منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    مستويات النظم

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    مستويات النظم Empty مستويات النظم

    مُساهمة   الخميس فبراير 16, 2012 8:38 am

    [center]مستويات النظم:
    إذا ما كان شأن النظم في تحقيق بلاغة الخطاب وأدبيته أنه لن تقوم إلا عليه مـن أنه عمودها وقطبهــا( )، فإن الذي هو محقَّق عند الإمام أن ذلك النظم ليس على درجة سواء في الكلام البليغ، فلا يكون تفاوت بين الأدباء في الوفاء بكامل حقه، بل شأنه شأن كل شيء، هو على درجات يفضل بعضها بعضاً، فذلك من سنة الله عز وجل في خلقه، والأمر كمثله في شأن النظم في بيان الخلق.
    من النظم ما هو في الدرجة الدنيا من أن واضعه لم يحتج ((إلى فكر وروية حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك، لا يبتغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين، وذلك إذا كان معناك معنى لا تحتاج أن تصنع فيه شيئاً غير أن تعطف لفظاً على مثله، كقول الجاحظ: "جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً، وحبّب إليك التثبت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة"))( ). ((فما كان من هذا وشبهه، لم يجب به فضل إذا وجب، إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه وتأليفه))( ).
    وأنت إذا ما نظرت في كلام الجاحظ، لتقف على درجة ذلك النظم بنفسك، وقدر حكم الإمام عليه، ومناط ذلك الحكم الذي يعطي ظاهره تجريداً لكلام الجاحظ من سمات البلاغة، ونظرت في نظم كل جملة على حيالها، فإن التبصر يؤدي بك ألا تقبل مقالة الإمام: أن ليس فيه نظم وتأليف، فإن نظم كل جملة على حيالها نظم غير نازل المنـزلة، فاختيار المفردات ومواقعها وعلائق بعضها ببعض في بناء كل جملة على حيالها إنما هو عالٍ لا يستهان به انظر قوله: "وهل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً …" أترى في هذا ما يدل على دنو منزلته في باب النظم والبلاغة؟( )
    كلمات الجاحظ كل جملة على حيالها، غير ذالة المنـزلة في باب النظم، فكيف قال عبد القاهر ما قال؟ وما وجه حكمه هذا؟. أما حكمه فقد سمعته، وأما وجه ذلك الحكم فإنه ذاهب فيه إلى أن هذا لا يعدو أن يكون ضمّ شيء إلى شيء، وأنه ليس فيه فكر وروية. ومناط تحقيق الفضل والمزية عنده ثلاثة أشياء:
    أولهـا: أن يكون هنالك مصنع واعتمال واجتهاد وفكر ورويّة.
    وثانيها: أن يكون هنالك تخير بين البدائل.
    وثالثها: أن يكون قد استدركت بهذا الفكر وهذا الاختيار صواباً ليس من بابة تقويم اللسان، والتحرز من اللحن وزيغ الإعراب، بل صواب فيما شأنه أن يدرك بالفِكَر اللطيفة، ويوصل إليها بثاقب الفهم.
    وأنت إذا ما نظرت في كلام الجاحظ وجدت كل جملة على حيالها في نظمها، على درجة غير نازلة، ولكن إذا ما نظرت فيما بين هذه الجملة العالية النظم في نفسها، ألفيت أنه ليس هنالك مصنع ولا فكر ولا روية ولا اختيار ولا استدراك صواب لما لطف ودق فيما يتعلق بعلائق الجمل بعضها ببعض. تستطيع أن تقيم كل جملة في غير موقعها، تقديماً وتأخيراً، ولن يحدث في صورة المعنى الكلي شيء، فكانت علاقة الجمل مع بعضها ونظمها، أشبه بعلاقة حروف الكلمة في الجملة، لا تقوم على فكر وروية واختيار واستدراك صواب.
    فالنظم الذي يتحدث عنه عبد القاهر ليس ميدانه ميدان النظم في نحو "زيد منطلق" و"ينطلق زيد"، النظم هنا متجاوز نظم الكلمات في بناء الجملة الواحدة، إلى نظم الجمل في بناء الفقرة، ذلك النظم الذي تكون فيه الجملة بمنـزلة الكلمة. ذلك هو مناط الحكم على مثل كلام الجاحظ بأنه نظم نازل المنـزلة، وتلك من الإمام فريدة دالة دلالة باهرة على أن النظم حين يكون في نطاق الجملة ينظر فيه إلى العلائق الروحية بين عناصر الجملة (الكلمات)، وحين يكون في نطاق الفقرة ينظر فيه إلى العلائق بين الجمل، لا العلائق بين المفردات في الجملة.
    وتلك فريدة من الإمام يمكن أن نمد خيوط نسيجها إلى نظم فقرات النص في نطاقه، فننظر إلى علاقات الفقر والمعاقد في نطاق النص، لا إلى علاقات الجمل في بيان الفقرة، ولا إلى علاقات الكلمات في نطاق الجملة.
    وتأسيساً على هذا يمكن القول بأن الإمام كما يرى أن نظم الحروف في بناء الكلمة ليس نظماً في صحبة نظم الكلمات في بناء الجملة، يرى أن نظم الكلمات في بناء الجملة ليس نظماً في صحبة نظم الجمل في بناء الفقرة والمعقد، وهذا الأخير هو نازل في صحبة نظم الفقر والمعاقد في بناء النّص. ذلك ما يتأسس قياساً ومدّاً لخيوط النسيج المعرفي لموقف الإمام في نظم الجاحظ السابق النظر فيه.
    ويزيد هذا توكيداً و تأطيداً النظر في المستوى العالي من النظر عند عبد القاهر، يقول الإمام: ((واعلم أنه مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت، أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثانٍ منها بأول، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعاً واحداً، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم، وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حدُّ يحصره، وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة))( ).
    فأنت تراه ينظر في مناطٍ فوق هذا النظم، ويبين أنه اتحاد أجزاء الكلام، ويدخل بعضها في بعض، ويشتد ارتباط ثان منها بأول … ذلك حال ما علا نظمه وفاق حبكه : اتحاد وتداخل وارتباط أجزاء، ومثل هذا لا ينحصر في أجزاء الجملة، بل هو غالب في علائق الجمل. فانظر قوله: "أجزاء الكلام"، وأنه يشترط فيه اتحادها، ومناطه العلائق الروحية بين معاني هذه الجمل، ودخول بعضها في بعض، ليس التراكب والتعاظل، بل هو التناسل، وهو تناسل معان، وذلك الاشتداد الدال على شد كل جزء أخاه ارتباطاً، فالشد لا يعني مجرد التعلق، ولو لأدنى مناسبة، كما نراه في مثل تعلق المفردات ببعضها، ولاسيما تعلق العطف بناسق، فذلك من قبيل الربط بعامل من خارج المتعلقين، وليس ارتباطاً. والفرق بين الربط والتعلق من جهة، وبين الارتباط والاعتلاق من أخرى، أن الأولين: الربط والتعلق يكون بناسق خارجي، وأن الآخرين: الارتباط والاعتلاق يكون بأمر داخلي من ذات المترابطين: ترى الأول في مثل ما يعرف عند البلاغين بـ"التوسط بين الكمالين"، وترى الآخر في مثل ما يعرف بـ"كمال الاتصال" و"شِبْهِه"، أو "الاتصال إلى الغاية".
