لتشكل الأسطوري داخل المعمار الروائي 2
مبحث1 : مكانة الأسطورة في التراث الجزائري
وظفت الرواية الجزائربة من خلال تعاملها مع التراث الشعبي الشفوي
منه و المكتوب ، الأساطير لتفتح آفاقا جديدة على التاريخ و المجتمع . و
عليه فإن قراءة التاريخ من خلال الأسطورة ، مكنت الكتابة الروائية التي
استرجعت التاريخ أن تحقق تأثيرا بالغا على مستوى الرؤيا وعلى مستوى اللغة .
من بين الأدباء الذين وظفوا الرموز و الأساطير محمد ديب و الكاتب
ياسين و الطاهر وطار و عبد الحميد بن هدوقة بحيث الأساطير لا تختزن في
معنى واحد ، ولعل أكثر الأساطير توظيفا في الآداب الجزائرية الشفوية منها
و المكتوبة ، هي أسطورة الجازية و كذا السيرة الهلالية التي اندثرت كشكل
فني ، إلا أن صورة الجازية بقيت في الأذهان الشعبية التي سرعان ما تحولت
إلى ألغاز و أمثال و مواقف ، و الجازية في معناها الشعبي هي امرأة بديعة
الجمال و خارقة الذكاء ، وتعد السيرة الهلالية من الناحية الخارجية ، النص
المؤسس لمجموعة من الكتابات الروائية . كان الهدف من توظيف السيرة بإضافة
دلالات جديدة ، أي إخراجها من سياقها الاجتماعي و التاريخي و الاشتغال
عليها بصفة مبدعة هو الوصول إلى تأسيس خطاب روائي جديد حول الأسطورة ذاتها
للكشف عن قضايا اجتماعية و سياسية معاصرة ، إذ وظفها الروائي " لعرج
وسيني" في روايته " نوار اللوز" للحديث عن الفئات الاجتماعية المحرومة
من حقوقها 56 ، كما وظفها الروائي "عبد الحميد بن هدوقة" في روايته
الجازية و الدراويش ، وما نلاحظه على هذه الرواية ثراءها بالتراث الأسطوري
، بودنا توضيح ذلك في هذا المبحث ، إذ الفضاء الأول الذي يشدنا في هذه
الرواية ممثل بالقرية هو أصل سكانها ، و هكذا فإن الخروج من هذا الفضاء
الأسطوري ، يعني الموت بالنسبة لمعظم سكانها . فالرواية تحمل دلالات
الأصالة و الثبات باعتبارها موطن الأنفة و الدفاع عن الشرف .
فالصعود إلى الدشرة صعود مزدوج إلى الجبل و إلى الماضي . لكن هذه
القرية تنتمي إلى الزمن عكس فضاءات الحكايات العجيبة التي تقع خارج الزمن
و التاريخ مما يعطي لهذا الفضاء كل طابع التقديس ، تواجد معالم تضفي عليه
كل الاحترام و التبجيل الكبيرين : الجازية و الأولياء السبعة
و الدراويش 57.
ولعل وجود الجامع و الأولياء و الدراويش بالقرية جعل هذه الأخيرة فضاء
مقدسا و أسطوريا ، وينتمي هذا الفضاء الأسطوري إلى الزمن البدائي القديم و
الأصلي الذي ولد مع ميلاد الجازية .
تعتبر الجازية الشخصية الملحمية و الرمز الخرافي و موضوع لعملية
إستيهام جماعية هي فتاة الأسطورة و الإباء و قد أضيفت إلى أسطورة الجازية
أسطورة أبيها الشهيد الذي قتل بألف بندقية و دفن في حناجر الطيور "أبوها
لم يكن شخصا بل كان شعبا" . فالجازية هي أيضا شخصية تاريخية ،تتخذ في هذا
النص وجهتين ، وجه الإنسان العادي و الوجه الأسطوري فهي رمز الأنوثة
الخالدة58 .
تحتفي القرية أو الدشرة بمراسيم طقوسية عجيبة إذ تفتح الدشرة
تفاوضها الرمزي و المادي الداخلي بالزردة التي لا تقاوم من أجل إستعطاف
الجازية فقط ، بل لأجل مناسبات متعددة و إن ظل الجازية حاضرا فيها كل مرة
، وتقام زردتان في هذه الفترة الأولى بقدوم الطلبة المتطوعين ،و الثانية
بإيعاز من الشامبيط لأجل "إستمالة" سكان القرية لمباركة زواج إبنه من
الجازية و لتنظيم مثل الإحتفالات ، طقوس يجب إتباعها ، تبدأ بالدعوة
العامة الصريحة و تحضير الغذاء و ذبح الأضحية ، الرقص و الحضرة و تسخين
المناجل، إن الزردة في عرف سكان القرية حفلة طقوسية تتدخل فيها الخرافات و
الأساطير و يقودها الدراويش بمباركة من إمام المسجد . كانت القرية تعيش في
استقرار خلقي و بمجرد مراقصة الأحمر للجازية في الزردة الأولى ، كان فعل
الأحمر سببا في غضب الله و غضب أولياء المقام على سكان الدشرة ، أغضب
الإنس و الجن و حتى السماء أغضبها ، كانت ليلة رهيبة لم تعرفها الدشرة
لولا لطف الأولياء لاندثرت القرية.
فالرواية تتضمن العديد من القضايا و الموضوعات التي اهتمت بها
الأنثربولوجيا، وهي الأساطير وعلاقة القرابة و الزواج و الطقوس الشعبية و
الثقافية القديسة ، لكن الرواثي بتوظيفه لهذه الجوانب الثقافية إستطاع أن
يجمع بين ما هو شفوي و مكتوب في الثقافة الشعبية الجزائرية . و من خلال
هذا التناص بين النوعين أو الجنسين ، الحكاية الشعبية العجيبة ، و الجنس
الروائي ، أن يبدع شكلا فنيا راقيا راعى فيه الحداثة الأدبية من تداخل
أزمنة و أمكنة و طبع البعض بالبطولة و البعض الآخر بالأسطورة، ولعل هنا
تكمن قيمة هذا النص الأدبي الذي هو في الذات "وثيقة أنثروبولوجية" تكشف
جانبا هاما من مخيالنا الشعبي59.
ممايعطي للرواية الفضاء الأسطوري ، وجود الأولياء السبعة و الذين ينسب لهم
مسجد القرية، وهو العلم الثقافي الديني و الأسطوري المركزي في القرية ،
حيث يجتمع بساحته السكان لإقامة الزردات و طقوس العبادة المتعلقة
بالأولياء وحيث تقرر شؤونهم و تقدم الأضحية للذبح و تختلط النساء بالرجال
قصد التعارف و من ثم الزواج على الطريقة التقليدية لتجسيد عادات و تقاليد
القرية ، أما المسجد فهو الفضاء الرحب للجماعة ، مركز التقديس و العبادة .
و يقال عن الجامع أنه مدفون به سبعة أولياء ، لهم من يخلفهم أبد الدهر ،
كلما مات سبعة جاء من بعدهم سبعة، يعبر السكان عن ذلك بعبارة متداولة
بينهم "سبعة يغباو ، و سبعة ينباو" .
أما الدراويش ، و هم العنصر الفعال في إشاعة الجانب الروحي في الدشرة هم
الوسيط بين العالمين ، عالم الغيب و عالم الدشرة، حيث الجمع بين الواقع و
اللاواقع شيء وارد و عادي.
يمكن القول أن الأدب كان دائما تأويلا رمزيا للواقع، تضفي على هذا
الأخير مسحة جمالية، تجمع في طياتها الجانب "الحقيقي" و "الخيالي-
الأسطوري".
و لعل توظيف الأسطورة من طرف النص الروائي هو في حد ذاته يطرح قضية
ذات طابع تجنيسي، إذ كانت الأساطير تنتمي في السابق إلى مجال علم
الفولكلور و الأنثروبولوجيا و تاريخ الديانات و علم الاجتماع.
وانتقلت الأسطورة من المرحلة الشفوية إلى المرحلة المكتوبة باعتبار
تحول الأسطورة الإيثنو-دينية إلى الأسطورة الأدبية كسيرورة موطئة لعملية
الانتقال من المقدس إلى المدنس ، و إذا كان الأدب بخاصة و الفنون على
العموم مخزنا أساسيا لحفظ الأساطير ، فإن الأسطورة" الأدبية " تضيف إلى
الأسطورة البدائية دلالات جديدة.
و يتضح أن توظيف الأسطورة في النص الروائي كنص " الجازية و الدراويش"
ليس إلا حجة للتعبير عن قضايا ذات بعد واقعي ترتبط بالمجتمع بما فيه
العادات و التقاليد و الطقوس الأسطورية الموروثة جيلا عن جيل.
إن توظيف " عبد الحميد بن هدوقة " للأولياء الصالحين دليل على
الاعتقاد بهم في مجتمعنا الاعتقاد المطلق ، - بسبب اعتبارهم يمثلون السلطة
المرجعية المقدسة التي تختزن و تختزل كافة التجارب الدينية السابقة بل
والحقائق المطلقة التي يجد فيها السائل كافة الأجوبة لكافة الأسئلة
المطروحة والمفترض وقوعها - في بركة هذا الولي الصالح الذي يعود إليه فضل
الإنجاب و طلب الذرية و التعهد بأن تسمين أبناءهن باسم ذلك الولي مثل سيدي
راشد تسمي النساء الطفل رشيد تباركا بسيدي راشد .
كما أن اختيار العائلة التلمسانية أسماء الأولياء أسماء لأبنائهم
ليست صدفة أو بدون دلالة مقدسة ، فهذا يعود بالدرجة الأولى إلى تلك
المكانة الجليلة التي يحتلها الأولياء في الذاكرة الشعبية الطقوسية حيث
أنهم يحتلون" موقعا هاما في ذهن الجماهير كما يمثلون تجسيدا حيا للمعجزة
المنتظرة التي ستظهر القوى الغيبية على أيديهم و التي تأمل الجماهير أن
تتكرر، و الولي حسب موقعه هذا يشكل حلقة تربط الإيمان الديني بالأساطير
الموروثة جيلا عن جيل بالتطلعات الحياتية ، و لذا كان لكل مدينة أو قرية
ولي هو واسطتها إلى الله و عند إستعصاء حل أي مشكلة ما على الإنسان إلا أن
يذهب إلى ذلك الولي و يتقدم إليه بنذر60.
إذا كان الكاتب عبد الحميد بن هدوقة يهتم بالقضايا الفكرية مسجلا
مختلف التطورات الاجتماعية مضفيا عليها جوا أسطوريا فإن الطاهر وطار لا
يفصل بين التيار السياسي و التيار الاجتماعي لعلاقتهما الجدالية الوطيدة و
المتفاعلة المقامة أساسا على التأثير و التأثر تتخللها لمسات أسطورية،
نستشف ذلك من خلال رواياته "اللاز" ، " الزلزال" ، " عرس بغل " و "الشمعة
و الدهاليز" ثم " الشهداء يعودون هذا الأسبوع". فهذه الأعمال الروائية
تعتمد في الأغلب على الرمز و الأسطورة و أسلوب التوازي الذي يكشف عن معاني
باطنية تختفي وراء النص الظاهر المشحون بالتراث الأسطوري 61.
و استطاع الكاتب بقدراته الفنية الواضحة أن يصور المعاني، الواقع الذي
يتطلب ملامح جديدة و بالتالي الصراع الإنساني و تحديد دور المثقف و وجوب
إمكانية تعامله بفاعلية مع المجتمع مع رفض عوامل القهر و التخلف و التمسك
بالمعتقدات الخرافية و بالموروثات الشعبية التي تعكس المستوى الثقافي
للإنسان الجزائري كل ذلك يجسده وطار في رواياته.
