السياقُ وقرائنُ الكلام المرادَ، ويعينه من المعنيين المتضادين.
ولكن يبقى في القول باعتباطية الوضع غصة في الحلق، ولا سيما إذا قلنا إن
اللغة توقيف في أصلها الأول، وليس مواضعة (اصطلاحية)، فالذكر الحكيم صريح
في أن الله عزَّ وجلّ هو الذي علم آدم الأسماء كلها. وهل وضْع الحق جل
جلاله الألفاظ أو الأسماء ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ إزاء معانيها هو وضع
اعتباطي ليس من ورائه حكمة؟ أيمكن لنا أن نقول، أو أن نرتضي من أحد أن
يقول؟!
أما نظم الكلمات في دائرة الكلام فإن الأمر ـ عند الإمام ـ على خلاف ما
عليه نظم الحروف في الكلمة. أنت في نظم كلامك من كلمات، تولي الكلمة الكلمة
في نطقك وأدائك مقتفياً آثار المعاني، وجاعلاً ترتيبها في لسانك على حذو
ترتيبها في جنانك( ).
هو نظم تابع نظماً آخر سابقاً عليه، هو المرجوع إليه والمنظور فيه، هو نظم
المعاني في نفس المتكلم، فذلك هو الجدير بالاعتبار عند الإمام.
وهذا ما لا يملّ الإمام عبد القاهر من تكراره وتصريف البيان عنه في مواطن
عديدة، حتى يكون ذلك موطن العناية بالتأمل والمناقدة، التي لا تنتهي مع
الإنصاف والموضوعية إلا إلى التسليم به وتقريره واتخاذه ركناً ركيناً. ولذا
تسمعه في فقرة تالية يؤكِّد أنه ((ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها
في النطق، بل أن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه
العقل))( ).
والاقتضاء العقلي مجاله فيما هو موضوع الفكر والتأمل، وأنت لا تذهب وإن
بالغت إلى أنّ المتكلم منفق مكنوز فكره في الألفاظ من حيث هي أصوات تشقشق
به الألسنة، بل الأمر على غيره؛ مناط الفكر وموضوع التأمل هو المعاني
القائمة في نفس المتكلم، ومناط الفكر هو مناط النظم والترتيب والتأليف
والتركيب، فبناء الكلام في أصله بناء روحي جُوانيّ، وليس بناء حسياً
برّانيّاً منفصلاً.
ويكرر هذا عبد القاهر ويصرف بيانه عنه ليتقرر ((أنّ هذا النظم الذي يتواصفه
البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله صنعة يستعان عليها بالفكر لا
محالة. وإذا كانت مما يستعان عليها بالفكرة ويستخرج بالروية، فينبغي أن
ينظر في الفكر بماذا تلبس؟ أبالمعاني أم بالألفاظ؟ فأي شيء وجدته الذي تلبس
به فكرك من بين المعاني والألفاظ، فهو الذي تحدث فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويره …))( ).
فهو كما ترى ذاهب إلى أنّ مناط الصنعة هو مناط الفكر والتأمل، وليس ذلك إلا
فيما كان من جنسه مما يدرك بالقلوب والأرواح، وهو المعاني لا الألفاظ.
وما تراه من ترتيب في الألفاظ ليس هو ثمرة التفكير فيها، ((ولكنه شيء يقع
بسبب الأول ضرورة [أي بسبب التفكير في المعاني وترتيبها في العقل]، من حيث
إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني، فإنها لا محالة تتبع المعاني في
مواقعها. فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب لِلَّفْظ الدّال عليه
أن يكون مثله أولاً في النطق))( ). فالذي يقتضي أن تكون هذه الكلمة هنا
وتلك هناك إنما هو معنى الكلام والغرض فيه، ومن ثمّ ((لا يتصور أن يعرف
للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي
ألفاظٌ ترتيباً ونظماً.
وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تمَّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وتقوت بها آثارها.
وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في
ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة
بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها
في النطق))( ).
ومعنى هذا أنّ النظم والترتيب والتأليف والتركيب وما شاكل ذلك مما هو عمود
بلاغة الخطاب وفصاحته إنما هو نظم معان، فمناط بلاغة الخطاب معانيه وليس
ألفاظه، وما ألفاظه مرتبة ومركبة على هدي ترتيب المعاني وتركيبها إلا صورة
انعكاس ما في النفس من نظم المعاني وتركيبها.
وإذا كان الإمام مؤكداً أنك إذا ما فرغت من ترتيب معانيك في نفسك لم تحتج
إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب ألفاظك … فإن ما يعرف بالتنقيح والتحكيك عند
شعراء مدرسة "عبيد الشعر" قديماً وحديثاً إنما هو تنقيح في المعاني لا في
الألفاظ، واستبدال كلمة موضع أخرى مرده إلى المعنى لا إلى ما يحدثه
الاستبدال من توقيع صوتي لا علاقة له بالمعنى، وإنّ الشاعر الفحل لا يوقع
عدولاً في التوقيع الصوتي باستبدال كلمة إلا إذا كان باعثه معنوياً لا
صوتياً مجرداً.
ذلك مؤدى ما يذهب إليه الإمام، ولكن الذي يشهد به الواقع الإبداعي لا يسلم
بذلك على عمومه، فإن ضرباً من ترتيب الكلم واستبدالها ذاتاً وموقعاً قد
يكون مرده إلى تحقيق تناغم وتناغ لا يحدث في المعنى دغلاً.
وأمر آخر، ظاهر كلام عبد القاهر أن المتكلم في حال التفكير وإعداد معانيه
وترتيبها لا يلقي بالاً للألفاظ، وأنه يحدث فكراً مجرداً في نفسه من
الألفاظ، وهذا أمر لا يشهد به الواقع، فكل مفكّر هو مفكر باللغة، هو متكلم
في نفسه بلغة وألفاظ؛ ولذلك حين يستغرق بعض المفكرين تجده قد غلبته الألفاظ
فجرت على لسانه، فيقال إنه يكلم نفسه، والحق أنه يفكر كمثل كل من يفكر
وإنْ علا صوت تفكيره.
وأمر ثالث يترتب على نهج عبد القاهر: مؤدى كلامه أن كل مبدع لابد أن يكون
واعياً مسيطراً قاصداً معيّناً كل دقيقة في معانيه الشعرية في قصيد أو
نثير، وأن ما هو قائم في بطنه من المعاني متطابق معه، لا يزيد ولا ينقص ما
يؤخذ من بيانه، وأنه ليست شاردة ولا واردة إلا وهو بها جد عليم وجد قاصد،
وأن جهابذة النقد لا يقولون إلا ما علمه الشاعر ووعاه وقصده، وكل ما
يستخرجه النقاد من النص إنما هو بعض ما قصده الشاعر ووعاه وعلمه، وأنَّ
الشاعر هو أعلم الناس بما في رحم نصه، وكل النقاد عالة على الشاعر، ومِنْ
دونه بكثير في فقه الشعر و تأويله.
وهذا إن صححه الإمام ـ ولا أخاله فاعلاً ـ يدفعه الواقع، فإن كثيراً من
الشعراء لا يكادون يعون كثيراً من دقائق الفكر ورقائق الشعور فيما أبدعوا،
وأنهم ما لم يكونوا أئمة في النقد مثلما هم في الشعر لن يبلغوا في فقه
النّص وتأويله ما يبلغه جهابذة النقد. أيظن أن أبا الطيب المتنبي أوعى
بمعاني شعره من كل النقاد في زمانه وما جاء من بعده من أزمان؟!
وهذا يصادمه مقالة أبي الطيب في أبي الفتح : "ابن جني أعرف بشعري مني"،
ومقالته: "عليكم بالشيخ الأعور: ابن جني، فسلوه، فإنه بقول ما أردت وما لم
أرده".
ولا نكاد نعلم أن أحداً من أهل العلم بالشعر يقول إن كل شاعر أوعى بمعاني
شعره وأبصر بدقائقه ولطائفه من كافة جهابذة النقد في عصره والعصور التالية
له. ولو صحّ لكان أولى بكل شاعر أن يحلل شعره ليكفي الناس مؤونة الغوص على
معانيه.
وجملة الأمر أن القول بأنه لا صنعة إلا في المعنى (المعنى الشعري)، وأن
صنعة الشاعر في معانيه هي كل شيء، ولا شأن له هو بالصنعة في ألفاظه، فإنها
موكولة إلى معانيه، وأن المضمون (المعنى الشعري) سلطان قاهر على الشكل
(الألفاظ)، وأن كل مضمون (معنى شعري) هو المصطفي شكله (ألفاظه: إفراداً
وتركيباً وتصويراً وتحبيراً)، القول بكل ذلك لا يسلم به على عواهنه، فإنّ
فيه مقالاً للمناقدة متسِعاً.