    والمهم في هذا أن الإمام عبد القاهر يؤكد ما يؤمن به من أن النظم العالي يجعل الكلام وإن تعددت أجزاؤه، كأنه لفظة واحدة، وأن المتكلم بهذا مثله: ((مَثَل من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة))( ).
    ومن قبله قالها الجاحظ في شأن أجزاء الكلام ذي النظم العالي: ((… تراها سهلة لينة، ورطبة مواتية، سلسلة النظام، خفيفة على اللسان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد))( ).(البيان والتبيين 1/89-ط/ السندوبي).
    وبمثلها يقول المرزوفي في عمود التلاحم وعياره: ((… فذلك يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت والبيت كالكلمة …)).
    وحين ننظر في كلام الجاحظ نجد أنه يجعل من ثمار تلاحم الأجزاء أن يجري الكلام على اللسان كما يجري الدهان، وهذا دال على أن العلائق الحسية في الكلام: علاقات الألفاظ في أدائها منبثقة من العلائق الروحية فيه، وأن تعالق المعاني وإفراغها إفراغاً واحداً يثمر جريان الألفاظ على اللسان كما يجري الدهان. وهذا أيضاً تجده عند المرزوقي حين يجعل الباب الخامس من عمود الشعر: "التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن"، ويجعل عيار ذلك "الطبع واللسان".
    وهذا معدن ما يذهب إليه عبد القاهر من أن علائق الألفاظ ونظمها منبثق من علائق المعاني ونظمها، أي: أن مضامين القول معدن شكله.
    ==================================
    ومن تفاوت مستويات النظم عند عبد القاهر ما نراه في تفاوت ظهوره ومجاله، فمنه ما يهجم عليك من أول ما يلقاك، ومنه ما تتسلسل قطرات الندى من مجموعه، فلا تمتلئ قارورة الحسن إلا بآخر قطرة من آخر جملة. يقول الإمام: ((واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسنَ، كالأجزاء من الصِّبْغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تُكْبِر شأن صاحبه، ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسَعَة الذَّرْع وشدة المُنَّة، حتى تستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات. وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري))( )، وهو يشير إلى أبيات: "بلونا ضرائب من قد نرى".
    واستجماع الحسن من مجموع عناصر القصيدة يوحي ظاهره في صحبة استحضار النظم العالي الذي يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع، فيوضع في النفس وضعاً واحداً. ولكن عبد القاهر يرمي إلى شيء آخر، وهو أن أجزاء الكلام في نفسها ليست على المدرجة العليا من إحكام النظم، بحيث يكون ما في بناء الجملة على حيالها من النظم ما هو العليّ الذي يزداد علواً، بما يكون من تآخيها بالجمل الأخرى في نطاق الفقرة، فيكون حال الجملة فيه حال من يشرف باجتماعه مع قومه، فإذا أفرد عنهم عري مما كان عليه من قبل، أو عري من كثير منه.
    ولا ريب في أن من كان اجتماعه مع غيره هو الخالق كل فضله أو أصله، لا يكون هو الأعلى، وليس ذلك شأن البيان العليّ، ولاسيما بيان الوحي: كتاباً وسنة.
    إنك إذا أفردت الجملة القرآنية عن سياقها لم تفقد كل بلاغتها وإعجازها، ولكنك واجد فيها ما يكفيك بل يغنيك، فإذا ما جُمعت إلى شقائقها في سياقها، انتقلت بك من طور الكفاية والإغناء إلى طور الإدهاش والإبلاس، وكلما امتدّ السياق تكاثر الإعجاز والإدهاش والإبلاس. وهذا هو المستوى الثاني الأعلى من النظم، الذي يقول فيه الإمام: ((ومنه ما أنت ترى الحسن يهجُم عليك منه دفعة ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المُنّة وطول الباع، وحتى تَعلم، إنْ لم تَعلم القائلَ، أنه من قيل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صَنَاعٍ، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت: هذا، هذا !! وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر، والكلام الفاخر، والنمط العالي الشريف، والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البُزَّل، ثم المطبوعين الذين يُلْهَمون القول إلهاماً))( ).
    ويقرر الإمام أنّ ذلك غير كثير في الشعر، وأن العثور عليه يستوجب تنقيباً وبحثاً: ((ثمَّ إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد، بل أن تفلي ديواناً من الشعر حتى تجتمع منه عدة أبيات)). والنظرة العجلى في كلام الإمام تحسب أنه فيه إعلاء لما كان فيه الشعر قائماً كل بيت من أبياته بنفسه، وأن هذا يتعارض بل يتناقض مع ما دعا إليه من اتحاد أجزاء الكلام وإفراغه إفراغاً واحداً، فيكون من اتحاد معانيه أنْ صارت ألفاظه كأنها لفظة واحدة( ).
    وذلك الحسبان آت من أن صاحبه غفل من الجهة التي ينظر إليها الإمام هنا، والجهة التي ينظر إليها الإمام هنالك، هنالك ينظر إلى علائق معاني النص وتآخيها واتحادها وشدة ارتباطها في بناء الكلام. وهنا ينظر إلى ما تكون عليه أجزاء الكلام في نفسها من الحسن والشرف، فهو يطلب من الكلام العالي أن يكون في كل جزء من أجزائه بالغاً ذروة الحسن في مجاله، فإذا أضيف كل جزء وهو على ذلك الضرب من الشرف إلى شقائقه كان من ذلك التآخي ضرب آخر أسمى من ضروب الشرف، فكان الكلام جامعاً شرفاً على شرف وفضلاً على فضل. لكنه لا يدعو ألبتة إلى إعلاء ما ملك في نفسه شرف وجوده فريداً، وافتقر إلى شرف وجوده نظيماً منضوداً، وشأن المسلم التقي أنه في حال نفسه وعزلته ،إن قُضي له بها، شريفاً لا يُدانى ممن هو في مثل عزلته، فإن كان منسوجاً في قومه كان ذا شرف متضاعف لتكاثر روافده فيه. ولعل هذا يصور لنا وجه تفضيل بعض النقاد أن يكون كل بيت في القصيدة مالكاً في نفسه من مقومات الحسن مالا يجعله عارياً منه إذا ما أفرد عن قومه ومجتمعه.