و بإمكاننا أن نستشهد برواية " الحوات و القصر" التي تزخر بالتراث
الأسطوري بحيث مزج بين التراث و الأسطورة في هذه الرواية، بطل هذه الرواية
علي الحوات يرمز إلى شريحة من الأفراد القادرين الذين يمثلون البطل
المتسامي الذي يتجاوز ذاته و كوابح محيطه لنشر القيم الإيجابية في عصره،
فهو ينتصب ضمن العمل الروائي حاضرا مؤهلا للفعل، منفردا ملتقيا مع كرم
المتصوفين ،الذين يقفون بدورهم مثلا علي الحوات ليوزعوا الخيرات وهم
يصيحون : " أنا المعطي".
و استطاع الكاتب بقدرته الفنية الواضحة أن يصور المعاني، الواقع الذي
يتطلب ملامح جديدة و بالتالي الصراع الإنساني و تحديد دور المثقف و وجوب
إمكانية تعامله بفاعلية مع المجتمع مع رفض عوامل القهر و التخلف و التمسك
بالمعتقدات الخرافية و بالموروثات الشعبية التي تعكس المستوى الثقافي
للإنسان الجزائري كل ذلك يجسده وطار في رواياته.
و تحمل رواية " الحوات و القصر" تقاطعات تراثية و أسطورية إذ تواجه
القارئ مسألتين أساسيتين، الأولى : تتجلى في طبيعة البناء الفني الذي
استلهم أسلوب الحكاية الشعبية، و الثانية : تكمن في طبيعة المضمون الذي
احتضن موضوع العلاقة بين السلطة و الرغبة دون ارتباط بزمان أو مكان محدد،
و ينسجم هذا مع طبيعة العمل الروائي الذي اختار مؤلفه الشكل القصصي
التراثي بكل ترميزاته ، و مرجعياته و بخاصة حكايات " ألف ليلة و ليلة".
و إن تكن الطريقة هذه التي قدم بها وطار روايته لا تعد جديدة على
الرواية العربية بشكل عام، فإن الجديد هو ما تحمله من مصداقية إقناعها و
ذلك عبر إدخال القارئ في مفارقات غرائبية و من ثم إدخاله تدريجيا في خفايا
الصراع القائم بين الظالم و المظلوم ، بين السلطان و زبانيته من طرف أهل
القرى السبع يقف بينهما علي الحوات مشكلا العمود الفقري للرواية بكل جهده
و طيبته و سذاجته لإصلاح ذات البين بين الطرفين ، و هذه الازدواجية و
الانصهار الجوهري في توليف الحالة الروائية، تحمل مفهومها الإبداعي كنص
موجه من الكاتب إلى القارئ و من ثم تفجير هذا المفهوم و تحويله واقع طريف
تكتنه روح الأسطورة و عجائبيتها و خصوصياته المندغمة عن طريق الترميز.
و عليه يمكن القول أن وطار في روايته " الحوات و القصر" أبدى نزوعا نحو
التراث لينهل منه نمطا إبداعيا متأصلا يقتنص الصورة و الشكل و اللغة و
الأجواء، إنها عودة المندهش إلى طقوسية الأسطورة و الحكاية العربية
القديمة في بساطة تركيبها و عمق دلالتها و هذه العودة ممثلة في مرجعين:
أولا: التراث العربي الإسلامي الصوفي و الإنساني بكل إشاراته الدينية و الفكرية.
ثانيا: نص "ألف ليلة و ليلة" يعتبر تراثا أدبيا متمثل في عملية تناص معه،
ضمن هذا المتن المركب تنصهر عدة عناصر، و منها تستمد الرواية قيمتها
الأدبية و الفكرية و هذا أمر طبيعي، " فالكتب شأن كل الكائنات إنما تولد
في الأصل من جنسها، أي من كتب أخرى سابقة عليها تحاورها.
و من العناصر الترميزية الملفتة للنظر، و المستعملة في كل الفصول ، هو
تكرار العدد"7" ،و الظاهر أن هذا العدد قد ارتبط في وظائفه الأولى بالفكر
الديني " فالذي يقرأ الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد و يقرأ القرآن
الكريم، يلاحظ أن هذا الرمز يتردد كثيرا و بخاصة في التوراة و الإنجيل62.
و نموذج الطاهر وطار "الحوات و القصر" بما أنه نص فني يستلهم عوالم
الحكاية الأسطورية بغية تفجيرها، كأداة فنية للتدليل على معنى في الواقع
الاجتماعي،" فإنه أيضا عمل أدبي يحمل روح الحداثة و هموم العصر و لكي
يعطي" وطار" لشخوص روايته القوة ، و البطولة الأسطورية ، التي نجد بعض
جذورها و إضاءاتها في المناخ الداخلي للذاكرة الإنسانية مثل شخصية:سيزيف و
بروميثيوس و أوديب... فلقد خلق لنا مجالا أسطوريا مكتنزا بالأحداث و
الخوارق العجائبية و من الأمكنة الأسطورية" نهر الأبكار ، أين تبدأ رحلة
الدهشة و المغامرة مع علي الحوات "63
إن الطاهر وطار يقدم الفضاء الوصفي لقرية الأعداء، في إطار يحدد
المواقع الاجتماعية للشخصيات و السمات العامة للأحداث، و من جانب آخر فإن
الرواية تحكي المتخيل بامتداداته الأسطورية المنفتحة على أجناس سردية أخرى
تتظافر لخلق الشكل الروائي الذي يدمج عناصر الحكاية الشعبية و الأسطورة بل
بعض الامتدادات من رواية الخيال العلمي مثل مشروع تحريك الحاسة السابعة
عشر في الإنسان و غيرها...
إن فضاء الرواية يفشي بعض الدلالات التي تتجاوز قضية القرى السبع و
ما يتعرض له أهلها من قهر، فالرواية تتبنى رؤية نقدية شمولية للسلفة
المسيطرة بدون ارتباط بالزمان و لا المكان. 64
ومن الجديد أيضا في نص" الحوات و القصر " أن الزمن الروائي يماثل
سيرورة الزمن الموضوعي في شكل تتابع أفقي و إذا عدنا إلى مستوى السرد
فإننا نجد التعامل مع الزمن يبقى في حدود الإمكانيات التي أتاحتها الرواية
الكلاسيكية65.
فالطاهر وطار معظم رواياته ذات طابع أسطوري محض، و هذا ما يزيد من صبغتها الفنية الممتزجة بالواقع .
و من الكتاب المبدعين الذين ساهموا في تجديد و تطوير الرواية
الجزائرية نجد " عبد المالك مرتاض"،" سننتقي رواية من بين رواياته و هي
رواية " صوت الكهف " محاولين توضيح الجديد الذي اتسمت به .
فرواية" صوت الكهف" تعرضت لقراءة سيميائية من طرف النقاد لاستنطاقها و
محاولة الكشف عن النظام الرمزي الذي يحكم أجزاء العالم الروائي الذي تعرضت
له الرواية، و محاولة إبراز دلالاته، فالرواية تحمل نظام العلامات و
الوحدات من أصغر وحدة و حتى البنية الكلية للرواية.
فما يمكن ملاحظته في هذه الرواية هو طغيان بعض الأشياء"بصورة مكثفة
تجعل منها رموزا حقيقية لها دلالات معينة و هذه الأشياء تعرضها الرواية في
شكل سلاسل من الثنائيات الوظيفية، حيث أن هذه الأخيرة تمثل النظام الذي
يحكم هذه الرواية يضبط المسافة بين البطل و البطل المضاد .
و من خلال بداية الرواية نلاحظ أن صوت الآخر، الهو يطغى على صوت الأنت (
الذي يمكن اعتباره أنا متخفيا في صيغة المخاطب): لأن الرواية قد اعتمدت
على إحدى تقنيات الرواية الجديدة و هي استعمال ضمير المخاطب( أنت) بدل
الرواية الكلاسيكية التي تستعمل ضمير المتكلم( أنا) 66.
أما الكهف فيحمل دلالة أسطورية و نحن نعلم أن الإنسان البدائي استعمل
الكهف كمسكن له ، كما اتخذته الغول و السعلات و الجن كملجأ لهم .
و للكهف علاقة بالدين الإسلامي فقد ورد ذكره في القرآن الكريم" سورة
أهل الكهف" إلا أن عبد المالك مرتاض يربطه بقصة دينية أخرى حيث يشبهه
بسمكة سيدنا يونس عليه السلام من خلال قراءة الرواية تلاحظ ذلك.
و هكذا يرتفع كهف زندل من مجرد مكان عادي إلى شيء مقدس تقدم له القرابين و
تنحر له الأغنام و تقام له الاحتفالات، لأنه أصبح جيبا من جيوب الثورة و
مكانا سريا للتحريض على الثورة67.
تشكل الأسطورة في رواية" صوت الكهف" خلفية بارزة تتجلى على ذهنية
الشخوص و كيفية تعالق الأحداث، و لعل ذلك يعود إلى اهتمام الكاتب ،بدراسة
الفولكلور و الأدب الشعبي الشفوي، و اهتماماته في هذا المجال معتبرة، و
روايته في محاولتها للإيهام بالواقع تحاول قدر الإمكان تصوير تلك البنية
الخرافية التي تتحرك فيها الشخوص، و هي نفس الفترة التي عرفت فيها الجزائر
انتشار الشعوذة كمحاولة من طرف الاستعمار لتحذير الشعب، و الأسطورة في هذه
الرواية تتجلى على ثلاثة مستويات على مستوى الشخوص ثم على مستوى الأمكنة،و
أخيرا على مستوى الأحداث.
فعبد المالك مرتاض و زع شخوصه بناء على مثلث الأضلاع للشخوص وفق طريقة غريماس و هو يقسم سكان القرية إلى ثلاثة فئات:
1/ فئة سكان الربوة العالية و سكان السهل الخصب و فئة المستعمرين، أما
الشخوص المساعدة و الشخوص المضادة تقوم بوظيفة محددة في القصص الأسطوري.
كما نجد أيضا أن الأسطورة ملتصقة أشد الالتصاق بجلد الشخوص ذاتها و
تركيبتها النفسية و الاجتماعية و الذهنية،و ذلك انطلاقا من مواصفاتها
الذاتية مثل اسم العفريت الذي يعكس ذهنية أسطورية خرافية، كما أنها في
المفهوم الشعبي الشائع تعني " الشاطر" و البطل و كل أوصاف الإعجاب، و
الأوصاف التي يعطيها الراوي لشخصية الطاهر العفريت ترفعه من مستوى القصص
الروائي إلى مستوى البطل الأسطوري68.
فمن خلال الرواية نصادف كلمتين هما بمثابة مفتاح السرو هما أسطوري و
عفريت بحيث تشكلان البعد الخرافي و التكويني لشخصية البطل" الطاهر" و في
هذا الجو الأسطوري تتحرك الذاكرة الجماعية التي تستند على السحر و على
الخرافة و يبدأ اشتغالها في نسج الأحداث و تتخذ منها وسيلة لتوصيل
الرسالة، بحيث تعيد إلى ذهن القاريء بعض أجواء القصص الأسطوري و قصص
الغول و الجن و العفاريت ، و خاصة الغول ذو الرؤوس السبعة.
كذلك الأمكنة تتخذ أبعادا أسطورية، و ذلك من خلال الأوصاف التي أولها
لها الكاتب، فإذا عدنا و قرأنا النص فإن الراوي يذهب بنا بعيدا إلى حدائق
بابل المعلقة و تلك القرية الأسطورية" قرية موكوندو" التي دارت فيها أحداث
رواية"مائة عام من العزلة" للكاتب العالمي " غابريال غارسيا" يعود إلى
اشتراك الربوة العالية و " موكوندو" في الطابع الشعبي و الطعم الأسطوري.