وبقي أمر أجّلت القول فيه إلى هذا الموضع على جلاله من أنه لا يتعلق بأمر
النظم عنده في باب نقد الأدب شعراً ونثراً، ولكنه يتعلق بأمر النظم عنده في
باب أجل من باب نقد الأدب، إنه باب إعجاز القرآن:
الإمام عبد القاهر جاعل النظم نظم معان في النفس وترتيب لها في العقل، وأن
ترتيب الألفاظ ليس مجال الصنعة، فالنظم الذي هو عمود بلاغة الخطاب مجاله
ومناطه المعاني القائمة في النفس. وهو لا يفرق في هذا بين
النظم في بيان القرآن الكريم والنظم في الإبداع الأدبي، ونحن وإن لم
نعارضه بالقول بالمعاني النفسية في شأن كلام البشر لما يراه الواحد من نفسه
حيث يعد معانيه في نفسه إعداداً لا ينفصل عن استخدام اللغة أيضاً، فنحن
إنما نفكر بالكلمات ولا وجود للمعاني مجردة من الألفاظ في أي طور، سواء في
وجودها النفسي في داخل الصدر، أو في وجودها اللساني، حيث تتلقاها الآذان
سارية في الألفاظ المركبة سريان الروح في أعضاء الجسد، لا يعرف لها فيها
مكان متعين.
أما القول بهذا في نظم البيان القرآني، وأنه نظم في المعاني النفسية أولاً،
فذلك مردود على الإمام عبد القاهر رداً لا يعرف هوادة ولا تريثاً. القول
بالمعنى النفسي في بيان الحق عز وجل لا نسلم لأحد به أبداً، فهو فرية وقول
على الله عز وجل بغير علم ولا سند من كتاب وسنة. ومثل هذا لا اجتهاد فيه،
بل هو مما يتوقف فيه مع النصّ: القرآن والسنة.
والرأي القويم الذي لا غيره، أن كلام الله تعالى حقيقي بحرف وصوت ليس كمثله
كلام العالمين، وآيات القرآن الكريم قاطعة بأن كلام الله ليس كلاما
نفسياً، كما تذهب بعض الفرق من أنه كلام
نفسي لا لفظي، وأنه المعنى القائم بذاته، ليس له بعض ولا عدد، وأنه ليس من
جنس الحروف والأصوات، وما نسمعه من تلاوة القرآن إنما سميت عباراته كلام
الله لدلالتها عليه، وهى مخلوقة، أما النفسي فغير مخلوق …
كل ذلك غير قويم فليس هناك كلامان: كلام نفسي وكلام لفظي بالنسبة لله
تعالى، وأنّ الأول منه قديم غير مخلوق والآخر مخلوق. بل كلام الله واحد، هو
من صفات كماله، يتكلم به بحرف وصوت كما يشاء وكيف شاء ومتى شاء، ليس كمثله
كلام أحد من العالمين. وهو الذي يقول: {وكلّم الله موسى تكليماً}
[النساء]، فهذا التأكيد دال دلالة بينة على أن تكليمه حقيقة بحرف وصوت،
سمعه موسى ـ عليه السلام ـ بإسماع الحق إياه، فالمصدر "تكليما" قرينة قاهرة
على أنه كلام حقيقي مسموع بحرف وصوت، وليس معنى نفسياً قائماً بذاته.
فأساس حقيقة نظم الكلام التي بنى عليها عبد القاهر مذهبه لا تستقيم له في
بيان نظم القرآن الكريم الذي هو أساس إعجازه عنده، وكان عليه أن يفرق بين
حقيقة النظم في بيان الخلائق وبيان النظم في بيان الوحي. وكنت على ألا
أعرض لهذا هنا، فإن مجاله القول في بلاغة القرآن ونظمه، وليس مجاله القول
في النظم في بيان البشر، حيث القول هنا معقود لمنـزلة نظرية النظم في نقد
النصوص الإبداعية، ولكني رغبت البيان وفاء بحق العلم وإعلاء له على حق آداب
البحث والمناظرة
مفهوم النظم عند الإمام عبد القاهر:
إذا ما كان الإمام عبد القاهر قد ذهب إلى أن مناط النظم هو مناط الفكر
والتأمل والصنعة، وهو المعاني لا الألفاظ، وأن الألفاظ ما هي إلا تابعة في
نظمها وترتيبها وتأليفها وتركيبها لمعانيها، وكان ذلك النظم الواقع أولاً
في المعاني المكنونة المنسوقة في الصدور، فإن الإمام يعمد إلى بيان هذا
النظم وعياره الذي قد أجمع العلماء على أنه ((لا فضل مع عدمه، ولا قدر
للكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه (أي أغراضه ومواده
الأولية) ما بلغ. وبتَّهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلا به،
وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال))( ).
وهذا يجعله جديراً بأن يُعنى بكشف جوهره وحقيقته وهويّته، وأن يردد هذا
ويكرر ويصرف البيان المصور له، وذلك ما كان من الإمام عبد القاهر. عمد إلى
تحرير مفهوم النظم وتقريره بأنه ((ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي
يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا
تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها))( ).
وتراه يصرف البيان عن ذلك المفهوم في مواطن عديدة منها: ((النظم هو توخي
معاني النحو في معاني الكلم، وأن توخيها في متون الألفاظ محال))( )، وقوله:
((النظم … عبارة عن توخي معاني النحو في معاني الكلم))( ).
وقوله: ((فإذا بطل أن يكون الوصف الذي
أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه( )، لم يبق إلا أن يكون في النظم …
وإذا ثبت أنه في "النظم" و"التأليف"، وكنَّا قد علمنا أن ليس "النظم" شيئاً
غير توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بين
الكلم، وأنّا إن بقينا الدَّهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً
ينظمها، وجامعاً يجمع شتاتها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي
معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كل محال دونه ـ فقد بان وظهر أن
المتعاطي القول في النظم والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه، وهو لا يعرض
فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها، ولا يسلك إليه
المسالك التي نهجناها: في عمياء من أمره … ذلك لأنه إذا كان لا يكون
"النظم" شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما يبين الكلم، كان من أعجب
العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزية في "النظم"، ثمَّ لا يطلبها في معاني
النحو وأحكامه التي النظم عبارة عن توخيها فيما بين الكلم))( ).
وقوله: ((النظم ـ كما بيَّنا ـ إنما هو توخي معاني النحو وأحكامه وفروقه
ووجوهه، والعمل بقوانينه وأصوله، وليست معاني النحو معاني ألفاظ فيتصور أن
يكون لها تفسير))( ).
((هذا وأمر النظم في أنه ليس شيئاً غير توخي معاني النحو فيما بين
الكلم، وأنك ترتب المعاني أولاً في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في
نطقك، وأنا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني لم يتصور أن يجب فيها نظم
وترتيب، في غاية القوة والظهور))( ).
وقوله: ((ما أظن بك أيها القارئ لكتابنا ـ إن كنت وفيته حقه من النظر
وتدبرته حق التدبر ـ إلا أنك قد علمت علماً، أبى أن يكون للشك فيه نصيب،
وللتوقف نحوك مذهب، أنْ ليس "النظم" شيئاً إلا توخي معاني النحو وأحكامه
ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلـم، وأنك قد تبينت أنه إذا رُفع معاني النحو وأحكامه مما بين
الكلم حتى لا تُراد فيها في جملة ولا تفصيل، خرجت الكلم المنطوق ببعضها في
إثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر، عن أن يكون لكونها في مواضعها
التي وضعت فيها موجب ومقتضٍ، وعن أن يتصـور أن يقال في كلمة منها إنها
مرتبطة بصاحبة لها، ومتعلقة بها، وكائنة بسبب منها، وأنَّ حُسْنَ تصورك
لذلك، قد ثَبَّتَ فيه قدمك …))( ).
((فإذا ثبت الآن أنْ لاشك ولا مرية في أن ليس "النظم" شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين
معاني الكلم، ثبت من ذلك أنّ طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم
يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنه مَعْدنُه
ومَعَانه، وموضعه ومكانه، وأنَّه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه
فيما عداها غارّ نفسه بالكاذب من الطمع …))( ).
كرر عبد القاهر وصرف البيان في شأن مفهوم النظم عنده، حتى تتقرر حقيقته
وأهميته، ويتبين مناطه ومعانه، فلا يختلط في وهم أنه كمثل نظم الحروف في
الكلمة، أو مجرد ضم كلمة إلى أخرى كيف جاء، أو هو النظم المقابل للنثر، أو
هو النظم أي الطريقة التي اختص بها القرآن في تبويب بيانه على غير ما عهدت
العرب من أجناس القول: القصيدة والرسالة والخطبة، وما يعرف في المصطلح
النقدي العصري بالأجناس الأدبية، على نحو ما أشار إلى مثله الباقلاني (ت
403هـ). من أن القرآن جاء نظمه على غير المعهود من نظم الكلام عند العرب،
التي هي أعاريض الشعر، والنثر الموزون غير المقفى، والنثر المسجع، والنثر
المرسل …
فعبد القاهر كرر وصّرف حتى يتبين الأمر، وأن النظم عنده غير الذي عند كثير،
وأدرك أنه بالغ في هذا، فإنه يشكو حال الناس في هذا على الرغم من التكرير
والترديد. يقول: ((واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبْدأنا فيه
من أنه لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين
الكلم، قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن
تكون الزيادة عليه كالتكليف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تتنازع إلى تتبع
كل ضرب من الشبهة، يُرى أنه يعرض للمسلم نفسَه عند اعتراض الشك))( ).
