرعة والبطء يظهران غالبًا
في أعناقها، ويبيّن أمرها من هواديها وصدورها، وسائر أجزائها التي تستند إليها في الحركة، وتتبعها في الثقل والخفة والمرح والنشاط.
إنّ هذا القياس ليس بقياس الشعر الموصوف بحسن الألفاظ، وإن كان لا يبعد أن يتخيّله من لا ينعم النظر، وحقّ هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني الحكمية والتشبيهية(63).
لقد توصّل عبد القاهر بهذا الأسلوب التحليلي إلى إبراز الصورة الكامنة في الأبيات، والمعنى الذي يريد إبرازه ليس الفكرة المتضمنة في الألفاظ بقدر ما هو صورة تلك الفكرة، أي معنى المعنى، إنّه يركّز في تحليله على كمال التركيب والشكل، كما يركّز على ظاهرة التكثيف والإيحاء والإيماء في الألفاظ.
إنّ النظم المحكم والمكثّف يعطي إيحاءات تشمل الأبعاد المختلفة والدلالات المتشعبة للفظة، واللفظة كمعطى حسّي تثير الخيال، وتجعله يتصوّر أبعادها الواضحة والخفية.
إنّ حسن هذه المعاني راجعٌ إلى الجمع بين أشكالٍ مختلفة في وحدة تثير الخيال وتحفز الفهم الاستيعاب، تلك الوحدة أو المعنى إنّما هي في الحقيقة الصورة التي تشكلت في العبارة، فاستعمال الاستعارة عبارةٌ عن "فكرتين اثنتين عن شيئين مختلفين، تعملان خلال كلمة أو عبارة واحدة تساندهما معًا، ومعنى هذه الكلمة أو العبارة هو الناتج عن تفاعلهما"
(64)، فالمعنى الذي ينتج عن هذا التفاعل هو الصورة التي يثيرها خيال المتلقّي، وإنّ عملية التصوير الشعري ذات علاقة بالتعبير الحسّي، وتستعمل كلمة الصورة أحيانًا "مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات، [لأنّ] فلسفة الاستعمال الاستعاري هي عينها فلسفة الفن في بعض جهاتها"
(65). فالاستعارة ليست عملية تزيين لفظي، وإنما "هي جزءٌ أساس من نظرية المعنى"
(66)، وتتطلّب دراستها النظر في طبيعة اللغة التصويرية عامّة.
وقد عُني عبد القاهر بالتشبيه قدر عنايته بالاستعارة لما رآه في هذا الباب من قدرة على تقديم المعنى بطريق ٍ حسّي يثير خيال المتلقي، والتشبيه علاقة مقارنة تجمع بين طرفين لاتحاد هما أو اشتراكهما في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات والأحوال، وتستند هذه العلاقة على المشابهة الحسّية أو المشابهة في الحكم أو التقصّي الذهني، وقد جعل عبد القاهر للتشبيه أصولاً ثلاثة: "أحدها: أن يؤخذ الشبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواس على الجملة للمعاني المعقولة، والثاني: أنْ يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها، إلاّ أنّ الشبه مع ذلك عقلي: والثالث: أن يؤخذ الشبه من المعقول للمقول"(67).
والتشبيه لا يكون إلاّ بين الأشياء المختلفة؛ لأنّ الأشياء المشتركة في الجنس والمتفقة في النوع تستغني بقيام الشبه وثبوته بينهما على التأمّل وإعمال الفكر؛ لإيجاده وإثباته فيها، "وإنما الصنعة والحذف والنظر الذي يلطف ويدقّ في أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة، وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة"(68).
والتشبيه الدقيق ما كانت أجزاؤه أشدّ اختلافًا في الشكل والهيئة، ثمّ كان التلاؤم بينها مع ذلك أتمّ والائتلاف أبين، "واعلم أنّي لستُ أقول لك إنّك متى قرنت الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرطٍ ، وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس في ظاهر الأمر شبهًا صحيحًا معقولاً، وتجد للملائمة والتأليف بينهما مذهبًا وإليهما سبيلا، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحسّ"(69)،
والتشبيه سواء كان بين المحسوسات أو المعقولات يعتمد على العقل؛ أي المنطق، والشبه المعقول ما كان واضح الائتلاف بالنسبة للعقل قدر اختلافه في الواقع المحسوس. ولا ينفكّ عبد القاهر في التحرّي عن العقل في مباحثه حول النظم، لكنه لا يعني به المنطق الفلسفي بقدر ما يعني به الوضوح؛ لأنّ المنطق الفلسفي مقيّد للفن، ولذلك عدّ عبد القاهر أنّ للشعر منطقًا خاصًّا به، وتتمثّل براعة الشاعر إذًا في قدرته على إيقاع الائتلاف بين الأشياء المتباعدة المختلفة، فإنّك "إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشدّ كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحيّة أقرب"(70).
ويقدّم التشبيه هذا الائتلاف إلى المتلقّي على شكلٍ وحدةٍ فنية أو صورة تثير خياله وانفعالاته، "وذلك أنّ موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتآلف للناظر من المسرة، والموقف الأطراف المبهجة، أن ترى بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض وفي خلقة الإنسان وخلال الروض"(71).
إنّ الواقع المحسوس مركّب لا محالة، والتشبيه كعملية تقديم حسب هذا الواقع – تمعن النظر في جزئياته حتى تكون أكثر دقّة، فالشاعر ينظر في تفصيلات الواقع، ويتأملها حتى تكون صورته أكثر شمولاً ووضوحاً، "واعلم أنّ قولنا (التفصيل) عبارة جامعة، ومحصولها على الجملة أنّ معك وصفين أو أوصافاً، فأنت تنظر فيها واحدًا واحدًا، وتفصّل بالتأمّل بعضها عن بعض، وأن يكون في الجملة حاجة إلى أن تنظر في أكثر من شيءٍ واحد، وأن تنظر في الشيء الواحد إلى أكثر من جهةٍ واحدة"(72).
ويضرب الجرجاني أمثلة لتوضيح فكرته لصور متشابهة يقع بينها التفضيل، وقد أشار إلى قول بشار:
وقول المتنبي:
وقول عمرو بن كلثوم
ويرى الجرجاني أنّ بيت بشار أفضلها على الرغم من تشابه الصور فيها، لقوة الحركة فيها، واتجاه السيوف في كلّ الجهات، وتصادمها بعضها ببعض؛ وأن الشاعر قد نظم دقائق الصورة في نفسه، وأحضر صورها بلفظة واحدة هي (تهاوى)، ونبّه عليها بأحسن تشبيه وأكمله؛ لأنّ الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها، وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل، ثمّ إنّها بالتهاوي تستطيل أشكالها(73).
وهكذا يركّز عبد القاهر في تحليله على قدرة التشبيه في نقل الجزئيات والإحاطة بها من كلِّ جانب، فالصورة التشبيهية كاملة تُعنى بالتفاصيل وتبرزها لعين المتلقّي، فتثير خياله حتى يتصوّر مجمل العلاقات بين هذه الجزئيات الواضحة، الحسيّة منها والخفية التي لا تبصرها إلاّ عين الخيال. ومن المهم أن نلاحظ هنا عناية عبد القاهر بحاسّة البصر، الأمر الذي دعاه إلى عدّ خيال الشاعر يقدّم صورًا بصرية أمامنا، ومن هنا انطلقت المقابلة بين الشعر والتصوير، الصورة واللوحة.
