التناص الأسطوري في المجموعة القصصيـــة
الخبز المــرّ * لابراهيم درغوثي
شادية شقروش /جامعة تبسة / الجزائر
يخلق النّص الإبداعي في مناخ سوسيولغوي إذ يتفاعل معه الأديب بوصفه منظومة لغات جماعية ايديولوجية وأدبية فيستوعبها ويتمثلها ويعيد انتاجها وفقا لرؤاه وفلسفته الخاصة فيخلق قيما جمالية تتفاعل مع الموروث الحضاري وتستحدث تقنيات جديدة تخترق الفضاء وتختزل الزمن وتنفتح على طاقات من التخيّيل يصعب الإمساك بتلابيها.
لعل الكتابة القصصية الحديثة والمعاصرة تروم اختزال اللغة والفكر والوجود من أجل بناء الوجود الإنساني ، ولا شك في أن تجربة "ابراهيم درغوثي" القصصية لا تخرج عن هذا الإطار فهي نصوص مشاكسة ، تحمل في طياتها استراتيجية مضادة للقارئ تنفتح على آفاق القراءة والتأويل.
يبدو أنّ القراءة المتمعّنة لكتابات هذا القاص تجعلنا نكتشف أنه يقرأ المجتمع والتاريخ والأيديولوجيا بعين البصيرة ويندّس في داخلها ويمتصها ثمّ يجري عليها دالة في داخلها، ويكتبها بما يحدّد خصوصية بنية نصّه.
إن الدخول إلى حرم النص يتطلب رؤية ثاقبة ، لذلك ينبغي مخاتلته ومحاورته، من هذا المنطلق لم أربدا من الاستعانة بآليات النقد الأسطوري كمنظومة تقنية أتحاور من خلالها معنص الدرغوثي " الخبز المرّ" من أجل استجلاء الأساطير المبثوثة فيه والإمساك بخيط يقودنا إلى النقطة المضيئة اللائذة في اصقاع النّص. التي من خلالها تتمّ عملية التأويل على اعتبار أن الأسطورة نص لاحق يضاف إلى النص الجديد ويتمطط وفقا للأبعاد الرؤيوية للأديب ليشكل نصا جديدا متفرّدا.
كما تجدر الإشارة أن النقد الأسطوري يصبّ في المتتاليات النصـية ( la transcensdence textuel )1 غير أنّ هدفة محصور في الكشف عن الأساطير المتناصة مع النّص الأوّل.
لقد استطاع (بيير برونيل) ( Pierre Brunel ) في كتابه "النقد الأسطوري" أن يصوغ طريقة في البحث عن الأسطورة داخل النّص من خلال قوانيــنه الثلاثـة المتمثـلة فـي ( التجلـّي)
( Emergence ) والمطاوعة (Flexibilité ) والإشعـاع
( Irradiation )
أ- التجلّي: ويتمثلفي حضور العنصر الأسطوري في العمل الأدبي أي تلك الإشارات الأسطورية الموظفة في النّص الإبداعي والتي تكون إمّا صريحة وإمّا خافتة.
ب- المطاوعة: وتتمثل في قابلية العنصر الأسطوري للتشكّل وفقا لرؤية المبدع، وخلفياته المعرفية، ومن خلال ذلك يستطيع الناقد تحديد ثوابت ومتغيرات العنصر الأسطوري من خلال مواجهة النص الأصلي للأسطورة بالنص الجديد.
ج- الإشعاع: ويتمثل في الخصائص الذاتية التي يمتلكها العنصر الأسطوري للقدرة على الإشعاع ، والتي من خلالها يستطيع المبدع أن يستغلها كي تشعّ الأسطورة في العمل الأدبي، من خلال العنوان أو الفاتحة أو اللازمة...إلخ.