ومن بعد ذلك البسط في تتبع مواقع بيان الإمام حقيقة النظم عنده، فإنَّ بي
حاجة إلى النظر في تفسيره مفهوم النظم الذي حرّره بقوله أولاً: ((ليس النظم
إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو …))( ). يقرِّر الإمام أن
النظم هو عمود نسج مفردات اللغة كلاماً. فوضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم
النحو هو إخراج النسيج الكلامي من مواد اللغة إخراجاً يقتضيه نهج ونحو
الإيجاد الوظيفي للغة التي يرثها الخلف عن السلف.
والمتكلم هو الواضع لصورة النسيج الكلامي والمقيم لبنائه، ولذلك تسمعه يقول
لك: "تضع كلامك"، فأنت أيها المتكلم الواضع لكلامك، وليس أجدادك. أنت لم
ترث عنهم صوت النسيج الكلامي، أنت ورثت عنهم مفردات ذات أصوات ومعانٍ
إفرادية لا تتفاضل، وهى مطروحة في مراقدها (المعاجم) متاعاً مباحاً لكل
ناطق بلسان العربية، وأنت ورثت عنهم الأنماط التركيبية المجردة التي لا
ترتبط بأي ضرب من ضروب البيان اللساني في العربية إن شعراً وإن نثراً. تلك
الأنماط التجريدية للتراكيب، التي يعلم المتكلمون الأصول الكلية لبنية
الجملة الفعلية مثلاً، والإمكانات التي تحتملها تلك البنية، أيّاً كانت
معانيك وأغراضك ومقاصدك وسياقات القول. وهي التي تعرف بأصول علم النحو، أي
نحو العربية ونهجها في بناء الكلام. أنت ترث هذين عن أجدادك ولا فضيلة لك
على غيرك في هذا إلا بمقدار علمك بها، ومدى إحاطة هذا العلم بكافة الأصول
والإمكانات التي تحتملها تلك الأنماط التجريدية للتراكيب، وكل هذا وإن بلغت
فيه المدى لن يدخلك في عداد البلغاء، ولا في عداد المتكلمين الذين يستمع
إليهم، فقد يكون المرء هو المحيط الواعي لكثير من مفردات العربية، ولكثير
أو لكل الأنماط التجريدية للتراكيب في علم نحو العربية، والإمكانات التي
يحتملها كل تركيب، ثم هو برغم من ذلك عيي لا يبين، ولا يشار إليه، ولا
يستمع إليه في باب البيان.
يقول الإمام: ((واعلم أنّا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق
والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن
يُصنع فيها، فليس الفضل للعلم بأنَّ "الواو" للجمع، و"الفاء" للتعقيب بغير
تراخ، و"ثمَّ" له بشرط التراخي، و"إنْ" لكذا، و"إذا" لكذا، ولكن لأن يتأتى
لك إذا نظمت شعراً وألفت رسالة أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك
موضعه))( ).
فالمواضعة الموروثة القائمة في المفردات (صوتاً ومعنى) وفي الأنماط
التجريدية للتراكيب لا بد أن تصاحبها مواضعة ذاتية في المتكلم، تتنوع بتنوع
المتكلمين وإمكاناتهم وأدواتهم وثقافاتهم وطباعهم، وهي مواضعة ليست حرة
طليقة لا مرجع لها تنضبط به، بل هي مواضعة ذات حرية ناظرة بعين الرعاية
أصولاً موروثة، هي ما يعرف بأصول علم النحو، هي الأنماط التجريدية للتراكيب
والإمكانات التي تحتملها تلك الأنماط.
هذه المواضعة الذاتية هي وضع المتكلم كلامه الوضع الذي يقتضيه علم النحو،
وعلم النحو يقتضي أصولاً كلية لأنماط تجريدية للتراكيب ذات إمكانات
احتمالية مصحوبة بقرائن مثالية أو مقامية هادية سواء السبيل، لفهم المراد
والمعنى والغرض المنصوب له الكلام، وفاء بحق السامع في أن تطرق له السبل
إلى المعاني والأغراض حتى لا يؤتى من سوء إفهام الناطق.
أنت ـ أيها المتكلم ـ تضع كلامك وليس أجدادك، لأنه كلامك أنت، لكنك تبقى
معنياً في وضعك كلامك بصلة رحمه، بأن تضعه الوضع الذي يقتضيه علم النحو،
الذي ورثته عن أسلافك، وكان فريضة عليك استثمار ما ورثت.
إذا ما كانت المفردات أصواتاً وصوراً ومعاني إفرادية إنما هي مواضعة
موروثة، لا يتأتى لنا الانعتاق منها، وكانت ـ أيضاً ـ الأنماط التجريدية
للتراكيب موروثة، إذ هي أصول كلية تجريدية لنحو ومسلك ومنهج الإبانة، لا
ترتبط بمعنى معين ولا غرض محدد ولا سياق مقيد، فلا دخل للمتكلم فيها إذ هو
يرثها، وكل ذلك لا يحيل مفردات اللغة إلى كلام ينتسب إلى صاحبه ـ إذا كان
ذلك فنحن لا نتمرد على الألفاظ التجريدية للتراكيب التي هي الأصول الكلية
لعلم النحو مثلما لا نتمرد على مفردات اللغة، في صورتها الصوتية وما تدل
عليه من معان إفرادية دلالة إجمالية، وكذلك لا نتعبَّد بهذه الأنماط تعبداً
حرفياً، بل نستهدي بها، ونضع كلامنا على هدي ما تقضي به أصولها.
المتكلم بوضعه هذا هو صاحب مواضعة خاصة لا تكاد تتكرر مع غيره، بل لا تكرر
مع نفسه، فهو دائم المواضعة، وهي مواضعة تنبثق من رؤيته المعرفية بخصائص
المواضعة الأولى الموروثة من جهة، ومن ملكته الذاتية في الامتداد والتجاوز
المنضبط المحسوب المثمر خصوصية الإبانة عن الذات القائلة.
ومن ثمَّ نسمع الإمام يقول: "وتعمل على قوانينه وأصوله"، فهو يجعل مواضعة
المتكلم عملاً على قوانين: أي استعلاء اهتداء وتمكن واستثمار، وليس استعلاء
تمرد وثورة، فهذه الكلمة "على" ذات دلالة غنية حميدة. وفي موطن آخر يقول:
"والعمل بقوانينه وأصوله"( )، فهذه "الباء" في "بقوانينه" دالة على
المصاحبة والتمكن، ففيها دعوة إلى التمكن من تلك القوانين والأصول، تمكن
معرفة بالمناهج والمسالك التي نهجت وسلكت، يمنح صاحبه الاقتدار على استبصار
الآماد التي تمتد إليها، والاقتدار على أن يحذو على لاحبها.
والمتكلم في هذه المواضعة حافظ الرسوم والحدود التي رسمت وحُدَّت، فلا
يُخلُّ بشيء منها، ولا يزيغ عنها ولا يخرج، فإن في الإخلال بهذه قطع سبيل
التواصل بينه وبين السامعين، مما يجعل كلامه عقيماً لا يثمر. فالرسوم هي
المعالم الدّالة على منهاج المتكلم في تركيب رموزه الدّالة على مكنون صدره،
وعلى ضوء هذه المعالم يحلل السامع ذلك التركيب لينفذ من تفكيكها إلى ما هو
مكنون من المعاني والمقاصد، فالمتكلم ذو منهج تركيبي والسامع ذو منهج
تحليلي تفكيكي، وإذا لم يتواصلا في اتحاد النحو تركيباً وتفكيكاً، فلن يكون
فعل المتكلم إلا عقيماً، ولن يجني السامع من فعله شيئاً. ومن ثمَّ كان
لابد أن يكون هنالك نهج متفق عليه بين
المتكلم مركِّباً والسامع مفكِّكاً، فإذا لم يكن لم يك تواصل ألبتة. ولذا
يبين الحق عزَّ وجل أنه ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم: {وما
أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}، فانظر قوله "بلسان" وهي كلمة
تحمل دلالة على خصوصية الأداء، فاللسان أخص من اللغة، ولذلك لما كان سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم ليس خاصاً بقريش لم يكن لسانه محصوراً في لسان
قريش، بل كان يكلم كل قبيلة من قبائل العرب بلسانها. فآدم عليه السلام علمه
الله تعالى الأسماء كلها: {وعلَّم آدم الأسماء كلها}، وسيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم علمه الله تعالى ألسنة العرب كلها، ولعل هذا داخل في قول
الله تعالى: {وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}.
الإمام عبد القاهر غير داع هنا المتكلم إلى الاستكانة إلى سلطان مواضعات
نحو البناء اللغوي الموروث، فهذا السلطان هو أشبه بسلطان الشيطان على
الإنسان: وهم يستكين إليه الطغام من الناس استهواءً واستخذالاً: {وما كان
لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}.
