الناقد
بيتس أحد المبدعين في فن القصة القصيرة خصوصاً في أول حياته، ثم اتجه بعد
ذلك إلى الرواية، وقد أصدر مايربو على عشرين مجموعة قصصية وعشرين رواية،
تولكن مانحن بحادة إليه ونحن نستعرض بعض مفاهيم القصة القصيرة هو كتابه
النقدي الشهير (القصة القصيرة الحديثة 1972م) بعد أن يستعرض بيتس تعريفات
مختلفة للقصة القصيرة يصل إلى نتيجة مؤداها أن جميع التعريفات تشترك في
مسألة واحدة، وهي أنها جميعاً لاتقود إلى نهاية مقنعة فلا يوجد من بينها
مايمكن أن يشمل جميع القصص القصيرة.
وعلى حد تعبير سيدجويك الذي يشير إليه بيتس، فقد أصبحت القصة القصيرة
مجموعة أشياء متنوعة، تشمل الحالة والمشهد والشخصية والسرد القصصي، بمعنى
أنها مجال لإبراز المواهب الشخصية… إن القصة القصيرة في النهاية، سواء
كانت قصيرة أم طويلة، شاعرية أم أخبارية ذات حبكة فنية أملا، متماسكة أم
واهية مترهلة، فهي أشبه مايكون بالسائل الذي ينزلق بين اليدين. وبعد أكثر
من عقد من الزمن تأتي سوزان لوهافر لتشير أنه يصعب أن تختلف مع بيتس في
هذا المفهوم.
وحين نصل إلى هذه المرحلة من عدم القدرة على تحديدج مفهوم واضح لفن القصة
القصيرة نحد بعض النقاد يلجأ إلى طريقة معاكسة من أجل الخروج من مأزق
التعريف، فاليري شو مثلاُ تشير أنه من الممكن إعطاء وصف للقصة القصيرة من
خلال الإشارة إلى مالايمكن أن يكون قصة قصيرة وبهذه الطريقة ستكون هناك
مرونة في تحديدها.
وفي هذا افطار نجد ناقداً آخر هو سومرس يتساءل لماذا نبذل مجهوداص لتعريف
القصة؟ علينا أن ندرك أن المقال ليس قصة قصيرة ،ووصف إحدى الشخصيات ليس
قصة قصيرة، بل إن الوصف ليس قصة قصيرة، كما أن الحوار ليس بالضرورة أن
يكون قصة قصيرة، وتسجيل أحداث كالمذكرات اليومية أو وصف تفصيلي لسفينة
غارقة، لايكون قصة قصيرة. هنا يستوقفنا قول سومرس عن الحوار (ليس
بالضرورة) وهي إشارة مهمة لأن القصة القصيرة يمكن أن تقوم على الحوار فقط
كتقنية وحيدة لكن لايمكن فصله عن مفهوم القصة القصيرة المتعدد.
عباس محمود العقاد في كتابه (خواطر في الفن والقصة) يتبنى نفس المفهوم
تقريباً، فبدلاً من تقديم تعريف للقصة القصيرة، يرى أنه من الأسهل تقديم
تعريفات سلبية بمعنى معرفة ما لايشترط للقصة القصيرة للوصول إلى شروطها
وبالتالي تعريفها بشكل أكثر تحديداً، فالعقاد يرى أنه لايشترك في القصة
القصيرة العناية برسم الشخصيات بشكل دقيق، فالقصة القصيرة قد تكتفي بعمل
واحد فقط لهذه الشخصية، أو يوم واحد من أيامها، كما أنها لاتتناول حوادث
متعددة، ولاحتى تفيض في حادثة واحدة، ولايتوقع أن تطبق مذهباً نفسياً أو
اجتماعياً، وأخيراً لاتشترط الحبكة المحكمة في القصة القصيرة.
ويضيف رشاد رشدي إلى هذا المعنى في كتابه الشهير (فن القصة القصيرة) قوله
’’القصة القصيرة ليست مجرد خبر أو مجموعة أخبار، بل هي حدث ينشأ بالضرورة
من موقف معين ويتطور بالضرورة إلى نقطة معينة يكتمل بها معنى الحدث‘‘
ومن زاوية الفن الأدبي يتضح أنه بالرغم من ارتباط القصة القصيرة بأصول
شعبية فإنها – حسب رأي سوزان لوهافر- تمثل ظاهرة خاصة تختلف عن الرواية
وعن الملحمة، ومن ناحية نقدية نحن في ا لواقع أمام شكل فني جديد.
ويعبر ماثيوز عن هذه الرؤية بإشاراته إلى أن الفكرة التي يطورها بشكل
منطقي شخص يملك حس الشكل وموهبة الأسلوب هو مانبحث عنه في القصة القصيرة .
ولاشك أن توفر الحس الفني والموهبة، كفيل بمستوى متميز من الإبداع.
بعض التعريفات الحديثة تؤكد أن القصة القصيرة هي التي تهتم بأن تترك أثراً
واحداً من خلال التعبير عن مشهد واحد مهم، يشترك فيه عدد قليل من الشخصيات
وأحياناً شخصية واحدة، وهذا الشكل يتجه نحو الاختصار في المشهد والتركيز
في السرد، ولذلك كما يقول بيرنت غالباً ما يركز كتاب القصة القصيرة في
القرنين التاسع عشر والعشرين على شخصية واحدة في مشهد واحد، وبدلاً من
تتبع تطور الشخصية يتم التحدث عنها في لحظات محددة.
وبذلك تحقق القصة القصيرة الوحدات الثلاث في المسرح الـكلاسيكي الفـرنسي،
وحـدة الحدث ووحدجة الزمان ووحدة المكان. وهنا نجد أن القصة القصيرة كما
حدد ذلك براندر ماثيوس بوعي كبير في مرحلة مبكرة جداً من تاريخ القصة
القصيرة تتعامل مع شخصية واحدة، وحدث واحد، وإحساس واحد، أو مجموعة أحاسيس
تتصل بحالة واحدة.
ويأتي الناقد وليام كيني ليؤكد أن القصة القصيرة عادة ماتقوم على حادثة
واحدة تمثل أ÷مية كبيرة للشخصيات. ليلة في الغابة ووصول قاتلين إلى مطعم
القرية الصغيرة، مثل هاتين الحادثتين، يمكن أن تكونا نموذجين للقصة
القصيرة. ورغم كل هذا تبقى القصة القصيرة ذات تميز في إيقاعها وتكوينها،
وهي غالباً ماتعتمد على تركيز الحدث، وقد يكون فيهاحدث مفاجئ، مرض قصير،
حفل، لقاء بلا غد، بمعنى أن (تصور فترة زمنية قصيرة في حياة أبطالها،
ولكنها فترة مشحونة بلحظات مكثفة،تنبى بإيجاز عن ماضي الشخصية وتخطط
لمستقبلها) كما تقول نادية كامل في بحث لها عن (الموباسانية في القصة
القصيرة).
وقد أشار عز الدين إسماعيل إلى التركيز في معالجة الحدث وطريقة سرده، وفي
الموقف وطريقة تصويره صفة أساسية، ويضيف في كتابه الأدب وفنونه (ويبلغ
التركيز إلى حد أنه لاتستخدم لفظة واحدة يمكن الاستغناء عنها، أو يمكن أن
يستبدل بها غيرها، فكل لفظة لابد أن تكون موحية، ولها دورها تماماً، كما
هو الشأن في الشعر).
إن عدم وجود تعريف محدد، يعود في جزء منه إلى أن القصة القصيرة مثلها مثل
باقي الفنون بدأت في الظهور أولاً ثم حاول النقاد إيجاد مجموعة من
النظريات لهذا الفن الجديد. ولذا، ليس غريباً أن نجد من النقاد من يقرر أن
ليس ثمة تعريف محدد واضح للقصة القصيرة.
ورغم ارتباط القصة القصيرة الوثيق الصلة بفن الرواية، من حيث اشتراكهما في
مجموعة من التقنيات، فإنها في فترة متأخرة أصبحت تقترب من الشعر، وأصبحت
تقترب من الشعر، وأصبح هناك سؤال مطروح يتمثل في (هل القصة القصيرة أقرب
إلى الشعر أم إلى الرواية) وهذا السؤال لم يتم طرحه من قبل النقاد بدءاً
،بل إنه جاء نتيجة لنتاج المبدعين الذين أرغموا النقاد على تحويل
أنظارهم،من ارتباط القصة بالرواية، إلى ارتباطها بالشعر، الأمر الذي جعل
الناقد يرى أن معظم كتاب القصة القصيرة المحدثين يتفقون على أن القصة
القصيرة أقرب إلى العشر منها إلى الرواية.
وعلى المستوى المحلي تم طرح هذا السؤال في مرحلة تاريخية تتمثل في نهاية
السبعينات وبداية الثمانينات حين صدر عدد من المجموعات القصصية التي
لاتمثل امتداداً للقصة القصيرة قبل ذلك، وإنما تمثل توجها جديداً في كتابة
القصة ينحو منحى الشعر من حيث اللغة والغموض. إضافة إلى الإيقاعات الشعرية
في بعض الجمل. وقد لاحظ ذلك أستاذنا الدكتور منصور الحازمي حين تحدث عن
هذا الجيل (الذي اقتربت لغته من لغة الشعر) حسب تعبيره. ومن السمات
البارزة التي لاحظها علي الدجميني حين قدم مجموعة عبد العزيز مشري (الموت
على الماء 1979م) الكم الشعري المتدفق من عباراته، أما في مجموعة محمد
علوان (الخبز والصمت 1977م) فنقرأ في قصة يحكى أن، نكتبها شعرياً دون أن
نتدخل في النص:
ظلام حالك
أمواج البحر زبد
وغيوم ولآلئ
ورمال صفراء
تحفر قبراً فوق الشاطئ
صياد يغمض عيناً،
والتبغ حلقات من أحلام مدحورة
ضاقت في الصدر
خرجت دخاناً وهباء
بيد معروقة
يجمع صيداً يخذله
ويعود لستة أفواه مبقورة…
والأمثلة كثيرة في هذا الإطار، وهنا يجدر التأكيد على ما أشار إليه خيري
دومة، أنه في الوقت الذي تقترب فيه القصة القصيرة من ذاتية الشاعر ورؤيته
الشخصية فإنها لايمكن أن تتخلى عن نثيرة الرواية وموضوعيتها.
في الوقت الذي بدأت القصة القصيرة تأخذ حيزاً في خارطة الآداب الغربية في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم يكن للقصة في أدبنا العربي مع مطلع
هذا القرن شأن يذكر، بل كان ينظر إليها على أنها مجموعة من الطرائف
المسلية، وقد كانت بعض المجلات تنشر القصص المترجمة تحت عنوان (فكاهات)
ولعل هذا الانتقاص من قدر القصة هو الذي جعل محمد حسن هيكل مثلاً ،كما يرى
بعض النقاد، لم يصرح باسمه حين كتب رواية زينب ترفعاً عن أن يعده أدباء
عصره رواية حواديت وفكاهات وهو المحامي ذو القيمة الاجتماعية الراقية.
ونجد إن إحدى المقالات سنة 1930م التي أشار إليها سيد حامد النساج في
كتابه (تطور فن القصة القصيرة بمصر) تشير إلى أن (الناس إلى حين قريب،
كانوا ينظرون إلى القصة بعين السخرية والازدراء ولايعدونها من الأدب
الرفيع شيئاً، بل أغلبهم يظن أنها لهو وعبث).
ولذا فإن الباب الذي دخلت من خلاله القصة القصيرة إلى الأدب العربي لم يكن
بالتأكيد الجانب الفني، فحين ننظر إلى بداية القصة القصيرة في مصر مثلاً،
نلاحظ أنها كانت تتوجه بشكل مباشر إلى الإصلاح الاجتماعي، وكان الكتاب
يسعون نحو تحقيق هدف أخلاقي لايخص مصر فقط، بل ينسحب على كافة الأقطار
العربية، في بداية نشأة القصة القصيرة فيها، بصرف النظر عن زمن النشأة،
بمعنى أن ا لتجربة ذاتها تتكرر في كل قطر تقريباً، وأكدت معظم الدراسات
التي تناولت نشأة القصة في الأدب العربي ’’أنها كانت حاجة اجتماعية قبل أن
تكون حاجة فنية، بمعنى أن اضطلاعها بوظيفتها كان أبرز الدوافع إلى
كتابتها‘‘ على حد تعبير عبدالله أبو هيف.