إنّ إعجاب عبد القاهر بكلمة (تهاوى) مثلاً مردّه إلى ما تتضمنه هذه الكلمة من صور، فالكواكب حين تتهاوى تكون في هيئة حركة سريعة ومتداخلة ومتباينة الاتجاهات، كما أنّها تأخذ أشكالاً غير أشكالها الحقيقية. إن ما يزداد به التشبيه سحرًا ودقّة في نظره "أن يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركات"(74). وتأتى هذه الهيئة المقصودة في التشبيه على وجهين: "إحداهما: أن تقترن بغيرها من الأوصاف كالشكل واللون ونحوهما، والثاني: أن تجرّد هيئة الحركة حتى لا يُراد غيرها"(75). ومن الأول قول الشاعر:
والشمس كالمرآة في كفّ الأشل
وقد أراد أن يريك مع الشكل الذي هو الاستدارة، ومع الإشراق والتلألؤ على الجملة، الحركة التي تراها للشمس إذا أنعمت التأمل، ثمّ ما يحصل في نورها من أجل تلك الحركة، وذلك أنّ للشمس حركة متصلة دائمة في غاية السرعة، ولنورها، بسبب تلك الحركة، تموّج واضطراب عجيب، ولا تكتمل صورة هذا التشبيه إلاّ بأن تكون المرآة في يد الأشلّ؛ لأنّ حركتها تدور وتتصل، ويكون فيها سرعة وقلق شديد، حتى نرى المرآة لا تقرّ في العين، وبدوام الحركة وشدّة القلق فيها يتموّج نور المرآة، ويقع الاضطراب الذي يسحر الطرف، وتلك حال الشمس بعينها حين تمدّ النظر وتنفذ البصر حتى تتبيّن الحركة العجيبة في جرمها وضوئها، فإنّك ترى شعاعًا كأنّه يهمّ بأن ينبسط حتى يقبض من جوانبها، ثم يبدو فيرجع في الانبساط الذي بدأه إلى الانقباض، كأنّه يجمعه من جوانب الدائرة إلى الوسط، وحقيقة حالها في ذلك مما لا يكمل البصر لتقريره وتصويره في النفس، فضلاً عن أن تكمّل العبارة لتأديته، ويبلغ البيان كنه جودته
(76)، "وأمّا هيئة الحركة مجرّدة من كلّ وصف يكون في الجسم، فيقع فيها نوعٌ من التركيب بأن يكون للجسم حركات في جهات مختلفة... وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرّك أبعاض الجسم إليها أشدّ كان التركيب في هيئة المتحرّك أكثر"(77).
وقد أورد عبد القاهر أمثلةً كثيرة للتدليل على رأيه من الشعر والنثر، وحلّلها تحليلاً دقيقاً، وتوصّل بمثل هذه التحليلات إلى الربط بين الاستعمالات البلاغية وعملية التصوير الشعري، وقد عُني بالاستعارة والتشبيه خاصة؛ لأنهما يقدّمان المعنوي بطريق ٍ حسّي، ولأنهما يتعلقان بالخيال بصورةٍ مباشرة، فالصورة الشعرية عند عبد القاهر نتاجُ الخيال؛ أي تلك القدرة الذهنية التي تجعل الشاعر "ينظر إلى أبعد مما ينظر إليه سواه، ويكشف علاقاتٍ لم يلتفت إليها معاصروه وأسلافه"(78)، وهي كذلك طريقة خاصة في مخاطبة الخيال، خيال المتلقّي، فالصورة الشعرية تثير المتلقّي، وتجعله يعيش تجارب لا تتوافر له بدونها.
وقد تأثّر عبد القاهر بما قاله الفلاسفة عن قدرة الأقاويل الشعرية على بسط النفس وقبضها، واتّفق معهم على ردّ جانبٍ كبير من تأثير الشعر إلى قدرته على تحسين الأشياء وتقبيحها، ولذلك ذهب إلى الاهتمام بالتصويرات والتمثيلات، يهزّ الممدوحين ويحرّكهم، ويحدث ضربًا من الفتنة في نفس المتلقّي(79). ولا تنفصل الصورة الأدبية عن التفكير الكلّي الشامل، فهي "وإن لم ترتبط فيها المفردات المكانيّة والزمانيّة ارتباطًا منطقيًّا فإنّ هذا الارتباط لا يزال – ولا بدّ أن يكون – خاضعًا لمنطق الشعور"
(80). فالجمال الذي يحدثه الشعر في نفس المتلقّي مردّه إلى قدرته على خلق الوحدة والانسجام بين مظاهر الطبيعة الحسيّة المختلفة، فالتعبير الفنّي "هو وحده القادر على أن يخلق الجمال من مجموع جانبين، كلّ منهما لا يكتفي بذاته، وفي هذا الضوء نفهم كيف يحقّق الخيال صفةً عليا، هي التوازن والاعتدال، فيشيع الرضا بالانطلاق والتحرّر من جهة، والمتعة بالقالب المنسّق من جهةٍ ثانية"
(81).
وقد عدّ عبد القاهر أن للشعر منطقه الخاصّ به الذي يختلف عن منطق الفلسفة، فالجمال في الشعر لا يفهمه إلاّ صاحب ذوق وممارس للشعر، فإذا اتفق على الحقائق العلميّة فالأمر مختلف بنسبة للشعر، فالمعقول فيه هو الذوق، فمن لا ذوق له لا يُدرك ذلك الجمال؛ وقد اعتمد عبد القاهر في تحديد الصورة الأدبية على الذوق من جهة، والثقافة الواسعة المتنوعة من جهةٍ أخرى. ولعلّ ما نجده من جدل ٍ في كتابه (دلائل الإعجاز) يرجع إلى البيئة الأشعرية الكلامية التي نشأ فيها عبد القاهر، ولكنه لا يتعلّق بالفن الأدبي وتحليله بقدر ما يتعلق بالمناظرات الفكرية والمواقف، مثل موقفه من الشعر وأهميته، والنحو والألفاظ والمعاني ودورها في النظم، وهي أمورٌ تحتاج إلى الدقّة في النظر؛ لأن سبيلها الإقناع.
هوامش
58 – أسرار البلاغة: 26.
59 – المرجع السابق: 61.
60 – الصورة الفنية: 244.
61 – الصورة الأدبية: 4.
62 – أسؤاؤ البلاغة: 200.
63 – المرجع السابق: 21 – 24.
64 – نظرية المعنى: 11.
65 – الصورة الأدبية: 3 ، 6.
66 – نظرية المعنى: 84.
67 – أسرار البلاغة: 61.
68 – المرجع السابق: 136.
69 – المرجع السابق: 138 – 139.
70 – المرجع السابق: 116.
71 – المرجع السابق: 111.
72 – المرجع الساق: 152.
73 – المرجع السابق: 159 – 161.
74 – المرجع السابق: 164.
75 – المرجع السابق: 164 – 165.
76 – المجع السابق: 165.
77 – المرجع السابق: 168.
78 – الصورة الفنية: 226.
79 - المرجع السابق: 430.
80 – التفسير النفسي للأدب: 151.
81 – الصورة الأدبية: 14.
نظرية النظم عند عبد القادر وعلاقتها بالصورة الشعرية
الدكتور/عمرمحمدالطالب كلية التربية - جامعة الموصل
الموصل – العراق
هذ الموضوع يكتسي أهمية بالغة في موضوع الصورة الشعرية و اشكالاتها و قد ارتأيت أن أضعه على حلقات لتعم الفائدة
النظم والصورة الشعرية
شكلت الصورة عنصرا مهما من عناصر العمل الأدبي، وقد ورد معنى كلمة الصورة في لسان العرب أنها :"ترد في كلام العرب على ظاهرها،وعلى معنى
حقيقة الشيء وهيئته، وعلى معنى صفته، في أسماء الله تعلى، المصور، الذي صور جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة، وهيئة مفردة متميزة، يتميزبها على اختلافها وكثرتها" (1)
وجاء في تاج العروس: "الصورة بالضم، الشكل والهيئة والحقيقة، وقال ابن الأثير: الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيئ وهيئته، وعلى معنى صفته، قال:صورة الفعل كذا, أي هيئته"(2)
الصورة صيغة جزئية تتشكل في العقل لِخَزن تَمثٌل الذات لجزئيات الواقع الموضوعي، فهي نسيج عقلي، مادته انفعالات الذات الشاعرة مع الموضوع, أي انفعال الداخل مع الخارج، وعلى هذا يمكن عدها" خزانا صغيرا يحتقب كلا من التصورات الذهنية والتفاعلات النفسية المتخارجة, أي رؤية الداخل للخارج من جهة ،واستجابة لهذا الخارج من جهة أخرى"(3)
يمتازالأسلوب الشعري باستخدامه أشكالا من التعبيرالمتخيل قصد إيصال الفكر والعواطف، وبهذا يكاد اعتماده على الصورة يكون كليا في نقل هذه الإحساسات ولانفعالات،وذالك من خلال لإيحاء بها، لامن خلال التعبير المباشر عنها. والصورة الشعرية تركيبية لغوية، تصور معنى عقليا وعاطفيا متخيلا لعلاقة بين شيئين، ولا تقف الصورة الشعرية عند نقل التجربة الحسية للشاعر، بل تتعداه الى نقل انفعالاته ومشاعره الداخلية ، ومعنى ذالك أن للصورة الشعرية مستويين من الفاعلية، المستوى الدلالي، والمستوى النفسي، وتكتسب الصورة حيويتها من مدى الارتباط والانسجام بين المستويين، يقول كمال ابوديب: "ان للصورة مستويين من الفاعلية، هما المستوى النفسي والمستوى الدلالي، أو الوظيفة النفسية والوظيفة المعنوية.