الإمام يدعو المتكلم إلى أن يعمل هو على قوانين علم النحو وأصوله، وقوانين
كل شيء: مقاييسه، وكل مقياس مرهون بطبيعة وأحوال وغايات ما يقاس، مما يجعل
المقايسة في نفسها ذات أنهاج متجاوبة مع ما يقاس وأحواله. والمقايسة في
نفسها تقديراً على مثال والأمثلة تتشابه ولا تتناسخ.
والعمل على أصول علم نحو بناء الكلام لا يعنى الإخلاد إليها، فإنّ لكل أصل
فروعاً وأغصاناً وأفناناً منبثقة منه، ولكنها ليست هي بل هي منها، فلعلم
النحو أصول وفروع، والعمل بالأصول فريضة واستثمار الفروع قربة، ومن ثمَّ
يتحقق للمتكلم الاقتدار على مواكبة مقتضيات المقامات والمسافات التي تحيط
به وبمعانيه وأغراضه ومقاصده.
وعبد القاهر يبين في موطن آخر أن العمل على قوانين علم النحو وأصوله هو توخي معاني النحو فيما بين معاني الكلم( )، ومعاني النحو ليست هي علامات الإعراب رفعاً للفاعل ونصباً للمفعول وجراً للمضاف إليه، فذلك لا مجال فيه للمفاضلة بين أحد. فامرؤ القيس في هذا لا يفضل أبا العتاهية مثلاً.
معاني النحو هي العلاقات الروحية التي تقوم بين
معاني الكلمات، على اختلاف صورها وامتداد سياقاتها، بدأ من ركني الجملة
"المسند إليه والمسند"، وانتهاء بسياق الفقرة والمعقد والنص. وهذه العلاقات
الروحية هي الوجوه التي يتصور بها المعنى، والضروب التأليفية بين
معاني الكلمات بكل ما تحمله كلمة (تأليف) من دلالة على التعالق، وهذه
العلاقات ذات أنماط تركيبية لا تتناهى، يطلق عليها عبد القاهر الوجوه
والفروق النحوية.
فالنظم توخي العلاقات الروحية بين معاني
الكلمات، ومعاني الكلمات لا يراد بها المعاني الإفرادية الموضوعة إزاء
الكلمة فحسب، بل معنى الكلمة في وجودها البياني (الكلام) من رافدين، الأول:
المعنى المعجمي الوضعي، والآخر: الوظيفة التركيبية من حيث هي فاعل أو
مفعول أو غير ذلك. قولنا: "زيد منطلق" مثلاً، المعنى النحوي فيه هو العلاقة
التي بين معنى "زيد" من حيث هو علم على
شخص متعين معلوم للسامع ومن حيث هو مراد الإخبار عنه من قبل المتكلم
بالانطلاق وإسناده إليه، وبين معنى "منطلق" من حيث هو اسم على حدث متعين
معلوم للسامع أيضاً مواضعة، ومن حيث هو مراد الإخبار به عن زيد ومسنداً
إليه وتقريراً لوقوعه منه.
تتنوع هذه العلاقات الروحية بين معنى
"زيد"، ومعنى "منطلق" تنوعاً لا يكاد يحصر، ولكنه تنوع على أصول وقوانين
كلية لا تخرج عنها أي وجه أو فرق تركيبي. ولذلك تجد عبد القاهر يذكر لهذه
العلاقة بين "زيد" و"الانطلاق" ثمانية
وجوه: "زيد منطلق"، و"زيد ينطلق"، و"ينطلق زيد"، و"منطلق زيد"، و"زيد
المنطلق"، و"المنطلق زيد"، و"زيد هو المنطلق"، و"زيد هو منطلق". كل هذه
الأنماط التركيبية (الوجوه والفروق) منبثقة من أصل قائم فيها جميعاً هو
إثبات وقوع فعل هو الانطلاق من شخص متعين هو زيد. ويبقى لكل وجه ونمط
تركيبي خصوصية في الدلالة على معنى زائد على ما هو قائم في جميع هذه
الأنماط التركيبية.
هذا المعنى الزائد المتنوع بتنوع النمط التركيبي هو مناط المفاضلة، أما
المعنى الأول الذي هو إثبات وقوع فعل، هو الانطلاق، من شخص متعين، هو زيد،
فذلك لا تفاضل فيه بين أحد لأنه ثمرة نمط
تركيبي موروث. والمتكلم يضع كلامه في صورة من هذه الصور الثمانية على وفق
الأصل التركيبي المجرد الموروث (إسناد المسند إلى المسند إليه في سياق
الإثبات).
فانطلاق زيد معنى يمكن للمتكلم إيراده في وجوه تصويرية عديدة، وجميعها سواء
من حيث الصحة الإعرابية، ومن حيث الأخذ بالنمط التجريدي الموروث، الذي
دعامته الإسناد في حيز الإثبات بين شيئين:
مسند إليه ومسند. ومن ثمّ يقرر الإمام عبد القاهر أن المتكلم البليغ لا
يقيم عبارته على أي نمط تجريدي بل ينظر في وجوه كل باب وفروقه، وهي وجوه
تصويرية. وبلاغته في أن يعرف لكل من هذه الوجوه موضوعه ويجيء به في كلامه
حيث ينبغي له.
فبلاغته ليست في إسناد الانطلاق إلى زيد في سياق الإثبات على أي نحو من
الأنحاء، بل بلاغته في أن يتوخى الوجه التركيبي المتاح لنمط ذلك الإسناد
وفق ما يُرمى إليه، وما يقتضيه المقام الذي يبين فيه.
فحيناً تكون بلاغته في أن يقول: "زيد منطلق"، وحيناً يكون قوله هنا غير
بليغ، بل البليغ أن يقول: "زيد ينطلق"، و"زيد هو المنطلق" … فلابد أن يعرف
الفروق بين كلٍّ، ومدى ملاءمة كل وجه لما يرمي إليه وما يسوق كلامه على لاحبه …
والإمام عبد القاهر لا يقصر الوجوه والفروق على وجوه إثبات المعنى لشيء في
دائرة الجملة، بل هو يجعلها شاملة أدق شيء من نحو حروف المعاني: ((ينظر في
الحروف التي تشترك في المعنى ثم يتفرد لكل واحد منها بخصوصية في ذلك
المعنى، فيضع كلاً من ذلك في خاص معناه …))( ). ويمتد بها إلى علائق الجمل
وما يكون بينها من وصل وفصل، وهو باب يبدأ بعلاقات الجمل النحوية ليمتد إلى
ما هو حاوٍ عشرات الجمل النحوية مما يعرف بالفقر والمعاقد والفصول، من نحو
ما يعرف عند البلاغيين بعطف القصة على القصة.
وغير ذلك كثير مما ذكر الإمام، إذ يقول: ((ويتصرف في التعريف والتنكير،
والتقديم والتأخير، في الكلام كله (كذا)، وفي الحذف والتكرار والإضمار
والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له))(
). قوله: "في الكلام كله" فسيحة المدى، فإذا كان التعريف والتنكير مرهوناً
بدائرة الكلمة، فإن التقديم والتأخير يبدأ بالكلمة، لكنه يشمل الفصل
والمعقد من النص، ولو مُدّ الدرس النقدي لأسلوب التقديم والتأخير في النص
الأدبي إلى مواقع معاقد الكلام تقديماً وتأخيراً لكان حميداً، ولكان
منبثقاً من قضية النظم أيضاً. ومثل هذا "الحذف" إن كان يبدأ بحذف حرف من
حروف المباني كما نراه في حذف نون مضارع "كان" المجزوم، فهو حذف مما يرمى
به إلى معنى هو عنصر في بناء المعنى الكلي للصورة، فإنه يمتد إلى النظر في
حذف فصول ومعاقد في بناء النص. وهذا تراه واضحاً جداً في أسلوب الحذف في
البيان القرآني حيث تطوى أحداث كثيرة لو ذكرت لكانت معقداً، ومن نحو ما
تراه من حذف لأحداث جرت ما بين قول الشاعر:
"ولما قضينا من منى كل حاجة.." وقوله: "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، فقد
طوى الشاعر أحداثاً وقعت في أزمان ممتدة وأماكن متفاسحة، على المتلقي
تصورها وأن تذهب نفسه في استحضارها وتخيلها كل مذهب، كما يقول أهل العلم في
مثل هذا.
وقوله: "فيصيب بكل من ذلك مكانه"، الصواب هنا أن يصيب المتكلم بالنمط
التصويري موضعه ويضعه في حقه، وذلك لا يتحقق له إلا إذا كان عليما بحال كل
نمط تصويري: ما يدل عليه، وما يليق به من السياقات والمقامات والأغراض
والمقاصد.
وجملة الأمر أن الإمام يقرر أهمية النظم في بلاغة الخطاب ويجملها في قوله:
((فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً( )، وخطؤه إن كان خطأ إلى
النظم يدخل هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع
في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما
ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه
إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى
معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من
أبوابه))( ).
