أساليب الشعريّة المعاصرة لصلاح فضل - مثاقفة معقولة
شفيق طه النوباني - الأردن
٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
تكبير النصتصغير النصنص فقط
مارس دارسو الأدب العربي كبحاً لأشكال هذا الأدب واتجاهاته تبعاً لعمليات المثاقفة في النقد العربي الحديث، إذ لم يتوقف ذلك على الاتجاهات الأدبية في الأدب التي تأخذ عادة أشكالها المتنوعة نتيجة ظروف المجتمع وتغيراته واتصالاته الحضارية، بل تعدى ذلك إلى بعض الأجناس الأدبية في الأدب العربي كالمقامة التي قرنوها بالقصة في أكثر من دراسة.
والناظر في محاولات النقاد العرب في مقارباتهم للمذاهب الأدبية في الأدب العربي يلحظ سلطوية الاتجاهات الغربية، فبعد أن استقرت التسميات المتعلقة بالمذاهب في الأدب العربي كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية يجد المتفحّص أن بعضها جاء نتيجة إلقائها جزافاً عليه، خصوصا إذا ما استثنينا المذهب الواقعي وبعض الكتابات الرومانسية، إذ توافقت ظروف معينة لإيجاد هذين الاتجاهين بوصفهما اتجاهين واضحَيّ المعالم. ولعل نظرة في أحد الكتب التي تتناول هذه المذاهب في الأدب العربي كفيلة بالكشف عن ذلك، ففي كتاب مذاهب الأدب: معالم وانعكاسات مثلا نجد ياسين الأيوبي يحاول انتقاء تلك السمات التي تتسم بها نتف من نصوص الشعراء العرب ليطلق عليها مصطلح الرمزية ، مع أننا يمكن أن نلتقط مثل هذه السمات من شعر أي مرحلة. وما قول أبي نواس: فأصبت من طرف الحديث لذاذة / وأصبنها مني ولما أجهل إلا من قبيل تراسل الحواس. تجاوز صلاح فضل في كتابه أساليب الشعرية المعاصرة الصادر بطبعته الأولى عن دار الآداب (1995) هذه السلطوية في مقاربته للشعر العربي المعاصر، إذ اتجه إلى دراسة الشعر العربي المعاصر وفق تصور كلي لأساليبه، فكان توظيفه للاتجاه الأسلوبي الحداثي في استقراء الشعر العربي المعاصر مثاقفة معقولة لا تنجرّ وراء التسميات الغربية التي تتعلق باتجاهات أدبية أُفرزت في الغرب فكانت ألصق به، فإن تقاطعت هذه الأساليب مع الشعر الغربي فإن الدراسة الإجرائية كفيلة بإبعاد هذه المحاولة عن التعسف.
ولعلّ صلاح فضل حين شرع في مشروعه هذا أراد له أن يكون مادة تعليمية تعمّم في الدرس الأكاديمي للشعر العربي المعاصر، فهو يرى أن أهمية طرح هذا المشروع تنبع من ضرورة ربط المعرفة التجريبية من النصوص نفسها بإطار نظري نوعي يستقطب ويرشد خطواتها ، مما يدخل هذا المشروع في إطار علم الأدب فيجعله قابلا للتعليم والتعلم في بعض المؤسسات الاجتماعية والأكاديمية المتخصصة، من دون حاجة إلى قدرات فنية خاصة .
اعتمد صلاح فضل في تصنيفه لأساليب الشعرية العربية على خمس درجات متراكبة هي:1.درجة الإيقاع. 2.درجة النحوية. 3.درجة الكثافة. 4.درجة التشتت. 5.درجة التجريد.
وتشمل درجات الإيقاع: المستوى الصوتي الخارجي المتمثل في الأوزان العروضية بأنماطها المألوفة والمستحدثة، ومدى انتشار القوافي ونظام تبادلها ومسافاتها…كما تشمل ما يسمى عادة (الإيقاع الداخلي) المرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري ، إذ لا يمكن تقنين هذا الإيقاع ورصده نظراً لعدم استقراره على حال محددة.