    وحين تنظر فيما اصطفاه الإمام عبد القاهر نموذجاً لذلك النمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه، كما يقول( )، فإنك تراه يقدم لنا أنماطاً من أسلوب المزاوجة والتشبيه المركب والتقسيم والجمع والمقابلة.
    في المزاوجة التي كشف عن مفهومها بأنْ تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معاً، يذكر بيتاً للبحتري من قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان أولها:
    متى لاح برق أو بدا طلل قَـفْر جرى مستهلٌ لا بـطئ ولا نـزْرُ
    يقول فيها: على أنها ما عندهـا لمواصـل وِصالٌ، ولا عنهــا لمصطبِر صبرُ
    إذا ما نهى الناهي فلجّ بيَ الهوى أصاخت إلى الواشي فلجّ بها الهجْرُ
    فقد زاوج بين معنيين في الشرط والجزاء، أي جعل معنيين وقعا في الشرط، وهما "نهي الناهي"، و"إصاختها إلى الواشي"، ورتّب على كل معنى: اللجاج؛ لجاج الهوى به عند نهي الناهي، ولجاج الهجر بها عند إصاختها إلى الواشي. ترتّب اللجاج بالفاء في كلٍّ على شرطين متقابلين، ومن العادة كما يقول أهل العلم أن يختلف ما يترتب على كل لأنّهما يختلفان، ولكن الشاعر راعى في الشرط ما راعاه في الجواب، وعطف على الشرط ما عطفه على الجواب، مما يحقق اتحاد أجزاء الكلام، وتداخل معانيه، وتناسلها، وشدة ارتباط بعضها ببعض، فإذا رتبت على أحدهما غير ما رتبت على الآخر لم يتحقق ذلك التزاوج.
    ومن هذه المزاوجة قول البحتري أيضاً:
    إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
    رتّب فيضاناً على أمرين مختلفين: الاحتراب والتذكر، فزاوج بين شرط وما كان جواباً له، وجعلهما معدناً لشيء واحد على اختلافهما: اختلاف الجواب عن الشرط. ولو أنه قال: "إذا احتربت يوماً فتقطعت أرحامها، تذكرت القربى ففاضت دموعها" لم يكن من المزاوجة؛ لأنها لم ترتب فيضاناً على شرط وجزائه( ).
    وإذا ما تأمل ما عدّه الإمام عبد القاهر من هذا النمط العالي، رأيت العلائق بين جمل لا مفردات، ورأيت العلائق أساسها التناسل، وليس أساسها التقارن والتجاور. وهو في هذا لا يفرق بين ما يعرف بأساليب البديع وغيرها، فمن النظم العالي ما هو حسن تقسيم وحسن مقابلة ومزاوجة … وكل هذا عند المتأخرين من المحسِّنات، ولكن الاعتداد عند الإمام بشدة ترابط أجزاء الكلام.
    ومن قبل الإمام نرى أبا عثمان الجاحظ يؤذن فينا بقوله: ((وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان))( ).
    ولست بالمستغني هنا عن تدقيق النظر في مقالة الجاحظ، ومقالة المرزوقي في "عمود الشعر" في الباب الخامس وعياره، وما قاله ابن رشيق في "العمدة"( )، وغير ذلك مما فاضت به أسفار النقاد.
    ابن رشيق يستحسن البيت الدُّرَّة، وليس البيت العضو الذي يفقد قيمته تماماً بأخذه وحده مفصولاً عن جسده. البيت عنده ذو خاصتين: الأولى من شبهه بالدرة الثمينة منضودة في عقد بديع، والأخرى من شبهه بالعضو المتلاحم مع بقية أعضاء الجسد.
    ويؤيد ذلك أنه إنما استحسن افتقار البيت في قيمته إلى بقية شقائقه حين يكون الشعر قصصياً؛ لأن شأن القصص بناء بعضه على بعض، بناء لا يتحقق لأجزائه قيمة في نفسها خارج نسقها، فهو يقول: ((فإن بناء اللفظ أجود هنالك من جهة السرد))، تأمل قوله: "من جهة السرد" فإنه قول ماجد.
    ويؤكد أن البيت في شعر العربي يحسن حين تكون له في نفسه قيمة، تتسامى حين يكون في قومه وشقائقه، ما قاله الشاعر عمر بن لجأ لبعض الشعراء: "أنا أشعر منك"، قال: "وبم ذلك؟" فقال: "لأني أقول البيت وأخاه، ولأنك تقول البيت وابن عمه"( ). فانظر قوله: "أقول البيت وأخاه … وتقول البيت وابن عمه" أتراه قد جرد الأبيات من علائق النسب؟ إنه حريص على أن يبلغ بها حد التآخي الذي هو أعلى التناسب، ولم يرتض ما دونها مباشرة: البيت وابن عمه. ثم انظر: أترى الأخ فاقداً قيمته في نفسه، وأنه مستجمع كل فضله من علائقه؟. تلك التي استحسنها ابن رشيق؛ أن يكون البيت نفسه ذا قيمة، فإذا تآخى مع شقائقه كان له القدح المعلى في الفضل والشرف.
    وقد صّرح بذلك ابن أبي الإصبع قائلاً: ((إنَّ المستحسن من ذلك أن يكون كل بيت إذا أفرد قام بنفسه، واستقل معناه بلفظه، وإن ردفِه مجاوره صار بمنـزلة البيت الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما إذا انفصلا تجزَّأ حسنهما، ونقص كمالهما، وتقسَّم معناهما، وهما ليسا كذلك، بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والاختراق كحالهما مع الالتئام والاجتماع))( ).
    ولو أنّ ابن أبي الإصبع قال في خاتمة قوله: "بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والافتراق يسمو ويتكاثر مع الالتئام والاجتماع"؛ لأن للتآخي والاجتماع فضلاً لا يكون بغيرهما، وهو فضل ليس من فوقه فضل.
    وهذا الذي قاله ابن أبي الإصبع دافع مقالة "طبانة" من أن وحدة القصيدة عند النقاد العرب متمثلة في البيت الواحد( )، ففضل البيت في نفسه لا يعني الاستغناء عندهم به عن فضل تآخيه وتلاحمه مع شقائقه وشدّة ارتباطه بسابقه ولاحقه، كأن الأبيات كلها أفرغت إفراغاً واحداً، وصارت القصيدة من شدة التحامها والتصاقها كالبيت الواحد، بل كالكلمة الواحدة.
    ذلك باب متسق لا يتأتى أن يُفرغ من كثير من قضاياه في مثل تلك العجالة.