لقد أصبحت الأسطورة معينا لا ينضب استغلها الكتاب للتعبير عن آفاقهم وآمالهم، فدخلت الأدب من بابه الواسع، وأصبحت تجربة وجودية ترمز إلى واقع مقدّس يدرك به الإنسان عالم الغيب.
- ما هي الأساطير التي استحضرها "ابراهيم درغوثي" في المجموعة القصصية " الخبز المر"؟ وكيف وظّفها ؟ ولماذ؟ أي كيف تجلّت الأسطورة في هذا العمل القصصي؟ وما هي الخصائص التي تمتلكها. حتى تمكّنت من الإشعاع. وكيف استطاع الأديب أن يطوّعها ويشكّلها؟
يتشكّل هذا العمل القصصي من العناوين التالية. 1( الخبز المـر) ، 2( الباب الكبير)، 3( القطط تسرق الأرانب ليلا) ، 4 (تفاح الجنّة)، 5 ( حكاية السندباد "السفرة الثامنة")، 6 (للّيلة الثانية بعــد الألف)، 7 (وقائع من حياة رجــل قال : لا)، 8 ( تصبحون على خيــر)، 9( حكاية الصياد الذي مازال يبحث عن حوت يونس).
تستوقفنا آليات النقد الأسطوري عند عدد من العناوين لعــلّ أبرزها ( تفاح الجنة)، ( حكاية السندباد "السفرة الثامنة")، (الليلة الثانية بعد الألف)
I- التناص الأسطوري على مستوى العناوين : ( التجّلي)
أ- تفاح الجنة: تحيلنا كلمة تفاح الجنة إلى أسطورة آدام وحواء. وينبغي أن لا يفهم المتلقي من أنّ كلمة أسطورة تعني خرافة. وإنّما الأسطورة هي حقائق عند معتقديها. كما أشار إلى ذلك (ميرسيا إلياد) (Mercea Eliad ) في كتابــه (Les apects du mythe ) فتبدو المرأة في الأسطورة الأصلية مصدر الغواية والشقاء. فهي السبب في الشقاء والهبوط من الفردوس، وعند تمطيط العنوان على جسد القصة نجد أنّ الدرغوثي لم يقصد تفاح الجنة بالذّات أو عرضا من أجل الاستعارة فقط ، بل هو تفاح يعبق برائحة الغريزة والجنس، ولا شكّ في أنّ المحور الرابط بين النص الأصلي والنّص الجديد هو عنصر الشهوة. والنّصان تحكمهما ثنائية الرجولة / والأنوثة إلاّ أنّ الاختلاف يكمن في الشهوة على الرغم من أنّ النتيجة واحدة . فالأولى شهوة الأكل. والثانية شهوة الجنس. ويمكن تجسيد ذلك من خلال هذه الترسيمة :
الإنسانية
تفاح الجنة
المرأة الرجل
الغواية
البهيميّة خروج عن
الإطار الانساني
الفردوس
تفاح الجنة
حواء آدام
الغواية
الأرض الإنسانية
النصّ الأصلي ( النّص السابق ) نصّ الدرغوثي ( النّص اللاّحق )
فيكون عنصر الهبوط والتدنّي هو النتيجة الجامعة بين أسطورة بدء الخليقة والأسطورة الأدبية للدرغوثي.
لعل القاص يرمز من خلال هذا العنوان إلى النتائج التي نجمت عن التفاحة الأولى. لقد بقي الإنسان في شقاء مستمر مادام يبحث عن مصدر عيشة ومصدر حياته. إنه البحث عن الخبز، ولكن الخبز في تفاح جنة الدرغوثي مرّ.
ب- حكاية السندباد " السفرة الثامنة": قبل تحليل هذا العنوان تجدر الإشارة إلى أنه يحيل إلى ألف ليلة وليلة وأسطورة شهرزاد الأدبية والتي أصبحت عند معظم المؤلفين الشخصية المفتاح لبعض المشاكل الراهنة وصورة حية لآلامنا وآمالنا.