أما عبدالله العروي فيرى أن القصة القصيرة ’’هي الشكل الأدبي المطابق
لمجتمعنا المفتت، المحروم من أي وعي اجتماعي‘‘ ويضيف نجيب العوفي أن القصة
القصيرة جاءت منذ بداية القرن دليلاً على ’’التململ الوطني القومي وعلى
الصيرورة الاجتماعية التاريخية، ومؤشراً ثقفاياً بالغ الدلالة على مايسمى
النهضة أو المعاصرة أو الحداثة‘‘. ومن منطلق مقولة تشيكوف بأن القصة
القصيرة كذبة متفق عليها بين القاص والمتلقي، يعلق العوفي بقوله ’’أصبحت
الكذبة الفنية الصغيرة أداة لهتك الأكاذيب الكبيرة التي تخنق الضمير
العربي، وتعريه لهذا المسكوت عنه، الذي هو الحقيقة‘‘.
وحين نبحث عن أصول عربية للقصة القصيرة، نجد في تراثنا الكثير مما يمكن أن
يؤثر بشكل مباشر على تطور فن القصة القصيرة، إلا أننا لانظفر برؤية واضحة
تقرر أن القصة القصيرة امتداد لشكل، أو أشكال تراثية في أدبنا العربي، رغم
بعض الآراء التي ترى أنها ترتبط بفن المقامة، فب الوقت ذاته نجد مايؤكد
أنها تأثرت بشكل مباشر بالثقافة الغربية من خلال مبديها الأوائل، فالطاهر
أحمد مكي مثلاً، يقرر دون تردد بأن القصة القصيرة لم تنشأ من أصل عربي
’’وإنما ترعرعت بتأثير من الأدب الأوربي مباشرة‘‘ وتؤكد آمال فريد أن هذا
الأمر ’’لم يعد موضع جدال؛ فإلى جانب إجماع النقاد والدارسين على ذلك نجد
أن جيل رواد القصة القصيرة أمثال محمود تيمور ويحيى حقي ونجيب محفوظ ويوسف
السباعي وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس… هذا الجيل لاينكر فضل إدجار ألن
بو أو موباسان عليه. ولقد كان محمود تيمور رائد القصة القصيرة، يفخر عندما
أطلق عليه النقاد (موباسان القصة العربية).
ويشير فتحي الأبياري إلى أنه حين انضم محمود تيمور إلى مجمع اللغة العربية
رحب به طه حسين وأشاد بفنه القصصي قائلاً ’’لقد سجلت به لنفسك خلوداً في
تاريخ الأدب العربي لاسبيل إلى أن يمحى، هو القصص على مذهبه الحديث في
العالم الغربي‘‘، وإذا كان هذا في المشرق العربي، فإننا نجد أن المحاولات
الأولى لكتابة القصة القصيرة في المغرب أيضاً، بدأت بعد الحرب العالمية
الأولى، وكان الباعث عليها كما يقول عبدالله كنون ’’قراءة بعض المترجمات
منها، أو الاطلاع عليها في لغتها الأصلية بالنسبة لمن يحسنون لغة أجنبية‘‘
ويصل أحمد هيكل إلى نتيجة يؤكد معها ’’أن القصة القصيرة بصورتها الفنية في
الأدب الحديث قد أخذت عن أدب الغرب، ولم تنحدر من التراث أو تتطور عن فن
عربي مشابه‘‘ كما جاء في كتابه (الأدب القصصي والمسرحي في مصر).
خلال الصفحات السابقة تم استعراض مجموعة من الآراء التي تؤكد أن القصة
القصيرة في الأدرب العربي لم تكن امتداداً لأشكال عربية تراثية، بل إنها
جاءت بتأثير مباشر من الآداب الغربية. وعندما نصل إلى نتيجة كهذه، فإن
مفهوم القصة القصيرة في الأدب العربي قد تأثر بشك لكبير بمفهومها في
الآداب الغربية أيضاً. وفوق ذلك يمكن ملاحظة أن القصة القصيرة في أدبنا
العربي تأثرت بشكل مباشر بتلك التيارات الفنية التي مرت بها القصة
الغربية.
وقد شهدت فترة الستينات وبداية السبعينات تحولاً في مسيرة القصة القصيرة
العربية، وتحديداً في مصر من حيث الاهتمام بهذا الفن، وفي تفسير سوسيولوجي
يعلل سمير حجازي (فصول 4:2) هذه الظاهرة بأنها تأتي نتيجة ’’الأزمات
الثقافية والتحولات الاجتماعية غير المحتملة‘‘ التي أدت إلى إحساس الكاتب
بالاغتراب، الذي أوجد نوعاً من التوتر النفسي، مما جعله يتخذ من القصة
القصيرة وسيلة للتعبير؛ لأنها تتميز ببعض الخصائص الفنية، فهي تقوم على
’’تصوير موقف معين من زاوية معينة، بطريقة تميل إلى الانكماش، وتعتمد على
الجمل الوصفية الدقيقة‘‘ التي تصور ’’الواقع الداخلي والخارجي بطريقة تهمل
عنصر الزمن وتسلسل الحوادث، والكاتب يصور لنا هذا الموقف بلغة الشاعر
المرهف‘‘.
ولعل هذا الرأي يقترب إلى حد كبير من واقع القصة القصيرة في عدد من
البلدان العربية مع اختلاف نسبي في الفترة الزمنية التي تمر بها، لكنها
غالباً حدثت بين عقدي الستينات والسبعينات، التي امتازت بانطلاقة فنية
جديدة للقصة القصيرة لم تتكئ كثيراً على التراث القصصي في مرحلة سابقة، بل
نجد أننا أمام تحول جديد في كتابة القصة يأخذ زوايا واتجاهات متعددة تختلف
من كاتب لآخر، من ناحيتي المعالجة والقالب الفني. وهو تحول يرتبط بالتحول
الاجتماعي الذي طرأ، ومن الطبيعي أن يكون الفن السردي وتحديداً القصة
القصيرة الوسيلة الأفضل للتعبير عن هذه التحولات، لأنها ذات إيقاع سريع
ومتجدد.
وحين النظر إلى القصة المحلية، نجد أن تحولاً بارزاً حدث للقصة القصيرة مع
ظهور جيل جديد مبدع لهذا الفن، حدث ذلك ابتداء من منتصف وبداية
الثمانينات، وهو جيل لايمثل امتداداً للجيل السابق، ولم يتأثر به، بل كان
تأثره المباشر بالكتاب العرب خارج الوطن. ومن أبرز هؤلاء وهم من جيل واحد
تقريباً جار الله الحميد وعبد العزيز مشري ومحمد علوان وحسين علي حسين،
فإبراهيم الناصر وغالب حمزة أبو الفرج ومحمود عيسى المشهدي، لايمثلون أي
حضور في قصص الجيل الجديد. ويلخص الدكتور منصور الحازمي تجربة هذا الجيل
بقوله ’’لقد اختلفت القصة القصيرة على أيدي هؤلاء الشباب اختلافاً كبيراً
عما كانت عليه عند أسلافهم من الواقعيين، لم تعد تعني بالبيئة المادية أو
الواقع الحسي، بل باللحظات الشعورية والمواقف النفسية ا لمتوترة، ولم تعد
تهتم بالمشاكل الاجتماعية اهتماماً مباشراً، بل بما قد تعكسه هذه المشاكل
من أحاسيس ذاتية غامضة، لاتبحث عن حل معين وإن كانت تومئ إليه
أحياناً‘‘وهذا يعني بشكل مباشرأن مفهوم القصة القصيرة لدى هؤلاء قد اختلف
تماماً عن ذلك المفهوم الذي تبناه أسلافهم.
ولعله يجدر الاحتراز والإضافة ونحن نتحدث عن القصة المحلية بالقول إن
ماذكر آنفاً ينطبق على مجموعة من الكتاب، لكننا نجد في ذات الوقت مجموعة
منت الكتاب الآخرين من نفس الجيل يمكن أن نعتبرهم امتداداً للجيل السابق
من أمثال محمد منصور الشقحاء وعبدالله باقازي وعبد الله سعيد جمعان وخليل
الفزيع. وهذا القول يصدق على المجموعات الأولى لكلا الفريقين (بما في ذلك
رأي الحازمي السابق) وإلا فإننا وجدنا بعد ذلك تغيراً أو تحولاً في
الإنتاج التالي لمعظم هؤلاء، ولعل عبدالعزيز مشري رحمه الله أبرز المثلة
وضوحاً في هذا الإطار، وتعدد المفاهيم لدى الكتاب يمكن استخلاصه من
المستويات الفنية المتفاوتة لقصص المجموعة الواحدة لكاتب بعينه. الأمر
الذي يتضح منه في غال الحوال عدم تبلور مفهوم محدد للقصة القصيرة في ذهن
الكاتب ضمن إطار مرحلة معينة. نقول ذلك لإدراكنا أن ثمة تحولات في
المفاهيم تحدث لبعض الكتاب من مرحلة إلى أخرى.
من الملاحظ أن كتاب القصة في عالمنا العربي بشكل عام يعتمدون في كتابتهم
على الخبرة الكتابية والقرائية لفن القصة من خلال من سبقهم من الكتاب،
وعلى ضوء ذلك يتحدد لديهم مفهوم أو مفاهيم القصة القصيرة، لكن ماهي
حصيلتهم النظرية في هذا الفن وتقنياته ومناهجه؟ سؤال جدير بأن يطرح على
المبدعين، وإن كان متوقعاً أن معظم الإجابات ستكون نافية لقراءة مكثفة
واعية للنظرية القصصية وتقنيتها خصوصاً في بداية مرحلة الكتابة. ليس هذا
افتراضاً بل نتيجة تستنيد بشكل أساسي، على التفاوت الكبير في مستويات
الكتابة القصصية لدى الكثير من الكتاب في أرجاء الوطن العربي. ولتأكيد ذلك
تجد الإشارة إلى استجواب نشرته مجلة فصول مع ثمانية وعشرين كاتباً للقصة
القصيرة في العالم العربي، طرحت عليهم العديد من الأسئلة وكان من بينها
السؤال التالي ’’هل قرأت شيئاً عن أصول هذا الفن القصصي، أو عن طرائق
كتابته؟‘‘
الملفت للنظر، أن أغلب هؤلاء الكتاب أجابوا بالنفي! ومن بينهم أسماء كبيرة
في عالم القصة أمثال إبراهيم أصلان ومجيد طوبيا ونجيب محفوظ ويحيى حقي
ويوسف إدريس، فإبراهيم أصلان يقول ’’لا أظن أن هناك كتباً قرأتها بتأن في
هذا الموضوع‘‘، ومجيد طوبيا يقرر ’’لم أقرأ شيئاً عن أصول هذا الفن القصصي
أو عن طرائق كتابته، قبل الممارسة الواعية للكتابة‘‘ أما نجيب محفوظ فيجيب
عن السؤال بقوله ’’خلاف ماقرأت عن فن الرواية، لم أقرأ إلا القليل عن فن
القصة القصيرة بل وقرأته في سن متأخرة‘‘ ويقول يحيى حقي ’’في أول الأمر لم
أقرأ شيئاً عن أصول هذا الفن القصصي، لكن عندما تقدمت قليلاً وكأي إنسان
يحترم نفسه، قرأـ‘‘ ويأتي يوسف إدريس وهو الأكثر التصاقاً بالقصة القصيرة
ليقول بصرامة وصراحة ’’لا، لم أقرأ، إن ماأعرفه بالحس والسليقة والفطرة
أجدى مما يمكن أن أقرأه في هذا المجال‘‘
وربما لو طرح هذا السؤال على عدد أكبر من كتاب القصة القصيرة في سائر
الوطن العربي، لجاءت الإجابات متشابهة، وهذا مادعا ماهر فهمي أن يقرر في
حديث عن بعض كتاب القصة، أن الكثيرين منهم ’’لديهم رسالة عامة، ويعرفون أن
القصة وسيلة لإيصال هذه الرسالة… لكن قوانين كتابة القصة القصيرة
والتركيبات النفسية والفكرية ولحظات تخلقها في النفس البشرية تبقى نادرة‘‘
ولاأتوقع أن كتاب وكاتبات القصة المحليين سيكونون بمنأى عن هذه النتيجة،
وهذا ماأكده شفوياً بعض كتاب القصة، وفي لقاء صحفي قال سباعي عثمان ’’في
دنيا الأدب (وهي صفحات ثقافية كان يشرف عليها) اكتشفت موهبة القصة في
نفسي، وكان ذلك بالصدفة من خلال زاوية يومية كنا نتبادلها أنا والزملاء في
جريدة المدينة‘‘ ولعل سباعي عثمان ليس الوحيد، الذي وجد نفسه يكتب قصة دون
وعي كامل بفن القصة ومفهومه وتقنياته.