    يقول ابن رشيق في باب "النظم": ((ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها؛ فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد))( ).
    وقد عاب بعض أهل العلم بالنقد العربي مقالة ابن رشيق، من أنه ((لا يستحسن ـ أي ابن رشيق ـ التماسكَ في الأبيات، وتلاقيها في اطراد الأفكار، إلا إذا كان ذلك في موضوع ذي عنصر قصصي، فالعنصر القصصي باعتبار أحداثه وشخصياته، من المكن أن تتضامّ الأفكار فيه، ويبنى الشعر بعضه على بعض؛ لأن طبيعة القصة تعين على ذلك، أما ما ليس فيه عنصر قصصي، فهو لا يستحسن ارتباط بعضه ببعض، بل هو يفضل أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده))( ).
    كذلك فهم أستاذنا "أبو كريشة" مقالة ابن رشيق، ومن ثم استغربه قائلاً: ((وهو استحسان غريب، لا أدري حينئذٍ كيف تتجمع الأبيات مع بعضها في قصيدة واحدة، وعلى أي أساس توجد الأبيات في قصيدة ولا توجد في أخرى؟ أما كان الأولى والحالة هذه أن تفرد الأبيات، ويجعل كل بيت قصيدة قائمة برأسها، ونجعله نوعاً من القصيدة بناء على هذا الاستحسان؟ …))( )، وهذا الذي ذهب إليه أستاذنا فيه نظر.
    الاستحسان الذي ذهب إليه أناس لم يوافقهم عليه ابن رشيق، هو ذلك الذي يكون فيه الشعر مبنياً بعض حسنه على بعض، بحيث لا يكون لبعضه حين ينظر إليه من الحسن ما يكفي ويغني، بل تجدك خالي الوفاض، وليس في يدك شيء من الحسن ما لم يفرغ من الشعر كله. وهذا عند المدققين غير مستحسن، بل الأعلى والأجدى أن يكون كل جزء من الكلام ذا فضل في نفسه، وذا عطاء من رحمه، وذلك الفضل والعطاء ينمو ويتكاثر حين تعتصم الأجزاء ببعضها وتتآخى، وهذا ما تراه عند بعض النقدة. قيل لحماد الراوية: "بم تقدم النابغة؟" فقال: "باكتفائك بالبيت الواحد من شعره، لا، بل بنصف بيت، لا، بل بربع بيت، مثل قوله:
    حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مـذهب
    كل نصف يغنيك عن صاحبه، وقوله: أي الرجال المهذب؟ ربع بيت يغنيك عن غيره" وقد نقل أستاذنا هذا في موضع سابق( ).
    فحماد لا يدعو إلى أن يكون كل ربع من البيت مستقلاً مفصولاً عن بقية أرباع البيت، فهذه مزق لا يقول به من به أدنى معرفة لحسن الشعر. هو يدعو إلى أن تكون أجزاء البيت كحبات "الدر" في العقد النضيد من جهة، وكالعضو من بدن الإنسان من جهة أخرى. هو إذا أفرِد كان له قيمة في نفسه، تُضاف إليها قيمة تأتيه من نسقه مع شقائقه، وهو في الوقت نفسه تجرى فيه الروح الجارية السارية في بقية الأجزاء/ الأعضاء.

    أهمية نظرية النظم في نقد النص الأدبي:
    تأسيساً على الذي مضى بيانه من مقومات وخصال تمام بلاغة الخطاب وأدبيته، والطريق إلى تحقيق تلك المقومات( )، وبيان عمود تلك البلاغة، وبيان جوهره ومفهومه، وتعدد أنماطه التركيبية والتصويرية، تعدداً لا ينتهي إلى غاية( )، ثم تبيان مرجع المزية والفضيلة الأدبية لأي نمط من تلك الأنماط، وأن هذا المرجع إنما هو ذو عناصر ثلاثة، الأول: يتضمن علاقة النمط التركيبي والتصويري والتحبيري بالمعنى والغرض الذي يوضع له الكلام، والثاني والثالث، على الترتيب: يتضمن علاقة البيان (اللفظ والمعنى)، وعلاقة بعضهما ببعض في تحقيق بلاغة الخطاب وأدبيته( )، وعلى تبيان تعدد وتفاوت مستويات النظم في مدارج الفضيلة( ).
    تأسيساً على كل ذلك الذي مضى تبيانه فإنَّ النظم لتتبين أهميته في نقد النص الأدبي، أو بعبارة أخرى تتبين أهميته في النقد الأدبي للنص. وحين أكدت وصف النقد بأنه الأدبي أشير إلى أن النص يمكن أن تتناوله صنوف من مناهج النقد، ومنها منهج النقد الأدبي، أي المنهج الذي يعمد إلى تحليل وتأويل ما به يكون النص كله في كافة عناصره ومستوياته أدباً، فإذا ما تم الوفاء بحق ذلك التحليل والتأويل لأدبية النص كان البلوغ إلى وصف منـزله من الجمال أو القبح. وذلك البلوغ إلى وصف المنـزلة مرحلة أرى أن العناية بما يسلم إليها أولى من العناية بتقريرها؛ لأن من حلَّل وفسَّر وأوّل فقد فتح لك الطريق المعبّد المطرّق إلى أن تقف بنفسك على الوصف الحقيقي لمنـزلة ذلك النص من الجمال أو القبح، فالنقد الأدبي في أساسه تبيين وتحليل وتأويل، وما التقدير جمالاً وقبحاً إلا لازم ذلك التبيين والتحليل والتأويل، فالنقد الأدبي إنما هو عمل وصفي في المقام الأول، معياري فيما بعده.
    ولما كان النظم عمود بلاغة الخطاب، وكان نقد أي نص لابد أن يعنى بذلك العمود، فإن الإمام عبد القاهر يقيم نقده النص نقداً أدبياً، أي نقد ما به يكون الخطاب أدباً على أمرين أساسين أكدهما الإمام عبد القاهر:
    الأول: المنهج التحليلي الاستقصائي لكل مكونات وعناصر الخطاب الأدبي( ).
    والآخر: موضوعية التحليل والتعليل، والإبانة عن ذلك بلسان عربي مبين( ).
    ((ومثل هذا النقد مسهب، ومن ثمَّ فهو مديد طويل، إذ يستطيع أن يهتم بالعلاقات المتداخلة بين المعاني، ويتطرق إلى أدق صنوف تلك العلاقات، وأن يُعنى بأصغر العناصر في المبنى، وبالإيحاءات الجانبية، وبالظلال التي قد تمرّ دون أن يلحظها قارئ عارف بالأثر المنقود تمام المعرفة، وهي ظلال لا يلمحها إلا ذو تمرس لبيق بارع))( ).