إن حيوية الصورة وقدرتها على الكشف والإثراء، وتفجير بعد تلو بعد من الإيحاءات في الذات المتلقية، يرتبطان بالاتساق والانسجام، اللذين يتحققان بين هذين المستويين للصورة، الصورة بهذا التحديد قد تخفق في الكشف، وتتحول دلالتها إلى عنصر سلبي، إذا بلغ الافتراق بين هذين المستويين درجة معينة من الحدة"(4)
والمقصود بالمستوى الدلالي كون الصورة تركيبية لغوية، تنقل معنى، وبالمستوى النفسي كونها تنقل إحساسات وانفعالات، وتفجر مكبوتات لاشعورية، لذالك أولى علم النفس الصورة أهمية بالغة. ويحدد معجم مصطلحات التحليل النفسي للصورة بأنها"عرفت الهوامية غالبا كتصور واع... ويمكن أن تتجسد الصورة الهوامية في مشاعر، أوتصور كما تتجسد في بعض الصور سواء بسواء، ولا بد أن نضيف أنه (يجب أن لا تفهم بوصفها انعكاسا محضا) للواقع حتى ولو تفاوت في درجة تحويره"(5). فالصورة إذا آلية لغوية ذات فعالية مزدوجة نفسية ودلالية، يستخدمها الأديب قصد التأثير في الملتقى، ولا يتسنى له ذالك إلا إذا استطاع بمهارته وبراعته أن يمازج بين الوظيفتين الدلالية والنفسية، فهي "إعادة إنتاج عقلية، ذكرى لتجربة عاطفية أو إدراكية غابرة، ليست بالضرورة بصرية"(6).
ويرى نصرت عبد الرحمن أن المعاني في الشعر تتصور في عدة أنواع من الصور:
1- الصورة التقريرية:وهي الصورة التي لا تحتوي تشبيها أو مجازا، وهذه الصرة ليست عملية تذكر، بل هي عملية حضور لتجسيم المعنى.
2- الصرة التشبيهية: وهي الصورة التي يتجسم فيها المعنى على هيئة علاقة بين حدثين.
3- الرمز الأيقوني: وهي الصورة التي تدل على صورة مادية، بينهما علاقة تشابه،وتحمل الصورة المادية معنى.
4- الاستعارة: ويبدو أنها وكبت البشرية من الاعتقاد الى المجاز.
5- الرمز غير الأيقوني: يقوم بتجسيم التصور في مادة، دون أن يكون في المادة علاقة تشبيهية أو استعارية، فنحن أمام رمز غير أيقوني، فهو علاقة باطنية خارجية، وهو لا يعود إلى مادة ومعنى كالرمز الأيقوني، بل يعود إلى معنى فقط.
6- الكناية: وتبدو أنها أخف من الرمز، فهي ضرب من الإشارة، وتكاد الإشارة أن تصبح لغة عصرية(7)وإذا كانت الصورة الأدبية استرجاع حسي لمحسوس، فإنه يمكن إرجاعها إلى أنماط متعددة، كالصورة البصرية والسمعية والذوقية والعضوية والحركية، وكل نمط من هذه الأنماط ينقسم يدوره إلى أقسام متعددة، فتصنيفات علماء النفس وعلماء الجمال متعددة في هذا المجال، ولا تزال الأبحاث تبين مدى انفعال الذات بعالم المحسوسات، تلك الانفعالات المتجددة بتجدد العلاقة بين الإنسان والكون.
إن هذه العلاقة هي التي تشحن الصورة بثقلها الوجداني،لأكن هذا الثقل يختلف بين إنسان وآخر حسب اختلاف البيئة والثقافة والعصر، مما يجعل فاعلية الصورة مختلفة، فالصورة التي يقابلها العربي ببرود قد يجدها الأوربي شحنة حيوية مثيرة.
وتتشكل الصورة ابتغاء إحداث الأثر في وعي الملتقى، أي إنها تحقق الفاعلية الوجدانية والخيالية في النفس، ولعل"من العسير علينا أن نفصل بين الصورة وبين فاعليتها، فالصورة كالمادة تحمل طاقتها في داخلها"(، وتكون فاعلية الصورة أكبر كلما كانت قدرتها على تنشيط الإحساسات أعظم، فالصورة تنشط الإحساسات، وتثير الخيال، وتفجر العاطفة تفجيرا غير إرادي، الأنها تمثل الموضوع داخل الذات، فتغدو "مرآة تقتضي فيها الحاجة التي يتمثلها الشعور"و لا يقدم الشعور صورة عن حالتنا الراهنة فحسب ، بل ينمو إلى تحقيق الحاجة أو رد النقص في مقومات الوجود.
و قد يعز أحيانا إدراك المضمون الشعوري للصورة الأدبية لإختفائه بسبب اعتماد الصورة في تكوينها على اللاشعور و في "هذه الحالة يكون من الخطأ التعامل مع الصورة على أساس دلالتها الظاهرة المباشرة و يتحتم بذل الجهود لاستكناهها " حيث تؤدي عملية التكثيف اللاشعوري إلى ظهور صور مكثفة لا ترد إلى مقومات الواقع و تكون أكثر أغراقا في الذاتية ..
الهوامش
1- لسان العرب - مادة صور
2- تاج العروس : 343
3- مقالات في الشعر الجاهلي :298
4- جدلية الخفاء و التجلي :22
5- معجم مصطلحات التحليل النفسي :307
6- نظرية الأدب :194
7- الصورة الفنية في الشعرالجاهلي :70
8-مقالات في الشعر الجاهلي :316
الصورة الرمزية محمد ولد افاه
النظم والصورة الشعرية عند - عبد القاهر الجرجاني
إنّ سيطرة الموضوع على الصورة يجعلها تبدو في بعض الأحيان انعكاسًا محضًا للواقع في الوعي، فالارتكاز على الواقعة أو الظاهرة الطبيعية شرطٍ لتشكّل الصورة "سيجعل المضمون الداخلي للصورة يجنح نحو المادية، أعني أنّ المادة تشكّل العناصر الجزئيّة المكوّنة للصورة"(11)، ولكنّ الصورة الفنية لا تستمد حيويتها وفاعليّتها من تمثيل محض للواقع، بل إنّ ارتباطها النوعي بالإحساس هو الذي يعطيها تلك الأهمية: "إنّ التصوير الشعري يقوم على أساس حسّي مكين، ولا مفرّ من التسليم بذلك طالما كانت مدركات الحس هي المادة الخام التي يبين بها الشاعر تجاربه"(12)، ولكن حسيّة التصوير لا تعني أنها انعكاسٌ حرفي للواقع، بل هي محتوى فكر يتركّز فيه الانتباه على خاصيّة حسيّة معيّنة، فالصورة البصرية مثلاً إحساس وإدراك حسّي، لكنها تشير إلى شيء غير مرئي، إلى شيءٍ داخلي، ولم يعرف عزرا باوند الصورة بأنها "تمثيلات أثرية للإحساسات"(13)، بل عرّفها بأنها "تلك التي تقوّم عقدة فكرية أو عاطفية في برهة من الزمن، وهو توحيد لأفكار متفاوتة"(14). فالصورة هي المجال الذي يحقق فيه الخيال فاعليّته ونشاطه، ويتيسر التخيل "بالحسيّة؛ لأنّ مادته التي يتعامل معها صور المحسوسات المختزنة في القوة المصورة أو الخيال"(15). والارتباط بين الواقع والخيال ضروري، لكنّ ذالك لا يعني أنه يمكن أن ينحلّ إليه بيسر، بل يسمو عليه، ولا يكون صورة حرفية منه. "فالصورة الخيالية تتوقف قيمتها في الشعر على ما يقوم وراءها من الدوافع النفسيّة، التي كانت السبب الأول في إخراجها إلى حيّز الوجود"(16)؛ أي إنّ الصورة الخيالية "نتاج عناصر موضوعية وذاتية معًا"(17).