ولكن يبقى في القول باعتباطية الوضع غصة في الحلق، ولا سيما إذا قلنا إن
اللغة توقيف في أصلها الأول، وليس مواضعة (اصطلاحية)، فالذكر الحكيم صريح
في أن الله عزَّ وجلّ هو الذي علم آدم الأسماء كلها. وهل وضْع الحق جل
جلاله الألفاظ أو الأسماء ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ إزاء معانيها هو وضع
اعتباطي ليس من ورائه حكمة؟ أيمكن لنا أن نقول، أو أن نرتضي من أحد أن
يقول؟!
أما نظم الكلمات في دائرة الكلام فإن الأمر ـ عند الإمام ـ على خلاف ما
عليه نظم الحروف في الكلمة. أنت في نظم كلامك من كلمات، تولي الكلمة الكلمة
في نطقك وأدائك مقتفياً آثار المعاني، وجاعلاً ترتيبها في لسانك على حذو
ترتيبها في جنانك( ).
هو نظم تابع نظماً آخر سابقاً عليه، هو المرجوع إليه والمنظور فيه، هو نظم
المعاني في نفس المتكلم، فذلك هو الجدير بالاعتبار عند الإمام.
وهذا ما لا يملّ الإمام عبد القاهر من تكراره وتصريف البيان عنه في مواطن
عديدة، حتى يكون ذلك موطن العناية بالتأمل والمناقدة، التي لا تنتهي مع
الإنصاف والموضوعية إلا إلى التسليم به وتقريره واتخاذه ركناً ركيناً. ولذا
تسمعه في فقرة تالية يؤكِّد أنه ((ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها
في النطق، بل أن تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه
العقل))( ).
والاقتضاء العقلي مجاله فيما هو موضوع الفكر والتأمل، وأنت لا تذهب وإن
بالغت إلى أنّ المتكلم منفق مكنوز فكره في الألفاظ من حيث هي أصوات تشقشق
به الألسنة، بل الأمر على غيره؛ مناط الفكر وموضوع التأمل هو المعاني
القائمة في نفس المتكلم، ومناط الفكر هو مناط النظم والترتيب والتأليف
والتركيب، فبناء الكلام في أصله بناء روحي جُوانيّ، وليس بناء حسياً
برّانيّاً منفصلاً.
ويكرر هذا عبد القاهر ويصرف بيانه عنه ليتقرر ((أنّ هذا النظم الذي يتواصفه
البلغاء، وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله صنعة يستعان عليها بالفكر لا
محالة. وإذا كانت مما يستعان عليها بالفكرة ويستخرج بالروية، فينبغي أن
ينظر في الفكر بماذا تلبس؟ أبالمعاني أم بالألفاظ؟ فأي شيء وجدته الذي تلبس
به فكرك من بين المعاني والألفاظ، فهو الذي تحدث فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويره …))( ).
فهو كما ترى ذاهب إلى أنّ مناط الصنعة هو مناط الفكر والتأمل، وليس ذلك إلا
فيما كان من جنسه مما يدرك بالقلوب والأرواح، وهو المعاني لا الألفاظ.
وما تراه من ترتيب في الألفاظ ليس هو ثمرة التفكير فيها، ((ولكنه شيء يقع
بسبب الأول ضرورة [أي بسبب التفكير في المعاني وترتيبها في العقل]، من حيث
إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني، فإنها لا محالة تتبع المعاني في
مواقعها. فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب لِلَّفْظ الدّال عليه
أن يكون مثله أولاً في النطق))( ). فالذي يقتضي أن تكون هذه الكلمة هنا
وتلك هناك إنما هو معنى الكلام والغرض فيه، ومن ثمّ ((لا يتصور أن يعرف
للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي
ألفاظٌ ترتيباً ونظماً.
وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تمَّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وتقوت بها آثارها.
وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً في
ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة
بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها
في النطق))( ).
ومعنى هذا أنّ النظم والترتيب والتأليف والتركيب وما شاكل ذلك مما هو عمود
بلاغة الخطاب وفصاحته إنما هو نظم معان، فمناط بلاغة الخطاب معانيه وليس
ألفاظه، وما ألفاظه مرتبة ومركبة على هدي ترتيب المعاني وتركيبها إلا صورة
انعكاس ما في النفس من نظم المعاني وتركيبها.
وإذا كان الإمام مؤكداً أنك إذا ما فرغت من ترتيب معانيك في نفسك لم تحتج
إلى أن تستأنف فكراً في ترتيب ألفاظك … فإن ما يعرف بالتنقيح والتحكيك عند
شعراء مدرسة "عبيد الشعر" قديماً وحديثاً إنما هو تنقيح في المعاني لا في
الألفاظ، واستبدال كلمة موضع أخرى مرده إلى المعنى لا إلى ما يحدثه
الاستبدال من توقيع صوتي لا علاقة له بالمعنى، وإنّ الشاعر الفحل لا يوقع
عدولاً في التوقيع الصوتي باستبدال كلمة إلا إذا كان باعثه معنوياً لا
صوتياً مجرداً.
ذلك مؤدى ما يذهب إليه الإمام، ولكن الذي يشهد به الواقع الإبداعي لا يسلم
بذلك على عمومه، فإن ضرباً من ترتيب الكلم واستبدالها ذاتاً وموقعاً قد
يكون مرده إلى تحقيق تناغم وتناغ لا يحدث في المعنى دغلاً.
وأمر آخر، ظاهر كلام عبد القاهر أن المتكلم في حال التفكير وإعداد معانيه
وترتيبها لا يلقي بالاً للألفاظ، وأنه يحدث فكراً مجرداً في نفسه من
الألفاظ، وهذا أمر لا يشهد به الواقع، فكل مفكّر هو مفكر باللغة، هو متكلم
في نفسه بلغة وألفاظ؛ ولذلك حين يستغرق بعض المفكرين تجده قد غلبته الألفاظ
فجرت على لسانه، فيقال إنه يكلم نفسه، والحق أنه يفكر كمثل كل من يفكر
وإنْ علا صوت تفكيره.
وأمر ثالث يترتب على نهج عبد القاهر: مؤدى كلامه أن كل مبدع لابد أن يكون
واعياً مسيطراً قاصداً معيّناً كل دقيقة في معانيه الشعرية في قصيد أو
نثير، وأن ما هو قائم في بطنه من المعاني متطابق معه، لا يزيد ولا ينقص ما
يؤخذ من بيانه، وأنه ليست شاردة ولا واردة إلا وهو بها جد عليم وجد قاصد،
وأن جهابذة النقد لا يقولون إلا ما علمه الشاعر ووعاه وقصده، وكل ما
يستخرجه النقاد من النص إنما هو بعض ما قصده الشاعر ووعاه وعلمه، وأنَّ
الشاعر هو أعلم الناس بما في رحم نصه، وكل النقاد عالة على الشاعر، ومِنْ
دونه بكثير في فقه الشعر و تأويله.
وهذا إن صححه الإمام ـ ولا أخاله فاعلاً ـ يدفعه الواقع، فإن كثيراً من
الشعراء لا يكادون يعون كثيراً من دقائق الفكر ورقائق الشعور فيما أبدعوا،
وأنهم ما لم يكونوا أئمة في النقد مثلما هم في الشعر لن يبلغوا في فقه
النّص وتأويله ما يبلغه جهابذة النقد. أيظن أن أبا الطيب المتنبي أوعى
بمعاني شعره من كل النقاد في زمانه وما جاء من بعده من أزمان؟!
وهذا يصادمه مقالة أبي الطيب في أبي الفتح : "ابن جني أعرف بشعري مني"،
ومقالته: "عليكم بالشيخ الأعور: ابن جني، فسلوه، فإنه بقول ما أردت وما لم
أرده".
ولا نكاد نعلم أن أحداً من أهل العلم بالشعر يقول إن كل شاعر أوعى بمعاني
شعره وأبصر بدقائقه ولطائفه من كافة جهابذة النقد في عصره والعصور التالية
له. ولو صحّ لكان أولى بكل شاعر أن يحلل شعره ليكفي الناس مؤونة الغوص على
معانيه.
وجملة الأمر أن القول بأنه لا صنعة إلا في المعنى (المعنى الشعري)، وأن
صنعة الشاعر في معانيه هي كل شيء، ولا شأن له هو بالصنعة في ألفاظه، فإنها
موكولة إلى معانيه، وأن المضمون (المعنى الشعري) سلطان قاهر على الشكل
(الألفاظ)، وأن كل مضمون (معنى شعري) هو المصطفي شكله (ألفاظه: إفراداً
وتركيباً وتصويراً وتحبيراً)، القول بكل ذلك لا يسلم به على عواهنه، فإنّ
فيه مقالاً للمناقدة متسِعاً.