    وتأسيساً على دعامتي التحليل الاستقصائي والتعليل الموضوعي، فإن المجال الرئيس لهذا النقد عند الإمام إنما هو العلائق الروحية بين معاني الكلم، والتي تتبعها ـ ضرورة عنده ـ العلائق الحسية بين ألفاظ الكلم( ). وهذا يبين ويقرر أن القيم الأدبية للعلائق الحسية مرتبطة بل منبثقة من القيم الروحية لمعاني الكلام.
    فالنقد الأدبي للنص ينبغي أن يوفي العلائق الروحية بين معانيه الجزئية والكلية، والعلائق الحسية بين ألفاظه وأنغامه حقهما، شريطة أن يكون المنطلق الذي تنقد منه العلائق الحسية للألفاظ هو العلائق الروحية لمعاني الكلام. وكل ذلك مرهون ـ أيضاً ـ بنقد علائق هذين الضربين من العلاقات بالمعنى الكلي، والغرض المنصوب له الكلام( ).
    من هنا كان استثمار النظم في النقد الأدبي للنص مقتضياً إخضاع كل عنصر وجانب من عناصر وجوانب بناء النص الأدبي للتحليل والتأويل وللتعليل الموضوعي، وربط ذلك كله بالمعنى الكلي، والغرض العام المنصوب له الكلام.
    ذلك تبيان معالم المشروع النقدي لعبد القاهر في طوره التصوري النظري له، وهو كما ترى يكاد يبلغ حد النظرية المكتملة عناصرها، لتبقى من بعد ذلك الممارسة المعرفية والذوقية المسترشدة بتلك النظرية، دون أن يكون هنالك إخضاع قسري لحركة الممارسة الذوقية والتحليلية في النقد العملي للنص، بمعنى أن تكون الممارسة من قبيل النقد التحليلي العملي، وليس من قبيل النقد التطبيقي المهموم برؤية صورة التصور النظري في مرآة النص، كما نراه عند بعض أهل العلم من سعيهم إلى رؤية النظرية البلاغية أو النقدية التي ارتضاها قائمة في صفحة النص الذي عمد إلى درسه.
    والنقد التحليلي العملي مهموم برؤية واقع النص على ما هو عليه، سواء كان مقارباً نظرية معرفية وذوقية ما أو مفارقاً. فالتصور النظري في النقد التحليلي لا يعدو أن يكون أداة ووسيلة ينظر بها الواقع، وليس معياراً يحاكم به واقع النصّ.
    وإذا ما كنّا قد رأينا الإمام عبد القاهر قد منح التصور النظري كثيراً من حقه ووفاه حسابه، فإننا حين نتابع الممارسة التذوقية التحليلية للنصوص فإنه يحسن بنا أن ننظر إلى صنيعه من جانبيين:
    الأول: مبلغ استثمار ذلك التصور النظري في رؤية الواقع الأدبي للنص وتحليله في مستوياته التركيبية على اختلاف تفاسحها، بدءاً من الصورة الجزئية الماثلة في الجملة النحوية، إلى الصورة الكلية الماثلة في الجملة البيانية التي قد تحوي عديداً من الجمل النحوية المرتبطة بنواسق لسانية، والمرتبطة بعلائق روحية منبثقة من داخلها هي.
    والآخر: مدى المجال الذي امتدت إليه الممارسة التحليلية التذوقية، المستثمرة التصور النظري في رؤية الواقع الأدبي على المساحة النسيجية للنص الأدبي.
    وسأتناول ـ بإذن الله ـ قراءة ممارستين نقديتين لعبد القاهر لصورتين شعريتين:
    الأولى: استخدم الإمام عبد القاهر فيها منهج الأقدمين في التنبيه على مكان الخبيء ليُطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيُخرج( ).

    والآخر: مارس هو بنفسه طلب ذلك الدفين فأخرج بعضه( ).
    وإذا ما جئنا إلى تبيان مدى المجال الذي امتدت إليه الممارسة التذوقية التحليلية، فإنّ الذي بلغنا من تراث الإمام عبد القاهر ليس فيه ما يدل على أنّ الإمام قد عمد إلى نصّ أدبي، شعراً أو نثراً، كاملاً فتناوله بالتذوق والتحليل.
    ولا أظن أنّ الإمام قد كان منه ذلك عن عجز أو غفلة عن أهمية التدرج من المستوى الجزئي في النقد إلى المستوى الأعلى، الذي يبلغ النسيج الكلي للنصّ، وذلك من أمرين:
    الأول: ما أشرت إليه قبل في مبحث "مستويات النظم عند الإمام"، وجعله النظم القائم في مجال بناء الجملة كلا نظم في صحبة النظم القائم بين علاقات الجمل في بناء الفقرة، على نحو ما سمعته في نقده كلمات الجاحظ: "جنبك الله الشبهة …"( ).
    والآخر : أن بين أيدينا قولاً منه في باب آخر غير باب نقد بلاغة النصّ الأدبي الإبداعي، وهو باب بلاغة البيان القرآني، يقرر فيه ما يؤكد وعي الإمام منـزلة التحليل والتأويل المتصاعد من الصورة الجزئية إلى الصورة الكلية النصية، يقول الإمام: ((… أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة وتنبيه، وإعلام وتذكير، وترغيب وترهيب، ومع كل حجة وبرهان، وصفة وتبيان. وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعُشْراً عُشْراً ، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقاً بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً وإتقاناً وإحكاماً لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حكّ بيافوخه السماء موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أن تدَّعي وتقول، وخذيت القروم فلم تملك أن تصول))( ).
    فانظر قوله: "تأملوه سورة سورة … وآية آية"، فيه دلالة على أن التأمل والتحليل لا يقف عند مستوى جزئي معين، بل هو شامل كافة المستويات التركيبية. وفيه دلالة على أنه ذاهب إلى قيمة التحليل النصي، وإن لم يدعم ذلك اليقين النظري منه بأهمية ذلك بممارسة تحليلية لنص كامل، إلا ما كان منه من إشارة إلى موطن الخبيء في نظم سورة الفاتحة، وما قامت عليه من علائق روحية بين معاني كلمها( ).
    فهل كان خلو تراث الإمام من الممارسة التذوقية التحليلية لبناء نصّ كامل مرجعه قرب الأجل؟ لعل استفراغ الإمام عبد القاهر كثيراً من جهده ووقته في التصدّي لمقالات المخالفين ونقدها ونقضها ذو أثر بليغ في افتقاره إلى ما يحقق للتحليل والتذوق الكلي للنص حقه. وهذا واحد من الآثار غير الحميدة لاشتغال الرواد والأئمة بنقض مقولات المخالفين، من قبل الوفاء التام بحق إقامة بناء التصور النظري للمذهب إقامة كاملة، ثم الوفاء التام بحق الممارسة التذوقية التحليلية لكافة مستويات البناء الأدبي للنص، بدءاً من أصغر عنصر من عناصره اللسانية والروحية، إلى أعلاها وأبسطها مدى: النص كله.
