التناص (النشأة والمفهوم)
جدارية محمود درويش نموذجا -
أ- في الأدب الغربي :
إذا
ما تتبعنا نشأة التناص وبداياته الأولى كمصطلح نقدي نجد أنه كان يرد في
بداية الأمر ضمن الحديث عن الدراسات اللسانية (1) وقد وضح مفهوم التناص
العالم الروسي ميخائيل باختين من خلال كتابه (فلسفة اللغة) وعنى باختين
بالتناص: الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو
محاكاتها لنصوص – أو لأجزاء – من نصوص سابقة عليها والذي أفاد منه بعد ذلك
العديد من الباحثين (2) حتى استوى مفهوم التناص بشكل تام على يد تلميذة
باختين الباحثة جوليا كرستيفا
وقد أجرت كرستيفا استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها (ثورة
اللغة الشعرية) وعرفت فيها التناص بأنه " التفاعل النصي في نص بعينه" (3)
كما ترى جوليا أن " كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل
نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى "(4) .ثم التقى حول هذا المصطلح عدد
كبير من النقاد الغربيين وتوالت الدراسات حول التناص وتوسع الباحثون في
تناول هذا المفهوم وكلها لا تخرج عن هذا الأصل ، وقد أضاف الناقد الفرنسي
جيرار جينيت لذلك أن حدد أصنافاً للتناص وهي :
1- الاستشهاد وهو الشكل الصريح للتناص
2- السرقة وهو أقل صراحة .
3- النص الموازي : علاقة النص بالعنوان والمقدمة والتقديم والتمهيد.
4- الوصف النصي : العلاقة التي تربط بين النص والنص الذي يتحدث عنه.
5- النصية الواسعة : علاقة الاشتقاق بين النص( الأصلي/القديم) والنص السابق عليه (الواسع/الجديد).
6- النصية الجامعة : العلاقة البكماء بالأجناس النصية التي يفصح عنها التنصيص الموازي (5(
وبعد ذلك اتسع مفهوم التناص وأصبح بمثابة ظاهرة نقدية جديدة وجديرة
بالدراسة والاهتمام وشاعت في الأدب الغربي ، ولاحقاً انتقل هذا الاهتمام
بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية
ونقدية غربية ضمن الاحتكاك الثقافي .
ب - في الأدب العربي القديم والمعاصر:
وإذا ما انتقلنا لمفهوم التناص ونشأته في الأدب العربي نجد أن مفهوم
التناص هو مصطلح جديد لظاهرة أدبية ونقدية قديمة فـ "ظاهرة تداخل النصوص
هي سمة جوهرية في الثقافة العربية حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة
الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل"(6) فالتأمل في طبيعة
التأليفات النقدية العربية القديمة يعطينا صورة واضحة جداً لوجود أصول
لقضية التناص فيه ، واقتفى كثير من الباحثين المعاصرين العرب أثر التناص
في الأدب القديم وأظهروا وجوده فيها تحت مسميات أخرى وبأشكال تقترب بمسافة
كبيرة من المصطلح الحديث، وقد أوضح الدكتور محمد بنيس ذلك وبين أن
الشعرية العربية القديمة قد فطنت لعلاقة النص بغيره من النصوص منذ الجاهلية
وضرب مثلاً للمقدمة الطللية ، والتي تعكس شكلاً لسلطة النص و"قراءة أولية
لعلاقة النصوص ببعضها وللتداخل النصي بينها" فكون المقدمة الطللية تقتضي
ذات التقليد الشعري من الوقوف والبكاء وذكر الدمن فهذا إنما يفتح أفقاً
واسعاً لدخول القصائد في فضاء نصي متشابك ووجود تربة خصبة للتفاعل
النصي.(7)
وإذا استمرينا في تتبع أصول التناص في أدبنا القديم نجد أن الموازنة التي
أقامها الآمدي بين أبي تمام والبحتري تعكس شكلاً من أشكال التناص ، وكذلك
المفاضلة كما هو عند المنجم، والوساطة بين المتنبي وخصومه عند الجرجاني،