أما الجديد على مستوى الأحداث يتمثل في برنامجين سرديين متقابلين ينجز
البطل الأول منها و ينجز الثاني المضاد، إذ يحاول كل واحد منهما القضاء
على الآخر، بحسب سيميائيات غريماس، في الأحداث في حد ذاتها تحمل الصبغة
الأسطورية.
الجدير بالملاحظة أن الرواية الجديدة لا يوجد بها ، راو خارجي ،
فالأحداث في الرواية تجري بآلية تتركز على شخصية البطل ، و حتى الوصف
الخارجي يتم عبر هذه الرؤية و هي رؤية حسية بصرية، تلتقط المرئيات لتحيلها
إلى صور ، وأشياء و أماكن.
فالشخصية في الرواية الجزائرية الجديدة تولد بشكل حدسي، و بصورة
غامضة كالطيف يميزها الإحساس بالإخفاق و التوحد، و العزلة ،و الاغتراب
داخل البنية الروائية ، فهي كثيرا ما تختفي تحت ضمير المتكلم ، و حتى
الشخصيات الثانوية،إنما تمثل حالة من حالات ضمير المتكلم ، تظل في منطقة
النسيان 69.
أما جديد روايات " عبد الحميد بن هدوقة " نستشف ذلك من خلال رواية "
الجازية و الدراويش" كنموذج لتوضيح الجديد الروائي لهذا الكاتب على مستوى
الشكل أو المضمون اعتقد أن في خطاب هذه الرواية الكثير من المعاني و
الدلالات التي تميز الأحمر في خطابه عن خطاب الطيب، فالعلاقة بينهما علاقة
تقابل أو تضاد ، و المشكلة هنا أنهما التقيا في مكان واحد بزمانين
مختلفين: زمن الأحمر فوق سرعة المرحلة / الجازية /الجزائر مقطوع بلا جذور،
ماضيه ياسي صفرا .
و زمان الطيب تحت سرعة المرحلة / الجازية/ الجزائر، له جذور قديمة تقدر
بأربعة عشر قرنا و مستقبل بطيء جدا مشدود إلى الوراء ، من هذه القرون التي
لا ترحم .
فنلاحظ أن الأحمر له مستقبل أسطوري و زمن المستحيل يساوي الصفر و له
ماضي مقطوع عن الحاضر و لذلك لم يحقق طموحه لأن سرعته تعدت كل الحدود و هي
غير مؤسسة على جذور ثابتة يستند عليها، لذلك يمكن أن نقول : إن إهماله
للماضي خطأ منهجي أودى بحياته و بمثل هذا في نظرنا قراءة من القراءات التي
تطبع الخطاب العربي المعاصر في توجهاته السياسية الخاصة، أما الطيب له
ماضي يساوي أربعة عشر قرنا من الصبر و له مستقبل بطيء مقطوع عن الحاضر لم
يتزوج الجازية مع أنها تفضله و تخاف عليه من دسائس الآخرين70.
أما الجازية فهي الشخصية المحورية في الرواية وهي ،كما قلنا ،
ترمز إلى الجزائر بمختلف قيمها و تطوراتها. "إن كل اسم من هذه الأسماء
يمثل علامة من العلامات تجعل القاريء يتواصل مع النص إنطلاقا من فضاءات
دلالية تتعدى مجرد العلاقة بين اسم و مسمى ، إن كل هذه الأسماء هي حقول
للدلالة" فضاءات " من الرموز و الإيحاءات" 71.
كل ما يمكننا قوله هو أن رواية " الجازية و الدراويش " قفزة نوعية في
أدب " عبد الحميد بن هدوقة" من حيث الشكل و المضمون . و لكن تبقى في حاجة
إلى دراسة أعمق و تحليل أفضل، حتى تحقق للقاريء نكهة التواصل و لذة التقبل
.
فهذه الرواية عرفت نوعا من التجديد على مستوى الشكل و المضمون ، و
ما يلفت نظرك هو الخطاب الخالق المبدع لفضاءات عديدة سواء الأسطورة أو
الواقع فهو يملك طاقة هائلة على إحالة القاريء إلى قراءات مختلفة تبعا
للخصوصيات النفسية و الإجتماعية و التاريخية و المعرفية التي تميز قارئا
عن قاريء آخر .22
و هناك خاصية فنية ميزت إبداعات بعض الكتاب أمثال( الطاهر وطارو عبد
الحميد بن هدوقة و كاتب ياسين و عبد الله الركيبي و مرزاق بقطاش و عمر
بلحسن و الجيلالي خلاص) ، و هي أنهم لا يجعلوننا نحس بالشخصية الواقعية
للرواية تتحرك أمامنا كأنها حقيقية واقعية، بل أنها شخصيات متخيلة و لا
سيما الشخصيات البطلة التي يجعلونها في فضاء أسطوري مستعينا بالأسطورة
الشعبية و الرمز لإبراز أفكارهم و من الواضح أن قالب الرواية الجديدة
هوالمسؤول عن تفصيلات عناصر الأسطورة و الرمز ، فالرواية الجزائرية تشتغل
على الأسطورة أكثر من غيرها من الأنواع الأدبية 72.
و أخيرا نستنتج أن الرواية الجزائرية الجديدة عرفت الأسطورة بشكل موسع
، و يرجع الفضل إلى الكتاب الروائيين الجزائريين أمثال الذين تطرقنا إلى
نماذجهم الروائية كعبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار و عبد الملك مرتاض ،
الذين ساهموا في إثراء الرواية الجزائرية بذلك الزخم الأسطوري الذي يزيد
من عمق الدلالة و الإيحاء ،كما نضفي عليها الطابع الفني الجمالي .
و مما لا شك فيه أن هؤلاء الكتاب اشتغلوا على الأسطورة و هذا لغرضين،
الأول جمالي فني محض ، و الثاني إيديولوجي يستعمل الأساطير لإبراز الأفكار
السياسية والاجتماعية بل ولإدانة الواقع، مثلما فعلت أحلام مستغانمي
لمخاطبة القارئ و التأثير على ذهنيته، بالإضافة إلى المحيط السياسي و
الاجتماعي الذي عاشته الجزائر في فترة معينة، فكل رواية تسرد حقائق فترة
معينة كالفترة الاستعمارية أيام الثورة أو فترة الاستقلال أو فترة الإرهاب
.
المبحث 2 / الأسطورة في حركة التجديد:
إن الرواية الجديدة ليست مدرسة ، تخضع لفلسفة معينة ، وهي كذلك ليست
نزعة فردية تبرز في الحياة الأدبية ثم تتلاشى، ولكنها كانت طليعة جيل جديد
من الروائيين أمثال أحلام مستغانمي و عبدالمالك مرتاض والطاهر وطار
وواسيني الأعرج وبشير مفتي ، جيل ينشد قيما أخرى ويتطلع إلى إنجازات فنية
جديد تتمتع بصفة الحضور المتميز .
قد يكون من العسير الحديث عن مبادئ مشتركة بين كتاب الرواية
الجديدة ولكن المبدأ الذي يلتقي عنده الجميع هو التجريب والبحث عن أدوات
جديدة تستوعب تجاربهم الجديدة من بين هذه الأدوات الأسطورة التي ساهمت في
إنجاز الأعمال الروائية ؛ فكل روائي اشتغل على الأسطورة نجح في عمله الفني
الأدبي و من بين الذين يشتغلون على الأسطورة نجد أحلام مستغانمي الأديبة
الجزائرية الشهيرة التي ستخلد أسمها في الساحة الأدبية بعدما خلدت عملها
الراوئي ( ذاكرة الجسد ، فوضى الحواس ، عابر سرير )، و الذي قلب موازين
الساحة الأدبية فرواية ذاكرة الجسد بمثابة عملة لوجهين ، وجه واقعي يستمد
جذوره من وقائع الثورة المسلحة ووجه أسطوري ، يستمد جذوره من عالم
الأساطير ومن بحر مخيلة الكاتبة (الفذة ) بهذ ا العمل الرائع تريد أن
تسقط لنا تفكير الإنسان البدائي الذي لم يستسلم لضرورة التخلف والقصور
والنقص على تفكير الإنسان الحاضر، لكن هذا الإنسان البدائي حظي بأداة فذة
خلق بها عالما جديدا ولم يكن هذا العالم المخلوق (وهما) وإنما كان (هدفا)
وكانت تلك الأداة الفذة في يدي الإنسان البدائي هي الأسطورة ، هذه الأخيرة
تنجز بالوسائل السحرية والرمزية هذه الهداف ، فالإيمان هو الذي يحقق
المعجزة73.
وظفت احلام مستغانمي الساطير الشعبية الجزائرية ثم الأساطير العربية
واخيرآ العالمية ومن الاساطير الشعبية الجزائرية أسطوالوالي الصالح سيدي
محمد لغراب له ضريح بهديته قسنطينة " تقول أسطورة شعبية أن هذا الجسر كان
احد هلاك (صالح باي ) وتهياته المفجعة فقد قتل فوقه (سيدي محمد) أحد
القدسيين الذين كانوا يتمتعون بشعبية كبيرة وعندما سقط رأس القدسيين على
الرض تحول جسمه إلى غراب .
نعكس أسطورة سيدي محمد لغراب المستوى الثقافي الجزائري المختلف على وجه
العموم وهذا إن دل على شيء إنما يدل على إيمانهم العقائدي المسبق بهذه
الأولياء وحتى تهب لهم ما يريدون لتستجيب لدعواتهم ظنا منهم أنها هي التي
تتحكم في القوى الغيبية وبالمشابهة اعتقد البدائيون أن العلاقة التي تنشأ
في الذهن جامعة بين شيئين أو موضعين هي علاقة حقيقية قائمة في الواقع ومن
ثم اعتقدوا تأسيسا على هذه الفكرة أنهم لو وضعوا نموذجا لشيء فإن ما يقع
عل هذا النموذج يقع على الشيء ذاته في عالم الوقع أي أن البدائيين أرادوا
إخضاع ما لم يخضع لهم في عالمهم معتمدين على علاقات ذهنية وعلى المماثلة
والتشابه بين الأشياء، ومن هنا آمنوا بإمكان السيطرة على جوانب الوقع
......إلخ74 ؛ فأسطورة سي محمد لغراب أسطورة نفسية تشرح نفسها وهناك
أسطورة أخرى أسطورة قسنطينة التي تمنح الخلود لمن تشاء وتنزل العقاب لمن
تشاء كأنما قسنطينة إله قادرة على منح الخلود وإنزال العقاب
أما أسطورة أحمد باي ، أسطورة شعبية ، تقول أن قسنطينة خلدت بين
واحد وأربعين بايا حكمها اسم صالح باي وحده ؛ فكتبت فيه أجمل أشعارها ثم
تطرقت إلى أسطورة السيدة المنوبية وسيدي عمر الفياش المقامان المتوجدان
بتونس ، تقول الأسطورة على لسان البطلة حياة ، وهكذا كادت تسميني السيدة
تبركا بالسيد المنوبية ، التي كانت تزورها في تونس كل مرة ، محملة بالشمع
و السجاد والدعوات منتقلة بين ضريحها ومزار سيدي عمر الفياش . فهذه
أسطورة طقوسية دينية وشعبية بين الضريحين .
أما الآن تقول الروائية على لسان البطلة لا أريد أن أكون ابنة الأسطورة،
الأساطير بدعة يونانية ....75.هذه الأسطورة البولية دليل على شدة ولع
الكاتبة بالأساطير
أما الأساطير العربية وما تناولته منها أسطورة علي بابا والأربعين
حرامي تقول الأسطورة أي اسم من أسماء الأربعين حرامي ستحملين76 وهي أسطورة
رمزية وقولها أيضا هل أنساك ذلك النبي المفلس الذي سرقوا منه الوصايا
الحادية عشرة77 وهي أسطورة دينية كما وظفت أسطورة آدم وحواء هكذا كانت
خطيئة خالد في حبه لحياة وهي أسطورة دينية .