    لو أن عبد القاهر تجاهل الاشتغال بنقد ونقض مقالات الآخرين، وانصرف إلى تشييد نظريته تصويراً نظرياً، وتدبّراً عملياً في كافة مستويـات النظم، فإن بقي من العمر والجهد شيء صرفه في النقد والنقض لمقالات المخالفين، فإن لم يبق فإن فيما أدّى حقه الكفاية والغنية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أنْ يبصر من خلاله عوار مقالات المخالفين ومعاباتها.
    المهم أنّ علماءنا الأماجد في غير باب نقد النص الأدبي، في باب فقه البيان القرآني كانوا أسرع إلى الأخذ بالتصور النظري لدى الإمام عبد القاهر، واستثماره في مجال عنايتهم ودراستهم، فاستثمرت نظرية نظم النصّ في كافة مستويات النظم والترتيب والتأليف والتركيب النصي في القرآن الكريم، ولم يقتصر تدبرهم وتحليلهم على بناء الجملة النحوية، بل تجاوز ذلك بناءَ الجملة البيانية ذات الجمل النحوية العديدة، إلى بناء المعاقد المشكل بناء النص/ السورة القرآنية، بل امتد ليشمل بناء السياق البياني للقرآن الكريم، القائم على أساس الإحكام ثم التفصيل في مستوياته العديدة، التي أعلاها أحكام بيان معاني الهدي القرآني في سورة أم الكتاب، وتفصيله في سائر سور القرآن الكريم كله، تفصيلاً تتناسل عناصره من رحم السورة الأم.
    وأنت لا تجد بيانا بشرياً أو غير بشري قد عولج بناؤه على هذا المنهاج التحليلي والتركيبي، كمثل ما أنت مبصره في صنيع علماء القرآن الكريم ببيانه الحكيم، وهم لا يعتمدون في ذلك على النظر الشكلي للبناء السوري وعلاقات السور ببعضها، بل تجاوز العناية بعلائق فواتح السور بخواتم ما قبلها، وإنْ كان ذلك في نفسه جد كريم، وذا لطائف إشارية ليس هنا مجال تجليتها ـ تجاوزوا ذلك إلى فقه العلائق الروحية بين المقاصد والأغراض والمعاني الكلية بين السور، بما يكشفون به عن وجهين:
    الأول: التصريف البياني لتلك المقاصد والأغراض المنصوب لها الكلام.
    والآخر: تصاعد المقاصد، والنمو الدَّاخلي للمعنى القرآني المكنونة جرثومته في سورة "أم الكتاب"، والمفصّل في سائر القرآن تفصيلاً تصاعدياً لا تراكمياً.
    هذا الاستشراف النبيل الماجد لاستثمار نظرية النظم في فقه بلاغة البيان القرآني من علمائنا الأجاويد، لا نجد له عند الأقدمين من علماء البلاغة والنقد ما يضارع حركته وامتداده في دراسة النصّ الأدبي، شعراً ونثراً، فضلاً عن دراسة ديوان شعر شاعر. ولو أنّ عنايتهم بما اختاروا أن يكون من أهل العلم به من الإبداع الأدبي كانت على هدي وقدر عناية أقرانهم من علماء بيان القرآن الكريم ـ لو أنهم فعلوا وساروا بمنهاجهم على هدى خطا أقرانهم من علماء القرآن الكريم، لكانت ثمار النقد الأدبي عندنا أوفر عطاء وأسمى منـزلة مما هي عليه الآن.
    ومن اللافت للنظر والمثير للعجب أنّ استثمار نظرية النظم، والاسترشاد بها في باب فقه بلاغة القرآن الكريم في أصغر صوره التركيبية إلى أعظمها: "السياق القرآني كله" قد بلغ ذروته وشرفه في القرن التاسع الهجري في عصر المماليك، ذلك العصر الموسوم بعصر الانحطاط في الإبداع الأدبي، وبعصر الموسوعات، والتراكم المعرفي، والتناسخ الثقافي، والعقم الفكري، والافتتان بالزخرف، وغير ذلك مما تموج به كتابات النقاد المحدثين من وسم هذا العصر بميسم التخلف. من العجيب أن نقاد الأدب لم ينتفعوا بمنهاج أقرانهم في عصرهم من علماء البيان القرآني على نحو ما نراه عند برهان الدين البقاعي (ت 855هـ) مثلاً.
    كان حرياً بالنقد الأدبي حينذاك أن يتجاوب مع حركة التدبر البياني للقرآن الكريم، حتى وإن كان الغالب على نتاج إبداع أدباء ذلك العصر ما ليس حميداً، فإنّ من بين أيديهم نتاج عصور وقرون عديدة يمكن الممارسة التذوقية التحليلية الماجدة لشعره.
    ماذا لو أن ناقداً استهدى بنظرية التناسب القرآني التي هي قائمة على أساس نظرية النظم الجرجانية، وعالج تحليل قصائده من العصور الخوالي على هديها؟ لو ذلك كان لكانت الحركة النقدية في ذلك العصر، إن لم تتسام على ما يتشادق به نقدة عصرنا هذا بما استجدوه من فتات موائد الأعاجم، لما كان من دونه منـزلة على الأقل.
    وإذا ما نظرت في واقع النقد الأدبي في عصرنا هذا ـ متجاهلاً تلك المذاهب الأعجمية التي نبش نقادنا قبورها فأخرجوها لنقتات منها ـ فإنك ترى شيئاً من عناية الناقدين المستمسكين بعربيتهم لسانا وفكراً وتذوقاً بالاسترشاد والاهتداء بنظرية النظم الجرجانية في قراءة النص الأدبي قراءة تذوقية تحليلية.
    ترى ذلك مثلاً في صنيع أبي فهر محمود شاكر لقصيدة "ابن أخت تأبط شراً":
    إنّ بالشعب الذي دون سلع لقتيلاً دمه ما يُطلُّ
    في كتابه "نمط صعب ونمط مخيف"، فقد كان صنيعه في التحليل استثماراً مجيداً لأصول نظرية النظم الجرجاني في تحليل النسيج الشعري للقصيدة كلها.