يحيلنا الشطر الأول من العنوان إلى حكاية السندباد في ألف ليلة وليلة، ولكنّ الشطر الثاني ( السفرة الثامنة) تحدث انزياحا على المستوى المضموني، وخرقا لأفق توقعنا، إذ لا نعلم أنّ للسندباد سفرة ثامنة، فالعنوان يتمتع بالوظيفة الإغرائية، إذ يحدث في نفس المتلقي نوعا من التشويق. إنها دعوة ايجابية إلى مأدبة النّص ، فهل سنعيش ليالي شهرزاد ، وشهريار مرّة أخرى أم ماذا؟ .
ج – الليلة الثانية بعد الألف: يحدث هذا العنوان انزياحا آخر، إذ لا نعلم أنّ شهرزاد قد زادت ليلة على لياليها، فما الذي أضافه القاص في الليل الثانية بعد الألف، يبدو أنّ هذا العنوان يشكّل تكاملا مع العنوان السابق، فربّما رويت سفرة السندباد الثامنة في الليلة الثانية بعد الألف فهل يحيل المتن إلى ذلك ؟
سنكشف من خلال متن القصة كيف وظّف الدرغوثي أسطورة شهرزاد والسندباد؟ ولماذا هذه الشخصيات بالذات؟ هل تحمل هذه الشخصيات الأسطورية في طياتها طاقة كاملة تمكنها من الإشعاع داخل النّص الأدبي وتمكن المبدع من تطويعها، أم أنّه مجرّد تناص؟ وسنقف مطولا عند هذه الأقصوصة لأنها شاملة للمعاني المندسة في الأقاصيص الأخرى .
من هنا نستتنتج أن العنوان الرئيسي للمجموعة القصصية – والذي هو بدوره عنوان أقصوصة داخل المجموعة – مرتبط ارتباط الجذع بالفروع إذا تصب مضامينها في الخبز المرّ وتكون الترسيمة كالآتي:
السفرة الثامنة
حكاية السندباد
تفاح الجنة
الليلة الثانية بعد الألف
وجه الكتابة
العنوان الرئيس
الشجـــرة الدّلالـــية
التناص الأسطوري على مستوى المتن: ( المطاوعة والإشعاع)
بنيت حكاية السندباد "السفرة الثامنة" على المشابهة والاختلاف سواء كان ذلك من خلال بوح العنوان أم على مستوى الإشارات الأسلوبية أي ملفوظات الحالة وملفوظات الإنجاز.
ولا شك في أنّ هذه الأقصوصة وغيرها من المجموعة "تخليق كون يضاف إلى كون : هي هكذا الكتابة في أوج استعارتها ورمزيتها وطقوسها، خروج من الثبات والتكرار وارتكاب لهوس الرحلة طقسها السريّ ومكابدة اللانهايات " 1 وعلى الرغم من أنّ شهرزاد وشهريار الشخصيتان المحوريتان للنّص الأصلي ( ألف ليلة وليلة )ونص الاقصوصة إلاّ أنّ النّص ليس مجموعا من شتات واقع ثابت ، وإنّما يبني القاص مسرحة المتنقل لحركته التي يساهم فيها فيتحدّى بماهيته قلقا وشهوة وانبعاثا بحثا عن الهوية الكونية من خلال الهوية الجسدية 2
انطلاقا من النص الأصلي نجد أن شهرزاد تحكي لشهريار حكاية السندباد لتخرجه من منطلق الشهوة المادية إلى منطق الشهوة المعنوية، إلى حبّ المعرفة والتطلّع والسفر والمغامرة لاكتشاف المجهول ، فتساهم هذه الشخصية الأسطورية بفكرها النيّر ووسيلتها النبيلة (الكلمة) في خلق شهريار جديد. فبعد أن كان موجودا بالقوة أصبح موجودا بالفعل . إنها الولادة الجديدة للرّجولة الحقيقية. لكن نص الأقصوصة ( النص اللاحق ) يبنى على المفارقة فلا يعرف إلاّ ضمن كيانه الخاص فتغدو سفرة سندباد الثامنة مغامرة في جسد اللغة واستلهاما لأحوالها فنلمس تناص التآلف والتخالف من خلال الفاتحة النّصية، أو بنية الاستهلال:
- احك يا شهرزاد !