ولا تتوقف درجة النحوية على حالات التركيب اللغوي، بل تتعداها إلى طبيعة الأبنية التخييليّة المعقولة واللامعقولة، وحالات الخروج عن الأعراف الشعرية السائدة ومداها ، أما درجة الكثافة فتعدّ تصعيداً لدرجة النحوية، وهي ذات خاصية توزيعية، وهذا يجعلها قابلة للقياس الكميِّ والنوعيّ، وتتصل أساساً بمعيار الوحدة والتعدد في الصوت والصورة، وهذا يجعلها ترتبط بحركة الفواعل ونسبة المجاز وعمليات الحذف في النص الشعري . وترتبط درجة التشتت أو التماسك في النص الشعري بمظهره الكلي الذي تفضي إليه المستويات السابقة، إذ تقوم العلاقات النحوية والدلالية، ومدى ما يتمثل فيها من ترابط أو تفكك بدور مهم في إنتاج درجة التشتت ، وتمثل درجة التجريد والحسية محصلة مركبة للدرجات السابقة، حيث تتعلق درجة الحسية إيجابيّاً بدرجتي الإيقاع والنحويّة، فكلما كان الإيقاع خارجيّاً واضحاً والنحويّة مستوفاة كانت الحسيّة أبرز. فإذا أمعن الإيقاع في التلاشي الظاهري وشارف عوالمه الداخليّة المستكنة، وتضاءلت درجة النحويّة بغلبة وجوه الانحراف على السياق في مستوياته المختلفة مال الخطاب الشعري إلى تناقص ظواهره الحسية واقترابه من التجريد وعلى العكس من ذلك نجد تعلق درجة الحسية بدرجتي الكثافة والتشتت يمضي بشكل متخالف عكسي .
يبني فضل على أساس هذا السلّم جدولة خاصة بأساليب الشعرية المعاصرة، وتتمثل هذه الجدولة في مجموعتين أسلوبيتين هما الأساليب التعبيرية والأساليب التجريدية. وتتمثل التعبيريّة بالنمط الذي تنتجه أشكال اللغة الأدبية المؤسلبة بلون من المعايشة غير المباشرة أو المعهودة، إذ تقدم نوعاً من الحقائق المبتكرة بتحريف يسير للغة المعبرة، وتفعيل معقول لآليات التوازي والاستعارة والترميز بشكل يؤدي إلى الكشف عن التجربة في مستوياتها العديدة التي قد تصل إلى أبعاد رؤيويّة، لكنها تظل تعبيرية الحقيقة المكنونة . أما الأساليب التجريدية فتعتمد على زيادة معدلات الانحراف وتغليب الإيحاء والرمز على التصريح، فتعطي القصيدة إشارات مركزة يتعيّن على المتلقي إكمالُها وتنميتها من الداخل، وقد أشار فضل إلى فارق جوهري بين التعبيرية والتجريدية يتمثل في إشارة الأولى إلى التجربة السابقة على عملية الكتابة نفسها سواء أكانت حقيقية أم متخيلة، واختفاء هذه الإشارة في الثانية بناء على غيبة هذه التجربة.
يندرج تحت التعبيرية وفق فرضية صلاح فضل أربعة أساليب، هي الأسلوب الحسي الذي تزيد فيه الإيقاعية والنحويّة؛ في حين تقل درجة الكثافة والتشتت والتجريد، والأسلوب الحيوي الذي ينمي الإيقاع الداخلي ويعمد إلى كسر يسير في درجة النحوية ويتوافر فيه مستوى جيد والتنويع من دون أن يقع بالتشتت. والأسلوب الثالث هو الأسلوب الدرامي الذي يعتمد على تعدد الأصوات والمستويات اللغويّة، ويحقق درجة من الكثافة والتشتت من دون أن يخرج عن الإطار التعبيري. أما الأسلوب الرابع فهو الرؤيوي الذي تتوارى فيه التجربة الحسيّة مما يؤدي إلى امتداد الرموز في تجليات عديدة ويفتر الإيقاع الخارجي، ولا تنهض فيه أصوات مضادة، ويحقق مزيداً من الكثافة والتشتت مع التناقص البين لدرجة النحويّة. ويمثل فضل على كل من هذه الأساليب فيتناول شعر نزار قباني نموذجاً للشعر الحسي، وشعر بدر السياب نموذجاً للشعر الحيوي، أما الشعر الدرامي فيمثل عليه من خلال نتاج صلاح عبد الصبور؛ في حين يمثل على الأسلوب الرؤيوي بشعر عبد الوهاب البياتي. وإذا كان فضل ينحو في دراسته الأسلوبية لهؤلاء الشعراء إلى تحليل بعض النماذج الشعرية، فإنه في دراسته لنماذج البياتي مال إلى التنظير للغموض في الشعر وتسويغه بدلا من كشف آليات واضحة لإجلاء هذا الغموض وسبر كوامنه؛ مما أبقى قصائد البياتي ملتفة بالغموض في ظل أسلبته، وهذا ما يقف حاجزاً في طريق قابلية التعليم التي تحدّث عنها عندما طرح مشروعه.