-أما عن الأساطير العالمية أسطورة الغول كشخصية أسطورية ومكانها الأسطوري
هو مغارة الغول أما نوعها هي أسطورة شعبية تقول .... وأنا أتفقد بحواسي
ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته راح يتشمم
الأجواء بحثا عن البشر.....78
كما وظفت أسطورة الحوريات في الجزر المسحورة تقول الأسطورة .... كما
يطارد نداء الحوريات في الجزر المسحورة أولائك البحارة الذين نزلت على
بواخرهم لعنة الإلهة79 وهي أسطورة شعبية تعود إلى قرون بعيدة العهد وعلى
ذكر السحر والجزر والجزر المسحورة تطورت الطقوس السحرية لترتبط بهذه
الأوضاع العملية الجديدة ؛ فبرزت طقوس ( الخصوبة ) التي تجعل الاتصال
الجنسي بين الرجل والمرآة ينتج مثيله أي ينتج خصوبة في المحاصيل كما تطورت
طقوس سحرية أخرى كانت قد نشأت في العصر الحجري القديم80 وليس شك أن هذه
العلاقة السحرية الأسطورية بالعالم كانت تمنح البدائيين قوة لمواجهة
عالمهم الطبيعي81 كما تحدثت الروائية عن الآلهة تقول عن حياة على لسان
خالد لم أكن في تلك اللحظة نبيا ولا كنت أنت آلهة إغريقية كنا فقط تماثيل
أثرية82 ، بحيث جعلت حياة و خالد بطليين أسطوريين هو بصفة نبي وهي بصفتها
آلهة إغريقية وهي أسطورة دينية، ولهذا فإن مجتمع الآلهة يقوم على نمط
مجتمع البشر تتحكم فيه الرغبة والرهبة والعاطفة والنزوة وتتصارع فيه قوى
الخير والشر ، وبين مجتمع الآلهة ومجتمع البشر علاقات تسودها الرحمة
والقسوة والقبول والرفض والخداع فللآلهة انفعالاتهم وأهوائهم كما أن للبشر
انفعالات وأهواء83 .
و أحلام ليست وحدها من وظفت الأساطير في روايتها ذاكرة الجسد ؛ فقد
سبقها إلى ذلك كتاب جزائريون مشهورون أمثال الكاتب ياسين صاحب رواية نجمة
التي اعترف بها الأدب العلمي وليس الجزائري فحسب، وهي الأخرى تزخر بالرمز
والأسطورة فنجمة هذه في حد ذاتها رمز يرمز إلى الوطن أما الأساطير فتفتت
واقعية الرواية بحيث تقتحمها اقتحاما ومن أمثلة الأساطير الموظفة من طرف
الكاتب أسطورة النسر والعذاري من منطقة الناظور ، شاهدتا النسر المحاصر
المأسور يرميهما من أعالي الجو بالحجارة حتى ترتاح روح كابلوت في رقدتها
كما يعتقد عجائز المنطقة وهي أسطورة شعبية طقوسية ، منذ ذلك اليوم بدأ
سكان المنطقة يقدمون القربان لروح جد المنطقة وهذا اعتقاد خرافي سائد في
المنطقة استمده الكاتب من الواقع .
ومن النماذج الأسطورية التي وظفها الكاتب يسين شخصية الشيطان
الأسطورية التي كان لها حظ كبير في الأدب بعدما ابتعدت كثيرا عن مصدرها
الديني ، ولقد وضحت صفات الشيطان في أدب الرومنتيكيين ، فصوروه في صورة
المتمرد الذي طرد قهرا من عالم الخير؛ فدفعه اليأس إلى الإدمان على الشر
؛ فليس كاتب ياسين وحده ، من وظف أساطير عن الشيطان ؛فهناك أيضا الروائي
الشهير فيكتور هيجو : " يمثل الإنسانية الطريدة من الله وينحصر كل عذابه
(الشيطان ) في حبه لمن يبغظه الله .....
وهو يحسد بني آدم ، لأن في عيونهم الأمل وفي قلوبهم الحب ، وفي الأخير يسامحه الله ليبعث من جديد ملكا سماويا84 .
أما الطاهر طار لا يقل شأنا عن الكاتب ياسين وأحلام مستغانمي في
توظيفه للأساطير في معظم رواياته ولا سيما ( الشمعة والدهاليز ) إذ وظف
الأساطير بشكل كبير ، بحيث مزج بين الخيال والواقع وأراد أن يعود بنا إلى
العالم الخيالي والشاسع في إسقاطه لمجموعة من الأساطير تنتمي إلى الماضي
البعيد على الواقع الحاضر .
من بين الأساطير التي وظفها لقوله " أطلت في مخيلته بوجهها ، الغلام
ذي العينين المنتصبتين في طرفي وجهها بحيث تبدو كأنما لمومياء فرعونية
لنفرتيت أو ليكيلوباطرا "؛ فهذه الأسطورة حضارية يوظف فيها ( أسطورة
تاريخية ) .
وقوله " انطلق يرقص على اللحن الفلكلوري، الذي تجسده أساطير عدة
تتحدث كلها عن الفارس الفارغ من الإستقزاع "، هذا عن الشاعر بطل الراوية
يحكي عن أيام طفولته عندما أدى مسرحية فولكلورية فهذه الأسطورة شعبية
شخصيتها الأسطورية تتمثل في الفارس الفارغ من الإستقزاع .
وكما يقول كذلك و نحن دائما نستشهد من الراوية ذاتها ( الشمعة والدهاليز ) :
في قوله " لقد خرجت الجيكوندة حبيبة جميع الناس من لوحتها لتترجم
ابتسامتها المبتورة ؛ فالجيكوندة هذه شخصية أسطورية وظفها الكاتب لإثراء
الرواية ، ونوع هذه الأسطورة رمزية.
يرى الإنسان العربي و لا سيما الجزائري عالمه على أنه كل واحد بأشيائه
و حيوانه و إنسانيته ، أي أن بنية الجماعة البدائية كانت تقوم على أساس
العلاقة الجماعية بين أفرادها و أن هذه الجماعية في البنية الاجتماعية
كانت تتوازى مع نظرة تلك الجماعة إلى عالمها الطبيعي و علاقتها به ، بحيث
كان في حاجة إلى عالم الطبيعة لسد حاجياته البيولوجية ثم تطور و أصبح يؤدي
لها طقوس معينة مع وجود الآلهة و تنوع عباداتها .
و ما دمنا بصدد الأسطورة فإننا نذكر أساطير و معتقدات الشعب الجزائري
تجسده الرقصات الفولكلورية أو الأغاني الشعبية التراثية أو تماثيل لشخصيات
أسطورية، الاعتقاد و الإيمان بالأولياء الصالحين الإيمان المطلق.
اصطبغت ذاكرة الإنسان الجزائري بصبغة خرافية أسطورية حول التراث
الجزائري و هذا ما يزيدها رونقا و جمالا ، جسدته الأعمال الأدبية للكتاب و
الأدباء الجزائريين و لا سيما الروائيين ، بما أن الرواية تحتل المرتبة
الأولى في الأعمال الأدبية في هذه الأيام ، لكن ذلك الفكر الأدبي استلهم
المفاهيم المجردة من الواقع الاجتماعي، و بالتالي الرواية الجزائرية تستمد
جذورها من الواقع الاجتماعي من الفكر العقائدي الذي يشكل زخما تراثيا
أسطوريا، فالحياة الثقافية للإنسان الجزائري مزج بين الواقع و الأسطورة،
فكثير من المعتقدات السحرية و الطقوس الموسمية التي تتجسد في الأفراح و
الأقراح و زيارة الأولياء الصالحين، هذا ما يعكس لنا انحطاط المستوى
الثقافي في الجزائر .
ساهم في تحطيمه الاستعمار من جهة، و التمسك بالمعتقدات و العادات و التقاليد من جهة ثانية بسبب التوارث جيلا عن جيل.
فما كان من الرواية الجزائرية إلا أن تسقط هذه الأساطير ذات الأبعاد التراثية على الدراسة الأدبية .
و بعض الروايات وظفت حتى التراث العالمي بما فيه العربي التراث الأسطوري
نخص بالذكر ، "فالتناص في هذه الحالة لا يكتفي بعملية ملء الفراغات
النصية بقصص من متون مغايرة، بل يتحول إلى ميثولوجيا موحدة تتداخل فيها
عناصر الماضي و الحاضر تداخلا يجعل الكاتب ذاته لا يفصل بين هذه
الميثولوجيات ؛
فقد حملت رواية " الحوات و القصر" عدة جمل تناصية على مستوى التناص
الأسطوري الذي تحفل به هذه الرواية مثل شخصية علي الحوات بين سيزيف و
بروميثيوس و أوديب ، فهذا علي الحوات كما أراد الإقتراب من القصر وجد نفسه
مرميا بعيدا فاقدا لعضو من أعضائه فيكرر المحاولة، و هذا يذكرنا بالبطل
الأسطوري" سيزيف" الذي يسعى كل مرة لحمل الصخرة إلى قمة الجبل فتتدحرج
فوق السفح لتستقر في الأسفل . فهو لا يشبه " سيزيف" فحسب لكنه يشبه أيضا
المارد" بروميثيوس" الذي حكمت عليه الآلهة بالعذاب الأبدي لأنه أفشى سر
النار للبشر، فكل من " سيزيف و بروميثيوس" يرمزان إلى قيم الخير و المعرفة
و التضحية من أجل الآخرين و قد حكم عليهما من طرف الآلهة بالعقاب ، لأنهما
خرجا عن تعاليمها و قاما بمساعدة الجنس البشري، و وضعا خبرتهما في خدمة
الإنسان.
كذلك الأمر بالنسبة لعلي الحوات الذي رفض الانخراط في مشروع الحياد و
السلبية فقرر خوض المغامرة و تحمل نتائجها ، و رغم الخيبات المريرة التي
ذاق طعمها " علي الحوات " و العقاب الجسدي الذي سلط عليه و تسبب في فقدان
و اضمحلال أعضائه الحيوية: ( اليد اليمنى ، اليد اليسرى ، اللسان...) كما
وقع لبروميثيوس الذي نهشت النسور كبده فلقد ظل مصرا على موقفه و حماسه بل
إن رغبته تزداد عقب كل فشل.
و بهذا نرى أن علي الحوات يشبه سيزيف و بروميثيوس و كل الأبطال
الحالمين بالتغيير المتسلحين بالحكمة و المعرفة. كان هذا نموذجا عن التناص
في الرواية الجزائرية و العودة إلى التراث العالمي.
و هناك أمثلة كثيرة من الروايات الجزائرية التي تتقاطع مع أساطير
قديمة العهد . و نحن اكتفينا بنموذج واحد و وحيد ألا وهو" الحوات و القصر
" للطاهر وطار. نستنتج أن الأسطورة لها حظ كبير في التراث الجزائري و
بالأخص في الرواية الجزائرية و هذا إن دل على شيء إنما يدل على ثراء
التراث الجزائري للأسطورة بحيث صيغت بطريقة فنية في قالب روائي إبداعي فني
و خيالي بمنتهى الروعة.