وبقي أمر أجّلت القول فيه إلى هذا الموضع على جلاله من أنه لا يتعلق بأمر
النظم عنده في باب نقد الأدب شعراً ونثراً، ولكنه يتعلق بأمر النظم عنده في
باب أجل من باب نقد الأدب، إنه باب إعجاز القرآن:
الإمام عبد القاهر جاعل النظم نظم معان في النفس وترتيب لها في العقل، وأن
ترتيب الألفاظ ليس مجال الصنعة، فالنظم الذي هو عمود بلاغة الخطاب مجاله
ومناطه المعاني القائمة في النفس. وهو لا يفرق في هذا بين
النظم في بيان القرآن الكريم والنظم في الإبداع الأدبي، ونحن وإن لم
نعارضه بالقول بالمعاني النفسية في شأن كلام البشر لما يراه الواحد من نفسه
حيث يعد معانيه في نفسه إعداداً لا ينفصل عن استخدام اللغة أيضاً، فنحن
إنما نفكر بالكلمات ولا وجود للمعاني مجردة من الألفاظ في أي طور، سواء في
وجودها النفسي في داخل الصدر، أو في وجودها اللساني، حيث تتلقاها الآذان
سارية في الألفاظ المركبة سريان الروح في أعضاء الجسد، لا يعرف لها فيها
مكان متعين.
أما القول بهذا في نظم البيان القرآني، وأنه نظم في المعاني النفسية أولاً،
فذلك مردود على الإمام عبد القاهر رداً لا يعرف هوادة ولا تريثاً. القول
بالمعنى النفسي في بيان الحق عز وجل لا نسلم لأحد به أبداً، فهو فرية وقول
على الله عز وجل بغير علم ولا سند من كتاب وسنة. ومثل هذا لا اجتهاد فيه،
بل هو مما يتوقف فيه مع النصّ: القرآن والسنة.
والرأي القويم الذي لا غيره، أن كلام الله تعالى حقيقي بحرف وصوت ليس كمثله
كلام العالمين، وآيات القرآن الكريم قاطعة بأن كلام الله ليس كلاما
نفسياً، كما تذهب بعض الفرق من أنه كلام
نفسي لا لفظي، وأنه المعنى القائم بذاته، ليس له بعض ولا عدد، وأنه ليس من
جنس الحروف والأصوات، وما نسمعه من تلاوة القرآن إنما سميت عباراته كلام
الله لدلالتها عليه، وهى مخلوقة، أما النفسي فغير مخلوق …
كل ذلك غير قويم فليس هناك كلامان: كلام نفسي وكلام لفظي بالنسبة لله
تعالى، وأنّ الأول منه قديم غير مخلوق والآخر مخلوق. بل كلام الله واحد، هو
من صفات كماله، يتكلم به بحرف وصوت كما يشاء وكيف شاء ومتى شاء، ليس كمثله
كلام أحد من العالمين. وهو الذي يقول: {وكلّم الله موسى تكليماً}
[النساء]، فهذا التأكيد دال دلالة بينة على أن تكليمه حقيقة بحرف وصوت،
سمعه موسى ـ عليه السلام ـ بإسماع الحق إياه، فالمصدر "تكليما" قرينة قاهرة
على أنه كلام حقيقي مسموع بحرف وصوت، وليس معنى نفسياً قائماً بذاته.
فأساس حقيقة نظم الكلام التي بنى عليها عبد القاهر مذهبه لا تستقيم له في
بيان نظم القرآن الكريم الذي هو أساس إعجازه عنده، وكان عليه أن يفرق بين
حقيقة النظم في بيان الخلائق وبيان النظم في بيان الوحي. وكنت على ألا
أعرض لهذا هنا، فإن مجاله القول في بلاغة القرآن ونظمه، وليس مجاله القول
في النظم في بيان البشر، حيث القول هنا معقود لمنـزلة نظرية النظم في نقد
النصوص الإبداعية، ولكني رغبت البيان وفاء بحق العلم وإعلاء له على حق آداب
البحث والمناظرة
مفهوم النظم عند الإمام عبد القاهر:
إذا ما كان الإمام عبد القاهر قد ذهب إلى أن مناط النظم هو مناط الفكر
والتأمل والصنعة، وهو المعاني لا الألفاظ، وأن الألفاظ ما هي إلا تابعة في
نظمها وترتيبها وتأليفها وتركيبها لمعانيها، وكان ذلك النظم الواقع أولاً
في المعاني المكنونة المنسوقة في الصدور، فإن الإمام يعمد إلى بيان هذا
النظم وعياره الذي قد أجمع العلماء على أنه ((لا فضل مع عدمه، ولا قدر
للكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه (أي أغراضه ومواده
الأولية) ما بلغ. وبتَّهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه، ولا قوام إلا به،
وأنه القطب الذي عليه المدار، والعمود الذي به الاستقلال))( ).
وهذا يجعله جديراً بأن يُعنى بكشف جوهره وحقيقته وهويّته، وأن يردد هذا
ويكرر ويصرف البيان المصور له، وذلك ما كان من الإمام عبد القاهر. عمد إلى
تحرير مفهوم النظم وتقريره بأنه ((ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي
يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا
تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها))( ).
وتراه يصرف البيان عن ذلك المفهوم في مواطن عديدة منها: ((النظم هو توخي
معاني النحو في معاني الكلم، وأن توخيها في متون الألفاظ محال))( )، وقوله:
((النظم … عبارة عن توخي معاني النحو في معاني الكلم))( ).
وقوله: ((فإذا بطل أن يكون الوصف الذي
أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه( )، لم يبق إلا أن يكون في النظم …
وإذا ثبت أنه في "النظم" و"التأليف"، وكنَّا قد علمنا أن ليس "النظم" شيئاً
غير توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بين
الكلم، وأنّا إن بقينا الدَّهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً
ينظمها، وجامعاً يجمع شتاتها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي
معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كل محال دونه ـ فقد بان وظهر أن
المتعاطي القول في النظم والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه، وهو لا يعرض
فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها، ولا يسلك إليه
المسالك التي نهجناها: في عمياء من أمره … ذلك لأنه إذا كان لا يكون
"النظم" شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما يبين الكلم، كان من أعجب
العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب المزية في "النظم"، ثمَّ لا يطلبها في معاني
النحو وأحكامه التي النظم عبارة عن توخيها فيما بين الكلم))( ).
وقوله: ((النظم ـ كما بيَّنا ـ إنما هو توخي معاني النحو وأحكامه وفروقه
ووجوهه، والعمل بقوانينه وأصوله، وليست معاني النحو معاني ألفاظ فيتصور أن
يكون لها تفسير))( ).
((هذا وأمر النظم في أنه ليس شيئاً غير توخي معاني النحو فيما بين
الكلم، وأنك ترتب المعاني أولاً في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في
نطقك، وأنا لو فرضنا أن تخلو الألفاظ من المعاني لم يتصور أن يجب فيها نظم
وترتيب، في غاية القوة والظهور))( ).
وقوله: ((ما أظن بك أيها القارئ لكتابنا ـ إن كنت وفيته حقه من النظر
وتدبرته حق التدبر ـ إلا أنك قد علمت علماً، أبى أن يكون للشك فيه نصيب،
وللتوقف نحوك مذهب، أنْ ليس "النظم" شيئاً إلا توخي معاني النحو وأحكامه
ووجوهه وفروقه فيما بين معاني الكلـم، وأنك قد تبينت أنه إذا رُفع معاني النحو وأحكامه مما بين
الكلم حتى لا تُراد فيها في جملة ولا تفصيل، خرجت الكلم المنطوق ببعضها في
إثر بعض في البيت من الشعر والفصل من النثر، عن أن يكون لكونها في مواضعها
التي وضعت فيها موجب ومقتضٍ، وعن أن يتصـور أن يقال في كلمة منها إنها
مرتبطة بصاحبة لها، ومتعلقة بها، وكائنة بسبب منها، وأنَّ حُسْنَ تصورك
لذلك، قد ثَبَّتَ فيه قدمك …))( ).
((فإذا ثبت الآن أنْ لاشك ولا مرية في أن ليس "النظم" شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين
معاني الكلم، ثبت من ذلك أنّ طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم
يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنه مَعْدنُه
ومَعَانه، وموضعه ومكانه، وأنَّه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه
فيما عداها غارّ نفسه بالكاذب من الطمع …))( ).
كرر عبد القاهر وصرف البيان في شأن مفهوم النظم عنده، حتى تتقرر حقيقته
وأهميته، ويتبين مناطه ومعانه، فلا يختلط في وهم أنه كمثل نظم الحروف في
الكلمة، أو مجرد ضم كلمة إلى أخرى كيف جاء، أو هو النظم المقابل للنثر، أو
هو النظم أي الطريقة التي اختص بها القرآن في تبويب بيانه على غير ما عهدت
العرب من أجناس القول: القصيدة والرسالة والخطبة، وما يعرف في المصطلح
النقدي العصري بالأجناس الأدبية، على نحو ما أشار إلى مثله الباقلاني (ت
403هـ). من أن القرآن جاء نظمه على غير المعهود من نظم الكلام عند العرب،
التي هي أعاريض الشعر، والنثر الموزون غير المقفى، والنثر المسجع، والنثر
المرسل …
فعبد القاهر كرر وصّرف حتى يتبين الأمر، وأن النظم عنده غير الذي عند كثير،
وأدرك أنه بالغ في هذا، فإنه يشكو حال الناس في هذا على الرغم من التكرير
والترديد. يقول: ((واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبْدأنا فيه
من أنه لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين
الكلم، قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن
تكون الزيادة عليه كالتكليف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تتنازع إلى تتبع
كل ضرب من الشبهة، يُرى أنه يعرض للمسلم نفسَه عند اعتراض الشك))( ).