وكم أتمنى أن أقوم باستبيان على المستوى المحلي، يشترك فيه أكبر عدد ممكن
من المبدعين والمبدعات يتفضلون فيه بالإجابة على أسئلة عامة حول تجربتهم
القصصية بشكل خاص، ورؤاهم حول فن القصة القصيرة، فهذا دون ريب سيقود إلى
نتائج تخص الإبداع المحلي.
ولعل سؤالاً يتم طرحه في هذا الإطار، يتصل بالعلاقة المباشرة بين الإبداع
وبين دراية المبدع بمفاهيم الفن الذي يبدعه! وبطريقة أخرى ’’ماذا سيفيد
تحديدج مفهوم القصة القصيرة بالنسبة للمبدع؟‘‘ وهو سؤال طرحه جريدي
المنصوري عقب محاضرة لي في نادي الطائف الأدبي حول مفهوم القصة القصيرة،
وهذا السؤال يتركز حول العملية الإبداعية نفسها، وهنا يجدر التأكيد على
مسألتين أساسيتين، الأولى تتمثل في أن الدراية النظرية وحدها لن تخلق
مبدعاً أو إبداعاً، والثانية أن الكاتب الذي يظل أسيراً للتنظير الإبداعي
لن ينتج إبداعاً. إن المبدع يجب أن لاتحده قيود نظرية، ويتوقع منه أن يكون
(أكبر من العروض) وفوق تحديد مسالك ودروب الفن. إلا أن ثقافة المبدع بشكل
عام تؤثر في إبداعه، ومعرفته بأساليب ونظريات وتقنيات فنه الإبداعي، ستزيد
دون ريب من معرفة دهاليز فنه وخباياه وبالتالي تملك ناصيته. وهذا ينتج عنه
مزيد من الإبداع.
في إطار البحث عن مفهوم القصة القصيرة، تستوقفنا قضية المصطلح باعتبار
دلالته، التي تنبع من المفهوم، ومن الملفت للنظر جداً أن هذه القضية
لاتؤرق الباحثين في هذا المجال، فالكتب الأولى التي درست القصة القصيرة في
الأدب العربي لم تطرح بدءاً قضية المصطلح، منها دراسة عبدالعزيز عبد
المجيد (القصة القصيرة العربية الحديثة) ودراسة محمود حامد شوكت (الفن
القصصي في الأدب المصري الحديث) ودجراسة سيد حامد النساج (تطور فن القصة
القصيرة في مصر منسنة 1910 إلى سنة 1933م) وهذه الدراسات الثلاث رسائل
دكتوراه. إضافة إلى كتاب يحيى حقي (فجر القصة المصرية) وكتاب عباس خضر
(القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930م)
وبالرغم من صدور عشرات الكتب التي تتناول القصة القصيرة بشكل تاريخي، أو
دراسة اتجاهاتها العامة، أو دراسات لمبدعين بشكل انفرادي، نجد أنها غالباً
لاتقف عند قضية المصطلح. من هذه الكتب مثلاً حسن البنداري (فن القصة
القصيرة عند نجيب محفوظ 1988م) إيفلين فريد جورج يارد (نجيب محفوظ والقصة
القصيرة 1988م) عبد الحميد عبد العظيم القط (يوسف إدريس والفن القصصي
1980م)، وقد استخدم القط في كتابه مصطلحات (القصة القصيرة والأقصوصة
والقصة القصيرة الطويلة) دون تحديد نقدي لهذه المفاهيم. ويرى الدكتور حسام
الخطيب أن عدم تحديد المصطلح برزت معه ’’صعوبة تحديد تاريخ دقيق لنشأة
القصة العربية الحديثة‘‘.
ورغم أننا لانجد تعدداً كبيراً في مصطلحات القصة القصيرة، فإننا لانجد في
أدبنا العربي اتفاقاً على مصطلح واحد لهذا الفن، فالعقاد مثلاً في كتابه
(خواطر في الفن والقصة) يستخدم مصطلح (الحكاية القصيرة) أو (الحكاية
النادرة)، وهذه حسب رأيه تقابل (short story) ،كما يستخدم مصطلح (القصة
الصغيرة) لنفس المفهوم، وقبل ذلك نجد يحيى حقي في (فجر القصة المصرية)
يتراوح بين استخدام مصطلحي (القصة الصغيرة) و (القصة القصيرة) أما محمد
يوسف نجم في (فن القصة) فيستخدم مصطلح (الأقصوصة) ويشاركه في ذلك فتحي
الأبياري، دون وقفة نقدية لسبب اختيارهما لهذا المصطلح، رغم أن الأبياري
كان على وعي بهذا الاستخدام، ح يث أشار في دراسته عن تيمور، إلى أن
الأقصوصة هو مايسمونه باللغة الإنجليزيةshort story وباللغة الفرنسية
conte. أما محمد الهادي العامري فرغم أن دراسته جاءت بعنوان (القصة
التونسية القصيرة) فإنه يستخدم مصطلحات (القصة القصيرة والأقصوصة والقصة)
لتشيرة إلى مفهوم واحد. وفي دراسة حمزة بوقري للقصة القصيرة في مصر، نجده
يستخدم مصطلح (الأقصوصة والقصة القصيرة) بشكل تبادلي لنفس المعنى.
يقف صبري حافظ وقفة أطول عند قضية المصطلح (فصول4:2) فيشير إلى تذبذب
الدارسين بين استعمال مصطلحي (الأقصوصة والقصة القصيرة) للدلالة على
المصطلحين الإنجليزي والفرنسي. ويؤثر صبري حافظ مصطلح الأقصوصة، لأسباب
منها إيجازه، وإمكانية اشتقاق صفة أقصوصي منه. إضافة إلى أن مصطلح القصة
القصيرة على حد تعبيره، ’’يحمل ميسم الترجمة الواضحة من الإنجليزية التي
تفتقر إلى صيغ التصغير. ومن هنا تحتاج إلى كلمتين حيث تكتفي العربية بكلمة
واحدة. ولن هذا المصطلح كلمة واحدة في الفرنسية وأخرى في الألمانية
Kurzgeschichten وإن كانت مركبة …فلماذا يصر الكثيرون على استخدام الترجمة
الحرفية للإصطلاح افنجليزي؟‘‘
ورغم شرعية مايطرحه الناقد صبري حافظ، فإنه لايمكن النظر إلى قضية هذا
المصطلح بمعزل عن المصطلحات الأخرى، المتعلقة بفن السرد الحديث.
ولعله من الضروري أن تكون معالجة المصطلح ضمن إطار جمعي للمصطلحات
المتعلقة بالفن الأدبي الواحد، فما يبدو مقنعاً حين التعامل معه على
انفراد قد لايبدو كذلك حين يتداخل مع مجموعة من المصطلحات الأخرى. إلا أنه
بالرغم من ذلك فإن مصطلح (القصة القصيرة) قد أخذ من الشهرة والتداول بين
النقاد والمبدعين ما جعله جديراً بالتبني. أما مصطلح الأقصوصة فإني أميل
إلى استخدامه مقابلاً لمصطلح Novella، متفقاً في ذلك مع مجدي وهبة، وسعيد
علوش حسبما جاء في معجم كل منهما. وهو العمل الأدبي الذي يقع بين الرواية
Novel والقصة القصيرة، ويمكن اعتبار (قنديل أم هاشم) مثالاً له.
الفرق بين القصة القصيرة والرواية ؟؟؟؟؟
الفرق بين القصة القصيرة والرواية يكمن في الموضوع الحي المعروض في صورة
عضوية متفاعلة الأجزاء , متكاملة العناصر , والموضوع الجامد الذي يغلب
عليه الطابع التجريدي والتلخيص , فالقصة القصيرة من الممكن أن تجتاز
بالقارئ فترة زمنية طويلة , كما تصنع الرواية , ولكن الفرق هنا يكمن في
طريقة العرض , فالتفصيلات والجزئيات التي تملأ كل يوم وكل ساعة في تلك
الفترة الزمنية لا حاجة لكاتب القصة القصيرة بها , بل أنه يجتاز كل شيء
لينتقل مباشرة من لمسة من لمساته للموضوع إلى أخرى , مجتازاً بذلك من
الزمن فترة قد تطول وقد تقصر .
القصة القصيرة تُفضل أقل عدد ممكن من الشخصيات , خلافاُ للقصة والرواية
حيث تكثر الأشخاص , فلبس في القصة القصيرة فرصة لرسم هذا العدد الكبير من
الشخصيات , ولأن القصة ذاتها لم تنشأ لتحليل عدد كبير من الشخصيات , ومع
ذلك من الممكن أن تكثر الشخصيات في القصة القصيرة , ولكنها لا بد أن تكون
في مجموعها وحدة أي يجمعها غرض واحد . كل هذا يجعل صفة " التركيز " أساسية
في القصة القصيرة , فهي أساسية في الموضوع , الحادثة , طريقة السرد , أو
في الموقف وطريقة تصويره أي في لغتها .
من المهم الإشارة إلى تأثير هذا النوع الأدبي على الساحة العربية التي
حاولت أن تعبر عن اتجاهات تجريبية جديدة في التعامل مع اللغة وفي محاولة
استلهام الحلم والكابوس واللاوعي وحالات الجنون والقبح والابتذال
واللامنطق وتحول الإنسان إلى شيء يتم التعبير عنه بشكل بارد ومحايد ومحدد
أو تحوله إلى كائن مغاير ومختلف يتحرك بكل حرية في آفاق الحلم والأسطورة
والخيال , هذه الاتجاهات المختلفة الحديثة تشير إلى قدرة القصة القصيرة
الفائقة غلى التعبير عن كل ما يتعلق بالإنسان في علاقته بذاته , بالآخرين
وبالواقع وبالحياة وبالكون بشكل يتسم بالعمق والتركيز إذا توفر عليه كاتب
صادق , مخلص وموهوب , فالقصة القصيرة ليست أقل من أي نوع أدبي آخر في
قدرتها على الإحاطة بجوانب هذا العالم إذا انكب عليها مبدع حساس دقيق
الملاحظة وعميق الخيال .
القصه القصيرة....( عناصرها و شروطها)..
يخلط بعض الكتاب بين القصة والقصة القصيرة، وهذا الخلط ناجم في الغالب من
الدلالة اللفظية لكلا المصطلحين، وحقيقة الأمر أن القصة بمعناها المطلق
تشمل كل الألوان السردية والحكائية وهي ذات جذور متوغلة في عمق تاريخ
الأدب العربي، ومنها القصص الـواردة في القرآن الكريم مثل قصص الأنبياء
والأقوام والأمم، وكذلك الأساطير الشعبية والحكايات المستمدة من التراث،
وهي تشكل رصيداً ضخماً من الإبداع المرتبط بتاريخ الأمة عبر الزمن، لكن
القصة القصيرة بمفهومها الحديث فن وافد إلى الأدب العربي المعاصر من الغرب
والشرق.