وأخيرا لا يسعنا إلا أن نقدم هذه الجداول التي لخصنا من خلالها
أنواع الأساطير الموظفة في المنجز السردي الروائي ، حتى نسهل على القارئ
والباحث تكوين قراءة شاملة لهذا الموضوع ، الذي كلما حاولنا الإلمام به ،
وجدناه يمتد بنا أشواطا موغلة في الإبحار تكاد لا تنتهي ؟
توقيع : جعفر .ي
مبحث1 : مكانة الأسطورة في التراث الجزائري
وظفت الرواية الجزائربة من خلال تعاملها مع التراث الشعبي الشفوي
منه و المكتوب ، الأساطير لتفتح آفاقا جديدة على التاريخ و المجتمع . و
عليه فإن قراءة التاريخ من خلال الأسطورة ، مكنت الكتابة الروائية التي
استرجعت التاريخ أن تحقق تأثيرا بالغا على مستوى الرؤيا وعلى مستوى اللغة .
من بين الأدباء الذين وظفوا الرموز و الأساطير محمد ديب و الكاتب
ياسين و الطاهر وطار و عبد الحميد بن هدوقة بحيث الأساطير لا تختزن في
معنى واحد ، ولعل أكثر الأساطير توظيفا في الآداب الجزائرية الشفوية منها
و المكتوبة ، هي أسطورة الجازية و كذا السيرة الهلالية التي اندثرت كشكل
فني ، إلا أن صورة الجازية بقيت في الأذهان الشعبية التي سرعان ما تحولت
إلى ألغاز و أمثال و مواقف ، و الجازية في معناها الشعبي هي امرأة بديعة
الجمال و خارقة الذكاء ، وتعد السيرة الهلالية من الناحية الخارجية ، النص
المؤسس لمجموعة من الكتابات الروائية . كان الهدف من توظيف السيرة بإضافة
دلالات جديدة ، أي إخراجها من سياقها الاجتماعي و التاريخي و الاشتغال
عليها بصفة مبدعة هو الوصول إلى تأسيس خطاب روائي جديد حول الأسطورة ذاتها
للكشف عن قضايا اجتماعية و سياسية معاصرة ، إذ وظفها الروائي " لعرج
وسيني" في روايته " نوار اللوز" للحديث عن الفئات الاجتماعية المحرومة
من حقوقها 56 ، كما وظفها الروائي "عبد الحميد بن هدوقة" في روايته
الجازية و الدراويش ، وما نلاحظه على هذه الرواية ثراءها بالتراث الأسطوري
، بودنا توضيح ذلك في هذا المبحث ، إذ الفضاء الأول الذي يشدنا في هذه
الرواية ممثل بالقرية هو أصل سكانها ، و هكذا فإن الخروج من هذا الفضاء
الأسطوري ، يعني الموت بالنسبة لمعظم سكانها . فالرواية تحمل دلالات
الأصالة و الثبات باعتبارها موطن الأنفة و الدفاع عن الشرف .
فالصعود إلى الدشرة صعود مزدوج إلى الجبل و إلى الماضي . لكن هذه
القرية تنتمي إلى الزمن عكس فضاءات الحكايات العجيبة التي تقع خارج الزمن
و التاريخ مما يعطي لهذا الفضاء كل طابع التقديس ، تواجد معالم تضفي عليه
كل الاحترام و التبجيل الكبيرين : الجازية و الأولياء السبعة
و الدراويش 57.
ولعل وجود الجامع و الأولياء و الدراويش بالقرية جعل هذه الأخيرة فضاء
مقدسا و أسطوريا ، وينتمي هذا الفضاء الأسطوري إلى الزمن البدائي القديم و
الأصلي الذي ولد مع ميلاد الجازية .
تعتبر الجازية الشخصية الملحمية و الرمز الخرافي و موضوع لعملية
إستيهام جماعية هي فتاة الأسطورة و الإباء و قد أضيفت إلى أسطورة الجازية
أسطورة أبيها الشهيد الذي قتل بألف بندقية و دفن في حناجر الطيور "أبوها
لم يكن شخصا بل كان شعبا" . فالجازية هي أيضا شخصية تاريخية ،تتخذ في هذا
النص وجهتين ، وجه الإنسان العادي و الوجه الأسطوري فهي رمز الأنوثة
الخالدة58 .
تحتفي القرية أو الدشرة بمراسيم طقوسية عجيبة إذ تفتح الدشرة
تفاوضها الرمزي و المادي الداخلي بالزردة التي لا تقاوم من أجل إستعطاف
الجازية فقط ، بل لأجل مناسبات متعددة و إن ظل الجازية حاضرا فيها كل مرة
، وتقام زردتان في هذه الفترة الأولى بقدوم الطلبة المتطوعين ،و الثانية
بإيعاز من الشامبيط لأجل "إستمالة" سكان القرية لمباركة زواج إبنه من
الجازية و لتنظيم مثل الإحتفالات ، طقوس يجب إتباعها ، تبدأ بالدعوة
العامة الصريحة و تحضير الغذاء و ذبح الأضحية ، الرقص و الحضرة و تسخين
المناجل، إن الزردة في عرف سكان القرية حفلة طقوسية تتدخل فيها الخرافات و
الأساطير و يقودها الدراويش بمباركة من إمام المسجد . كانت القرية تعيش في
استقرار خلقي و بمجرد مراقصة الأحمر للجازية في الزردة الأولى ، كان فعل
الأحمر سببا في غضب الله و غضب أولياء المقام على سكان الدشرة ، أغضب
الإنس و الجن و حتى السماء أغضبها ، كانت ليلة رهيبة لم تعرفها الدشرة
لولا لطف الأولياء لاندثرت القرية.
فالرواية تتضمن العديد من القضايا و الموضوعات التي اهتمت بها
الأنثربولوجيا، وهي الأساطير وعلاقة القرابة و الزواج و الطقوس الشعبية و
الثقافية القديسة ، لكن الرواثي بتوظيفه لهذه الجوانب الثقافية إستطاع أن
يجمع بين ما هو شفوي و مكتوب في الثقافة الشعبية الجزائرية . و من خلال
هذا التناص بين النوعين أو الجنسين ، الحكاية الشعبية العجيبة ، و الجنس
الروائي ، أن يبدع شكلا فنيا راقيا راعى فيه الحداثة الأدبية من تداخل
أزمنة و أمكنة و طبع البعض بالبطولة و البعض الآخر بالأسطورة، ولعل هنا
تكمن قيمة هذا النص الأدبي الذي هو في الذات "وثيقة أنثروبولوجية" تكشف
جانبا هاما من مخيالنا الشعبي59.
ممايعطي للرواية الفضاء الأسطوري ، وجود الأولياء السبعة و الذين ينسب لهم
مسجد القرية، وهو العلم الثقافي الديني و الأسطوري المركزي في القرية ،
حيث يجتمع بساحته السكان لإقامة الزردات و طقوس العبادة المتعلقة
بالأولياء وحيث تقرر شؤونهم و تقدم الأضحية للذبح و تختلط النساء بالرجال
قصد التعارف و من ثم الزواج على الطريقة التقليدية لتجسيد عادات و تقاليد
القرية ، أما المسجد فهو الفضاء الرحب للجماعة ، مركز التقديس و العبادة .
و يقال عن الجامع أنه مدفون به سبعة أولياء ، لهم من يخلفهم أبد الدهر ،
كلما مات سبعة جاء من بعدهم سبعة، يعبر السكان عن ذلك بعبارة متداولة
بينهم "سبعة يغباو ، و سبعة ينباو" .
أما الدراويش ، و هم العنصر الفعال في إشاعة الجانب الروحي في الدشرة هم
الوسيط بين العالمين ، عالم الغيب و عالم الدشرة، حيث الجمع بين الواقع و
اللاواقع شيء وارد و عادي.
يمكن القول أن الأدب كان دائما تأويلا رمزيا للواقع، تضفي على هذا
الأخير مسحة جمالية، تجمع في طياتها الجانب "الحقيقي" و "الخيالي-
الأسطوري".
و لعل توظيف الأسطورة من طرف النص الروائي هو في حد ذاته يطرح قضية
ذات طابع تجنيسي، إذ كانت الأساطير تنتمي في السابق إلى مجال علم
الفولكلور و الأنثروبولوجيا و تاريخ الديانات و علم الاجتماع.
وانتقلت الأسطورة من المرحلة الشفوية إلى المرحلة المكتوبة باعتبار
تحول الأسطورة الإيثنو-دينية إلى الأسطورة الأدبية كسيرورة موطئة لعملية
الانتقال من المقدس إلى المدنس ، و إذا كان الأدب بخاصة و الفنون على
العموم مخزنا أساسيا لحفظ الأساطير ، فإن الأسطورة" الأدبية " تضيف إلى
الأسطورة البدائية دلالات جديدة.
و يتضح أن توظيف الأسطورة في النص الروائي كنص " الجازية و الدراويش"
ليس إلا حجة للتعبير عن قضايا ذات بعد واقعي ترتبط بالمجتمع بما فيه
العادات و التقاليد و الطقوس الأسطورية الموروثة جيلا عن جيل.
إن توظيف " عبد الحميد بن هدوقة " للأولياء الصالحين دليل على
الاعتقاد بهم في مجتمعنا الاعتقاد المطلق ، - بسبب اعتبارهم يمثلون السلطة
المرجعية المقدسة التي تختزن و تختزل كافة التجارب الدينية السابقة بل
والحقائق المطلقة التي يجد فيها السائل كافة الأجوبة لكافة الأسئلة
المطروحة والمفترض وقوعها - في بركة هذا الولي الصالح الذي يعود إليه فضل
الإنجاب و طلب الذرية و التعهد بأن تسمين أبناءهن باسم ذلك الولي مثل سيدي
راشد تسمي النساء الطفل رشيد تباركا بسيدي راشد .
كما أن اختيار العائلة التلمسانية أسماء الأولياء أسماء لأبنائهم
ليست صدفة أو بدون دلالة مقدسة ، فهذا يعود بالدرجة الأولى إلى تلك
المكانة الجليلة التي يحتلها الأولياء في الذاكرة الشعبية الطقوسية حيث
أنهم يحتلون" موقعا هاما في ذهن الجماهير كما يمثلون تجسيدا حيا للمعجزة
المنتظرة التي ستظهر القوى الغيبية على أيديهم و التي تأمل الجماهير أن
تتكرر، و الولي حسب موقعه هذا يشكل حلقة تربط الإيمان الديني بالأساطير
الموروثة جيلا عن جيل بالتطلعات الحياتية ، و لذا كان لكل مدينة أو قرية
ولي هو واسطتها إلى الله و عند إستعصاء حل أي مشكلة ما على الإنسان إلا أن
يذهب إلى ذلك الولي و يتقدم إليه بنذر60.
إذا كان الكاتب عبد الحميد بن هدوقة يهتم بالقضايا الفكرية مسجلا
مختلف التطورات الاجتماعية مضفيا عليها جوا أسطوريا فإن الطاهر وطار لا
يفصل بين التيار السياسي و التيار الاجتماعي لعلاقتهما الجدالية الوطيدة و
المتفاعلة المقامة أساسا على التأثير و التأثر تتخللها لمسات أسطورية،
نستشف ذلك من خلال رواياته "اللاز" ، " الزلزال" ، " عرس بغل " و "الشمعة
و الدهاليز" ثم " الشهداء يعودون هذا الأسبوع". فهذه الأعمال الروائية
تعتمد في الأغلب على الرمز و الأسطورة و أسلوب التوازي الذي يكشف عن معاني
باطنية تختفي وراء النص الظاهر المشحون بالتراث الأسطوري 61.
و استطاع الكاتب بقدراته الفنية الواضحة أن يصور المعاني، الواقع الذي
يتطلب ملامح جديدة و بالتالي الصراع الإنساني و تحديد دور المثقف و وجوب
إمكانية تعامله بفاعلية مع المجتمع مع رفض عوامل القهر و التخلف و التمسك
بالمعتقدات الخرافية و بالموروثات الشعبية التي تعكس المستوى الثقافي
للإنسان الجزائري كل ذلك يجسده وطار في رواياته.