ومن بعد ذلك البسط في تتبع مواقع بيان الإمام حقيقة النظم عنده، فإنَّ بي
حاجة إلى النظر في تفسيره مفهوم النظم الذي حرّره بقوله أولاً: ((ليس النظم
إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو …))( ). يقرِّر الإمام أن
النظم هو عمود نسج مفردات اللغة كلاماً. فوضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم
النحو هو إخراج النسيج الكلامي من مواد اللغة إخراجاً يقتضيه نهج ونحو
الإيجاد الوظيفي للغة التي يرثها الخلف عن السلف.
والمتكلم هو الواضع لصورة النسيج الكلامي والمقيم لبنائه، ولذلك تسمعه يقول
لك: "تضع كلامك"، فأنت أيها المتكلم الواضع لكلامك، وليس أجدادك. أنت لم
ترث عنهم صوت النسيج الكلامي، أنت ورثت عنهم مفردات ذات أصوات ومعانٍ
إفرادية لا تتفاضل، وهى مطروحة في مراقدها (المعاجم) متاعاً مباحاً لكل
ناطق بلسان العربية، وأنت ورثت عنهم الأنماط التركيبية المجردة التي لا
ترتبط بأي ضرب من ضروب البيان اللساني في العربية إن شعراً وإن نثراً. تلك
الأنماط التجريدية للتراكيب، التي يعلم المتكلمون الأصول الكلية لبنية
الجملة الفعلية مثلاً، والإمكانات التي تحتملها تلك البنية، أيّاً كانت
معانيك وأغراضك ومقاصدك وسياقات القول. وهي التي تعرف بأصول علم النحو، أي
نحو العربية ونهجها في بناء الكلام. أنت ترث هذين عن أجدادك ولا فضيلة لك
على غيرك في هذا إلا بمقدار علمك بها، ومدى إحاطة هذا العلم بكافة الأصول
والإمكانات التي تحتملها تلك الأنماط التجريدية للتراكيب، وكل هذا وإن بلغت
فيه المدى لن يدخلك في عداد البلغاء، ولا في عداد المتكلمين الذين يستمع
إليهم، فقد يكون المرء هو المحيط الواعي لكثير من مفردات العربية، ولكثير
أو لكل الأنماط التجريدية للتراكيب في علم نحو العربية، والإمكانات التي
يحتملها كل تركيب، ثم هو برغم من ذلك عيي لا يبين، ولا يشار إليه، ولا
يستمع إليه في باب البيان.
يقول الإمام: ((واعلم أنّا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق
والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن
يُصنع فيها، فليس الفضل للعلم بأنَّ "الواو" للجمع، و"الفاء" للتعقيب بغير
تراخ، و"ثمَّ" له بشرط التراخي، و"إنْ" لكذا، و"إذا" لكذا، ولكن لأن يتأتى
لك إذا نظمت شعراً وألفت رسالة أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك
موضعه))( ).
فالمواضعة الموروثة القائمة في المفردات (صوتاً ومعنى) وفي الأنماط
التجريدية للتراكيب لا بد أن تصاحبها مواضعة ذاتية في المتكلم، تتنوع بتنوع
المتكلمين وإمكاناتهم وأدواتهم وثقافاتهم وطباعهم، وهي مواضعة ليست حرة
طليقة لا مرجع لها تنضبط به، بل هي مواضعة ذات حرية ناظرة بعين الرعاية
أصولاً موروثة، هي ما يعرف بأصول علم النحو، هي الأنماط التجريدية للتراكيب
والإمكانات التي تحتملها تلك الأنماط.
هذه المواضعة الذاتية هي وضع المتكلم كلامه الوضع الذي يقتضيه علم النحو،
وعلم النحو يقتضي أصولاً كلية لأنماط تجريدية للتراكيب ذات إمكانات
احتمالية مصحوبة بقرائن مثالية أو مقامية هادية سواء السبيل، لفهم المراد
والمعنى والغرض المنصوب له الكلام، وفاء بحق السامع في أن تطرق له السبل
إلى المعاني والأغراض حتى لا يؤتى من سوء إفهام الناطق.
أنت ـ أيها المتكلم ـ تضع كلامك وليس أجدادك، لأنه كلامك أنت، لكنك تبقى
معنياً في وضعك كلامك بصلة رحمه، بأن تضعه الوضع الذي يقتضيه علم النحو،
الذي ورثته عن أسلافك، وكان فريضة عليك استثمار ما ورثت.
إذا ما كانت المفردات أصواتاً وصوراً ومعاني إفرادية إنما هي مواضعة
موروثة، لا يتأتى لنا الانعتاق منها، وكانت ـ أيضاً ـ الأنماط التجريدية
للتراكيب موروثة، إذ هي أصول كلية تجريدية لنحو ومسلك ومنهج الإبانة، لا
ترتبط بمعنى معين ولا غرض محدد ولا سياق مقيد، فلا دخل للمتكلم فيها إذ هو
يرثها، وكل ذلك لا يحيل مفردات اللغة إلى كلام ينتسب إلى صاحبه ـ إذا كان
ذلك فنحن لا نتمرد على الألفاظ التجريدية للتراكيب التي هي الأصول الكلية
لعلم النحو مثلما لا نتمرد على مفردات اللغة، في صورتها الصوتية وما تدل
عليه من معان إفرادية دلالة إجمالية، وكذلك لا نتعبَّد بهذه الأنماط تعبداً
حرفياً، بل نستهدي بها، ونضع كلامنا على هدي ما تقضي به أصولها.
المتكلم بوضعه هذا هو صاحب مواضعة خاصة لا تكاد تتكرر مع غيره، بل لا تكرر
مع نفسه، فهو دائم المواضعة، وهي مواضعة تنبثق من رؤيته المعرفية بخصائص
المواضعة الأولى الموروثة من جهة، ومن ملكته الذاتية في الامتداد والتجاوز
المنضبط المحسوب المثمر خصوصية الإبانة عن الذات القائلة.
ومن ثمَّ نسمع الإمام يقول: "وتعمل على قوانينه وأصوله"، فهو يجعل مواضعة
المتكلم عملاً على قوانين: أي استعلاء اهتداء وتمكن واستثمار، وليس استعلاء
تمرد وثورة، فهذه الكلمة "على" ذات دلالة غنية حميدة. وفي موطن آخر يقول:
"والعمل بقوانينه وأصوله"( )، فهذه "الباء" في "بقوانينه" دالة على
المصاحبة والتمكن، ففيها دعوة إلى التمكن من تلك القوانين والأصول، تمكن
معرفة بالمناهج والمسالك التي نهجت وسلكت، يمنح صاحبه الاقتدار على استبصار
الآماد التي تمتد إليها، والاقتدار على أن يحذو على لاحبها.
والمتكلم في هذه المواضعة حافظ الرسوم والحدود التي رسمت وحُدَّت، فلا
يُخلُّ بشيء منها، ولا يزيغ عنها ولا يخرج، فإن في الإخلال بهذه قطع سبيل
التواصل بينه وبين السامعين، مما يجعل كلامه عقيماً لا يثمر. فالرسوم هي
المعالم الدّالة على منهاج المتكلم في تركيب رموزه الدّالة على مكنون صدره،
وعلى ضوء هذه المعالم يحلل السامع ذلك التركيب لينفذ من تفكيكها إلى ما هو
مكنون من المعاني والمقاصد، فالمتكلم ذو منهج تركيبي والسامع ذو منهج
تحليلي تفكيكي، وإذا لم يتواصلا في اتحاد النحو تركيباً وتفكيكاً، فلن يكون
فعل المتكلم إلا عقيماً، ولن يجني السامع من فعله شيئاً. ومن ثمَّ كان
لابد أن يكون هنالك نهج متفق عليه بين
المتكلم مركِّباً والسامع مفكِّكاً، فإذا لم يكن لم يك تواصل ألبتة. ولذا
يبين الحق عزَّ وجل أنه ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم: {وما
أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}، فانظر قوله "بلسان" وهي كلمة
تحمل دلالة على خصوصية الأداء، فاللسان أخص من اللغة، ولذلك لما كان سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم ليس خاصاً بقريش لم يكن لسانه محصوراً في لسان
قريش، بل كان يكلم كل قبيلة من قبائل العرب بلسانها. فآدم عليه السلام علمه
الله تعالى الأسماء كلها: {وعلَّم آدم الأسماء كلها}، وسيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم علمه الله تعالى ألسنة العرب كلها، ولعل هذا داخل في قول
الله تعالى: {وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}.
الإمام عبد القاهر غير داع هنا المتكلم إلى الاستكانة إلى سلطان مواضعات
نحو البناء اللغوي الموروث، فهذا السلطان هو أشبه بسلطان الشيطان على
الإنسان: وهم يستكين إليه الطغام من الناس استهواءً واستخذالاً: {وما كان
لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}.