- لقد تعبت من الكلام . وفرغت جعبتي يا عزيزي !
الآن جاء دورك أنت!
- لكننا لم نتفق على هذا وسآمر بالسيف والنطع!
- لن تقدر لقد رشوت الجلاد بجارية وقنّينة خمرا!
- مسرور يا مسرور !
- لا تتعب نفسك فلن يسمعك يا حبيبي !
- مسرور تعال يا ابن الكلب!
- قلت لك لن يسمعك فلا تتعب نفسك يا صاحب العظمة...1
بنيت هذه الفاتحة النصية على الاختلاف شكلا ومضمونا، فيبدو أن شهرزاد سكتت عن الكلام المباح، وجاء دور شهريار ليأمرها بالحكي! لكنها لا تستجيب. كما أن دورها الموضوعاتي (التيماتيكي) مخالف تماما لدورها الموضوعاتي في النص الرّحم ، ولعلّ ابزر دور تتمتع به هذه الفاتحة هو دور الرّاشية المعتمدة على سلطة المادة ولم يعد للكلمة دور، فإذا لم تؤثر ألف ليلة وليلة من الحكي في شهريار الدرغوثي، فإن أعواما من الحكي لن تؤثر فيه، فعمدت شهرزاده إلى استخدام المادة لعلّها إشارة عميقة من القاص إلى اندثار سلطان الكلمة. ولئن كنّا قديما نحيا بها ومن خلالها تزدهر الحضارات فإننا اليوم نخضع للمادة.
ينطوي القص على بعض التقطع في مسار الحكي بواسطة ختمات ثلاث (***) عمد الأديب وضعها ليوهمنا أن هناك انشطار في البيئة الزمكانية ، فنجد أنفسنا أمام قصة عصرية ، وراو ضمنيّ يبدأ ببنية استهلالية أخرى مفارقة للسابقة.
" لست أدري كيف تقودني خطواتي كلما خرجت إلى السّوق أو المقهى أو أي مكان آخر إلى بيتها" (...) إلى أن يقول " ولا أفيق إلا وأنا أقرع باب بيتها" ثمّ يسرد لنا حكاية امرأة استخدمته سائق سيارة وقتلت صديقه الجنائني وخانت زوجها مع مستخدميها ، فندخل مغامرة رجل قذفته الأقدار في يد امرأة متسلطة ( عقرب) كما نعتها فيتمتع دال المرأة في هذه القطعة السردية بأدوار موضوعاتية نجملها في:
فنحصل على المرأة الهادمة للذات الذكورية . الباحثة عن الشهوة الجسدية ( في الرجلالحيوان)
"امرأة متدنيّة "
السيــدة
المــرأة
القاتلــة
الخائنــة
الآمــرة
المتسلطـة
العقــرب
يقابلها دال الرجل الحامل للأدوار التالية:
على الرغم من أنّ السارد رجل إلاّ أنّه
"الرجل الجبان"
الخادم
الرجــل
الخاضع
الخائف
الجبان
المأمور
في حين نجد تحول في الأدوار الموضوعاتية إذا قابلنا بين النّص الأصلي للأسطورة وبيئة الاستهلال الأولى.
المرأة البانية للذات الذكورية الباحثة عن الرجل الإنسان
(امرأة متعالية)
السيــدة
شهرزاد ألف ليلة وليلة
الوفـية
المتعقلة
الذكـية
المستخدمة
لسلطان الكلمة
يقابلها شهريار
"الرجل الشرير "
السيد
شهريار ألف ليلة وليلة
القاتل
المتسلّط
المتهور
سلطانه الشهوة
أما بالنسبة لشهرزاد وشهريار القصة نجد هذا التقابل.