و بإمكاننا أن نستشهد برواية " الحوات و القصر" التي تزخر بالتراث
الأسطوري بحيث مزج بين التراث و الأسطورة في هذه الرواية، بطل هذه الرواية
علي الحوات يرمز إلى شريحة من الأفراد القادرين الذين يمثلون البطل
المتسامي الذي يتجاوز ذاته و كوابح محيطه لنشر القيم الإيجابية في عصره،
فهو ينتصب ضمن العمل الروائي حاضرا مؤهلا للفعل، منفردا ملتقيا مع كرم
المتصوفين ،الذين يقفون بدورهم مثلا علي الحوات ليوزعوا الخيرات وهم
يصيحون : " أنا المعطي".
و استطاع الكاتب بقدرته الفنية الواضحة أن يصور المعاني، الواقع الذي
يتطلب ملامح جديدة و بالتالي الصراع الإنساني و تحديد دور المثقف و وجوب
إمكانية تعامله بفاعلية مع المجتمع مع رفض عوامل القهر و التخلف و التمسك
بالمعتقدات الخرافية و بالموروثات الشعبية التي تعكس المستوى الثقافي
للإنسان الجزائري كل ذلك يجسده وطار في رواياته.
و تحمل رواية " الحوات و القصر" تقاطعات تراثية و أسطورية إذ تواجه
القارئ مسألتين أساسيتين، الأولى : تتجلى في طبيعة البناء الفني الذي
استلهم أسلوب الحكاية الشعبية، و الثانية : تكمن في طبيعة المضمون الذي
احتضن موضوع العلاقة بين السلطة و الرغبة دون ارتباط بزمان أو مكان محدد،
و ينسجم هذا مع طبيعة العمل الروائي الذي اختار مؤلفه الشكل القصصي
التراثي بكل ترميزاته ، و مرجعياته و بخاصة حكايات " ألف ليلة و ليلة".
و إن تكن الطريقة هذه التي قدم بها وطار روايته لا تعد جديدة على
الرواية العربية بشكل عام، فإن الجديد هو ما تحمله من مصداقية إقناعها و
ذلك عبر إدخال القارئ في مفارقات غرائبية و من ثم إدخاله تدريجيا في خفايا
الصراع القائم بين الظالم و المظلوم ، بين السلطان و زبانيته من طرف أهل
القرى السبع يقف بينهما علي الحوات مشكلا العمود الفقري للرواية بكل جهده
و طيبته و سذاجته لإصلاح ذات البين بين الطرفين ، و هذه الازدواجية و
الانصهار الجوهري في توليف الحالة الروائية، تحمل مفهومها الإبداعي كنص
موجه من الكاتب إلى القارئ و من ثم تفجير هذا المفهوم و تحويله واقع طريف
تكتنه روح الأسطورة و عجائبيتها و خصوصياته المندغمة عن طريق الترميز.
و عليه يمكن القول أن وطار في روايته " الحوات و القصر" أبدى نزوعا نحو
التراث لينهل منه نمطا إبداعيا متأصلا يقتنص الصورة و الشكل و اللغة و
الأجواء، إنها عودة المندهش إلى طقوسية الأسطورة و الحكاية العربية
القديمة في بساطة تركيبها و عمق دلالتها و هذه العودة ممثلة في مرجعين:
أولا: التراث العربي الإسلامي الصوفي و الإنساني بكل إشاراته الدينية و الفكرية.
ثانيا: نص "ألف ليلة و ليلة" يعتبر تراثا أدبيا متمثل في عملية تناص معه،
ضمن هذا المتن المركب تنصهر عدة عناصر، و منها تستمد الرواية قيمتها
الأدبية و الفكرية و هذا أمر طبيعي، " فالكتب شأن كل الكائنات إنما تولد
في الأصل من جنسها، أي من كتب أخرى سابقة عليها تحاورها.
و من العناصر الترميزية الملفتة للنظر، و المستعملة في كل الفصول ، هو
تكرار العدد"7" ،و الظاهر أن هذا العدد قد ارتبط في وظائفه الأولى بالفكر
الديني " فالذي يقرأ الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد و يقرأ القرآن
الكريم، يلاحظ أن هذا الرمز يتردد كثيرا و بخاصة في التوراة و الإنجيل62.
و نموذج الطاهر وطار "الحوات و القصر" بما أنه نص فني يستلهم عوالم
الحكاية الأسطورية بغية تفجيرها، كأداة فنية للتدليل على معنى في الواقع
الاجتماعي،" فإنه أيضا عمل أدبي يحمل روح الحداثة و هموم العصر و لكي
يعطي" وطار" لشخوص روايته القوة ، و البطولة الأسطورية ، التي نجد بعض
جذورها و إضاءاتها في المناخ الداخلي للذاكرة الإنسانية مثل شخصية:سيزيف و
بروميثيوس و أوديب... فلقد خلق لنا مجالا أسطوريا مكتنزا بالأحداث و
الخوارق العجائبية و من الأمكنة الأسطورية" نهر الأبكار ، أين تبدأ رحلة
الدهشة و المغامرة مع علي الحوات "63
إن الطاهر وطار يقدم الفضاء الوصفي لقرية الأعداء، في إطار يحدد
المواقع الاجتماعية للشخصيات و السمات العامة للأحداث، و من جانب آخر فإن
الرواية تحكي المتخيل بامتداداته الأسطورية المنفتحة على أجناس سردية أخرى
تتظافر لخلق الشكل الروائي الذي يدمج عناصر الحكاية الشعبية و الأسطورة بل
بعض الامتدادات من رواية الخيال العلمي مثل مشروع تحريك الحاسة السابعة
عشر في الإنسان و غيرها...
إن فضاء الرواية يفشي بعض الدلالات التي تتجاوز قضية القرى السبع و
ما يتعرض له أهلها من قهر، فالرواية تتبنى رؤية نقدية شمولية للسلفة
المسيطرة بدون ارتباط بالزمان و لا المكان. 64
ومن الجديد أيضا في نص" الحوات و القصر " أن الزمن الروائي يماثل
سيرورة الزمن الموضوعي في شكل تتابع أفقي و إذا عدنا إلى مستوى السرد
فإننا نجد التعامل مع الزمن يبقى في حدود الإمكانيات التي أتاحتها الرواية
الكلاسيكية65.
فالطاهر وطار معظم رواياته ذات طابع أسطوري محض، و هذا ما يزيد من صبغتها الفنية الممتزجة بالواقع .
و من الكتاب المبدعين الذين ساهموا في تجديد و تطوير الرواية
الجزائرية نجد " عبد المالك مرتاض"،" سننتقي رواية من بين رواياته و هي
رواية " صوت الكهف " محاولين توضيح الجديد الذي اتسمت به .
فرواية" صوت الكهف" تعرضت لقراءة سيميائية من طرف النقاد لاستنطاقها و
محاولة الكشف عن النظام الرمزي الذي يحكم أجزاء العالم الروائي الذي تعرضت
له الرواية، و محاولة إبراز دلالاته، فالرواية تحمل نظام العلامات و
الوحدات من أصغر وحدة و حتى البنية الكلية للرواية.
فما يمكن ملاحظته في هذه الرواية هو طغيان بعض الأشياء"بصورة مكثفة
تجعل منها رموزا حقيقية لها دلالات معينة و هذه الأشياء تعرضها الرواية في
شكل سلاسل من الثنائيات الوظيفية، حيث أن هذه الأخيرة تمثل النظام الذي
يحكم هذه الرواية يضبط المسافة بين البطل و البطل المضاد .
و من خلال بداية الرواية نلاحظ أن صوت الآخر، الهو يطغى على صوت الأنت (
الذي يمكن اعتباره أنا متخفيا في صيغة المخاطب): لأن الرواية قد اعتمدت
على إحدى تقنيات الرواية الجديدة و هي استعمال ضمير المخاطب( أنت) بدل
الرواية الكلاسيكية التي تستعمل ضمير المتكلم( أنا) 66.
أما الكهف فيحمل دلالة أسطورية و نحن نعلم أن الإنسان البدائي استعمل
الكهف كمسكن له ، كما اتخذته الغول و السعلات و الجن كملجأ لهم .
و للكهف علاقة بالدين الإسلامي فقد ورد ذكره في القرآن الكريم" سورة
أهل الكهف" إلا أن عبد المالك مرتاض يربطه بقصة دينية أخرى حيث يشبهه
بسمكة سيدنا يونس عليه السلام من خلال قراءة الرواية تلاحظ ذلك.
و هكذا يرتفع كهف زندل من مجرد مكان عادي إلى شيء مقدس تقدم له القرابين و
تنحر له الأغنام و تقام له الاحتفالات، لأنه أصبح جيبا من جيوب الثورة و
مكانا سريا للتحريض على الثورة67.
تشكل الأسطورة في رواية" صوت الكهف" خلفية بارزة تتجلى على ذهنية
الشخوص و كيفية تعالق الأحداث، و لعل ذلك يعود إلى اهتمام الكاتب ،بدراسة
الفولكلور و الأدب الشعبي الشفوي، و اهتماماته في هذا المجال معتبرة، و
روايته في محاولتها للإيهام بالواقع تحاول قدر الإمكان تصوير تلك البنية
الخرافية التي تتحرك فيها الشخوص، و هي نفس الفترة التي عرفت فيها الجزائر
انتشار الشعوذة كمحاولة من طرف الاستعمار لتحذير الشعب، و الأسطورة في هذه
الرواية تتجلى على ثلاثة مستويات على مستوى الشخوص ثم على مستوى الأمكنة،و
أخيرا على مستوى الأحداث.
فعبد المالك مرتاض و زع شخوصه بناء على مثلث الأضلاع للشخوص وفق طريقة غريماس و هو يقسم سكان القرية إلى ثلاثة فئات:
1/ فئة سكان الربوة العالية و سكان السهل الخصب و فئة المستعمرين، أما
الشخوص المساعدة و الشخوص المضادة تقوم بوظيفة محددة في القصص الأسطوري.
كما نجد أيضا أن الأسطورة ملتصقة أشد الالتصاق بجلد الشخوص ذاتها و
تركيبتها النفسية و الاجتماعية و الذهنية،و ذلك انطلاقا من مواصفاتها
الذاتية مثل اسم العفريت الذي يعكس ذهنية أسطورية خرافية، كما أنها في
المفهوم الشعبي الشائع تعني " الشاطر" و البطل و كل أوصاف الإعجاب، و
الأوصاف التي يعطيها الراوي لشخصية الطاهر العفريت ترفعه من مستوى القصص
الروائي إلى مستوى البطل الأسطوري68.
فمن خلال الرواية نصادف كلمتين هما بمثابة مفتاح السرو هما أسطوري و
عفريت بحيث تشكلان البعد الخرافي و التكويني لشخصية البطل" الطاهر" و في
هذا الجو الأسطوري تتحرك الذاكرة الجماعية التي تستند على السحر و على
الخرافة و يبدأ اشتغالها في نسج الأحداث و تتخذ منها وسيلة لتوصيل
الرسالة، بحيث تعيد إلى ذهن القاريء بعض أجواء القصص الأسطوري و قصص
الغول و الجن و العفاريت ، و خاصة الغول ذو الرؤوس السبعة.
كذلك الأمكنة تتخذ أبعادا أسطورية، و ذلك من خلال الأوصاف التي أولها
لها الكاتب، فإذا عدنا و قرأنا النص فإن الراوي يذهب بنا بعيدا إلى حدائق
بابل المعلقة و تلك القرية الأسطورية" قرية موكوندو" التي دارت فيها أحداث
رواية"مائة عام من العزلة" للكاتب العالمي " غابريال غارسيا" يعود إلى
اشتراك الربوة العالية و " موكوندو" في الطابع الشعبي و الطعم الأسطوري.