ولا ينسج الخيال صورة من ذاته بوصفها فراغًا سابقًا على التجربة، بل يصوغها من مواد تجربته المعاشة. فالصورة "إعادة تشكيل واكتشاف العلاقات الكامنة بين الظواهر والجمع بين العناصر المتضادة والمتباعدة في وحدة"(18)؛ فهي عملية تحليل وتركيب لتلك المدركات، ولا يصبح التحليل عملاً فنيًا "إلاّ إذا كان في كلّ، وليس غاية في ذاته، بل هو خطوة ضرورية من أجل الوصول إلى العمل الإنشائي التركيبي"(19)؛ لأن الشاعر ينظر إلى الأشياء من حيث هي كلّ لا جزء، ويحقّق الخيال الجمال بالجمع بين أشياء متفرقة، لا يكتفي كلّ بذاته: "وفي هذا الضوء نفهم كيف يحقّق الخيال صفة عليا، هي التوازن والاعتدال؛ فيشيع الرضا بالانطلاق والتحرر من جهة، والمتعة بالقالب المتسق من جهة ثانية"(20). وبتحقيق التوافق بين الوحدة والتنوّع يحقّق الخيال الاندماج بين الشعور واللا شعور. إنّ الصورة الشعرية لا تنفصل عن التفكير الكلي، وعلى الرغم من ذلك إلا أنّ ارتباط المفردات الزمانية والمكانية فيها ليس ارتباطًا منطقيًا؛ فالشاعر "كثيرًا ما يفتت الأشياء الواقعة في المكان؛ لكي يفقدها كل تماسكها البنائي، ولا يبقي منها إلاّ على صفاتها، سواء الأصليّة فيها أو المضافة إليها"(21). إنّ هذا الفارق بين المفردات الزمانية والمكانية يعدّ قفزة بالنسبة للعقل الواعي، أمّا في الصورة الشعرية فإنّ الارتباط بينها "لا يزال، ولا بدّ أن يكون، خاضعًا لمنطق الشعور"(22).
ترتبط الصورة ارتباطًا مباشرًا بنظرية المعرفة، لذلك أولتها المذاهب الأدبية اهتمامًا كبيرًا، فعدّتها الرومانتيكية عمليّة إبداع وخلق، تجسّم حالة وجدانية. واهتمت الفلسفة التجريبية ونقاء الواقعية بالصورة الشعرية، مما دعاهم إلى النظر في العلاقة بين الرسم والشعر، وفي نظرية الانعكاس تعدّ الصورة الفنيّة انعكاسًا للعام في شكلٍ محسوس فردي، يعتمد على النموذج. والصورة في النقد الموضعي عند إليوت خاصة معادل موضعي لفكرة في الذهن، أو لعاطفة تهتز بها النفس(23).
وقد اعتمدت الدراسات البلاغية للصورة الشعرية على الطبيعة الزخرفية التزيينية لها منطلقةً من تصوّر قاصر للأسلوب، وعلى أنها عنصر خارجي في العمل الفني، ويتوافر هذا التصوّر في التراث الأوربي بشكلٍ خاصّ منذ أرسطو إلى كولريدج. "ومن الشيّق أنّ التراث العربي يخرج على هذه النظرة للأسلوب والصورة في نقاطٍ عديدة من تطوره، ويبلغ الخروج ذروته في تصوّر عبد القاهر الجرجاني، الناقد الفذّ للخلق الأدبي، والصورة [بصفتها] عنصرًا حيويًا من عناصر التكوين النفسي للتجربة الشعرية وتبلورها اللغوي في بنية معقدة متشابكة، لها نموّها الداخلي الفرد، وتفاعلاتها الفنية"(24).
وقد اهتم النقّاد العرب القدماء بالصورة، فقال الجاحظ: "إنّ الشعر ضربٌ من النسج وجنس من التصوير"(25)، ومثّل ابن وكيع المعنى بالصورة واللفظ بالكسوة، فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس، فقد بُخِسَت حقها وتضاءلت في عين مبصرها(26).
ويعدّد ابن الأثير دلالته للصورة من خلال تقسيمه للتشبيه، فيقول: "واعلم أنه لا يخلو تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر من أربعة أقسام: إمّا تشبيه معنى بمعنى: زيد أسد. إمّا تشبيه صورة بصورة كقوله تعلى: {وعندهم قاصراتُ الطَّرفِ عين كأٌنّهنّ َبيضٌ مكنون}. وإما تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: {والذين كفروا أعمالُهُم كسراب بقيعة}، وهذا القسم أبلغ الأقسام الأربعة؛ لتمثيله المعاني الموهومة بالصورة المشاهدة. وإما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام:
فشبّه فتكه بالمال وبالعدا، وذالك صورة مرئية، بفتك الصبابة، وهو فتكٌ معنوي، وهذا القسم ألطف الأقسام الأربعة؛ لأنه نقل صورة إلى غير صورة"(27).
وقد أورد ابن المعتز لفظة (صورة) في بعض أبياته، بمعناها المعجمي؛ أي المقابل لهيئة الشيء ودالّته كقوله28)
الحواشي
11 – مقالات في الشعر الجاهلي: 35.
12 – الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: 373.
13 – نظرية الأدب: 241.
14 – المرجع السابق: 241.
15 – الصورة الفنية: 45.
16 – نظرات جديدة في الفن الشعري: 41.
17 – الصورة الأدبية: 44.
18 – الصورة الفنية: 313.
19 – الصورة الأدبية: 13.
20 – المرجع السابق: 14.
21 – التفسير النفسي للأدب: 153.
22 – المرجع السابق: 159.
23 – ينظر: في النقد الحديث.
24 – جدلية الخفاء والتجلّي: 19.
25 – الحيوان: 3/131.
26 – العمدة: 127.
27 – المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 2/136.
28 – ديوان ابن المعتز: 1/ 350 – 351.
الصورة الرمزية محمد ولد افاه
الصورة عند عبد القاهر
الصورة عند عبد القاهر
إنّ مصطلح الصورة لا يستعمل عند عبد القاهر استعمالاً موحّدًا، بل نراه مرة يُستعمل للدلالة على الشكل العام لصياغة الكلام، وأخرى للدلالة على التقديم الحسِّي للمعنى، فالمصطلح "يحمل في طيّاته الدلالة على الصورة والشكل في الوقت نفسه"(29). يقول عبد القاهر: "وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب شيءٍ حتى يكون هناك قصده إلى صورة وصفه، إن لم يقدّم فيه ما قدّم، ولم يؤخّر فيه ما أخّر، وبدأ بالذي ثنّى به، أو ثنّى بالذي ثلث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصفة"(30)، ويقول في موضعٍ آخر: "هذا كلامٌ وجيز يطّلع به الناظر على أصول النحو جملةً، وكلّ ما به يكون النظم دفعة، وينظر فيه في مرآةٍ تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكانٍ واحد، ويرى بها مُشئمًا قد ضُمّ إلى مُعرٍق ومغرِّبًا قد أخذ بيد مُشَرِّق"(31). ولم يكن هذا المصطلح من ابتداعه، فقد سبقه إليه آخرون – كما بيّنّا سابقًا – ويقول عبد القاهر في هذا الصدد: "وليس العبارة من ذلك بالصورة شيئًا نحن ابتدأ ناه، فينكره منكر، بل هو مستعمل مشهور في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: وأما الشعر فهو صناعة وضرب من التصوير"(32). والصورة عند عبد القاهر: "تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا"(33). فإذا كان التباين بين الأشياء في الطبيعة إنما تكون في الصور المختلفة، التي تتخذها تلك الأشياء، فالأمر يختلف بالنسبة للمعاني. فالتباين بين المعاني في أبيات الشعر المختلفة راجعٌ إلى الاختلاف بين الصور التي تتخذها المعاني في تلك الأبيات المختلفة. فقد جعل الجرجاني مناط الفضيلة في الكلام راجع إلى الصورة التي يرسمها النظم، تلك الصورة " التي ارتسمت في نفس المتكلّم بأصباغ العلاقات بين معاني الكلم التي رتّبت في النفس ترتيبًا خاضعًا لتلك العلاقات"(34)، فإذا كان النظم يهدف إلى رسم صورة، فإنّ منها ما هو بدائي غفل، ومنها ما هو رائعٌ عجيب، وعلى هذا الأساس كان بعض النظم أسمى من بعض، والمعني الذي تنسب إليه المزية في النظم ليس المعنى الخام الغفل، بل المعنى المصوّر "هو صورة المعنى لا المعنى مجرّدًا من الصورة"(35). إنّ هذه الفكرة التي جعلها عبد القاهر أصلاً في أسرار البلاغة: "قريبة من فكرة قدامة في هيولى الشعر وصورته – وهي – بعينها فكرة ابن سينا أنّ العمل الشعري يكون في صورة المعاني لا في مادتها، ولن تراها بعد ذلك بعيدة عن فكرة أرسطو في أنّ الشعر محاكاة لأفعال أو محاكاة لمعانٍ؛ أي صورة ما تتشكّل بها الأفكار والمعاني"(36). فإذا نقلت الجملة العلمية الحقيقية نقلا مباشرًا، فإنّ الجملة الأدبية تشير إلى المعنى بطريقٍ غير مباشر، إنها ترسم صورة، وعلينا أن ننظر إلى تلك الصورة، ونتأملها، حتى تنقلنا إلى المعنى أو الموقف الذي يريد الشاعر أن يسوقه، فلماذا لا نذكر تلك الحقيقة المقصودة مباشرةً من دون الرجوع إلى التصوير؟ يرى الجرجاني أنّ الصورة التي توازي الحقيقة المقصودة إنما تكتسب قيمتها، لأنها تنقلنا من حالة الغموض إلى حالة الوضوح، فإذا كانت الحقيقة مكتنفة بجوٍّ من الغموض، فإن الصورة، وهي مادة مأخوذة من خبراتنا المألوفة، تزيل ذلك الغموض، كما يرى أن الإدراك الإنساني يقوم على التدرّج من المحسوس إلى المعقول: "أي مما ندركه بإحدى حواسنا من بصرٍ وسمع وغيرها، إلى ما ندركه بعقولنا وهو في حالةٍ من الفكر المجرّد"(37). إنّ الصورة بحسب هذا المفهوم "طريقة خاصة من طرق التعبير، أو وجه من أوجه الدلالة"(38) تنحصر قيمتها فيما تقدّمه لنا من معانٍ، لكنها لا تحدث أثرًا في طبيعة تلك المعاني، ولا تغيّر إلاّ من طريقة عرضها وكيفية تقديمها، وهي بذاتها: "لا يمكن أن تخلق معنى، بل إنها يمكن أن تحذف دون أن يتأثر الهيكل الذهني المجرّد للمعنى الذي تحسّنه وتزيّنه" (39).ولعل هذه النظرة إلى الصورة مرتبطة بنظرة عبد القاهر إلى اللغة بصفتها وعاءً محضًا للمعنى ، فلم يدرك أنّ الصورة شيءٌ أساسيّ لا يمكن الاستغناء عنه وحذفه ، وأنها وسيلة حتميّة لإدراك نوعٍ متميّز من الحقائق ، تعجز اللغة العاديّة عن إدراكه وتوصيله ، كما أنه لم يفطن إلى أن الصورة "قرينة الكشف والتعرّف على جوانب خفيّة من التجربة الإنسانية" (40).
تتمثّل أهمية الصورة عند عبد القاهر في تلك القدرة على جذب انتباهنا إلى المعنى الذي تعرضه، فتجعلنا نتفاعل مع ذلك المعنى ونتأثّر به، إنّ هذا التصوّر النفعي المباشر للصورة جعل أنظار عبد القاهر تتجه إلى المتلقّي دون الفنان الخالق ، فنراه يتحدّث عن إثارة الصورة لانفعال المتلقي ، وتوجيه مواقفه بما يتماشى والأغراض الاجتماعية للشعر، لكنه لم يهمل البحث في طبيعته الحسّية للتصوير الشعري، وهو يقتصر في بحثه على الجوانب البصريّة فحسب، وبخاصة حين عرض للاستعارة والتشبيه ، وقد تبعت المقابلة بين الرسم والشعر هذا التصوّر، فقد جاء "الربط بين الجوانب الحسّية بالتصوير، والقدرة على نقل جزئيات العالم الخارجي ، وإعادة تمثيل مشاهده في ذهن المتلقّي، يرد إلى المبادئ العامة لنظرية المحاكاة بمفهومها الساذج، الذي جعل الفن بعامّة والأدب بخاصّة نقلاً أو نسخاً للطبيعة الخارجية"(41).
لقد تجاوز عبد القاهر هذا المفهوم السائد عند النقّاد العرب القدامى ، وسلّم للشاعر: "بحقّه في إعادة تشكيل المدركات من صور فنيّة جديدة؛ ليست مدركة للحسي من قبل" (42)؛ أي إنّه كان يفضل تلك الصور التي تتشكّل في الخيال على تلك التي تلتزم بمدركات الواقع.
إن تركيز عبد القاهر على الجانب البصري في التصوير الشعري جعله يلجأ في العديد من المواطن إلى المقابلة بين الشعر والرسم ، وقد تواردت على ذهنه خواطر متشابكة بين المعنى في النحو ، والمعنى في الزخرفة ، والمعنى في جماليات الشعر، وبعبارةٍ أخرى "شعر عبد القاهر بصلة غامضة بين هذه الجوانب"(43)، فمفهومه للصورة يتردّد بين الدلالة على الشكل والدلالة على التصوير الفنّي في مقابلته بين الصورة الشعرية والزخرفة في النسيج والتحبير على أنهما مبنيّتان على هذا الأساس ، فهو يقابل بينهما من ناحية الجمال الشكلي حينًا ، ومن ناحية إثارتهما للحواس والتخيّلات حينًا آخر.
وشرح عبد القاهر في كتابه (دلائل الإعجاز) نظريته في النظم اعتمادًا على علوم اللغة، فنظر إلى الصورة على أنها أسلوبٌ في نظم الكلام فجاءت المقابلة بين هذه الصورة والصورة في الزخرف والنسيج مبنية على أساسٍ شكليّ ، حيث يقول:"ووجدت المعول على أنّ هاهنا نظمًا وترتيبًا وتأليفًا وتركيبًا وصياغة ونسجًا وتصويرًا وتحبيرًا"(44)، فالنظم لا يعني"ضمّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتّفق ، وكذلك كان عندهم نظيرًا للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك ، مما يوجب عدّ الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كلّ حيث وضع علّة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكانٍ غيره لم يصلح"(45).
ويواجهنا مصطلح التصوير في كتاب (أسرار البلاغة) بشكلٍ آخر: "وهو يحمل في جانبٍ من جوانبه فكرة تجسيم المعنوي وتمثيل الشيء في المخيلة، مما يجعل عبد القاهر يقارن بين التصويرات والتخييلات الشعرية وبين تصاوير الرسامين"(46).
إنّ الانشغال بتوضيح تأثيرات الاستعارة والتمثيل والتشبيه قد دفع عبد القاهر إلى الحديث عن التصوير والتخييل، ومن "ثم بدأ مفهوم الصورة في الوضوح والبروز بأكثر مما جاء في دلائل الإعجاز"(47).فقد نظر عبد القاهر في الشبه بين طريقة الشاعر في تشكيل مادته وطريقة الرسام من زاوية حسن التأليف وبراعة المحاكاة ، فلاحظ أنهما يهدفان إلى إحداث التآلف والتناسب بين عناصر مادتيهما، فالشاعر يحدث التناسب والتآلف بين أحرفه وكلماته في القصيدة، أمّا الرّسام فيحقّق ذلك بين ألوانه على اللوحة، وهذا شبه مبنيٌّ على أساس شكلي، لكن عبد القاهر لم يقف عند هذا الحدّ، بل نظر كذلك في الشبه بين طريقتي الشاعر والرسّام من حيث قدرتهما على إثارة إحساسات وتخييلات المتلقي. فلاحظ " أنّ كلاًّ من الشاعر والرسّام، بطريقته الحسيّة في التقديم، ونجاحه في صياغة مادته، يمكن أن يحدث تأثيرًا خاصًا في نفوس المتلقين، ويمكن أن يوقع المحاكيات في أوهامهم وحواسهم بطريقة تجعلهم ينفعلون أشدّ الانفعال"(48) إنّ طريقة الشاعر والرسّام في نقل العالم وتقديمه للمتلقي تعتمد على مادة ذات صلةٍ بالحواس، تلك المادة التي تنبع من الإحساس، إحساس الشاعر والرسّام؛ لتخاطب الإحساس – إحساس المتلقّي – ومن هنا فإنهما "عند ما يقومان بفعل المحاكاة، سواء كانت لمعنوي مجرّد أو لمادّي محسوس، فإنما يخاطبان الإحساس والمخيلة، ويجسّمان الأشياء والأفكار في أشكالٍ محسوسة، يمكن رؤيتها إمّا عن طريق العين الباصرة – كما في حالة الرسّام – وإمّا عن طريق العقل أو المخيلة – كما في حالة الشاعر.."(49).