ويتخذ فضل من شعر محمود درويش نموذجاً للتحولات التي تتسع لكل هذه الأساليب التعبيريّة، فقد بدأ من الأسلوب الحسي الذي خرج فيه من عباءة نزار، ومثّل على ذلك بقصيدة بطاقة هوية ، وانتقل إلى الأسلوب الذي اجتمعت فيه الحيوية والدرامية، كما هو الحال في قصيدة كتابة على ضوء بندقية ، وانتهى إلى الأسلوب الرؤيوي الذي مثل عليه بقصيدة أرى ما أريد .
ويرى فضل أن التجريدية تقتصر على أسلوبين مبدئيّاً؛ هما: التجريد الكوني الذي تتضاءل فيه درجات الإيقاع والنحويَّة إلى حدٍّ كبير، مع التزايد المدهش لدرجتي الكثافة والتشتت، ومحاولة استيعاب التجربة الوجودية الكونيّة باستخدام بعض التقنيات السيريالية والصوفيّة الدنيويّة . والتجريد الإشراقي الذي يقع على خط عرض الاتجاه السابق بالنسبة لسلم الدرجات الشعرية، مع التباس أوضح بالنزوع الصوفي الميتافيزيقي، والامتزاج بمعالم وجودية تختلط فيها الأصوات المشتبكة والرؤى المبهمة، مع نزوع روحي بارز يعمد إلى التغريب في التراث الفلسفي بدلا من التغريب في التراث العالمي .
ويدرس فضل نماذج من شعر أدونيس ليمثل على التجريد بما فيه من اضطراب في علاقات الإسناد في اللغة يؤدي إلى تغييب العلاقات الواضحة للعلاقات والرموز لتمثيل فلسفة مدارها أن الموجود يتحقق في الإنسان بوصفه عقلا، أي بوصفه لغة أو كائناً لغوياً قبل كل شيء. وتقود هذه النتيجة التي توصل إليها فضل إلى إشفاقه على جهود نقاده وهم يحاولون إعادة ربط شعره بهذا العالم .
ولعل الإسراف في الحداثة بشكلها الغربي قاد فضل إلى هذا الشعور الذي يحمل حكماً عامّاً، فأدونيس لا يستخدم المواد الخام في فنّه التشكيلي إذا ما اتفقنا مع فضل في كونه فنانا تشكيليّاً، بل تحمل موادّه دلالات عميقة موروثة، فإن مال إلى تشكيلها من جديد فإن مجرد وجودها الظاهر في هذا التشكيل الجديد يحيل إلى موروثها بوصفه غائباً يحضر لدى المتلقي لمجرد وجوده في النص، والقارئ لا شك يحدس بعداً أيديولوجياً في شعر أدونيس، أو غيره من الشعراء الحداثيين. وما النص كما ينقل فضل عن جوليا كريستيفا في كتاب آخر له إلا وحدة أيديولوجيّة. لقد بين فضل أهم الملامح الأسلوبيّة في شعر أدونيس كضياع القناع، والأسلوب الصوفي في شعره، غير إنه تنكر لكل تلك المحاولات النقديّة التي تعقلن شعر أدونيس كتوظيف أسطورة الفينيق وتجدده وبعثه، وكأنه يريد أن يقود شعر الحداثة إلى التعمية الممنطقة التي لا يمكن لها أن تسعف فتضاء.