أما الجديد على مستوى الأحداث يتمثل في برنامجين سرديين متقابلين ينجز
البطل الأول منها و ينجز الثاني المضاد، إذ يحاول كل واحد منهما القضاء
على الآخر، بحسب سيميائيات غريماس، في الأحداث في حد ذاتها تحمل الصبغة
الأسطورية.
الجدير بالملاحظة أن الرواية الجديدة لا يوجد بها ، راو خارجي ،
فالأحداث في الرواية تجري بآلية تتركز على شخصية البطل ، و حتى الوصف
الخارجي يتم عبر هذه الرؤية و هي رؤية حسية بصرية، تلتقط المرئيات لتحيلها
إلى صور ، وأشياء و أماكن.
فالشخصية في الرواية الجزائرية الجديدة تولد بشكل حدسي، و بصورة
غامضة كالطيف يميزها الإحساس بالإخفاق و التوحد، و العزلة ،و الاغتراب
داخل البنية الروائية ، فهي كثيرا ما تختفي تحت ضمير المتكلم ، و حتى
الشخصيات الثانوية،إنما تمثل حالة من حالات ضمير المتكلم ، تظل في منطقة
النسيان 69.
أما جديد روايات " عبد الحميد بن هدوقة " نستشف ذلك من خلال رواية "
الجازية و الدراويش" كنموذج لتوضيح الجديد الروائي لهذا الكاتب على مستوى
الشكل أو المضمون اعتقد أن في خطاب هذه الرواية الكثير من المعاني و
الدلالات التي تميز الأحمر في خطابه عن خطاب الطيب، فالعلاقة بينهما علاقة
تقابل أو تضاد ، و المشكلة هنا أنهما التقيا في مكان واحد بزمانين
مختلفين: زمن الأحمر فوق سرعة المرحلة / الجازية /الجزائر مقطوع بلا جذور،
ماضيه ياسي صفرا .
و زمان الطيب تحت سرعة المرحلة / الجازية/ الجزائر، له جذور قديمة تقدر
بأربعة عشر قرنا و مستقبل بطيء جدا مشدود إلى الوراء ، من هذه القرون التي
لا ترحم .
فنلاحظ أن الأحمر له مستقبل أسطوري و زمن المستحيل يساوي الصفر و له
ماضي مقطوع عن الحاضر و لذلك لم يحقق طموحه لأن سرعته تعدت كل الحدود و هي
غير مؤسسة على جذور ثابتة يستند عليها، لذلك يمكن أن نقول : إن إهماله
للماضي خطأ منهجي أودى بحياته و بمثل هذا في نظرنا قراءة من القراءات التي
تطبع الخطاب العربي المعاصر في توجهاته السياسية الخاصة، أما الطيب له
ماضي يساوي أربعة عشر قرنا من الصبر و له مستقبل بطيء مقطوع عن الحاضر لم
يتزوج الجازية مع أنها تفضله و تخاف عليه من دسائس الآخرين70.
أما الجازية فهي الشخصية المحورية في الرواية وهي ،كما قلنا ،
ترمز إلى الجزائر بمختلف قيمها و تطوراتها. "إن كل اسم من هذه الأسماء
يمثل علامة من العلامات تجعل القاريء يتواصل مع النص إنطلاقا من فضاءات
دلالية تتعدى مجرد العلاقة بين اسم و مسمى ، إن كل هذه الأسماء هي حقول
للدلالة" فضاءات " من الرموز و الإيحاءات" 71.
كل ما يمكننا قوله هو أن رواية " الجازية و الدراويش " قفزة نوعية في
أدب " عبد الحميد بن هدوقة" من حيث الشكل و المضمون . و لكن تبقى في حاجة
إلى دراسة أعمق و تحليل أفضل، حتى تحقق للقاريء نكهة التواصل و لذة التقبل
.
فهذه الرواية عرفت نوعا من التجديد على مستوى الشكل و المضمون ، و
ما يلفت نظرك هو الخطاب الخالق المبدع لفضاءات عديدة سواء الأسطورة أو
الواقع فهو يملك طاقة هائلة على إحالة القاريء إلى قراءات مختلفة تبعا
للخصوصيات النفسية و الإجتماعية و التاريخية و المعرفية التي تميز قارئا
عن قاريء آخر .22
و هناك خاصية فنية ميزت إبداعات بعض الكتاب أمثال( الطاهر وطارو عبد
الحميد بن هدوقة و كاتب ياسين و عبد الله الركيبي و مرزاق بقطاش و عمر
بلحسن و الجيلالي خلاص) ، و هي أنهم لا يجعلوننا نحس بالشخصية الواقعية
للرواية تتحرك أمامنا كأنها حقيقية واقعية، بل أنها شخصيات متخيلة و لا
سيما الشخصيات البطلة التي يجعلونها في فضاء أسطوري مستعينا بالأسطورة
الشعبية و الرمز لإبراز أفكارهم و من الواضح أن قالب الرواية الجديدة
هوالمسؤول عن تفصيلات عناصر الأسطورة و الرمز ، فالرواية الجزائرية تشتغل
على الأسطورة أكثر من غيرها من الأنواع الأدبية 72.
و أخيرا نستنتج أن الرواية الجزائرية الجديدة عرفت الأسطورة بشكل موسع
، و يرجع الفضل إلى الكتاب الروائيين الجزائريين أمثال الذين تطرقنا إلى
نماذجهم الروائية كعبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار و عبد الملك مرتاض ،
الذين ساهموا في إثراء الرواية الجزائرية بذلك الزخم الأسطوري الذي يزيد
من عمق الدلالة و الإيحاء ،كما نضفي عليها الطابع الفني الجمالي .
و مما لا شك فيه أن هؤلاء الكتاب اشتغلوا على الأسطورة و هذا لغرضين،
الأول جمالي فني محض ، و الثاني إيديولوجي يستعمل الأساطير لإبراز الأفكار
السياسية والاجتماعية بل ولإدانة الواقع، مثلما فعلت أحلام مستغانمي
لمخاطبة القارئ و التأثير على ذهنيته، بالإضافة إلى المحيط السياسي و
الاجتماعي الذي عاشته الجزائر في فترة معينة، فكل رواية تسرد حقائق فترة
معينة كالفترة الاستعمارية أيام الثورة أو فترة الاستقلال أو فترة الإرهاب
.
المبحث 2 / الأسطورة في حركة التجديد:
إن الرواية الجديدة ليست مدرسة ، تخضع لفلسفة معينة ، وهي كذلك ليست
نزعة فردية تبرز في الحياة الأدبية ثم تتلاشى، ولكنها كانت طليعة جيل جديد
من الروائيين أمثال أحلام مستغانمي و عبدالمالك مرتاض والطاهر وطار
وواسيني الأعرج وبشير مفتي ، جيل ينشد قيما أخرى ويتطلع إلى إنجازات فنية
جديد تتمتع بصفة الحضور المتميز .
قد يكون من العسير الحديث عن مبادئ مشتركة بين كتاب الرواية
الجديدة ولكن المبدأ الذي يلتقي عنده الجميع هو التجريب والبحث عن أدوات
جديدة تستوعب تجاربهم الجديدة من بين هذه الأدوات الأسطورة التي ساهمت في
إنجاز الأعمال الروائية ؛ فكل روائي اشتغل على الأسطورة نجح في عمله الفني
الأدبي و من بين الذين يشتغلون على الأسطورة نجد أحلام مستغانمي الأديبة
الجزائرية الشهيرة التي ستخلد أسمها في الساحة الأدبية بعدما خلدت عملها
الراوئي ( ذاكرة الجسد ، فوضى الحواس ، عابر سرير )، و الذي قلب موازين
الساحة الأدبية فرواية ذاكرة الجسد بمثابة عملة لوجهين ، وجه واقعي يستمد
جذوره من وقائع الثورة المسلحة ووجه أسطوري ، يستمد جذوره من عالم
الأساطير ومن بحر مخيلة الكاتبة (الفذة ) بهذ ا العمل الرائع تريد أن
تسقط لنا تفكير الإنسان البدائي الذي لم يستسلم لضرورة التخلف والقصور
والنقص على تفكير الإنسان الحاضر، لكن هذا الإنسان البدائي حظي بأداة فذة
خلق بها عالما جديدا ولم يكن هذا العالم المخلوق (وهما) وإنما كان (هدفا)
وكانت تلك الأداة الفذة في يدي الإنسان البدائي هي الأسطورة ، هذه الأخيرة
تنجز بالوسائل السحرية والرمزية هذه الهداف ، فالإيمان هو الذي يحقق
المعجزة73.
وظفت احلام مستغانمي الساطير الشعبية الجزائرية ثم الأساطير العربية
واخيرآ العالمية ومن الاساطير الشعبية الجزائرية أسطوالوالي الصالح سيدي
محمد لغراب له ضريح بهديته قسنطينة " تقول أسطورة شعبية أن هذا الجسر كان
احد هلاك (صالح باي ) وتهياته المفجعة فقد قتل فوقه (سيدي محمد) أحد
القدسيين الذين كانوا يتمتعون بشعبية كبيرة وعندما سقط رأس القدسيين على
الرض تحول جسمه إلى غراب .
نعكس أسطورة سيدي محمد لغراب المستوى الثقافي الجزائري المختلف على وجه
العموم وهذا إن دل على شيء إنما يدل على إيمانهم العقائدي المسبق بهذه
الأولياء وحتى تهب لهم ما يريدون لتستجيب لدعواتهم ظنا منهم أنها هي التي
تتحكم في القوى الغيبية وبالمشابهة اعتقد البدائيون أن العلاقة التي تنشأ
في الذهن جامعة بين شيئين أو موضعين هي علاقة حقيقية قائمة في الواقع ومن
ثم اعتقدوا تأسيسا على هذه الفكرة أنهم لو وضعوا نموذجا لشيء فإن ما يقع
عل هذا النموذج يقع على الشيء ذاته في عالم الوقع أي أن البدائيين أرادوا
إخضاع ما لم يخضع لهم في عالمهم معتمدين على علاقات ذهنية وعلى المماثلة
والتشابه بين الأشياء، ومن هنا آمنوا بإمكان السيطرة على جوانب الوقع
......إلخ74 ؛ فأسطورة سي محمد لغراب أسطورة نفسية تشرح نفسها وهناك
أسطورة أخرى أسطورة قسنطينة التي تمنح الخلود لمن تشاء وتنزل العقاب لمن
تشاء كأنما قسنطينة إله قادرة على منح الخلود وإنزال العقاب
أما أسطورة أحمد باي ، أسطورة شعبية ، تقول أن قسنطينة خلدت بين
واحد وأربعين بايا حكمها اسم صالح باي وحده ؛ فكتبت فيه أجمل أشعارها ثم
تطرقت إلى أسطورة السيدة المنوبية وسيدي عمر الفياش المقامان المتوجدان
بتونس ، تقول الأسطورة على لسان البطلة حياة ، وهكذا كادت تسميني السيدة
تبركا بالسيد المنوبية ، التي كانت تزورها في تونس كل مرة ، محملة بالشمع
و السجاد والدعوات منتقلة بين ضريحها ومزار سيدي عمر الفياش . فهذه
أسطورة طقوسية دينية وشعبية بين الضريحين .
أما الآن تقول الروائية على لسان البطلة لا أريد أن أكون ابنة الأسطورة،
الأساطير بدعة يونانية ....75.هذه الأسطورة البولية دليل على شدة ولع
الكاتبة بالأساطير
أما الأساطير العربية وما تناولته منها أسطورة علي بابا والأربعين
حرامي تقول الأسطورة أي اسم من أسماء الأربعين حرامي ستحملين76 وهي أسطورة
رمزية وقولها أيضا هل أنساك ذلك النبي المفلس الذي سرقوا منه الوصايا
الحادية عشرة77 وهي أسطورة دينية كما وظفت أسطورة آدم وحواء هكذا كانت
خطيئة خالد في حبه لحياة وهي أسطورة دينية .