إنّ عمل الشاعر والرسّام خاضعان لقوانين العالم الأساسية، "بل لعلة كشف وتكميل لها في الوقت نفسه"(50)، فهما حين ينقلان العالم في أشكالٍ فنيّة، لا يلتزمان بالحدود الظاهرية له، بل يتجاوزان تلك الحدود، ولكنّ هذا التجاوز لا يمسّ القوانين الأساسية للطبيعة، وهذه النظرة مرتبطة بفكرة الاحتمال والإمكان الأرسطية، فالشاعر أو الرسّام "قد ينقل الواقع أو يحاكيه كما هو، وقد ينقله أو يحاكيه بأقبح وأحسن من ما هو عليه، ولكنّ هذا الحسن أو القبح ليس مسخًا وتشويهًا للعالم أو قوانينه، وإنّما هو أمرٌ يمكن حدوثه أو يحتمل حدوثه"(51).
لقد ظهرت المقابلة بين الشعر والرسم إذًا في بيئة الفلاسفة من شرّاح أرسطو وفي بيئة النقاد الذين كانوا على اتصال بهؤلاء الفلاسفة، وكانت هذه المقابلة تؤكّد على الخصائص البصرية والوضوح في عملية التصوير، ومن ثمّ " قيل إنّ الشعر – بما يقوم عليه من تخييل – يمثّل لمخيلة المتلقّي مشاهد بصرية واضحة، وإنّ أفضل الوصف الشعري ما قلب السمع بصرًا، وجعل المتلقّي يتمثّل مشهدًا منظورًا كأنّه يراه ويعاينه"(52)، فتأكيد الجوانب الحسية في عملية التصوير – والنمط البصري منها خاصّة – راجعٌ أساسًا إلى التأثّر بنظرة أرسطو التي "تترتب على الحواس ترتيبًا طبقيًا، ينتهي إلى أنّ حاسّة البصر هي أشرف الحواس"(53)، وقد ترتب على هذه النظرة "أن أصبح نمط الخيال الذي يعرفه مترجمو أرسطو وشُرّاحه من العرب هو النمط البصري، الذي يلحّ على تجميع الصور البصرية وتركيبها دون أن يكون ثمّة تركيز مقابل على الصور الشمسية أو الذوقية أو غيرها"(54).
إنّ هذه النظرة إلى الخيال أدّت إلى الخلط بين الصورة واللوحة بصفتهما تقدّمان صورًا بصرية أساسًا، ومن الطبيعي "أن تتجاهل هذه النظرة الإحساسات المتنوّعة التي تتداخل وتشارك في تشكيل مادة التصوير الشعري، ذلك أنّ مثل هذه الإحساسات لا بدّ أن تضيع عند الإلحاح على (المقارنة) بين الشعر والرسم، وما يتبع ذلك من تضخيم الدور الذي تلعبه الإحساسات البصرية، واستبعاد كلّ ما عداها أوتجاهلها، وفي هذا تضييقٌ للقدرات المتنوعة التي ينطوي عليها التصوير الشعري"(55).
تهمل هذه النظرة إذًا العناية بخيال الفنان المبدع، وتحصر عمله في نقل جزئيات العالم الخارجي في شكل صورٍ فنيّة، تعيد تمثيل مشاهد الواقع في ذهن المتلقّي، أي إنّ خيال الفنّان ما هو إلاّ تقديم الصور الحقيقية البصرية خاصة، ولم يفهم النقّاد القدماء عمومًا أنّ الأصل في العمل الإبداعي هو الفنان الخالق قبل المتلقّي، لذلك راح عبد القاهر يتحدّث في أكثر من موضع من كتابه (أسرار البلاغة) عن المتلقّي وما تثيره في خياله وإحساساته تلك الصور، التي تقدّم إليه في الشعر أو الرسم، ولعلّ تأكيده على الاستعارة والتشبيه والتمثيل راجعٌ إلى قدرة هذه الصور على إثارة خيال المتلقي، فالخيال إذًا "طريقة خاصّة في مخاطبة المخيلة، تعتمد على أن ترسم فيها صورًا ذهنية ذات خصائص حسيّة" (56).
فقد كان عبد القاهر متأثّرًا في هذه النظرة بمقولات الفلاسفة، لكنه في الواقع العملي؛ أي حين عرض للاستعارة والتشبيه بالدرس، اكتشف أنّ التخييل ليس طريقة خاصّة في مخاطبة مخيلة المتلقّي وإثارتها بالصور الحسيّة فقط، بل قدرة ذهنية تجعل الشاعر ينظر إلى أبعد مما ينظر سواه، ويكشف علاقات لم يفطن لها غيره، فالشاعر:"إنسانٌ متخيّل، والتخيّل قدرةُ ذهنية إذا عملت في رعاية عقلٍ مفرط الذكاء، دائم الوعي والجهد، انتهى صاحبها إلى ما لم ينته إليه سواه، فيتوصّل إلى إدراك اتّساق العناصر، ويكشف عن الاتفاق الكامن بين الأشياء، ومن ثمّ تتوافق الأنواع المختلفة وتتآلف الأجناس البعيدة"(57).
29 – الصورة الفنية: 341.
30 – دلائل الإعجاز: 195.
31 – المرجع السابق: 1.
32 – المرجع السابق: 269.
33 – المرجع السابق: 269.
34 – نظرية عبد القاهر في النظم: 73.
35 – المرجع السابق: 74.
36 – مقدمة في الشعر: 240.
37 – المعقول واللا معقول:254.
38 – الصورة الفنية: 392.
39 – المرجع السابق: 393.
40 – المرجع السابق:464 .
41 – المرجع السابق: 370.
42 – المرجع السابق:68.
43 – نظرية المعنى:310.
44 – دلائل الإعجاز: 26.
45 – المرجع السابق: 33.
46 – الصورة الفنية: 342.
47 – المرجع السابق:342.
48 – المرجع السابق : 341.
49 – المرجع السابق: 345.
50 – المرجع السابق:344.
51 – المرجع السابق:344.
52 – المرجع السابق:371.
53 – المرجع السابق: 376.
54 – المرجع السابق: 376.
55 – المرجع السابق: 371.
56 – المرجع السابق: .346.
57 – المرجع السابق: 226[/center][/color]
الصورة الرمزية محمد ولد افاه
التشبيه والاستعارة وعلاقتهما بالصورة عند /عبد القاهر
ربط عبد القاهر الاستعمالات البلاغية، ولاسيّما التشبيه والاستعارة، بقدرتهما على التصوير والتعبير؛ أي التقديم الحسّي للمعنوي قال: "وأوّل ذلك وأولاه وأحقّه بأن يستوفيه النظر ويتقفّاه القول على التشبيه والتمثيل والاستعارة، فإنّ هذه أصول كبيرة كان جلّ محاسن الكلام – إن لم نقل كلّها – متفرعة عنها وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها"(58).
والاستعارة: أن يكون اللفظ أصلٌ في الواقع اللغوي، تدل الشواهد على أنه اختفى به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر وغير الشاعر في غير ذلك الأصل، وهي: "ضربٌ من التشبيه، ونمطٌ من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتدركه العقول، وتستفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والأذان"(59)، فالاستعارة إذاً علاقة لغوية تقوم على المقارنة، شأنها في ذلك شأن التشبيه، لكنها "تتمايز عنه بأنها تعتمد على الاستبدال أو الانتقال بين الدلالات الثنائية للكلمات المختلفة"(60). وتنظيم الكلمات عنصرٌ مهم في جماليّات الاستعارة، لكن إدارة هذا الجمال لا يتأتّى من الكلمات بل من المعاني الخفية وراءها، فنحن في الشعر "نتطلب من الاستعمال الاستعاري أن يكون ذا نغمة داخلية" (61)، ويقوم البحث الاستعاري على فهم التنظيمات الداخلية للألفاظ المكوّنة لها.