وعلى الرغم من إيراد هذا التعريف للأسلوب التجريدي الثاني لم يرد تمثيل صريح له، فما ورد في الجزء الأخير من الكتاب متعلق بثلاثة شعراء يقعون في شعرهم على الأعراف بين التعبير والتجريد، وهم سعدي يوسف ومحمد الماغوط ومحمد عفيفي مطر. وهذا ما يجعل تصنيفه للأساليب الشعريّة التجريديّة معلقاً في الهواء، فالناقد يطرح فرضيّة جديدة لم تأخذ حقها من التطبيق فيما يتعلق بالشعر التجريدي الإشراقي.
والقارئ لدراسة فضل شعراء الأعراف كما يسميهم يجد أن الناقد يقارب بين التنظير والتطبيق فيما يتعلق بشعر سعدي يوسف؛ في حين ينصبّ تنظيره لقصيدة النثر فيما يتعلق بشعر الماغوط، وتظهر الملامح التجريديّة الإشراقيّة في شعر عفيفي مطر من دون أن يشير أدنى إشارة إلى هذا الأسلوب، إذ لا يجد القارئ تفسيراً محدّداً لهذا التشتت في نهاية الكتاب.
لقد قدم فضل فرضيّة جديرة بالاهتمام في كتابه، إذ لم يتوقف عند وصف الأساليب الشعريّة كما هو الحال في الكثير من الدراسات الأسلوبية التي لا تتجاوز الوصفية، بل امتدت دراسته إلى دلالات هذه الأساليب وارتباطها العضوي بها، مما يدعو إلى متابعة هذه الدراسة بدراسات أخرى ترصد الأساليب نفسها عند الشعراء أو ما يمكن أن يكشف عنه في خريطة الشعر العربي المعاصر، وقد ظهرت في كتابات فضل امتدادات هذه الفرضيّة، ففي مقالته حول حاوي استراتيجية الخطاب الشعري عند حاوي تظهر إشاراته إلى الأسلوب الرؤيوي، أما ورقته النقديّة التي قدمها في مهرجان جرش الرابع عشر فتُظهر ميوله إلى تقديم أسلوب جديد هو الأسلوب السينمائي الذي مثله أمل دنقل، من دون أن يشير أدنى إشارة إلى الأسلوب الحيوي الذي أدرج شعره به في الكتاب موضوع التقديم.
شفيق طه النوباني - الأردن
٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
تكبير النصتصغير النصنص فقط
مارس دارسو الأدب العربي كبحاً لأشكال هذا الأدب واتجاهاته تبعاً لعمليات المثاقفة في النقد العربي الحديث، إذ لم يتوقف ذلك على الاتجاهات الأدبية في الأدب التي تأخذ عادة أشكالها المتنوعة نتيجة ظروف المجتمع وتغيراته واتصالاته الحضارية، بل تعدى ذلك إلى بعض الأجناس الأدبية في الأدب العربي كالمقامة التي قرنوها بالقصة في أكثر من دراسة.
والناظر في محاولات النقاد العرب في مقارباتهم للمذاهب الأدبية في الأدب العربي يلحظ سلطوية الاتجاهات الغربية، فبعد أن استقرت التسميات المتعلقة بالمذاهب في الأدب العربي كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية يجد المتفحّص أن بعضها جاء نتيجة إلقائها جزافاً عليه، خصوصا إذا ما استثنينا المذهب الواقعي وبعض الكتابات الرومانسية، إذ توافقت ظروف معينة لإيجاد هذين الاتجاهين بوصفهما اتجاهين واضحَيّ المعالم. ولعل نظرة في أحد الكتب التي تتناول هذه المذاهب في الأدب العربي كفيلة بالكشف عن ذلك، ففي كتاب مذاهب الأدب: معالم وانعكاسات مثلا نجد ياسين الأيوبي يحاول انتقاء تلك السمات التي تتسم بها نتف من نصوص الشعراء العرب ليطلق عليها مصطلح الرمزية ، مع أننا يمكن أن نلتقط مثل هذه السمات من شعر أي مرحلة. وما قول أبي نواس: فأصبت من طرف الحديث لذاذة / وأصبنها مني ولما أجهل إلا من قبيل تراسل الحواس. تجاوز صلاح فضل في كتابه أساليب الشعرية المعاصرة الصادر بطبعته الأولى عن دار الآداب (1995) هذه السلطوية في مقاربته للشعر العربي المعاصر، إذ اتجه إلى دراسة الشعر العربي المعاصر وفق تصور كلي لأساليبه، فكان توظيفه للاتجاه الأسلوبي الحداثي في استقراء الشعر العربي المعاصر مثاقفة معقولة لا تنجرّ وراء التسميات الغربية التي تتعلق باتجاهات أدبية أُفرزت في الغرب فكانت ألصق به، فإن تقاطعت هذه الأساليب مع الشعر الغربي فإن الدراسة الإجرائية كفيلة بإبعاد هذه المحاولة عن التعسف.