-أما عن الأساطير العالمية أسطورة الغول كشخصية أسطورية ومكانها الأسطوري
هو مغارة الغول أما نوعها هي أسطورة شعبية تقول .... وأنا أتفقد بحواسي
ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته راح يتشمم
الأجواء بحثا عن البشر.....78
كما وظفت أسطورة الحوريات في الجزر المسحورة تقول الأسطورة .... كما
يطارد نداء الحوريات في الجزر المسحورة أولائك البحارة الذين نزلت على
بواخرهم لعنة الإلهة79 وهي أسطورة شعبية تعود إلى قرون بعيدة العهد وعلى
ذكر السحر والجزر والجزر المسحورة تطورت الطقوس السحرية لترتبط بهذه
الأوضاع العملية الجديدة ؛ فبرزت طقوس ( الخصوبة ) التي تجعل الاتصال
الجنسي بين الرجل والمرآة ينتج مثيله أي ينتج خصوبة في المحاصيل كما تطورت
طقوس سحرية أخرى كانت قد نشأت في العصر الحجري القديم80 وليس شك أن هذه
العلاقة السحرية الأسطورية بالعالم كانت تمنح البدائيين قوة لمواجهة
عالمهم الطبيعي81 كما تحدثت الروائية عن الآلهة تقول عن حياة على لسان
خالد لم أكن في تلك اللحظة نبيا ولا كنت أنت آلهة إغريقية كنا فقط تماثيل
أثرية82 ، بحيث جعلت حياة و خالد بطليين أسطوريين هو بصفة نبي وهي بصفتها
آلهة إغريقية وهي أسطورة دينية، ولهذا فإن مجتمع الآلهة يقوم على نمط
مجتمع البشر تتحكم فيه الرغبة والرهبة والعاطفة والنزوة وتتصارع فيه قوى
الخير والشر ، وبين مجتمع الآلهة ومجتمع البشر علاقات تسودها الرحمة
والقسوة والقبول والرفض والخداع فللآلهة انفعالاتهم وأهوائهم كما أن للبشر
انفعالات وأهواء83 .
و أحلام ليست وحدها من وظفت الأساطير في روايتها ذاكرة الجسد ؛ فقد
سبقها إلى ذلك كتاب جزائريون مشهورون أمثال الكاتب ياسين صاحب رواية نجمة
التي اعترف بها الأدب العلمي وليس الجزائري فحسب، وهي الأخرى تزخر بالرمز
والأسطورة فنجمة هذه في حد ذاتها رمز يرمز إلى الوطن أما الأساطير فتفتت
واقعية الرواية بحيث تقتحمها اقتحاما ومن أمثلة الأساطير الموظفة من طرف
الكاتب أسطورة النسر والعذاري من منطقة الناظور ، شاهدتا النسر المحاصر
المأسور يرميهما من أعالي الجو بالحجارة حتى ترتاح روح كابلوت في رقدتها
كما يعتقد عجائز المنطقة وهي أسطورة شعبية طقوسية ، منذ ذلك اليوم بدأ
سكان المنطقة يقدمون القربان لروح جد المنطقة وهذا اعتقاد خرافي سائد في
المنطقة استمده الكاتب من الواقع .
ومن النماذج الأسطورية التي وظفها الكاتب يسين شخصية الشيطان
الأسطورية التي كان لها حظ كبير في الأدب بعدما ابتعدت كثيرا عن مصدرها
الديني ، ولقد وضحت صفات الشيطان في أدب الرومنتيكيين ، فصوروه في صورة
المتمرد الذي طرد قهرا من عالم الخير؛ فدفعه اليأس إلى الإدمان على الشر
؛ فليس كاتب ياسين وحده ، من وظف أساطير عن الشيطان ؛فهناك أيضا الروائي
الشهير فيكتور هيجو : " يمثل الإنسانية الطريدة من الله وينحصر كل عذابه
(الشيطان ) في حبه لمن يبغظه الله .....
وهو يحسد بني آدم ، لأن في عيونهم الأمل وفي قلوبهم الحب ، وفي الأخير يسامحه الله ليبعث من جديد ملكا سماويا84 .
أما الطاهر طار لا يقل شأنا عن الكاتب ياسين وأحلام مستغانمي في
توظيفه للأساطير في معظم رواياته ولا سيما ( الشمعة والدهاليز ) إذ وظف
الأساطير بشكل كبير ، بحيث مزج بين الخيال والواقع وأراد أن يعود بنا إلى
العالم الخيالي والشاسع في إسقاطه لمجموعة من الأساطير تنتمي إلى الماضي
البعيد على الواقع الحاضر .
من بين الأساطير التي وظفها لقوله " أطلت في مخيلته بوجهها ، الغلام
ذي العينين المنتصبتين في طرفي وجهها بحيث تبدو كأنما لمومياء فرعونية
لنفرتيت أو ليكيلوباطرا "؛ فهذه الأسطورة حضارية يوظف فيها ( أسطورة
تاريخية ) .
وقوله " انطلق يرقص على اللحن الفلكلوري، الذي تجسده أساطير عدة
تتحدث كلها عن الفارس الفارغ من الإستقزاع "، هذا عن الشاعر بطل الراوية
يحكي عن أيام طفولته عندما أدى مسرحية فولكلورية فهذه الأسطورة شعبية
شخصيتها الأسطورية تتمثل في الفارس الفارغ من الإستقزاع .
وكما يقول كذلك و نحن دائما نستشهد من الراوية ذاتها ( الشمعة والدهاليز ) :
في قوله " لقد خرجت الجيكوندة حبيبة جميع الناس من لوحتها لتترجم
ابتسامتها المبتورة ؛ فالجيكوندة هذه شخصية أسطورية وظفها الكاتب لإثراء
الرواية ، ونوع هذه الأسطورة رمزية.
يرى الإنسان العربي و لا سيما الجزائري عالمه على أنه كل واحد بأشيائه
و حيوانه و إنسانيته ، أي أن بنية الجماعة البدائية كانت تقوم على أساس
العلاقة الجماعية بين أفرادها و أن هذه الجماعية في البنية الاجتماعية
كانت تتوازى مع نظرة تلك الجماعة إلى عالمها الطبيعي و علاقتها به ، بحيث
كان في حاجة إلى عالم الطبيعة لسد حاجياته البيولوجية ثم تطور و أصبح يؤدي
لها طقوس معينة مع وجود الآلهة و تنوع عباداتها .
و ما دمنا بصدد الأسطورة فإننا نذكر أساطير و معتقدات الشعب الجزائري
تجسده الرقصات الفولكلورية أو الأغاني الشعبية التراثية أو تماثيل لشخصيات
أسطورية، الاعتقاد و الإيمان بالأولياء الصالحين الإيمان المطلق.
اصطبغت ذاكرة الإنسان الجزائري بصبغة خرافية أسطورية حول التراث
الجزائري و هذا ما يزيدها رونقا و جمالا ، جسدته الأعمال الأدبية للكتاب و
الأدباء الجزائريين و لا سيما الروائيين ، بما أن الرواية تحتل المرتبة
الأولى في الأعمال الأدبية في هذه الأيام ، لكن ذلك الفكر الأدبي استلهم
المفاهيم المجردة من الواقع الاجتماعي، و بالتالي الرواية الجزائرية تستمد
جذورها من الواقع الاجتماعي من الفكر العقائدي الذي يشكل زخما تراثيا
أسطوريا، فالحياة الثقافية للإنسان الجزائري مزج بين الواقع و الأسطورة،
فكثير من المعتقدات السحرية و الطقوس الموسمية التي تتجسد في الأفراح و
الأقراح و زيارة الأولياء الصالحين، هذا ما يعكس لنا انحطاط المستوى
الثقافي في الجزائر .
ساهم في تحطيمه الاستعمار من جهة، و التمسك بالمعتقدات و العادات و التقاليد من جهة ثانية بسبب التوارث جيلا عن جيل.
فما كان من الرواية الجزائرية إلا أن تسقط هذه الأساطير ذات الأبعاد التراثية على الدراسة الأدبية .
و بعض الروايات وظفت حتى التراث العالمي بما فيه العربي التراث الأسطوري
نخص بالذكر ، "فالتناص في هذه الحالة لا يكتفي بعملية ملء الفراغات
النصية بقصص من متون مغايرة، بل يتحول إلى ميثولوجيا موحدة تتداخل فيها
عناصر الماضي و الحاضر تداخلا يجعل الكاتب ذاته لا يفصل بين هذه
الميثولوجيات ؛
فقد حملت رواية " الحوات و القصر" عدة جمل تناصية على مستوى التناص
الأسطوري الذي تحفل به هذه الرواية مثل شخصية علي الحوات بين سيزيف و
بروميثيوس و أوديب ، فهذا علي الحوات كما أراد الإقتراب من القصر وجد نفسه
مرميا بعيدا فاقدا لعضو من أعضائه فيكرر المحاولة، و هذا يذكرنا بالبطل
الأسطوري" سيزيف" الذي يسعى كل مرة لحمل الصخرة إلى قمة الجبل فتتدحرج
فوق السفح لتستقر في الأسفل . فهو لا يشبه " سيزيف" فحسب لكنه يشبه أيضا
المارد" بروميثيوس" الذي حكمت عليه الآلهة بالعذاب الأبدي لأنه أفشى سر
النار للبشر، فكل من " سيزيف و بروميثيوس" يرمزان إلى قيم الخير و المعرفة
و التضحية من أجل الآخرين و قد حكم عليهما من طرف الآلهة بالعقاب ، لأنهما
خرجا عن تعاليمها و قاما بمساعدة الجنس البشري، و وضعا خبرتهما في خدمة
الإنسان.
كذلك الأمر بالنسبة لعلي الحوات الذي رفض الانخراط في مشروع الحياد و
السلبية فقرر خوض المغامرة و تحمل نتائجها ، و رغم الخيبات المريرة التي
ذاق طعمها " علي الحوات " و العقاب الجسدي الذي سلط عليه و تسبب في فقدان
و اضمحلال أعضائه الحيوية: ( اليد اليمنى ، اليد اليسرى ، اللسان...) كما
وقع لبروميثيوس الذي نهشت النسور كبده فلقد ظل مصرا على موقفه و حماسه بل
إن رغبته تزداد عقب كل فشل.
و بهذا نرى أن علي الحوات يشبه سيزيف و بروميثيوس و كل الأبطال
الحالمين بالتغيير المتسلحين بالحكمة و المعرفة. كان هذا نموذجا عن التناص
في الرواية الجزائرية و العودة إلى التراث العالمي.
و هناك أمثلة كثيرة من الروايات الجزائرية التي تتقاطع مع أساطير
قديمة العهد . و نحن اكتفينا بنموذج واحد و وحيد ألا وهو" الحوات و القصر
" للطاهر وطار. نستنتج أن الأسطورة لها حظ كبير في التراث الجزائري و
بالأخص في الرواية الجزائرية و هذا إن دل على شيء إنما يدل على ثراء
التراث الجزائري للأسطورة بحيث صيغت بطريقة فنية في قالب روائي إبداعي فني
و خيالي بمنتهى الروعة.
وأخيرا لا يسعنا إلا أن نقدم هذه الجداول التي لخصنا من خلالها
أنواع الأساطير الموظفة في المنجز السردي الروائي ، حتى نسهل على القارئ
والباحث تكوين قراءة شاملة لهذا الموضوع ، الذي كلما حاولنا الإلمام به ،
وجدناه يمتد بنا أشواطا موغلة في الإبحار تكاد لا تنتهي ؟
توقيع : جعفر .ي