ولا يبرر هذا الخلط بين القصة والقصة القصيرة ما تشهده ساحة الإبداع
الأدبي من فوضى نتيجة تداخل الأجناس الأدبية على أيدي المغرمين بتقليد
أدباء الغرب، حتى أصبحنا نقرأ ما يسمى شعراً ما ليس له علاقة بالشعر، أو
نقرأ قصة ما ليس له علاقة بالقصة، كل ذلك بحجة التجديد، وما هو سوى تقليد
أعمى يتجاهل الذائقة الفنية للقارئ العربي الذي تربى على تلقي ألوان أدبية
شكلت ذائقته الفنية بل وساهمت في تشكيل شخصيته العامة، وهي ألوان قابلة
للتجديد وفق السياق العام للتطور الذي تشهده الحياة في المجتمع العربي
المسلم، لا وفق ما يراه الآخرون.
قواعد صارمه:
إن الأدب العربي عبر تاريخه الطويل يحمـل كمـاً هـائلاً من القصص التي لا
يمكن أن ينطبق عليها مصطلح القصة القصيرة، رغم أن هذا اللون الأدبي ـ أي
القصة القصيرة ـ هو أكثر الألوان الأدبية قابلية للتطوير والتجديد، وهذا
ما تؤكده النماذج القصصية الجديدة التي بدأت في التخلي عن تلك القواعد
الصارمة التي وضعها كتّاب القصة القصيرة الأوائل، أو التي استنتجها النقاد
من كتابات أولئك الرواد. وبصرف النظر عن مدى تقبل المتلقي للنصوص القصصية
الجديدة، فإن على المبدعين التعامل بحذر مع النص قبل الإقدام على مغامرة
التجريب، حتى لا يتخلى النص القصصي نهائياً عن كـل مقومات القصـة
القصيرة.. ليصبح لونـاً أدبياً آخر يمكن تصنيفه في أي ( خانة ) من ( خانات
) الأدب باستثناء القصة القصيرة.
فن جديد:
وكما قلنا: يعتبر فن القصة القصيرة من الفنون الأدبية الحديثة، التي عرفها
الأدب العربي في هذا العصر، وإن كان هناك من يرجع جذورها الأولى إلى بعض
الفنون الأدبية القديمة، لأنها تشترك معها في بعض الملامح، لكن حقيقة
الأمر أن القصة القصيرة بشروطها الفنية المعروفة هي فن جديد، ليس في الأدب
العربي فقط، ولكن حتى في الآداب الغربية الأخرى، إذ لم يظهر هذا الفن إلا
منذ حوالي قرن تقريباً وفي هذا المعنى يقول الدكتور عزالدين إسماعيل : (
وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن
العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجاً، وقد ساعد على ذلك طبيعتها والعوامل
الخارجية.
عصر السرعة:
أما من حيث طبيعتها فقد أغرت كثيراً من الشبان بكتابتها رغم أنها في
الحقيقة أصعب أنواع القصص، ولذلك يخفق 70% على الأقل في كتابتها. وأما من
حيث العوامل الخارجية، فقد تميز عصرنا بالآلية والسرعة، ومئات الصحف
والمجلات تحتاج كل يوم لمئات القصص وهي بحكم الحيز والناحية الاقتصادية
تفضل القصة القصيرة، ثم يذكر من هذه العوامل الإذاعة أيضاً، والناس الذين
سيطرت على حياتهم السرعة في كل شيء حتى فيما يختارون للقراءة، فوجدوا في
القصة القصيرة ضالتهم، لأنها تلائم روح العصر بكل تناقضاته وإشكالاته
المختلفة. ثم إن (القصة القصيرة لا تزدهر مع حياة الخمول، بل تزدهر مع
حياة المعاناة، لأنها تتخذ الومضة النفسية أو الحضارية للمجتمع والإنسان
محوراً لها تعالجه وتهتم به، وما اهتمامها بالإنسان إلا اهتمام بالطبقات
المسحوقة بشكل خاص).
وفي هذا العصر يعيش الإنسان أقسى أنواع المعاناة، وأشدها وطأة على النفس، وفي مثل هذه الظروف تزدهر القصة القصيرة.....
معطف جوجول
ويمكن القـول أن القصة القصيرة ظهرت في وقت واحد في بلدين متباعدين، وعلى
أيدي اثنين لم يتفقا على ذلك هما إدجار ألن بو 1809 ـ 1840 في أمريكا،
وجوجول 1809 ـ 1852 في روسيا، وقد قال مكسيم جوركي عن جوجول (لقد خرجنا من
معطف جوجول) (3) وهو بهذا وضع تحديداً مبدئياً لتاريخ القصة القصيرة في
الآداب العالمية، إلى أن جاء جي دي موباسان 1850 ـ 1892 في فرنسا ليقول
عنه هولبروك جاكسان: (إن القصة القصيرة هي موباسان، وموباسان هو القصة
القصيرة)....
مقدمة وعقدة:
وهناك شـروط للقصـة القصيرة هي المقدمة والعقدة والحل أو لحظة التنوير،
كما أن للقصة عناصر تقليدية أيضاً هي الشخصية والحدث والبيئة ـ الزمان
والمكان ـ لكن هذه الشروط أو العناصر لم تعد تشغل بال كتاب القصة الحديثة،
إذ تجاوزها الكثيرون ممن يحاولون التجريب فهم يرون أنها (سير نحو هدف ما،
ومن معاني السير البحث، ولا سيما البحث عن الوجود، والقصة هي أحسن مثال
لهذا اللون من البحث، وهذا السير هو في الحقيقة مجهول، مغامرة منغلقة
الأسرار، حركية دائمة ديمومة متدحرجة، وعلاقة القصاص بهذا اللون من البحث
غريبة. إذ أن القصة تتبع من نفسه، فيتحملها عند كتابتها ومعايشتها، حتى
تتمكن من تقرير مصيرها بنفسها فنياً.
أما القصة التقليدية فهي السـكون والقـرار، إذ هي مشـروحة جـاهزة، مضبوطة
الأهـداف.. منطقية قدرية " عاقلة " يصبها باعثها في قالب جامد مجتر ).
وهذا الكلام لا يؤخذ على علاته، فالعملية الإبداعية لا تقتصر في نجاحها
على أساليب دون غيرها، سواء كانت هذه الأساليب تقليدية أو تجريبية، فإذا
توفر الصدق الفني إلى جانب إشراقة الأسلوب وقدرته على تفجير الأسئلة في
ضمير المتلقي، يمكن الحكم للعمل الإبداعي لا عليه. فما الفائدة في أن يقدم
على التجريب من لا يملك الأدوات الفنية التي تؤهله لذلك، إن العملية
الإبداعية في هذه الحالة لا تتعرض للتجريب بل للتخريب.
شروط غير ملزمة:
ومع ذلك فإن شروط القصة القصيرة لم تعد ملزمة، لأنها شروط قابلة للنقض،
كغيرها من الشروط العامة التي تخضع حين تنفيذها لظروف مختلفة عن تلك التي
كانت حين فرضها. وهي قابلة للتجاوز حسب درجة الوعي التي يتمتع بها
المبدع.. ذلك الوعي الذي لا يتيح للمتلقي فرصة الوقوف والسؤال عن لماذا تم
تجاوز هذا الشرط أو ذاك. فهو أمام عمل إبداعي متكامل، تم تشكيله وفق رؤية
جديدة ومتطورة لا يملك المتلقي حيالها إلا الإعجاب. لكن إذا أمكننا أن
نتخلى عن بعض أو كل شروط القصة القصيرة، فكيف لنا أن نتخلى عن كل أو بعض
عناصرها ؟. إن هذا التخلي عن هذه العناصر يحيل الكتابة إلى لون أدبي آخر
غير القصة. قد يندرج تحت مسمى الخاطرة أو الكتابات الوجدانية أو أي لون
أدبي آخر غير القصة، وهذا لا يعني أن هذه العناصر جامدة ولا تقبل التطوير.
وأول هذه العناصر الشخصية القصصية:
أولا- الشخصية:
كنا إلى وقت قريب نقرأ الشخصية القصصية فنجدها صدى لكاتبها، إذ أن ثمة
علاقة تشبه التوحد بين المبدع وشخصياته القصصية، وهذا التوحد وإن كان يلقي
الضوء على المبدع وفكره، إلا أنه يحول بين الشخصية وممارسة تصرفاتها
الطبيعية، وفق الدوافع والأجواء التي وجدت فيها، وعندما يطـل المبدع بفكره
من خلال شخصياته القصصية، فإن هـذا يكرس النمطية التي تتكرر بشكل أو بآخر،
وتلقي بظلالها على ما يأتي بعدها.
لكننا مع تقدم التقنية القصصية، نتيجة فسـح المجال أمام التجارب الجديدة..
أصبحنا نقرأ نماذج متعددة من تلك الشخصيات، لا تظهر فيها سيطرة الكاتب
وتحكمه في مصيرها، وأصبح سلوكها مرهون الخطوات بالظروف والعوامل والأجواء
التي وجدت بها، دون الشعور بأن الكاتب هو المتصرف بشؤونها، والمتحكم في
تصرفاتها والمقرر لمصائرها، وهذا لا يلغي العلاقة بين المبدع والنص، ولكنه
يجعل هذه العلاقة متوازنة ومحكومة بضوابط خفية يعرفها المدركون للإشكاليات
المتعلقة بالإبداع أو التلقي.
الإبداع والنص:
وحين الحديث عن العلاقة بين المبدع والنص علينا ألا نتجاهل أهمية التجارب
الذاتية في إثراء العمل الإبداعي، وهذه التجـارب لا تبرر للمبدع فرض رأيه
وفكره فيما يتعارض مع قدرة شخصيته القصصية على استيعاب وتمثل هذا الرأي أو
الفكر، لأن العديد من العوامـل هي التي تحـدد هذه القـدرة على الاستيعاب
والتمثل، وبغياب هذه العوامل تصبح تلك القدرة مفقودة، والتناقض واضحاً بين
الشخصية وسلوكها المحتمل والمتوقع. إن إدراك توازن العلاقة بني المبدع
والنص يقودنا إلى شيء من التسليم بأن هذه العلاقة طبيعية وغير متنافرة،
إذا تقيدت بتلك الضوابط الخفية التي أشرنا إليها آنفاً. أما القول بانعدام
العلاقة بين المبدع والنص، كما يزعم المنادون بموت المؤلف، فإنه قول
يتجاهل مجمل المعطيات التي تحيل النص من مجرد فكرة هلامية، إلى كائن
يتنامى حتى يبلغ أوج نضجه. وهكذا يكون الحال بالنسبة للجزئيات التي يتكـون
منها النص في نهاية الأمر.
شخصيات مختلفة:
عند الحديث عن الشخصية القصصية سواء في الرواية أو القصة القصيرة، يتبادر
إلى الأذهان أن المعنى هو الإنسان، وإن لواء البطولة في القصة لا يعقد إلا
لهذا الإنسان، مع أن الأعمال الروائية والقصصية المشهورة تزخر بأبطال
حقيقيين يتحكمون في مسار الأحداث، ولكنهم ليسوا رجالا أو نساء، ليسوا
بشرا، وإن كانوا هم محور الأحداث، ومركز استقطابها، وعلاقتهم بالناس هي
علاقة محكومة بظروفها، لا أقل ولا أكثر.
ونحن أمام عمل إبداعي مثل ( العجوز والبحر ) لهنجواي ننسب البطولة للعجوز،
لكن هناك بطولة لشخصيات أخرى أشد ضراوة في مقاومة الظروف وتحدي الصعاب..
وأشد إصراراً على تحقيق هزيمة ساحقة بالعجوز الذي لم ينهزم لأنه يقول في
النهاية : إن الإنسان قد يتحطم ولكنه لا ينهزم. فلدينا البحر الذي يشارك
العجوز هذه البطولة، وكذلك سمك القرش الذي يشاركه أيضاً هذه البطولة، فنحن
في هذا العمل الإبداعي أمام ثلاث شخصيات تتساوى في الأهمية : سانتياغو
العجوز، والبحر الذي يقود الأحداث إلى المجهول، وأسماك القرش التي تصر على
إلحاق الهزيمة بالعجوز.
يتبع ...........