ولعلّ صلاح فضل حين شرع في مشروعه هذا أراد له أن يكون مادة تعليمية تعمّم في الدرس الأكاديمي للشعر العربي المعاصر، فهو يرى أن أهمية طرح هذا المشروع تنبع من ضرورة ربط المعرفة التجريبية من النصوص نفسها بإطار نظري نوعي يستقطب ويرشد خطواتها ، مما يدخل هذا المشروع في إطار علم الأدب فيجعله قابلا للتعليم والتعلم في بعض المؤسسات الاجتماعية والأكاديمية المتخصصة، من دون حاجة إلى قدرات فنية خاصة .
اعتمد صلاح فضل في تصنيفه لأساليب الشعرية العربية على خمس درجات متراكبة هي:1.درجة الإيقاع. 2.درجة النحوية. 3.درجة الكثافة. 4.درجة التشتت. 5.درجة التجريد.
وتشمل درجات الإيقاع: المستوى الصوتي الخارجي المتمثل في الأوزان العروضية بأنماطها المألوفة والمستحدثة، ومدى انتشار القوافي ونظام تبادلها ومسافاتها…كما تشمل ما يسمى عادة (الإيقاع الداخلي) المرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري ، إذ لا يمكن تقنين هذا الإيقاع ورصده نظراً لعدم استقراره على حال محددة.
ولا تتوقف درجة النحوية على حالات التركيب اللغوي، بل تتعداها إلى طبيعة الأبنية التخييليّة المعقولة واللامعقولة، وحالات الخروج عن الأعراف الشعرية السائدة ومداها ، أما درجة الكثافة فتعدّ تصعيداً لدرجة النحوية، وهي ذات خاصية توزيعية، وهذا يجعلها قابلة للقياس الكميِّ والنوعيّ، وتتصل أساساً بمعيار الوحدة والتعدد في الصوت والصورة، وهذا يجعلها ترتبط بحركة الفواعل ونسبة المجاز وعمليات الحذف في النص الشعري . وترتبط درجة التشتت أو التماسك في النص الشعري بمظهره الكلي الذي تفضي إليه المستويات السابقة، إذ تقوم العلاقات النحوية والدلالية، ومدى ما يتمثل فيها من ترابط أو تفكك بدور مهم في إنتاج درجة التشتت ، وتمثل درجة التجريد والحسية محصلة مركبة للدرجات السابقة، حيث تتعلق درجة الحسية إيجابيّاً بدرجتي الإيقاع والنحويّة، فكلما كان الإيقاع خارجيّاً واضحاً والنحويّة مستوفاة كانت الحسيّة أبرز. فإذا أمعن الإيقاع في التلاشي الظاهري وشارف عوالمه الداخليّة المستكنة، وتضاءلت درجة النحويّة بغلبة وجوه الانحراف على السياق في مستوياته المختلفة مال الخطاب الشعري إلى تناقص ظواهره الحسية واقترابه من التجريد وعلى العكس من ذلك نجد تعلق درجة الحسية بدرجتي الكثافة والتشتت يمضي بشكل متخالف عكسي .