ولما كانت السرقة كما يقول جينيت صنفاً من أصناف التناص فإنه بإمكاننا
اعتبار كتب النقاد القدامى كسرقات أبي تمام للقطربلي وسرقات البحتري من
أبي تمام للنصيبي والإبانة عن سرقات المتنبي للحميدي ، تظهر بشكل جلي مدى
تأصل ظاهرة التناص في الشعر العربي ، وهذا لا يعد أمراً غريباً لأن التناص
أمر لابد منه و"ذلك لأن العمل الأدبي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدة
تماماً مثل الكائن البشري ، فهو لا يأن فراغ كما أنه لا يفضي إلى فراغ ،
إنه نتاج أدبي لغوي لكل ما سبقه من موروث أدبي ، وهو بذرة خصبة تؤول إلى
نصوص تنتج عنه"(، وعلى الرغم من هذه الموازنات والسرقات والمعارضات
والجدل الطويل الذي دار بين النقاد القدامى الذين درسوا هذه الظواهر التي
تتفاوت فيها الصلة بين النص الجديد والنص القديم (9) إلا أن هذا الجهد يدل
على انشغال الثقافة العربية بعلاقة النصوص ببعضها البعض ، وإدراك النقاد
القدامى "للغة والأسلوب من جهة وبنية الخطاب من جهة أخرى وهكذا أنزلوا
الأولى منزلة السرقة والثانية منزلة الإجبار الذي هو شرط أسبق في بناء
الخطاب"(10) وبذلك يكونوا قد أدركوا مضمون التناص .
والتناص في الأدب العربي مر ببدايات غنية تحت مسميات نقدية تناسب عصوره
القديمة وعاد من جديد للظهور متأثراً بالدراسات اللسانية الغربية الحديثة
كمصطلح مستقل له أصوله ونظرياته وتداعياته، ففي الأدب العربي المعاصر حظي
مفهوم التناص باهتمام كبير لشيوعه في الدراسات النقدية الغربية نتيجة
للتفاعل الثقافي وتأثير المدارس الغربية في الأدب العربي وكانت دراسة
التناص في بداياتها قد اتخذت شكل الدراسة المقارنة وانصرفت عن الأشكال
اللفظية والنحوية والدلالية(11)
ويشير الدكتور محمد مفتاح أن دراسة التناص في الأدب الحديث قد انصبت أول
الأمر في حقول الأدب المقارن والمثاقفة كما فعل عز الدين المناصرة في
كتابه (المثاقفة والنقد المقارن: منظور شكلي) (12) ثم دخل الباحثون العرب
في إشكالية المصطلح نتيجة لاختلاف الترجمات والمدارس النقدية فمحمد بنيس
يطلق عليه مصطلح "النص الغائب "ومحمد مفتاح يسميه بـ "التعالق النصي" حيث
عرفه فقال "التناص هو تعالق - الدخول في علاقة- نصوص مع نص حدث بكيفيات
مختلفة"(13) ، وقد أضاف النقاد العرب المعاصرين الكثير من الإضافات حول
مصطلح التناص ضمن جوهره فعرفه محمود جابر عباس بإسهاب بأنه "اعتماد نص من
النصوص على غيره من النصوص النثرية أو الشعرية القديمة أو المعاصرة
الشفاهية أو الكتابية العربية أو الأجنبية ووجود صيغة من الصيغ العلائقية
والبنيوية والتركيبية والتشكيلية والأسلوبية بين النصين"(14) وقد توسع
أيضا بذكر التحولات التي تحدث في النص الجديد نتيجة تضمينه للنص الأصلي مع
احتفاظ كل نص منهما بمزاياه وأصدائه وتتركز قدرة الشاعر اللاحق على تعميق
إيحاءات النص بحيث يعطيه أبعاداً جديدة، كما عرفه الدكتور أحمد الزعبي
بأنه "أن يتضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكارا أخرى سابقة عليه عن طريق
الاقتباس أو التضمين أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى
الأديب بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي وتندغم فيه
ليتشكل نص جديد واحد متكامل"(15) ، وتعريفات التناص كما بينها النقاد
الحداثيون كثيرة جدا ومتشعبة وكلها تدول حول جوهر التناص الذي يصب في
النهاية في كونه تأثر نص بنص سابق.