بيتس أحد المبدعين في فن القصة القصيرة خصوصاً في أول حياته، ثم اتجه بعد
ذلك إلى الرواية، وقد أصدر مايربو على عشرين مجموعة قصصية وعشرين رواية،
تولكن مانحن بحادة إليه ونحن نستعرض بعض مفاهيم القصة القصيرة هو كتابه
النقدي الشهير (القصة القصيرة الحديثة 1972م) بعد أن يستعرض بيتس تعريفات
مختلفة للقصة القصيرة يصل إلى نتيجة مؤداها أن جميع التعريفات تشترك في
مسألة واحدة، وهي أنها جميعاً لاتقود إلى نهاية مقنعة فلا يوجد من بينها
مايمكن أن يشمل جميع القصص القصيرة.
وعلى حد تعبير سيدجويك الذي يشير إليه بيتس، فقد أصبحت القصة القصيرة
مجموعة أشياء متنوعة، تشمل الحالة والمشهد والشخصية والسرد القصصي، بمعنى
أنها مجال لإبراز المواهب الشخصية… إن القصة القصيرة في النهاية، سواء
كانت قصيرة أم طويلة، شاعرية أم أخبارية ذات حبكة فنية أملا، متماسكة أم
واهية مترهلة، فهي أشبه مايكون بالسائل الذي ينزلق بين اليدين. وبعد أكثر
من عقد من الزمن تأتي سوزان لوهافر لتشير أنه يصعب أن تختلف مع بيتس في
هذا المفهوم.
وحين نصل إلى هذه المرحلة من عدم القدرة على تحديدج مفهوم واضح لفن القصة
القصيرة نحد بعض النقاد يلجأ إلى طريقة معاكسة من أجل الخروج من مأزق
التعريف، فاليري شو مثلاُ تشير أنه من الممكن إعطاء وصف للقصة القصيرة من
خلال الإشارة إلى مالايمكن أن يكون قصة قصيرة وبهذه الطريقة ستكون هناك
مرونة في تحديدها.
وفي هذا افطار نجد ناقداً آخر هو سومرس يتساءل لماذا نبذل مجهوداص لتعريف
القصة؟ علينا أن ندرك أن المقال ليس قصة قصيرة ،ووصف إحدى الشخصيات ليس
قصة قصيرة، بل إن الوصف ليس قصة قصيرة، كما أن الحوار ليس بالضرورة أن
يكون قصة قصيرة، وتسجيل أحداث كالمذكرات اليومية أو وصف تفصيلي لسفينة
غارقة، لايكون قصة قصيرة. هنا يستوقفنا قول سومرس عن الحوار (ليس
بالضرورة) وهي إشارة مهمة لأن القصة القصيرة يمكن أن تقوم على الحوار فقط
كتقنية وحيدة لكن لايمكن فصله عن مفهوم القصة القصيرة المتعدد.
عباس محمود العقاد في كتابه (خواطر في الفن والقصة) يتبنى نفس المفهوم
تقريباً، فبدلاً من تقديم تعريف للقصة القصيرة، يرى أنه من الأسهل تقديم
تعريفات سلبية بمعنى معرفة ما لايشترط للقصة القصيرة للوصول إلى شروطها
وبالتالي تعريفها بشكل أكثر تحديداً، فالعقاد يرى أنه لايشترك في القصة
القصيرة العناية برسم الشخصيات بشكل دقيق، فالقصة القصيرة قد تكتفي بعمل
واحد فقط لهذه الشخصية، أو يوم واحد من أيامها، كما أنها لاتتناول حوادث
متعددة، ولاحتى تفيض في حادثة واحدة، ولايتوقع أن تطبق مذهباً نفسياً أو
اجتماعياً، وأخيراً لاتشترط الحبكة المحكمة في القصة القصيرة.
ويضيف رشاد رشدي إلى هذا المعنى في كتابه الشهير (فن القصة القصيرة) قوله
’’القصة القصيرة ليست مجرد خبر أو مجموعة أخبار، بل هي حدث ينشأ بالضرورة
من موقف معين ويتطور بالضرورة إلى نقطة معينة يكتمل بها معنى الحدث‘‘
ومن زاوية الفن الأدبي يتضح أنه بالرغم من ارتباط القصة القصيرة بأصول
شعبية فإنها – حسب رأي سوزان لوهافر- تمثل ظاهرة خاصة تختلف عن الرواية
وعن الملحمة، ومن ناحية نقدية نحن في ا لواقع أمام شكل فني جديد.
ويعبر ماثيوز عن هذه الرؤية بإشاراته إلى أن الفكرة التي يطورها بشكل
منطقي شخص يملك حس الشكل وموهبة الأسلوب هو مانبحث عنه في القصة القصيرة .
ولاشك أن توفر الحس الفني والموهبة، كفيل بمستوى متميز من الإبداع.
بعض التعريفات الحديثة تؤكد أن القصة القصيرة هي التي تهتم بأن تترك أثراً
واحداً من خلال التعبير عن مشهد واحد مهم، يشترك فيه عدد قليل من الشخصيات
وأحياناً شخصية واحدة، وهذا الشكل يتجه نحو الاختصار في المشهد والتركيز
في السرد، ولذلك كما يقول بيرنت غالباً ما يركز كتاب القصة القصيرة في
القرنين التاسع عشر والعشرين على شخصية واحدة في مشهد واحد، وبدلاً من
تتبع تطور الشخصية يتم التحدث عنها في لحظات محددة.
وبذلك تحقق القصة القصيرة الوحدات الثلاث في المسرح الـكلاسيكي الفـرنسي،
وحـدة الحدث ووحدجة الزمان ووحدة المكان. وهنا نجد أن القصة القصيرة كما
حدد ذلك براندر ماثيوس بوعي كبير في مرحلة مبكرة جداً من تاريخ القصة
القصيرة تتعامل مع شخصية واحدة، وحدث واحد، وإحساس واحد، أو مجموعة أحاسيس
تتصل بحالة واحدة.
ويأتي الناقد وليام كيني ليؤكد أن القصة القصيرة عادة ماتقوم على حادثة
واحدة تمثل أ÷مية كبيرة للشخصيات. ليلة في الغابة ووصول قاتلين إلى مطعم
القرية الصغيرة، مثل هاتين الحادثتين، يمكن أن تكونا نموذجين للقصة
القصيرة. ورغم كل هذا تبقى القصة القصيرة ذات تميز في إيقاعها وتكوينها،
وهي غالباً ماتعتمد على تركيز الحدث، وقد يكون فيهاحدث مفاجئ، مرض قصير،
حفل، لقاء بلا غد، بمعنى أن (تصور فترة زمنية قصيرة في حياة أبطالها،
ولكنها فترة مشحونة بلحظات مكثفة،تنبى بإيجاز عن ماضي الشخصية وتخطط
لمستقبلها) كما تقول نادية كامل في بحث لها عن (الموباسانية في القصة
القصيرة).
وقد أشار عز الدين إسماعيل إلى التركيز في معالجة الحدث وطريقة سرده، وفي
الموقف وطريقة تصويره صفة أساسية، ويضيف في كتابه الأدب وفنونه (ويبلغ
التركيز إلى حد أنه لاتستخدم لفظة واحدة يمكن الاستغناء عنها، أو يمكن أن
يستبدل بها غيرها، فكل لفظة لابد أن تكون موحية، ولها دورها تماماً، كما
هو الشأن في الشعر).
إن عدم وجود تعريف محدد، يعود في جزء منه إلى أن القصة القصيرة مثلها مثل
باقي الفنون بدأت في الظهور أولاً ثم حاول النقاد إيجاد مجموعة من
النظريات لهذا الفن الجديد. ولذا، ليس غريباً أن نجد من النقاد من يقرر أن
ليس ثمة تعريف محدد واضح للقصة القصيرة.
ورغم ارتباط القصة القصيرة الوثيق الصلة بفن الرواية، من حيث اشتراكهما في
مجموعة من التقنيات، فإنها في فترة متأخرة أصبحت تقترب من الشعر، وأصبحت
تقترب من الشعر، وأصبح هناك سؤال مطروح يتمثل في (هل القصة القصيرة أقرب
إلى الشعر أم إلى الرواية) وهذا السؤال لم يتم طرحه من قبل النقاد بدءاً
،بل إنه جاء نتيجة لنتاج المبدعين الذين أرغموا النقاد على تحويل
أنظارهم،من ارتباط القصة بالرواية، إلى ارتباطها بالشعر، الأمر الذي جعل
الناقد يرى أن معظم كتاب القصة القصيرة المحدثين يتفقون على أن القصة
القصيرة أقرب إلى العشر منها إلى الرواية.
وعلى المستوى المحلي تم طرح هذا السؤال في مرحلة تاريخية تتمثل في نهاية
السبعينات وبداية الثمانينات حين صدر عدد من المجموعات القصصية التي
لاتمثل امتداداً للقصة القصيرة قبل ذلك، وإنما تمثل توجها جديداً في كتابة
القصة ينحو منحى الشعر من حيث اللغة والغموض. إضافة إلى الإيقاعات الشعرية
في بعض الجمل. وقد لاحظ ذلك أستاذنا الدكتور منصور الحازمي حين تحدث عن
هذا الجيل (الذي اقتربت لغته من لغة الشعر) حسب تعبيره. ومن السمات
البارزة التي لاحظها علي الدجميني حين قدم مجموعة عبد العزيز مشري (الموت
على الماء 1979م) الكم الشعري المتدفق من عباراته، أما في مجموعة محمد
علوان (الخبز والصمت 1977م) فنقرأ في قصة يحكى أن، نكتبها شعرياً دون أن
نتدخل في النص:
ظلام حالك
أمواج البحر زبد
وغيوم ولآلئ
ورمال صفراء
تحفر قبراً فوق الشاطئ
صياد يغمض عيناً،
والتبغ حلقات من أحلام مدحورة
ضاقت في الصدر
خرجت دخاناً وهباء
بيد معروقة
يجمع صيداً يخذله
ويعود لستة أفواه مبقورة…
والأمثلة كثيرة في هذا الإطار، وهنا يجدر التأكيد على ما أشار إليه خيري
دومة، أنه في الوقت الذي تقترب فيه القصة القصيرة من ذاتية الشاعر ورؤيته
الشخصية فإنها لايمكن أن تتخلى عن نثيرة الرواية وموضوعيتها.
في الوقت الذي بدأت القصة القصيرة تأخذ حيزاً في خارطة الآداب الغربية في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم يكن للقصة في أدبنا العربي مع مطلع
هذا القرن شأن يذكر، بل كان ينظر إليها على أنها مجموعة من الطرائف
المسلية، وقد كانت بعض المجلات تنشر القصص المترجمة تحت عنوان (فكاهات)
ولعل هذا الانتقاص من قدر القصة هو الذي جعل محمد حسن هيكل مثلاً ،كما يرى
بعض النقاد، لم يصرح باسمه حين كتب رواية زينب ترفعاً عن أن يعده أدباء
عصره رواية حواديت وفكاهات وهو المحامي ذو القيمة الاجتماعية الراقية.
ونجد إن إحدى المقالات سنة 1930م التي أشار إليها سيد حامد النساج في
كتابه (تطور فن القصة القصيرة بمصر) تشير إلى أن (الناس إلى حين قريب،
كانوا ينظرون إلى القصة بعين السخرية والازدراء ولايعدونها من الأدب
الرفيع شيئاً، بل أغلبهم يظن أنها لهو وعبث).
ولذا فإن الباب الذي دخلت من خلاله القصة القصيرة إلى الأدب العربي لم يكن
بالتأكيد الجانب الفني، فحين ننظر إلى بداية القصة القصيرة في مصر مثلاً،
نلاحظ أنها كانت تتوجه بشكل مباشر إلى الإصلاح الاجتماعي، وكان الكتاب
يسعون نحو تحقيق هدف أخلاقي لايخص مصر فقط، بل ينسحب على كافة الأقطار
العربية، في بداية نشأة القصة القصيرة فيها، بصرف النظر عن زمن النشأة،
بمعنى أن ا لتجربة ذاتها تتكرر في كل قطر تقريباً، وأكدت معظم الدراسات
التي تناولت نشأة القصة في الأدب العربي ’’أنها كانت حاجة اجتماعية قبل أن
تكون حاجة فنية، بمعنى أن اضطلاعها بوظيفتها كان أبرز الدوافع إلى
كتابتها‘‘ على حد تعبير عبدالله أبو هيف.