يبني فضل على أساس هذا السلّم جدولة خاصة بأساليب الشعرية المعاصرة، وتتمثل هذه الجدولة في مجموعتين أسلوبيتين هما الأساليب التعبيرية والأساليب التجريدية. وتتمثل التعبيريّة بالنمط الذي تنتجه أشكال اللغة الأدبية المؤسلبة بلون من المعايشة غير المباشرة أو المعهودة، إذ تقدم نوعاً من الحقائق المبتكرة بتحريف يسير للغة المعبرة، وتفعيل معقول لآليات التوازي والاستعارة والترميز بشكل يؤدي إلى الكشف عن التجربة في مستوياتها العديدة التي قد تصل إلى أبعاد رؤيويّة، لكنها تظل تعبيرية الحقيقة المكنونة . أما الأساليب التجريدية فتعتمد على زيادة معدلات الانحراف وتغليب الإيحاء والرمز على التصريح، فتعطي القصيدة إشارات مركزة يتعيّن على المتلقي إكمالُها وتنميتها من الداخل، وقد أشار فضل إلى فارق جوهري بين التعبيرية والتجريدية يتمثل في إشارة الأولى إلى التجربة السابقة على عملية الكتابة نفسها سواء أكانت حقيقية أم متخيلة، واختفاء هذه الإشارة في الثانية بناء على غيبة هذه التجربة.
يندرج تحت التعبيرية وفق فرضية صلاح فضل أربعة أساليب، هي الأسلوب الحسي الذي تزيد فيه الإيقاعية والنحويّة؛ في حين تقل درجة الكثافة والتشتت والتجريد، والأسلوب الحيوي الذي ينمي الإيقاع الداخلي ويعمد إلى كسر يسير في درجة النحوية ويتوافر فيه مستوى جيد والتنويع من دون أن يقع بالتشتت. والأسلوب الثالث هو الأسلوب الدرامي الذي يعتمد على تعدد الأصوات والمستويات اللغويّة، ويحقق درجة من الكثافة والتشتت من دون أن يخرج عن الإطار التعبيري. أما الأسلوب الرابع فهو الرؤيوي الذي تتوارى فيه التجربة الحسيّة مما يؤدي إلى امتداد الرموز في تجليات عديدة ويفتر الإيقاع الخارجي، ولا تنهض فيه أصوات مضادة، ويحقق مزيداً من الكثافة والتشتت مع التناقص البين لدرجة النحويّة. ويمثل فضل على كل من هذه الأساليب فيتناول شعر نزار قباني نموذجاً للشعر الحسي، وشعر بدر السياب نموذجاً للشعر الحيوي، أما الشعر الدرامي فيمثل عليه من خلال نتاج صلاح عبد الصبور؛ في حين يمثل على الأسلوب الرؤيوي بشعر عبد الوهاب البياتي. وإذا كان فضل ينحو في دراسته الأسلوبية لهؤلاء الشعراء إلى تحليل بعض النماذج الشعرية، فإنه في دراسته لنماذج البياتي مال إلى التنظير للغموض في الشعر وتسويغه بدلا من كشف آليات واضحة لإجلاء هذا الغموض وسبر كوامنه؛ مما أبقى قصائد البياتي ملتفة بالغموض في ظل أسلبته، وهذا ما يقف حاجزاً في طريق قابلية التعليم التي تحدّث عنها عندما طرح مشروعه.
ويتخذ فضل من شعر محمود درويش نموذجاً للتحولات التي تتسع لكل هذه الأساليب التعبيريّة، فقد بدأ من الأسلوب الحسي الذي خرج فيه من عباءة نزار، ومثّل على ذلك بقصيدة بطاقة هوية ، وانتقل إلى الأسلوب الذي اجتمعت فيه الحيوية والدرامية، كما هو الحال في قصيدة كتابة على ضوء بندقية ، وانتهى إلى الأسلوب الرؤيوي الذي مثل عليه بقصيدة أرى ما أريد .
ويرى فضل أن التجريدية تقتصر على أسلوبين مبدئيّاً؛ هما: التجريد الكوني الذي تتضاءل فيه درجات الإيقاع والنحويَّة إلى حدٍّ كبير، مع التزايد المدهش لدرجتي الكثافة والتشتت، ومحاولة استيعاب التجربة الوجودية الكونيّة باستخدام بعض التقنيات السيريالية والصوفيّة الدنيويّة . والتجريد الإشراقي الذي يقع على خط عرض الاتجاه السابق بالنسبة لسلم الدرجات الشعرية، مع التباس أوضح بالنزوع الصوفي الميتافيزيقي، والامتزاج بمعالم وجودية تختلط فيها الأصوات المشتبكة والرؤى المبهمة، مع نزوع روحي بارز يعمد إلى التغريب في التراث الفلسفي بدلا من التغريب في التراث العالمي .