إنّ الجمال في الاستعارة لا يتأتّى من اللفظة ذاتها، بل من النظم الذي يقع في العبارة، ذلك النظم الذي يدلّ على معنى معيّن يرجع إليه السبب في الجمال، فلا شبهة إذاً في أنّ التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع إنّما يكون الحسن فيها أو القبح:"من جهة المعنى خاصّة من غير أن يكون للألفاظ في ذلك نصيب، أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيدٌ وتصويب"(62). و إذا وجدنا ذلك أمرًا بيّنًا، لننظر إلى الأشعار التي أثنوا عليها من جهة الألفاظ، وقالوا: كأنّها الماء جريانًا، والهواء لطفًا، كقول الشاعر:
فإذا تأملنا هذه الأبيات لا نجد سبيلاً إلى مدح هذه الأبيات غير الصورة الاستعارية؛ لأنها وقعت موقعها وأصابت غرضها، وحسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرّ في الفهم، مع وقوع العبارة في الأذن، وإلاّ إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد. إنّ أوّل ما يلقانا من محاسن هذا الشعر أنّه قال:
ولما قضينا من منى كلّ حاجة
فعبّر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها، وأكّد طواف الوداع الأخير بقوله:
ومسح بالأركان من هو ماسح
وأعطى دليل المسير الذي هو قصده من الشعر، ووصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زمّ الركائب وركوب الركبان بقوله:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
ودلّ بلفظة (الأطراف) على الصفة التي يختصّ بها رفاق السفر من التصرّف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطوفين من
لإشارة والتلويح والرمز والإيحاء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه الألفة والمحبة، وتنسم عبير الأوطان والأحبة، واستماع التهاني والتحيات من الأحباب والخلاّن، وزان كل ذلك باستعارة لطيفة، أفاد منها بلطف الوحي والتنبيه، فصرّح أولاً بما أومأ إليه من الأخذ بأطراف الحديث، من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل في حال توجّههم إلى الأوطان، وأخبر بعد ذلك بسرعة السير؛ إذ جعل سلاسة السير بمسيل الماء في الأباطح، وكان في ذلك تأكيدٌ لما قبله؛ لأنّ الظهور إذا كانت وطيئة وطيدة جاء سيرها أسهل وأسرع، وزاد ذلك في نشاط الركبان، ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيبًا ثمّ قال: (بأعناق المطي)، ولم يقل (بالمطي)؛ لأنّ السرعة والبطء يظهران غالبًا
في أعناقها، ويبيّن أمرها من هواديها وصدورها، وسائر أجزائها التي تستند إليها في الحركة، وتتبعها في الثقل والخفة والمرح والنشاط.
إنّ هذا القياس ليس بقياس الشعر الموصوف بحسن الألفاظ، وإن كان لا يبعد أن يتخيّله من لا ينعم النظر، وحقّ هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني الحكمية والتشبيهية(63).
لقد توصّل عبد القاهر بهذا الأسلوب التحليلي إلى إبراز الصورة الكامنة في الأبيات، والمعنى الذي يريد إبرازه ليس الفكرة المتضمنة في الألفاظ بقدر ما هو صورة تلك الفكرة، أي معنى المعنى، إنّه يركّز في تحليله على كمال التركيب والشكل، كما يركّز على ظاهرة التكثيف والإيحاء والإيماء في الألفاظ.
إنّ النظم المحكم والمكثّف يعطي إيحاءات تشمل الأبعاد المختلفة والدلالات المتشعبة للفظة، واللفظة كمعطى حسّي تثير الخيال، وتجعله يتصوّر أبعادها الواضحة والخفية.
إنّ حسن هذه المعاني راجعٌ إلى الجمع بين أشكالٍ مختلفة في وحدة تثير الخيال وتحفز الفهم الاستيعاب، تلك الوحدة أو المعنى إنّما هي في الحقيقة الصورة التي تشكلت في العبارة، فاستعمال الاستعارة عبارةٌ عن "فكرتين اثنتين عن شيئين مختلفين، تعملان خلال كلمة أو عبارة واحدة تساندهما معًا، ومعنى هذه الكلمة أو العبارة هو الناتج عن تفاعلهما"
(64)، فالمعنى الذي ينتج عن هذا التفاعل هو الصورة التي يثيرها خيال المتلقّي، وإنّ عملية التصوير الشعري ذات علاقة بالتعبير الحسّي، وتستعمل كلمة الصورة أحيانًا "مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات، [لأنّ] فلسفة الاستعمال الاستعاري هي عينها فلسفة الفن في بعض جهاتها"
(65). فالاستعارة ليست عملية تزيين لفظي، وإنما "هي جزءٌ أساس من نظرية المعنى"
(66)، وتتطلّب دراستها النظر في طبيعة اللغة التصويرية عامّة.
وقد عُني عبد القاهر بالتشبيه قدر عنايته بالاستعارة لما رآه في هذا الباب من قدرة على تقديم المعنى بطريق ٍ حسّي يثير خيال المتلقي، والتشبيه علاقة مقارنة تجمع بين طرفين لاتحاد هما أو اشتراكهما في صفة أو حالة أو مجموعة من الصفات والأحوال، وتستند هذه العلاقة على المشابهة الحسّية أو المشابهة في الحكم أو التقصّي الذهني، وقد جعل عبد القاهر للتشبيه أصولاً ثلاثة: "أحدها: أن يؤخذ الشبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواس على الجملة للمعاني المعقولة، والثاني: أنْ يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها، إلاّ أنّ الشبه مع ذلك عقلي: والثالث: أن يؤخذ الشبه من المعقول للمقول"(67).
والتشبيه لا يكون إلاّ بين الأشياء المختلفة؛ لأنّ الأشياء المشتركة في الجنس والمتفقة في النوع تستغني بقيام الشبه وثبوته بينهما على التأمّل وإعمال الفكر؛ لإيجاده وإثباته فيها، "وإنما الصنعة والحذف والنظر الذي يلطف ويدقّ في أن تجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة، وتعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة"(68).
والتشبيه الدقيق ما كانت أجزاؤه أشدّ اختلافًا في الشكل والهيئة، ثمّ كان التلاؤم بينها مع ذلك أتمّ والائتلاف أبين، "واعلم أنّي لستُ أقول لك إنّك متى قرنت الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرطٍ ، وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس في ظاهر الأمر شبهًا صحيحًا معقولاً، وتجد للملائمة والتأليف بينهما مذهبًا وإليهما سبيلا، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحسّ"(69)،
والتشبيه سواء كان بين المحسوسات أو المعقولات يعتمد على العقل؛ أي المنطق، والشبه المعقول ما كان واضح الائتلاف بالنسبة للعقل قدر اختلافه في الواقع المحسوس. ولا ينفكّ عبد القاهر في التحرّي عن العقل في مباحثه حول النظم، لكنه لا يعني به المنطق الفلسفي بقدر ما يعني به الوضوح؛ لأنّ المنطق الفلسفي مقيّد للفن، ولذلك عدّ عبد القاهر أنّ للشعر منطقًا خاصًّا به، وتتمثّل براعة الشاعر إذًا في قدرته على إيقاع الائتلاف بين الأشياء المتباعدة المختلفة، فإنّك "إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشدّ كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحيّة أقرب"(70).
ويقدّم التشبيه هذا الائتلاف إلى المتلقّي على شكلٍ وحدةٍ فنية أو صورة تثير خياله وانفعالاته، "وذلك أنّ موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتآلف للناظر من المسرة، والموقف الأطراف المبهجة، أن ترى بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض وفي خلقة الإنسان وخلال الروض"(71).
إنّ الواقع المحسوس مركّب لا محالة، والتشبيه كعملية تقديم حسب هذا الواقع – تمعن النظر في جزئياته حتى تكون أكثر دقّة، فالشاعر ينظر في تفصيلات الواقع، ويتأملها حتى تكون صورته أكثر شمولاً ووضوحاً، "واعلم أنّ قولنا (التفصيل) عبارة جامعة، ومحصولها على الجملة أنّ معك وصفين أو أوصافاً، فأنت تنظر فيها واحدًا واحدًا، وتفصّل بالتأمّل بعضها عن بعض، وأن يكون في الجملة حاجة إلى أن تنظر في أكثر من شيءٍ واحد، وأن تنظر في الشيء الواحد إلى أكثر من جهةٍ واحدة"(72).