أما عبدالله العروي فيرى أن القصة القصيرة ’’هي الشكل الأدبي المطابق
لمجتمعنا المفتت، المحروم من أي وعي اجتماعي‘‘ ويضيف نجيب العوفي أن القصة
القصيرة جاءت منذ بداية القرن دليلاً على ’’التململ الوطني القومي وعلى
الصيرورة الاجتماعية التاريخية، ومؤشراً ثقفاياً بالغ الدلالة على مايسمى
النهضة أو المعاصرة أو الحداثة‘‘. ومن منطلق مقولة تشيكوف بأن القصة
القصيرة كذبة متفق عليها بين القاص والمتلقي، يعلق العوفي بقوله ’’أصبحت
الكذبة الفنية الصغيرة أداة لهتك الأكاذيب الكبيرة التي تخنق الضمير
العربي، وتعريه لهذا المسكوت عنه، الذي هو الحقيقة‘‘.
وحين نبحث عن أصول عربية للقصة القصيرة، نجد في تراثنا الكثير مما يمكن أن
يؤثر بشكل مباشر على تطور فن القصة القصيرة، إلا أننا لانظفر برؤية واضحة
تقرر أن القصة القصيرة امتداد لشكل، أو أشكال تراثية في أدبنا العربي، رغم
بعض الآراء التي ترى أنها ترتبط بفن المقامة، فب الوقت ذاته نجد مايؤكد
أنها تأثرت بشكل مباشر بالثقافة الغربية من خلال مبديها الأوائل، فالطاهر
أحمد مكي مثلاً، يقرر دون تردد بأن القصة القصيرة لم تنشأ من أصل عربي
’’وإنما ترعرعت بتأثير من الأدب الأوربي مباشرة‘‘ وتؤكد آمال فريد أن هذا
الأمر ’’لم يعد موضع جدال؛ فإلى جانب إجماع النقاد والدارسين على ذلك نجد
أن جيل رواد القصة القصيرة أمثال محمود تيمور ويحيى حقي ونجيب محفوظ ويوسف
السباعي وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس… هذا الجيل لاينكر فضل إدجار ألن
بو أو موباسان عليه. ولقد كان محمود تيمور رائد القصة القصيرة، يفخر عندما
أطلق عليه النقاد (موباسان القصة العربية).
ويشير فتحي الأبياري إلى أنه حين انضم محمود تيمور إلى مجمع اللغة العربية
رحب به طه حسين وأشاد بفنه القصصي قائلاً ’’لقد سجلت به لنفسك خلوداً في
تاريخ الأدب العربي لاسبيل إلى أن يمحى، هو القصص على مذهبه الحديث في
العالم الغربي‘‘، وإذا كان هذا في المشرق العربي، فإننا نجد أن المحاولات
الأولى لكتابة القصة القصيرة في المغرب أيضاً، بدأت بعد الحرب العالمية
الأولى، وكان الباعث عليها كما يقول عبدالله كنون ’’قراءة بعض المترجمات
منها، أو الاطلاع عليها في لغتها الأصلية بالنسبة لمن يحسنون لغة أجنبية‘‘
ويصل أحمد هيكل إلى نتيجة يؤكد معها ’’أن القصة القصيرة بصورتها الفنية في
الأدب الحديث قد أخذت عن أدب الغرب، ولم تنحدر من التراث أو تتطور عن فن
عربي مشابه‘‘ كما جاء في كتابه (الأدب القصصي والمسرحي في مصر).
خلال الصفحات السابقة تم استعراض مجموعة من الآراء التي تؤكد أن القصة
القصيرة في الأدرب العربي لم تكن امتداداً لأشكال عربية تراثية، بل إنها
جاءت بتأثير مباشر من الآداب الغربية. وعندما نصل إلى نتيجة كهذه، فإن
مفهوم القصة القصيرة في الأدب العربي قد تأثر بشك لكبير بمفهومها في
الآداب الغربية أيضاً. وفوق ذلك يمكن ملاحظة أن القصة القصيرة في أدبنا
العربي تأثرت بشكل مباشر بتلك التيارات الفنية التي مرت بها القصة
الغربية.
وقد شهدت فترة الستينات وبداية السبعينات تحولاً في مسيرة القصة القصيرة
العربية، وتحديداً في مصر من حيث الاهتمام بهذا الفن، وفي تفسير سوسيولوجي
يعلل سمير حجازي (فصول 4:2) هذه الظاهرة بأنها تأتي نتيجة ’’الأزمات
الثقافية والتحولات الاجتماعية غير المحتملة‘‘ التي أدت إلى إحساس الكاتب
بالاغتراب، الذي أوجد نوعاً من التوتر النفسي، مما جعله يتخذ من القصة
القصيرة وسيلة للتعبير؛ لأنها تتميز ببعض الخصائص الفنية، فهي تقوم على
’’تصوير موقف معين من زاوية معينة، بطريقة تميل إلى الانكماش، وتعتمد على
الجمل الوصفية الدقيقة‘‘ التي تصور ’’الواقع الداخلي والخارجي بطريقة تهمل
عنصر الزمن وتسلسل الحوادث، والكاتب يصور لنا هذا الموقف بلغة الشاعر
المرهف‘‘.
ولعل هذا الرأي يقترب إلى حد كبير من واقع القصة القصيرة في عدد من
البلدان العربية مع اختلاف نسبي في الفترة الزمنية التي تمر بها، لكنها
غالباً حدثت بين عقدي الستينات والسبعينات، التي امتازت بانطلاقة فنية
جديدة للقصة القصيرة لم تتكئ كثيراً على التراث القصصي في مرحلة سابقة، بل
نجد أننا أمام تحول جديد في كتابة القصة يأخذ زوايا واتجاهات متعددة تختلف
من كاتب لآخر، من ناحيتي المعالجة والقالب الفني. وهو تحول يرتبط بالتحول
الاجتماعي الذي طرأ، ومن الطبيعي أن يكون الفن السردي وتحديداً القصة
القصيرة الوسيلة الأفضل للتعبير عن هذه التحولات، لأنها ذات إيقاع سريع
ومتجدد.
وحين النظر إلى القصة المحلية، نجد أن تحولاً بارزاً حدث للقصة القصيرة مع
ظهور جيل جديد مبدع لهذا الفن، حدث ذلك ابتداء من منتصف وبداية
الثمانينات، وهو جيل لايمثل امتداداً للجيل السابق، ولم يتأثر به، بل كان
تأثره المباشر بالكتاب العرب خارج الوطن. ومن أبرز هؤلاء وهم من جيل واحد
تقريباً جار الله الحميد وعبد العزيز مشري ومحمد علوان وحسين علي حسين،
فإبراهيم الناصر وغالب حمزة أبو الفرج ومحمود عيسى المشهدي، لايمثلون أي
حضور في قصص الجيل الجديد. ويلخص الدكتور منصور الحازمي تجربة هذا الجيل
بقوله ’’لقد اختلفت القصة القصيرة على أيدي هؤلاء الشباب اختلافاً كبيراً
عما كانت عليه عند أسلافهم من الواقعيين، لم تعد تعني بالبيئة المادية أو
الواقع الحسي، بل باللحظات الشعورية والمواقف النفسية ا لمتوترة، ولم تعد
تهتم بالمشاكل الاجتماعية اهتماماً مباشراً، بل بما قد تعكسه هذه المشاكل
من أحاسيس ذاتية غامضة، لاتبحث عن حل معين وإن كانت تومئ إليه
أحياناً‘‘وهذا يعني بشكل مباشرأن مفهوم القصة القصيرة لدى هؤلاء قد اختلف
تماماً عن ذلك المفهوم الذي تبناه أسلافهم.
ولعله يجدر الاحتراز والإضافة ونحن نتحدث عن القصة المحلية بالقول إن
ماذكر آنفاً ينطبق على مجموعة من الكتاب، لكننا نجد في ذات الوقت مجموعة
منت الكتاب الآخرين من نفس الجيل يمكن أن نعتبرهم امتداداً للجيل السابق
من أمثال محمد منصور الشقحاء وعبدالله باقازي وعبد الله سعيد جمعان وخليل
الفزيع. وهذا القول يصدق على المجموعات الأولى لكلا الفريقين (بما في ذلك
رأي الحازمي السابق) وإلا فإننا وجدنا بعد ذلك تغيراً أو تحولاً في
الإنتاج التالي لمعظم هؤلاء، ولعل عبدالعزيز مشري رحمه الله أبرز المثلة
وضوحاً في هذا الإطار، وتعدد المفاهيم لدى الكتاب يمكن استخلاصه من
المستويات الفنية المتفاوتة لقصص المجموعة الواحدة لكاتب بعينه. الأمر
الذي يتضح منه في غال الحوال عدم تبلور مفهوم محدد للقصة القصيرة في ذهن
الكاتب ضمن إطار مرحلة معينة. نقول ذلك لإدراكنا أن ثمة تحولات في
المفاهيم تحدث لبعض الكتاب من مرحلة إلى أخرى.
من الملاحظ أن كتاب القصة في عالمنا العربي بشكل عام يعتمدون في كتابتهم
على الخبرة الكتابية والقرائية لفن القصة من خلال من سبقهم من الكتاب،
وعلى ضوء ذلك يتحدد لديهم مفهوم أو مفاهيم القصة القصيرة، لكن ماهي
حصيلتهم النظرية في هذا الفن وتقنياته ومناهجه؟ سؤال جدير بأن يطرح على
المبدعين، وإن كان متوقعاً أن معظم الإجابات ستكون نافية لقراءة مكثفة
واعية للنظرية القصصية وتقنيتها خصوصاً في بداية مرحلة الكتابة. ليس هذا
افتراضاً بل نتيجة تستنيد بشكل أساسي، على التفاوت الكبير في مستويات
الكتابة القصصية لدى الكثير من الكتاب في أرجاء الوطن العربي. ولتأكيد ذلك
تجد الإشارة إلى استجواب نشرته مجلة فصول مع ثمانية وعشرين كاتباً للقصة
القصيرة في العالم العربي، طرحت عليهم العديد من الأسئلة وكان من بينها
السؤال التالي ’’هل قرأت شيئاً عن أصول هذا الفن القصصي، أو عن طرائق
كتابته؟‘‘
الملفت للنظر، أن أغلب هؤلاء الكتاب أجابوا بالنفي! ومن بينهم أسماء كبيرة
في عالم القصة أمثال إبراهيم أصلان ومجيد طوبيا ونجيب محفوظ ويحيى حقي
ويوسف إدريس، فإبراهيم أصلان يقول ’’لا أظن أن هناك كتباً قرأتها بتأن في
هذا الموضوع‘‘، ومجيد طوبيا يقرر ’’لم أقرأ شيئاً عن أصول هذا الفن القصصي
أو عن طرائق كتابته، قبل الممارسة الواعية للكتابة‘‘ أما نجيب محفوظ فيجيب
عن السؤال بقوله ’’خلاف ماقرأت عن فن الرواية، لم أقرأ إلا القليل عن فن
القصة القصيرة بل وقرأته في سن متأخرة‘‘ ويقول يحيى حقي ’’في أول الأمر لم
أقرأ شيئاً عن أصول هذا الفن القصصي، لكن عندما تقدمت قليلاً وكأي إنسان
يحترم نفسه، قرأـ‘‘ ويأتي يوسف إدريس وهو الأكثر التصاقاً بالقصة القصيرة
ليقول بصرامة وصراحة ’’لا، لم أقرأ، إن ماأعرفه بالحس والسليقة والفطرة
أجدى مما يمكن أن أقرأه في هذا المجال‘‘
وربما لو طرح هذا السؤال على عدد أكبر من كتاب القصة القصيرة في سائر
الوطن العربي، لجاءت الإجابات متشابهة، وهذا مادعا ماهر فهمي أن يقرر في
حديث عن بعض كتاب القصة، أن الكثيرين منهم ’’لديهم رسالة عامة، ويعرفون أن
القصة وسيلة لإيصال هذه الرسالة… لكن قوانين كتابة القصة القصيرة
والتركيبات النفسية والفكرية ولحظات تخلقها في النفس البشرية تبقى نادرة‘‘
ولاأتوقع أن كتاب وكاتبات القصة المحليين سيكونون بمنأى عن هذه النتيجة،
وهذا ماأكده شفوياً بعض كتاب القصة، وفي لقاء صحفي قال سباعي عثمان ’’في
دنيا الأدب (وهي صفحات ثقافية كان يشرف عليها) اكتشفت موهبة القصة في
نفسي، وكان ذلك بالصدفة من خلال زاوية يومية كنا نتبادلها أنا والزملاء في
جريدة المدينة‘‘ ولعل سباعي عثمان ليس الوحيد، الذي وجد نفسه يكتب قصة دون
وعي كامل بفن القصة ومفهومه وتقنياته.