ويدرس فضل نماذج من شعر أدونيس ليمثل على التجريد بما فيه من اضطراب في علاقات الإسناد في اللغة يؤدي إلى تغييب العلاقات الواضحة للعلاقات والرموز لتمثيل فلسفة مدارها أن الموجود يتحقق في الإنسان بوصفه عقلا، أي بوصفه لغة أو كائناً لغوياً قبل كل شيء. وتقود هذه النتيجة التي توصل إليها فضل إلى إشفاقه على جهود نقاده وهم يحاولون إعادة ربط شعره بهذا العالم .
ولعل الإسراف في الحداثة بشكلها الغربي قاد فضل إلى هذا الشعور الذي يحمل حكماً عامّاً، فأدونيس لا يستخدم المواد الخام في فنّه التشكيلي إذا ما اتفقنا مع فضل في كونه فنانا تشكيليّاً، بل تحمل موادّه دلالات عميقة موروثة، فإن مال إلى تشكيلها من جديد فإن مجرد وجودها الظاهر في هذا التشكيل الجديد يحيل إلى موروثها بوصفه غائباً يحضر لدى المتلقي لمجرد وجوده في النص، والقارئ لا شك يحدس بعداً أيديولوجياً في شعر أدونيس، أو غيره من الشعراء الحداثيين. وما النص كما ينقل فضل عن جوليا كريستيفا في كتاب آخر له إلا وحدة أيديولوجيّة. لقد بين فضل أهم الملامح الأسلوبيّة في شعر أدونيس كضياع القناع، والأسلوب الصوفي في شعره، غير إنه تنكر لكل تلك المحاولات النقديّة التي تعقلن شعر أدونيس كتوظيف أسطورة الفينيق وتجدده وبعثه، وكأنه يريد أن يقود شعر الحداثة إلى التعمية الممنطقة التي لا يمكن لها أن تسعف فتضاء.
وعلى الرغم من إيراد هذا التعريف للأسلوب التجريدي الثاني لم يرد تمثيل صريح له، فما ورد في الجزء الأخير من الكتاب متعلق بثلاثة شعراء يقعون في شعرهم على الأعراف بين التعبير والتجريد، وهم سعدي يوسف ومحمد الماغوط ومحمد عفيفي مطر. وهذا ما يجعل تصنيفه للأساليب الشعريّة التجريديّة معلقاً في الهواء، فالناقد يطرح فرضيّة جديدة لم تأخذ حقها من التطبيق فيما يتعلق بالشعر التجريدي الإشراقي.
والقارئ لدراسة فضل شعراء الأعراف كما يسميهم يجد أن الناقد يقارب بين التنظير والتطبيق فيما يتعلق بشعر سعدي يوسف؛ في حين ينصبّ تنظيره لقصيدة النثر فيما يتعلق بشعر الماغوط، وتظهر الملامح التجريديّة الإشراقيّة في شعر عفيفي مطر من دون أن يشير أدنى إشارة إلى هذا الأسلوب، إذ لا يجد القارئ تفسيراً محدّداً لهذا التشتت في نهاية الكتاب.
لقد قدم فضل فرضيّة جديرة بالاهتمام في كتابه، إذ لم يتوقف عند وصف الأساليب الشعريّة كما هو الحال في الكثير من الدراسات الأسلوبية التي لا تتجاوز الوصفية، بل امتدت دراسته إلى دلالات هذه الأساليب وارتباطها العضوي بها، مما يدعو إلى متابعة هذه الدراسة بدراسات أخرى ترصد الأساليب نفسها عند الشعراء أو ما يمكن أن يكشف عنه في خريطة الشعر العربي المعاصر، وقد ظهرت في كتابات فضل امتدادات هذه الفرضيّة، ففي مقالته حول حاوي استراتيجية الخطاب الشعري عند حاوي تظهر إشاراته إلى الأسلوب الرؤيوي، أما ورقته النقديّة التي قدمها في مهرجان جرش الرابع عشر فتُظهر ميوله إلى تقديم أسلوب جديد هو الأسلوب السينمائي الذي مثله أمل دنقل، من دون أن يشير أدنى إشارة إلى الأسلوب الحيوي الذي أدرج شعره به في الكتاب موضوع التقديم.