ويضرب الجرجاني أمثلة لتوضيح فكرته لصور متشابهة يقع بينها التفضيل، وقد أشار إلى قول بشار:
وقول المتنبي:
وقول عمرو بن كلثوم
ويرى الجرجاني أنّ بيت بشار أفضلها على الرغم من تشابه الصور فيها، لقوة الحركة فيها، واتجاه السيوف في كلّ الجهات، وتصادمها بعضها ببعض؛ وأن الشاعر قد نظم دقائق الصورة في نفسه، وأحضر صورها بلفظة واحدة هي (تهاوى)، ونبّه عليها بأحسن تشبيه وأكمله؛ لأنّ الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها، وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل، ثمّ إنّها بالتهاوي تستطيل أشكالها(73).
وهكذا يركّز عبد القاهر في تحليله على قدرة التشبيه في نقل الجزئيات والإحاطة بها من كلِّ جانب، فالصورة التشبيهية كاملة تُعنى بالتفاصيل وتبرزها لعين المتلقّي، فتثير خياله حتى يتصوّر مجمل العلاقات بين هذه الجزئيات الواضحة، الحسيّة منها والخفية التي لا تبصرها إلاّ عين الخيال. ومن المهم أن نلاحظ هنا عناية عبد القاهر بحاسّة البصر، الأمر الذي دعاه إلى عدّ خيال الشاعر يقدّم صورًا بصرية أمامنا، ومن هنا انطلقت المقابلة بين الشعر والتصوير، الصورة واللوحة.
إنّ إعجاب عبد القاهر بكلمة (تهاوى) مثلاً مردّه إلى ما تتضمنه هذه الكلمة من صور، فالكواكب حين تتهاوى تكون في هيئة حركة سريعة ومتداخلة ومتباينة الاتجاهات، كما أنّها تأخذ أشكالاً غير أشكالها الحقيقية. إن ما يزداد به التشبيه سحرًا ودقّة في نظره "أن يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركات"(74). وتأتى هذه الهيئة المقصودة في التشبيه على وجهين: "إحداهما: أن تقترن بغيرها من الأوصاف كالشكل واللون ونحوهما، والثاني: أن تجرّد هيئة الحركة حتى لا يُراد غيرها"(75). ومن الأول قول الشاعر:
والشمس كالمرآة في كفّ الأشل
وقد أراد أن يريك مع الشكل الذي هو الاستدارة، ومع الإشراق والتلألؤ على الجملة، الحركة التي تراها للشمس إذا أنعمت التأمل، ثمّ ما يحصل في نورها من أجل تلك الحركة، وذلك أنّ للشمس حركة متصلة دائمة في غاية السرعة، ولنورها، بسبب تلك الحركة، تموّج واضطراب عجيب، ولا تكتمل صورة هذا التشبيه إلاّ بأن تكون المرآة في يد الأشلّ؛ لأنّ حركتها تدور وتتصل، ويكون فيها سرعة وقلق شديد، حتى نرى المرآة لا تقرّ في العين، وبدوام الحركة وشدّة القلق فيها يتموّج نور المرآة، ويقع الاضطراب الذي يسحر الطرف، وتلك حال الشمس بعينها حين تمدّ النظر وتنفذ البصر حتى تتبيّن الحركة العجيبة في جرمها وضوئها، فإنّك ترى شعاعًا كأنّه يهمّ بأن ينبسط حتى يقبض من جوانبها، ثم يبدو فيرجع في الانبساط الذي بدأه إلى الانقباض، كأنّه يجمعه من جوانب الدائرة إلى الوسط، وحقيقة حالها في ذلك مما لا يكمل البصر لتقريره وتصويره في النفس، فضلاً عن أن تكمّل العبارة لتأديته، ويبلغ البيان كنه جودته
(76)، "وأمّا هيئة الحركة مجرّدة من كلّ وصف يكون في الجسم، فيقع فيها نوعٌ من التركيب بأن يكون للجسم حركات في جهات مختلفة... وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرّك أبعاض الجسم إليها أشدّ كان التركيب في هيئة المتحرّك أكثر"(77).
وقد أورد عبد القاهر أمثلةً كثيرة للتدليل على رأيه من الشعر والنثر، وحلّلها تحليلاً دقيقاً، وتوصّل بمثل هذه التحليلات إلى الربط بين الاستعمالات البلاغية وعملية التصوير الشعري، وقد عُني بالاستعارة والتشبيه خاصة؛ لأنهما يقدّمان المعنوي بطريق ٍ حسّي، ولأنهما يتعلقان بالخيال بصورةٍ مباشرة، فالصورة الشعرية عند عبد القاهر نتاجُ الخيال؛ أي تلك القدرة الذهنية التي تجعل الشاعر "ينظر إلى أبعد مما ينظر إليه سواه، ويكشف علاقاتٍ لم يلتفت إليها معاصروه وأسلافه"(78)، وهي كذلك طريقة خاصة في مخاطبة الخيال، خيال المتلقّي، فالصورة الشعرية تثير المتلقّي، وتجعله يعيش تجارب لا تتوافر له بدونها.
وقد تأثّر عبد القاهر بما قاله الفلاسفة عن قدرة الأقاويل الشعرية على بسط النفس وقبضها، واتّفق معهم على ردّ جانبٍ كبير من تأثير الشعر إلى قدرته على تحسين الأشياء وتقبيحها، ولذلك ذهب إلى الاهتمام بالتصويرات والتمثيلات، يهزّ الممدوحين ويحرّكهم، ويحدث ضربًا من الفتنة في نفس المتلقّي(79). ولا تنفصل الصورة الأدبية عن التفكير الكلّي الشامل، فهي "وإن لم ترتبط فيها المفردات المكانيّة والزمانيّة ارتباطًا منطقيًّا فإنّ هذا الارتباط لا يزال – ولا بدّ أن يكون – خاضعًا لمنطق الشعور"
(80). فالجمال الذي يحدثه الشعر في نفس المتلقّي مردّه إلى قدرته على خلق الوحدة والانسجام بين مظاهر الطبيعة الحسيّة المختلفة، فالتعبير الفنّي "هو وحده القادر على أن يخلق الجمال من مجموع جانبين، كلّ منهما لا يكتفي بذاته، وفي هذا الضوء نفهم كيف يحقّق الخيال صفةً عليا، هي التوازن والاعتدال، فيشيع الرضا بالانطلاق والتحرّر من جهة، والمتعة بالقالب المنسّق من جهةٍ ثانية"
(81).
وقد عدّ عبد القاهر أن للشعر منطقه الخاصّ به الذي يختلف عن منطق الفلسفة، فالجمال في الشعر لا يفهمه إلاّ صاحب ذوق وممارس للشعر، فإذا اتفق على الحقائق العلميّة فالأمر مختلف بنسبة للشعر، فالمعقول فيه هو الذوق، فمن لا ذوق له لا يُدرك ذلك الجمال؛ وقد اعتمد عبد القاهر في تحديد الصورة الأدبية على الذوق من جهة، والثقافة الواسعة المتنوعة من جهةٍ أخرى. ولعلّ ما نجده من جدل ٍ في كتابه (دلائل الإعجاز) يرجع إلى البيئة الأشعرية الكلامية التي نشأ فيها عبد القاهر، ولكنه لا يتعلّق بالفن الأدبي وتحليله بقدر ما يتعلق بالمناظرات الفكرية والمواقف، مثل موقفه من الشعر وأهميته، والنحو والألفاظ والمعاني ودورها في النظم، وهي أمورٌ تحتاج إلى الدقّة في النظر؛ لأن سبيلها الإقناع.
هوامش
58 – أسرار البلاغة: 26.
59 – المرجع السابق: 61.
60 – الصورة الفنية: 244.
61 – الصورة الأدبية: 4.
62 – أسؤاؤ البلاغة: 200.
63 – المرجع السابق: 21 – 24.
64 – نظرية المعنى: 11.
65 – الصورة الأدبية: 3 ، 6.
66 – نظرية المعنى: 84.
67 – أسرار البلاغة: 61.
68 – المرجع السابق: 136.
69 – المرجع السابق: 138 – 139.
70 – المرجع السابق: 116.
71 – المرجع السابق: 111.
72 – المرجع الساق: 152.
73 – المرجع السابق: 159 – 161.
74 – المرجع السابق: 164.
75 – المرجع السابق: 164 – 165.
76 – المجع السابق: 165.
77 – المرجع السابق: 168.
78 – الصورة الفنية: 226.
79 - المرجع السابق: 430.
80 – التفسير النفسي للأدب: 151.
81 – الصورة الأدبية: 14.