وكم أتمنى أن أقوم باستبيان على المستوى المحلي، يشترك فيه أكبر عدد ممكن
من المبدعين والمبدعات يتفضلون فيه بالإجابة على أسئلة عامة حول تجربتهم
القصصية بشكل خاص، ورؤاهم حول فن القصة القصيرة، فهذا دون ريب سيقود إلى
نتائج تخص الإبداع المحلي.
ولعل سؤالاً يتم طرحه في هذا الإطار، يتصل بالعلاقة المباشرة بين الإبداع
وبين دراية المبدع بمفاهيم الفن الذي يبدعه! وبطريقة أخرى ’’ماذا سيفيد
تحديدج مفهوم القصة القصيرة بالنسبة للمبدع؟‘‘ وهو سؤال طرحه جريدي
المنصوري عقب محاضرة لي في نادي الطائف الأدبي حول مفهوم القصة القصيرة،
وهذا السؤال يتركز حول العملية الإبداعية نفسها، وهنا يجدر التأكيد على
مسألتين أساسيتين، الأولى تتمثل في أن الدراية النظرية وحدها لن تخلق
مبدعاً أو إبداعاً، والثانية أن الكاتب الذي يظل أسيراً للتنظير الإبداعي
لن ينتج إبداعاً. إن المبدع يجب أن لاتحده قيود نظرية، ويتوقع منه أن يكون
(أكبر من العروض) وفوق تحديد مسالك ودروب الفن. إلا أن ثقافة المبدع بشكل
عام تؤثر في إبداعه، ومعرفته بأساليب ونظريات وتقنيات فنه الإبداعي، ستزيد
دون ريب من معرفة دهاليز فنه وخباياه وبالتالي تملك ناصيته. وهذا ينتج عنه
مزيد من الإبداع.
في إطار البحث عن مفهوم القصة القصيرة، تستوقفنا قضية المصطلح باعتبار
دلالته، التي تنبع من المفهوم، ومن الملفت للنظر جداً أن هذه القضية
لاتؤرق الباحثين في هذا المجال، فالكتب الأولى التي درست القصة القصيرة في
الأدب العربي لم تطرح بدءاً قضية المصطلح، منها دراسة عبدالعزيز عبد
المجيد (القصة القصيرة العربية الحديثة) ودراسة محمود حامد شوكت (الفن
القصصي في الأدب المصري الحديث) ودجراسة سيد حامد النساج (تطور فن القصة
القصيرة في مصر منسنة 1910 إلى سنة 1933م) وهذه الدراسات الثلاث رسائل
دكتوراه. إضافة إلى كتاب يحيى حقي (فجر القصة المصرية) وكتاب عباس خضر
(القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930م)
وبالرغم من صدور عشرات الكتب التي تتناول القصة القصيرة بشكل تاريخي، أو
دراسة اتجاهاتها العامة، أو دراسات لمبدعين بشكل انفرادي، نجد أنها غالباً
لاتقف عند قضية المصطلح. من هذه الكتب مثلاً حسن البنداري (فن القصة
القصيرة عند نجيب محفوظ 1988م) إيفلين فريد جورج يارد (نجيب محفوظ والقصة
القصيرة 1988م) عبد الحميد عبد العظيم القط (يوسف إدريس والفن القصصي
1980م)، وقد استخدم القط في كتابه مصطلحات (القصة القصيرة والأقصوصة
والقصة القصيرة الطويلة) دون تحديد نقدي لهذه المفاهيم. ويرى الدكتور حسام
الخطيب أن عدم تحديد المصطلح برزت معه ’’صعوبة تحديد تاريخ دقيق لنشأة
القصة العربية الحديثة‘‘.
ورغم أننا لانجد تعدداً كبيراً في مصطلحات القصة القصيرة، فإننا لانجد في
أدبنا العربي اتفاقاً على مصطلح واحد لهذا الفن، فالعقاد مثلاً في كتابه
(خواطر في الفن والقصة) يستخدم مصطلح (الحكاية القصيرة) أو (الحكاية
النادرة)، وهذه حسب رأيه تقابل (short story) ،كما يستخدم مصطلح (القصة
الصغيرة) لنفس المفهوم، وقبل ذلك نجد يحيى حقي في (فجر القصة المصرية)
يتراوح بين استخدام مصطلحي (القصة الصغيرة) و (القصة القصيرة) أما محمد
يوسف نجم في (فن القصة) فيستخدم مصطلح (الأقصوصة) ويشاركه في ذلك فتحي
الأبياري، دون وقفة نقدية لسبب اختيارهما لهذا المصطلح، رغم أن الأبياري
كان على وعي بهذا الاستخدام، ح يث أشار في دراسته عن تيمور، إلى أن
الأقصوصة هو مايسمونه باللغة الإنجليزيةshort story وباللغة الفرنسية
conte. أما محمد الهادي العامري فرغم أن دراسته جاءت بعنوان (القصة
التونسية القصيرة) فإنه يستخدم مصطلحات (القصة القصيرة والأقصوصة والقصة)
لتشيرة إلى مفهوم واحد. وفي دراسة حمزة بوقري للقصة القصيرة في مصر، نجده
يستخدم مصطلح (الأقصوصة والقصة القصيرة) بشكل تبادلي لنفس المعنى.
يقف صبري حافظ وقفة أطول عند قضية المصطلح (فصول4:2) فيشير إلى تذبذب
الدارسين بين استعمال مصطلحي (الأقصوصة والقصة القصيرة) للدلالة على
المصطلحين الإنجليزي والفرنسي. ويؤثر صبري حافظ مصطلح الأقصوصة، لأسباب
منها إيجازه، وإمكانية اشتقاق صفة أقصوصي منه. إضافة إلى أن مصطلح القصة
القصيرة على حد تعبيره، ’’يحمل ميسم الترجمة الواضحة من الإنجليزية التي
تفتقر إلى صيغ التصغير. ومن هنا تحتاج إلى كلمتين حيث تكتفي العربية بكلمة
واحدة. ولن هذا المصطلح كلمة واحدة في الفرنسية وأخرى في الألمانية
Kurzgeschichten وإن كانت مركبة …فلماذا يصر الكثيرون على استخدام الترجمة
الحرفية للإصطلاح افنجليزي؟‘‘
ورغم شرعية مايطرحه الناقد صبري حافظ، فإنه لايمكن النظر إلى قضية هذا
المصطلح بمعزل عن المصطلحات الأخرى، المتعلقة بفن السرد الحديث.
ولعله من الضروري أن تكون معالجة المصطلح ضمن إطار جمعي للمصطلحات
المتعلقة بالفن الأدبي الواحد، فما يبدو مقنعاً حين التعامل معه على
انفراد قد لايبدو كذلك حين يتداخل مع مجموعة من المصطلحات الأخرى. إلا أنه
بالرغم من ذلك فإن مصطلح (القصة القصيرة) قد أخذ من الشهرة والتداول بين
النقاد والمبدعين ما جعله جديراً بالتبني. أما مصطلح الأقصوصة فإني أميل
إلى استخدامه مقابلاً لمصطلح Novella، متفقاً في ذلك مع مجدي وهبة، وسعيد
علوش حسبما جاء في معجم كل منهما. وهو العمل الأدبي الذي يقع بين الرواية
Novel والقصة القصيرة، ويمكن اعتبار (قنديل أم هاشم) مثالاً له.
الفرق بين القصة القصيرة والرواية ؟؟؟؟؟
الفرق بين القصة القصيرة والرواية يكمن في الموضوع الحي المعروض في صورة
عضوية متفاعلة الأجزاء , متكاملة العناصر , والموضوع الجامد الذي يغلب
عليه الطابع التجريدي والتلخيص , فالقصة القصيرة من الممكن أن تجتاز
بالقارئ فترة زمنية طويلة , كما تصنع الرواية , ولكن الفرق هنا يكمن في
طريقة العرض , فالتفصيلات والجزئيات التي تملأ كل يوم وكل ساعة في تلك
الفترة الزمنية لا حاجة لكاتب القصة القصيرة بها , بل أنه يجتاز كل شيء
لينتقل مباشرة من لمسة من لمساته للموضوع إلى أخرى , مجتازاً بذلك من
الزمن فترة قد تطول وقد تقصر .
القصة القصيرة تُفضل أقل عدد ممكن من الشخصيات , خلافاُ للقصة والرواية
حيث تكثر الأشخاص , فلبس في القصة القصيرة فرصة لرسم هذا العدد الكبير من
الشخصيات , ولأن القصة ذاتها لم تنشأ لتحليل عدد كبير من الشخصيات , ومع
ذلك من الممكن أن تكثر الشخصيات في القصة القصيرة , ولكنها لا بد أن تكون
في مجموعها وحدة أي يجمعها غرض واحد . كل هذا يجعل صفة " التركيز " أساسية
في القصة القصيرة , فهي أساسية في الموضوع , الحادثة , طريقة السرد , أو
في الموقف وطريقة تصويره أي في لغتها .
من المهم الإشارة إلى تأثير هذا النوع الأدبي على الساحة العربية التي
حاولت أن تعبر عن اتجاهات تجريبية جديدة في التعامل مع اللغة وفي محاولة
استلهام الحلم والكابوس واللاوعي وحالات الجنون والقبح والابتذال
واللامنطق وتحول الإنسان إلى شيء يتم التعبير عنه بشكل بارد ومحايد ومحدد
أو تحوله إلى كائن مغاير ومختلف يتحرك بكل حرية في آفاق الحلم والأسطورة
والخيال , هذه الاتجاهات المختلفة الحديثة تشير إلى قدرة القصة القصيرة
الفائقة غلى التعبير عن كل ما يتعلق بالإنسان في علاقته بذاته , بالآخرين
وبالواقع وبالحياة وبالكون بشكل يتسم بالعمق والتركيز إذا توفر عليه كاتب
صادق , مخلص وموهوب , فالقصة القصيرة ليست أقل من أي نوع أدبي آخر في
قدرتها على الإحاطة بجوانب هذا العالم إذا انكب عليها مبدع حساس دقيق
الملاحظة وعميق الخيال .
القصه القصيرة....( عناصرها و شروطها)..
يخلط بعض الكتاب بين القصة والقصة القصيرة، وهذا الخلط ناجم في الغالب من
الدلالة اللفظية لكلا المصطلحين، وحقيقة الأمر أن القصة بمعناها المطلق
تشمل كل الألوان السردية والحكائية وهي ذات جذور متوغلة في عمق تاريخ
الأدب العربي، ومنها القصص الـواردة في القرآن الكريم مثل قصص الأنبياء
والأقوام والأمم، وكذلك الأساطير الشعبية والحكايات المستمدة من التراث،
وهي تشكل رصيداً ضخماً من الإبداع المرتبط بتاريخ الأمة عبر الزمن، لكن
القصة القصيرة بمفهومها الحديث فن وافد إلى الأدب العربي المعاصر من الغرب
والشرق.