الإمام يدعو المتكلم إلى أن يعمل هو على قوانين علم النحو وأصوله، وقوانين
كل شيء: مقاييسه، وكل مقياس مرهون بطبيعة وأحوال وغايات ما يقاس، مما يجعل
المقايسة في نفسها ذات أنهاج متجاوبة مع ما يقاس وأحواله. والمقايسة في
نفسها تقديراً على مثال والأمثلة تتشابه ولا تتناسخ.
والعمل على أصول علم نحو بناء الكلام لا يعنى الإخلاد إليها، فإنّ لكل أصل
فروعاً وأغصاناً وأفناناً منبثقة منه، ولكنها ليست هي بل هي منها، فلعلم
النحو أصول وفروع، والعمل بالأصول فريضة واستثمار الفروع قربة، ومن ثمَّ
يتحقق للمتكلم الاقتدار على مواكبة مقتضيات المقامات والمسافات التي تحيط
به وبمعانيه وأغراضه ومقاصده.
وعبد القاهر يبين في موطن آخر أن العمل على قوانين علم النحو وأصوله هو توخي معاني النحو فيما بين معاني الكلم( )، ومعاني النحو ليست هي علامات الإعراب رفعاً للفاعل ونصباً للمفعول وجراً للمضاف إليه، فذلك لا مجال فيه للمفاضلة بين أحد. فامرؤ القيس في هذا لا يفضل أبا العتاهية مثلاً.
معاني النحو هي العلاقات الروحية التي تقوم بين
معاني الكلمات، على اختلاف صورها وامتداد سياقاتها، بدأ من ركني الجملة
"المسند إليه والمسند"، وانتهاء بسياق الفقرة والمعقد والنص. وهذه العلاقات
الروحية هي الوجوه التي يتصور بها المعنى، والضروب التأليفية بين
معاني الكلمات بكل ما تحمله كلمة (تأليف) من دلالة على التعالق، وهذه
العلاقات ذات أنماط تركيبية لا تتناهى، يطلق عليها عبد القاهر الوجوه
والفروق النحوية.
فالنظم توخي العلاقات الروحية بين معاني
الكلمات، ومعاني الكلمات لا يراد بها المعاني الإفرادية الموضوعة إزاء
الكلمة فحسب، بل معنى الكلمة في وجودها البياني (الكلام) من رافدين، الأول:
المعنى المعجمي الوضعي، والآخر: الوظيفة التركيبية من حيث هي فاعل أو
مفعول أو غير ذلك. قولنا: "زيد منطلق" مثلاً، المعنى النحوي فيه هو العلاقة
التي بين معنى "زيد" من حيث هو علم على
شخص متعين معلوم للسامع ومن حيث هو مراد الإخبار عنه من قبل المتكلم
بالانطلاق وإسناده إليه، وبين معنى "منطلق" من حيث هو اسم على حدث متعين
معلوم للسامع أيضاً مواضعة، ومن حيث هو مراد الإخبار به عن زيد ومسنداً
إليه وتقريراً لوقوعه منه.
تتنوع هذه العلاقات الروحية بين معنى
"زيد"، ومعنى "منطلق" تنوعاً لا يكاد يحصر، ولكنه تنوع على أصول وقوانين
كلية لا تخرج عنها أي وجه أو فرق تركيبي. ولذلك تجد عبد القاهر يذكر لهذه
العلاقة بين "زيد" و"الانطلاق" ثمانية
وجوه: "زيد منطلق"، و"زيد ينطلق"، و"ينطلق زيد"، و"منطلق زيد"، و"زيد
المنطلق"، و"المنطلق زيد"، و"زيد هو المنطلق"، و"زيد هو منطلق". كل هذه
الأنماط التركيبية (الوجوه والفروق) منبثقة من أصل قائم فيها جميعاً هو
إثبات وقوع فعل هو الانطلاق من شخص متعين هو زيد. ويبقى لكل وجه ونمط
تركيبي خصوصية في الدلالة على معنى زائد على ما هو قائم في جميع هذه
الأنماط التركيبية.
هذا المعنى الزائد المتنوع بتنوع النمط التركيبي هو مناط المفاضلة، أما
المعنى الأول الذي هو إثبات وقوع فعل، هو الانطلاق، من شخص متعين، هو زيد،
فذلك لا تفاضل فيه بين أحد لأنه ثمرة نمط
تركيبي موروث. والمتكلم يضع كلامه في صورة من هذه الصور الثمانية على وفق
الأصل التركيبي المجرد الموروث (إسناد المسند إلى المسند إليه في سياق
الإثبات).
فانطلاق زيد معنى يمكن للمتكلم إيراده في وجوه تصويرية عديدة، وجميعها سواء
من حيث الصحة الإعرابية، ومن حيث الأخذ بالنمط التجريدي الموروث، الذي
دعامته الإسناد في حيز الإثبات بين شيئين:
مسند إليه ومسند. ومن ثمّ يقرر الإمام عبد القاهر أن المتكلم البليغ لا
يقيم عبارته على أي نمط تجريدي بل ينظر في وجوه كل باب وفروقه، وهي وجوه
تصويرية. وبلاغته في أن يعرف لكل من هذه الوجوه موضوعه ويجيء به في كلامه
حيث ينبغي له.
فبلاغته ليست في إسناد الانطلاق إلى زيد في سياق الإثبات على أي نحو من
الأنحاء، بل بلاغته في أن يتوخى الوجه التركيبي المتاح لنمط ذلك الإسناد
وفق ما يُرمى إليه، وما يقتضيه المقام الذي يبين فيه.
فحيناً تكون بلاغته في أن يقول: "زيد منطلق"، وحيناً يكون قوله هنا غير
بليغ، بل البليغ أن يقول: "زيد ينطلق"، و"زيد هو المنطلق" … فلابد أن يعرف
الفروق بين كلٍّ، ومدى ملاءمة كل وجه لما يرمي إليه وما يسوق كلامه على لاحبه …
والإمام عبد القاهر لا يقصر الوجوه والفروق على وجوه إثبات المعنى لشيء في
دائرة الجملة، بل هو يجعلها شاملة أدق شيء من نحو حروف المعاني: ((ينظر في
الحروف التي تشترك في المعنى ثم يتفرد لكل واحد منها بخصوصية في ذلك
المعنى، فيضع كلاً من ذلك في خاص معناه …))( ). ويمتد بها إلى علائق الجمل
وما يكون بينها من وصل وفصل، وهو باب يبدأ بعلاقات الجمل النحوية ليمتد إلى
ما هو حاوٍ عشرات الجمل النحوية مما يعرف بالفقر والمعاقد والفصول، من نحو
ما يعرف عند البلاغيين بعطف القصة على القصة.
وغير ذلك كثير مما ذكر الإمام، إذ يقول: ((ويتصرف في التعريف والتنكير،
والتقديم والتأخير، في الكلام كله (كذا)، وفي الحذف والتكرار والإضمار
والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له))(
). قوله: "في الكلام كله" فسيحة المدى، فإذا كان التعريف والتنكير مرهوناً
بدائرة الكلمة، فإن التقديم والتأخير يبدأ بالكلمة، لكنه يشمل الفصل
والمعقد من النص، ولو مُدّ الدرس النقدي لأسلوب التقديم والتأخير في النص
الأدبي إلى مواقع معاقد الكلام تقديماً وتأخيراً لكان حميداً، ولكان
منبثقاً من قضية النظم أيضاً. ومثل هذا "الحذف" إن كان يبدأ بحذف حرف من
حروف المباني كما نراه في حذف نون مضارع "كان" المجزوم، فهو حذف مما يرمى
به إلى معنى هو عنصر في بناء المعنى الكلي للصورة، فإنه يمتد إلى النظر في
حذف فصول ومعاقد في بناء النص. وهذا تراه واضحاً جداً في أسلوب الحذف في
البيان القرآني حيث تطوى أحداث كثيرة لو ذكرت لكانت معقداً، ومن نحو ما
تراه من حذف لأحداث جرت ما بين قول الشاعر:
"ولما قضينا من منى كل حاجة.." وقوله: "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، فقد
طوى الشاعر أحداثاً وقعت في أزمان ممتدة وأماكن متفاسحة، على المتلقي
تصورها وأن تذهب نفسه في استحضارها وتخيلها كل مذهب، كما يقول أهل العلم في
مثل هذا.
وقوله: "فيصيب بكل من ذلك مكانه"، الصواب هنا أن يصيب المتكلم بالنمط
التصويري موضعه ويضعه في حقه، وذلك لا يتحقق له إلا إذا كان عليما بحال كل
نمط تصويري: ما يدل عليه، وما يليق به من السياقات والمقامات والأغراض
والمقاصد.
وجملة الأمر أن الإمام يقرر أهمية النظم في بلاغة الخطاب ويجملها في قوله:
((فلست بواجد شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً( )، وخطؤه إن كان خطأ إلى
النظم يدخل هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع
في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما
ينبغي له، فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه
إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى
معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من
أبوابه))( ).