    وتراه أيضاً في صنيع شيخنا أبي موسى في كتابه "قراءة في الأدب القديم"، في طبعته الثانية، فإنك مبصر أنّ منهج الشيخ في التحليل والتذوق قائم على أصول نظرية النظم الجرجانية، المتمثلة فيما سبق أن بينه من المقومات الثلاثة لتمام بلاغة الخطاب الأدبي( )، وفي أن المعنى الشعري جرثومته من رحم الصياغة الشعرية، التي عمودها النظم، القائم على توخي العلاقات الروحية بين معاني الكلم، وأن هذه العلاقات ذات وجوه وفروق وأنماط كثيرة، ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها زيادة بعدها، وأن فضائل تلك الوجوه والأنماط بلاغةً إنما تأتيها من روافد ثلاثة: المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، وموقع تلك الوجوه بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض، وأن مساحة النسيج النظمي لا تنحصر في نسيج الجملة النحوية ولا البيانية، بل ذلك ممتد إلى نسيج نظم النص كله.
    ذلك ما يقيم الشيخ قراءته على أساسه، مستصحباً مقالة الإمام في تعيين طريق تحقيق مقومات تمام بلاغة الخطاب الأدبي، التي يقول فيها: ((ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غيرُ أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، وتختـار له اللفظ الذي هو أخصّ به، وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يُكسبـه نبلاً، ويظهـر فيـه مزية))( ). وقارئ صنيع شيخنا أبي موسى في هذا الكتاب: "قراءة في الأدب القديم" يدرك أنه لم يسع إلى تطبيق نظرية النظم الجرجانية، بل إلى تحليل النص الشعري، مستهدياً بأصول تلك النظرية، ولذلك لم يشأ أن يكبل حركة تذوقه وتحليله بجزئيات تلك النظرية، ولم يشأ أن تكون قراءته للنص قراءة استنساخية لنظرية النظم الجرجانية فيها، فيكون صنيعُه المتحدثَ بلسان تلك النظرية، ولم يشأ أن تكون قراءته للنص قراءة تأويلية لنظرية النظم الجرجانية، التي تسعى إلى تأويل ما قد يحسب أنه وجه نقص أو إغفال لبعض وجوه النظر النقدي للنص، فهو لا يقيم حاله جندياً على ثغر من ثغور النظرية الجرجانية، ولكنه يعمد إلى القراءة التحليلية لواقع النصّ الأدبي مسترشداً، لا مكبّلاً، بأصول النظرية الجرجانية. واقرأ أولاً مقدمتي كتابه الأولى والثانية، ثمَّ تابع القراءة في ممارسته التحليلية تجد مصداق الذي ذكرت لك، بل تجده في ممارسته التحليلية أجلى وأبهر مما تجده في مقدمتيه.
    وهذا ما يجعل ما يرمي إليه من قراءة النظرية الجرجانية ممثلة للفكر البلاغي العربي في شعر العربية، فيرى تلك النظرية واقعاً في نسيج الإبداع الشعري، فالأساس عنده تحليل الشعر وتذوقه، وليس شرح النظرية نفسها بأي نهج كان الشرح. التحليل والتذوق للنص الأدبي هو السبيل المطرق إلى كشف كثير من دقائق ولطائف تلك النظرية، وإلى البناء على ما جاءنا منها من الأقدمين، وليس من سبيل إلى استكمال جوانبها إلا بتحليل النصّ الشعري، مسترشدين بأصولها ومنهجها. وهنالك ممارسات نقدية انطلقت من أصول تلك النظرية في قراءة النص الشعري، على نحو ما نراه عند الدكتور عبده بدوي فيما كان ينشره في مجلة "الشعر"، وفيما نشره في بعض كتبه، وما نراه في محاولتين للدكتور عبده زايد من قراءة معلقة زهير وقصيدة حريق ميت غمر لحافظ إبراهيم، وغيرهم غير قليل، وكلها ممارسات تؤكِّد أهمية نظرية النظم في نقد النصّ الأدبي.

    من صور نقد عبد القاهر النص في ضوء نظرية النظم
    الذي يقرأ "الدلائل" يجد الإمام عبد القاهر في مفتتحه يعرض لصنيع العلماء من سلفه في بيان معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها. وهو إنما ينظر في مقالتهم في هذا؛ لأن مقالتهم هذه مقالة فيما هو الجدير بِأن يكون مناط النظر والقراءة التأملية التحليلية التأولية والتلقي الماجد في البيان الأدبي العالي.
    نحن لا نقرأ في أي إبداع أدبي إلا أدبيته أو شعريته التي يطلق عليها أسلافنا: "الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان وكل ما شاكل ذلك"، فهذه الكلمات السلفية العربية هي هي أدبية النص وشعريته، كما يجري على الألسنة اليوم، وقد أغرم الناس بهما، وأعرضوا عن تلك الكلمات السلفية، إما ظناً منهم أنهما ليست هي التي تتقاذفها ألسنة المحدثين من أدبية النص وشعريته، وأن الجديدتين ماجدتان، وكما يقول المثل العربي: "في كل شجر نار، واستمجد المرخ والقفار"، أي: استكثر منهما كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما، ومن ثمّ كانتا جديرتين عند أولئك بالرغبة فيهما وجريانهما على اللسان من تلك الكلمات السلفية التليدة، وإما خوفاً من أن يأتي زمان يؤخذ فيه الناطق بالكلمات السلفية "البلاغة والفصاحة …"، والراغب عن الأدبية والشعرية بتهمة الإرهاب اللغوي، والتي ستصنعها الطواغيت، بأنها من رحم الإرهاب السياسي، فكان من الحيطة {خذوا حذركم}، {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، و((المؤمن كيس فطن)) أنْ يرغب عن تلك السلفيات التليدة إلى هذه الغضة الطرية "الأدبية/ الشعرية".
    قلت إنه لما كانت كل قراءة وتلقي = (وهما كلمتان قرآنيتان لا أعجميتان، وما يكون لي أن أدع قرآني مخافة شيء) = إنما هي في بلاغة البيان وفصاحته، وأنه لا يعنينا من أمر الكلام العالي إلا فصاحته عن المعاني الآدمية، التي ترتقي بالقارئ من وجوده الإنساني اللائط بالتراب إلى حقيقته الآدمية المستشرفة إلى الأفق الأقدس، حيث القرب والرضوان. نحن المسلمين لا نقرأ ولا نتلقى الكلمة الشاعرة، قصيداً أو نثيراً، متجردين من إسلامنا وعروبتنا، أو متشاغلين عنهما، هما ـ عندي ـ مزاج كل قراءة، بل كل حركة، وإلا كان الفعل عقيماً، بل ليته عقيماً وكفى، إنه فعل لئيم أليم.
    فمناط قراءة النص هي بلاغته وفصاحته وبراعته وبيانه (أدبيته/ شعريته)، فما بيان السلف لحقيقة هذا المناط؟
    يؤكد الإمام عبد القاهر أن سلفنا كان بيانهم ذلك على ضربين:
    ضـرب: كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء.