ولا يبرر هذا الخلط بين القصة والقصة القصيرة ما تشهده ساحة الإبداع
الأدبي من فوضى نتيجة تداخل الأجناس الأدبية على أيدي المغرمين بتقليد
أدباء الغرب، حتى أصبحنا نقرأ ما يسمى شعراً ما ليس له علاقة بالشعر، أو
نقرأ قصة ما ليس له علاقة بالقصة، كل ذلك بحجة التجديد، وما هو سوى تقليد
أعمى يتجاهل الذائقة الفنية للقارئ العربي الذي تربى على تلقي ألوان أدبية
شكلت ذائقته الفنية بل وساهمت في تشكيل شخصيته العامة، وهي ألوان قابلة
للتجديد وفق السياق العام للتطور الذي تشهده الحياة في المجتمع العربي
المسلم، لا وفق ما يراه الآخرون.
قواعد صارمه:
إن الأدب العربي عبر تاريخه الطويل يحمـل كمـاً هـائلاً من القصص التي لا
يمكن أن ينطبق عليها مصطلح القصة القصيرة، رغم أن هذا اللون الأدبي ـ أي
القصة القصيرة ـ هو أكثر الألوان الأدبية قابلية للتطوير والتجديد، وهذا
ما تؤكده النماذج القصصية الجديدة التي بدأت في التخلي عن تلك القواعد
الصارمة التي وضعها كتّاب القصة القصيرة الأوائل، أو التي استنتجها النقاد
من كتابات أولئك الرواد. وبصرف النظر عن مدى تقبل المتلقي للنصوص القصصية
الجديدة، فإن على المبدعين التعامل بحذر مع النص قبل الإقدام على مغامرة
التجريب، حتى لا يتخلى النص القصصي نهائياً عن كـل مقومات القصـة
القصيرة.. ليصبح لونـاً أدبياً آخر يمكن تصنيفه في أي ( خانة ) من ( خانات
) الأدب باستثناء القصة القصيرة.
فن جديد:
وكما قلنا: يعتبر فن القصة القصيرة من الفنون الأدبية الحديثة، التي عرفها
الأدب العربي في هذا العصر، وإن كان هناك من يرجع جذورها الأولى إلى بعض
الفنون الأدبية القديمة، لأنها تشترك معها في بعض الملامح، لكن حقيقة
الأمر أن القصة القصيرة بشروطها الفنية المعروفة هي فن جديد، ليس في الأدب
العربي فقط، ولكن حتى في الآداب الغربية الأخرى، إذ لم يظهر هذا الفن إلا
منذ حوالي قرن تقريباً وفي هذا المعنى يقول الدكتور عزالدين إسماعيل : (
وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن
العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجاً، وقد ساعد على ذلك طبيعتها والعوامل
الخارجية.
عصر السرعة:
أما من حيث طبيعتها فقد أغرت كثيراً من الشبان بكتابتها رغم أنها في
الحقيقة أصعب أنواع القصص، ولذلك يخفق 70% على الأقل في كتابتها. وأما من
حيث العوامل الخارجية، فقد تميز عصرنا بالآلية والسرعة، ومئات الصحف
والمجلات تحتاج كل يوم لمئات القصص وهي بحكم الحيز والناحية الاقتصادية
تفضل القصة القصيرة، ثم يذكر من هذه العوامل الإذاعة أيضاً، والناس الذين
سيطرت على حياتهم السرعة في كل شيء حتى فيما يختارون للقراءة، فوجدوا في
القصة القصيرة ضالتهم، لأنها تلائم روح العصر بكل تناقضاته وإشكالاته
المختلفة. ثم إن (القصة القصيرة لا تزدهر مع حياة الخمول، بل تزدهر مع
حياة المعاناة، لأنها تتخذ الومضة النفسية أو الحضارية للمجتمع والإنسان
محوراً لها تعالجه وتهتم به، وما اهتمامها بالإنسان إلا اهتمام بالطبقات
المسحوقة بشكل خاص).
وفي هذا العصر يعيش الإنسان أقسى أنواع المعاناة، وأشدها وطأة على النفس، وفي مثل هذه الظروف تزدهر القصة القصيرة.....
معطف جوجول
ويمكن القـول أن القصة القصيرة ظهرت في وقت واحد في بلدين متباعدين، وعلى
أيدي اثنين لم يتفقا على ذلك هما إدجار ألن بو 1809 ـ 1840 في أمريكا،
وجوجول 1809 ـ 1852 في روسيا، وقد قال مكسيم جوركي عن جوجول (لقد خرجنا من
معطف جوجول) (3) وهو بهذا وضع تحديداً مبدئياً لتاريخ القصة القصيرة في
الآداب العالمية، إلى أن جاء جي دي موباسان 1850 ـ 1892 في فرنسا ليقول
عنه هولبروك جاكسان: (إن القصة القصيرة هي موباسان، وموباسان هو القصة
القصيرة)....
مقدمة وعقدة:
وهناك شـروط للقصـة القصيرة هي المقدمة والعقدة والحل أو لحظة التنوير،
كما أن للقصة عناصر تقليدية أيضاً هي الشخصية والحدث والبيئة ـ الزمان
والمكان ـ لكن هذه الشروط أو العناصر لم تعد تشغل بال كتاب القصة الحديثة،
إذ تجاوزها الكثيرون ممن يحاولون التجريب فهم يرون أنها (سير نحو هدف ما،
ومن معاني السير البحث، ولا سيما البحث عن الوجود، والقصة هي أحسن مثال
لهذا اللون من البحث، وهذا السير هو في الحقيقة مجهول، مغامرة منغلقة
الأسرار، حركية دائمة ديمومة متدحرجة، وعلاقة القصاص بهذا اللون من البحث
غريبة. إذ أن القصة تتبع من نفسه، فيتحملها عند كتابتها ومعايشتها، حتى
تتمكن من تقرير مصيرها بنفسها فنياً.
أما القصة التقليدية فهي السـكون والقـرار، إذ هي مشـروحة جـاهزة، مضبوطة
الأهـداف.. منطقية قدرية " عاقلة " يصبها باعثها في قالب جامد مجتر ).
وهذا الكلام لا يؤخذ على علاته، فالعملية الإبداعية لا تقتصر في نجاحها
على أساليب دون غيرها، سواء كانت هذه الأساليب تقليدية أو تجريبية، فإذا
توفر الصدق الفني إلى جانب إشراقة الأسلوب وقدرته على تفجير الأسئلة في
ضمير المتلقي، يمكن الحكم للعمل الإبداعي لا عليه. فما الفائدة في أن يقدم
على التجريب من لا يملك الأدوات الفنية التي تؤهله لذلك، إن العملية
الإبداعية في هذه الحالة لا تتعرض للتجريب بل للتخريب.
شروط غير ملزمة:
ومع ذلك فإن شروط القصة القصيرة لم تعد ملزمة، لأنها شروط قابلة للنقض،
كغيرها من الشروط العامة التي تخضع حين تنفيذها لظروف مختلفة عن تلك التي
كانت حين فرضها. وهي قابلة للتجاوز حسب درجة الوعي التي يتمتع بها
المبدع.. ذلك الوعي الذي لا يتيح للمتلقي فرصة الوقوف والسؤال عن لماذا تم
تجاوز هذا الشرط أو ذاك. فهو أمام عمل إبداعي متكامل، تم تشكيله وفق رؤية
جديدة ومتطورة لا يملك المتلقي حيالها إلا الإعجاب. لكن إذا أمكننا أن
نتخلى عن بعض أو كل شروط القصة القصيرة، فكيف لنا أن نتخلى عن كل أو بعض
عناصرها ؟. إن هذا التخلي عن هذه العناصر يحيل الكتابة إلى لون أدبي آخر
غير القصة. قد يندرج تحت مسمى الخاطرة أو الكتابات الوجدانية أو أي لون
أدبي آخر غير القصة، وهذا لا يعني أن هذه العناصر جامدة ولا تقبل التطوير.
وأول هذه العناصر الشخصية القصصية:
أولا- الشخصية:
كنا إلى وقت قريب نقرأ الشخصية القصصية فنجدها صدى لكاتبها، إذ أن ثمة
علاقة تشبه التوحد بين المبدع وشخصياته القصصية، وهذا التوحد وإن كان يلقي
الضوء على المبدع وفكره، إلا أنه يحول بين الشخصية وممارسة تصرفاتها
الطبيعية، وفق الدوافع والأجواء التي وجدت فيها، وعندما يطـل المبدع بفكره
من خلال شخصياته القصصية، فإن هـذا يكرس النمطية التي تتكرر بشكل أو بآخر،
وتلقي بظلالها على ما يأتي بعدها.
لكننا مع تقدم التقنية القصصية، نتيجة فسـح المجال أمام التجارب الجديدة..
أصبحنا نقرأ نماذج متعددة من تلك الشخصيات، لا تظهر فيها سيطرة الكاتب
وتحكمه في مصيرها، وأصبح سلوكها مرهون الخطوات بالظروف والعوامل والأجواء
التي وجدت بها، دون الشعور بأن الكاتب هو المتصرف بشؤونها، والمتحكم في
تصرفاتها والمقرر لمصائرها، وهذا لا يلغي العلاقة بين المبدع والنص، ولكنه
يجعل هذه العلاقة متوازنة ومحكومة بضوابط خفية يعرفها المدركون للإشكاليات
المتعلقة بالإبداع أو التلقي.
الإبداع والنص:
وحين الحديث عن العلاقة بين المبدع والنص علينا ألا نتجاهل أهمية التجارب
الذاتية في إثراء العمل الإبداعي، وهذه التجـارب لا تبرر للمبدع فرض رأيه
وفكره فيما يتعارض مع قدرة شخصيته القصصية على استيعاب وتمثل هذا الرأي أو
الفكر، لأن العديد من العوامـل هي التي تحـدد هذه القـدرة على الاستيعاب
والتمثل، وبغياب هذه العوامل تصبح تلك القدرة مفقودة، والتناقض واضحاً بين
الشخصية وسلوكها المحتمل والمتوقع. إن إدراك توازن العلاقة بني المبدع
والنص يقودنا إلى شيء من التسليم بأن هذه العلاقة طبيعية وغير متنافرة،
إذا تقيدت بتلك الضوابط الخفية التي أشرنا إليها آنفاً. أما القول بانعدام
العلاقة بين المبدع والنص، كما يزعم المنادون بموت المؤلف، فإنه قول
يتجاهل مجمل المعطيات التي تحيل النص من مجرد فكرة هلامية، إلى كائن
يتنامى حتى يبلغ أوج نضجه. وهكذا يكون الحال بالنسبة للجزئيات التي يتكـون
منها النص في نهاية الأمر.
شخصيات مختلفة:
عند الحديث عن الشخصية القصصية سواء في الرواية أو القصة القصيرة، يتبادر
إلى الأذهان أن المعنى هو الإنسان، وإن لواء البطولة في القصة لا يعقد إلا
لهذا الإنسان، مع أن الأعمال الروائية والقصصية المشهورة تزخر بأبطال
حقيقيين يتحكمون في مسار الأحداث، ولكنهم ليسوا رجالا أو نساء، ليسوا
بشرا، وإن كانوا هم محور الأحداث، ومركز استقطابها، وعلاقتهم بالناس هي
علاقة محكومة بظروفها، لا أقل ولا أكثر.
ونحن أمام عمل إبداعي مثل ( العجوز والبحر ) لهنجواي ننسب البطولة للعجوز،
لكن هناك بطولة لشخصيات أخرى أشد ضراوة في مقاومة الظروف وتحدي الصعاب..
وأشد إصراراً على تحقيق هزيمة ساحقة بالعجوز الذي لم ينهزم لأنه يقول في
النهاية : إن الإنسان قد يتحطم ولكنه لا ينهزم. فلدينا البحر الذي يشارك
العجوز هذه البطولة، وكذلك سمك القرش الذي يشاركه أيضاً هذه البطولة، فنحن
في هذا العمل الإبداعي أمام ثلاث شخصيات تتساوى في الأهمية : سانتياغو
العجوز، والبحر الذي يقود الأحداث إلى المجهول، وأسماك القرش التي تصر على
إلحاق الهزيمة بالعجوز.
يتبع ...........