    وضرب: كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها( ).
    حدد بصيرتك في قوله: "الخبيء"، "الدفين". وهو يردد مثل هذا في موطن آخر من الكتاب، يقول: ((الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها رموز لا يفهمها إلا من هو في مثل حالهم، من لُطْف الطبع ومن هو مهيأ لفهم تلك الإشارات، حتى كأن تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان قد تواضعت فيما بينها على ما سبيلُه سبيلُ الترجمة، يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم، ولا يعرفها من ليس منهم))( ).
    وفي موضع ثالث يقول: ((واعلم أنك لا ترى في الدنيا علماً قد جرى الأمر فيه بديئاً وأخيراً على ما جرى عليه في "علم الفصاحة والبيان". أما البدِئ فهو أنك لا ترى نوعاً من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذين علَّموا الناس، وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، والتصريحَ أغلب من التلويح، والأمر في "علم الفصاحة " بالضدّ من هذا. فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه وجدت جله أوكله رمزاً ووحياً، وكناية وتعريضاً، وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطُن له إلا من غلغل الفكر وأدق النظر، ومن يرجع من طبعه إلى ألمعية يقوى معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأن بَسْلاً حراماً أن تتجلى معانيهم سافرة الأوجه لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها، وحتى كأن الإفصاح بها حرام، وذكرها إلا على سبيل الكناية والتعريض غير سائغ. وأما الأخير فهو أنّا لم نر العقلاء قد رضُوا من أنفسهم في شيء من العلوم أنْ يحفظوا كلاماً للأولين ويتدارسوه، ويكلِّم به بعضُهم بعضاً، من غير أنْ يعرفوا له معنى، ويقفوا منه على غرض صحيح، ويكونَ عندهم، إنْ يُسألوا عنه، بيان له وتفسير، إلا "علم الفصاحة" فإنّك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم ألفاظاً للقدماء وعبارات، من غير أنْ يعرفوا لها معنى أصلاً، أو يستطيعوا، إنْ يُسألوا عنها، أن يذكروا لها تفسيراً يصحّ))( ).
    لا يكون ترديد من الإمام في أمر إلا إذا كان ذلك الأمر جليلاً. تراه فاعله في شأن النظم وهو نهج إباني ذو نسب عريق بنحو القرآن الكريم.
    قد يظن أن عبد القاهر عازف في مقالته تلك على أوتار الشكوى أو المعابة صنيعَ الأئمة من السلف. أرى صنيع عبد القاهر على غير التشكي والمعابة، أراه رامياً إلى بيان جوهر ما هم بسبيل البيان عنه، إنه لا يأنس بغير هذا، ولا يليق به إلا ذلك الضرب من البيان، فهو مما يئده الإفصاح والإيضاح والإسفار، فكل جليل لا تحيط به الأبصار والبصائر. فمن كرمه لم يطرح في الطريق، فحقه أن "لا يفطن له إلا من غلغل الفكر، وأدق النظر، ومن يرجع من طبعة إلى ألمعية يقوى معها على الغامض ويصل بها إلى الخفي"، كما يقول الإمام. جوهر بلاغة البيان العالي (أدبيته/ شعريته) التي هي مناط تلقيه وقراءته وتأمله وتدبره ذات حرمة على الدهماء والغرباء، كحرمة الحرة النسيبة المسلمة، هي بسْل حرام أن تتجلى سافرة لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها، فمن شاء أن تسفر له فليكن لتلك أهلاً، وليعقد لها عقداً، وليقدم لها صداقا شاهداً على صدق طلبته، وأهليته لحسن الجواب. فالسلف في صنيعهم ذوو لقانية وفراسة عليمة بحق ما هو مناط القراءة والتلقي من البيان العالي، فمن أراد أن يكون من أهلها فليملك ما يؤذن له به طرق أبواب الفردوس. ومن داوم الطرق أُذن له.
    عبد القاهر غير معيب صنعة العلماء هنا، ولذلك اتخذها فكانت منه في كتابيه، ولا سيما "الدلائل". تجده في قراءة بعض النصوص يعمد أحياناً إلى الرمز والوحي، وأحياناً ينبه على مكان الخبيء لتطلبه أنت بنفسك، وعلى مكان الدفين لتبحث عنه وتخرجه بنفسك، ويفتح لك الطريق إلى المطلوب لتضرب فيه بقدمك لا بقدم غيرك.
    وهذا الأخير هو الغالب على أمره، فهو لا يحب أن يقرأ لك، وأن ينوب عنك في التأمل والتدبر. كأنه يرى في هذا حيفاً على النص من جهة، وغمط القارئ الآخر من أخرى. حق النصّ أن يخادنه كثير من القراء، فكل سعي إلى إغناء القراء عن مخادنته حيف على ذلك النص، فكل قراءة/ مخادنة من القارئ تستثمر ضرباً من العطاء المكتنـز في النص. فكل قراءة ما جده للنص تجعله قديراً على التحدث بالنعمة التي اكتنـزت فيه.
    وحق القارئ الآخر أن يمارس بنفسه ذوق ما يطعم، لا أن يقرى ما لاكته النواجذ من قبله. إكرامه أن تفتح له الطريق ليسلك، لا أن تحمله على ظهرك، أن تعلمه الصيد لا أن تصطاد له، كما تقول الحكمة.
    ترى مثل هذا التنبيه على مكان الخبيء ليطلب في قراءة الإمام مع مدحة البحتريِّ "الفتحَ بن خاقان"، التي يتغنى فيها بقوله:
    بَلَوْنا ضَرَائب مَنْ قَدْ نَرَى
    فما إن رَأيْناَ لفَتْحٍ ضَريَبا

    هو المرء أبدت له الحادثا
    ت عزماً وشيكاً ورأياً صليبا

    تنقَّل في خُلُقي سؤدد
    سماحاً مرجى، وبأساً مهيبـا

    فكالسيف إن جئته صارخاً
    و كالبحر إن جئته مستثيبا

    لا يلج الإمام قاموس هذه الصورة من قبل أن يهيئ المتلقي لترك التشاغل عنها، ومن قبل أن يبعث فيه الاستشراف إلى مكنونها. يثيرك لتقف بنفسك وتبحر وتغوص.
    يقول: ((اعمد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصاً دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر … وتأمَّلْه)).
    هو ينصفك من نفسه، لا يجعلك تعمد إلى ما يرى هو ما يصفه بالحسن، وما يشهد هو له بالفضل، إنما تعمد إلى ما كان من الأقدمين ذلك في شأنه. وكأنه لا يدعك تكافحه بأن هذه ليست با

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 2:33 am