شهريار الدّرغوثي
الآمر
الرافضة
شهرزاد الدرغوثي
المتسلط
الراشية
المنفعل
سلطانها المادة
ثم ينقطع مسار السّرد مرة أخرى وتوضع الختمات الثلاث (***) لندخل محراب ليالي الدرغوثي . ويبدأ الاستهلال الثالث.
- احك يا شهريار احك حكاية لم تسمعها مني.
- سأحكي لك عن رحلة السندباد الثامنة.
فبعد أن كانت في الاستهلال الأول مأمورة تحولت إلى آمرة والعكس حدث لشهريار. فأصبح هناك تبادل على مستوى الأدوار ومستوى الغاية. فيحدث التضاد وتصبح الأنوثة ذكورة / والذكورة أنوثة.
شهرزاد مأمورة آمرة الكلمة / المادة
شهريار آمر مأمور المادة / الكلمة
وتبدأ مغامرة سندباد العربي في بلاد الثلج ويأخذ الجسد حاسة استقبال واستغراق لوهم الحاضر حيزة البيولوجي، ويصبح خلقا جديدا لتواصل الحواس وتنافرها وتصبح المرأة عذابا بعد أن كانت رحمة . فيضاد النّص الأصلي بالنص الجديد.
عـذاب
حقــد
خيانــة
االمـرأة
رحمة
محبة
وفاء
الأسطورة
سندباد ألف ليلة وليلة سندباد الدرغوثي
فالمرأة وجهان لعملة واحدة يقف الرجل في مواجهتها بين مقبل ومدبر وبين راج وخائف في النص الجديد في حين نجد أنّ في النّص الأصلي يتمتع الرجل بقوته وتسلطه على الرغم من أنّ النص برمته تتسلط عليه المرأة/ شهرزاد بمنطق الحكي لتنتصر في الأخير بالكلمة ...أما في النص الجديد يبدو النص ذكوري فالراوي رجل لكن المتسلط هو المرأة فهل ستنتصر الكلمة في نص الدرغوثي؟؟.
شاء الدرغوثي أن لا يستسلم لعبثية العلاقة كدليل أسطوري على منطق التواصل والاستمرارية وإنما أن يحوّر في ينابيع الخلق فرهن الأسطورة لصالحه فأصبحت الأسطورة أسطورته.
ويمضي بنا السارد على لسان السندباد الذي يرحل عبر البحر ويلتقي بالجمارك ويخضع لعملية التفتيش. واستحضر القاص كل مثليات الحياة العصرية ليوهمنا أن الجمارك قد تنكّرت للسندباد حتى يبدو للقارئ أن السندباد قد نزل من بوابة التاريخ ليعيش المعاصرة. ولكن يبدو أن العربي ينظر إليه الغرب نظرة استغراب وشك وريبة وبخاصّة العربي الذي يرحل إلى بلاد الثلج. الحقيقة أنها أحداث رجل عربي غامر صوب البحر فوقع في براثن عجوز متصابية ثم أصبح من المافية. ثم سلعة تباع وتشترى على أشرطة الفيديو. مكتوب عليها "مغامرات سندباد العربي في بلاد الثلج" ثم يسقط سقوط حرّ ليجد نفسه في السجن محكوم عليه عشر سنوات بعد أن كان في دار السلام ينعم بالسلام. إنه بمعنى آخر الهبوط مع أسطورة بدء الخليقة فيكون المحور المشترك الهبوط. فيتقابل الفردوس مع دار السلام والأرض مع السجن
دار السلام
المرأة / الحضارة الغربية
السجن
الفردوس
المرأة / الشيطان
الأرض
يعالج الدرغوثي من خلال استحضاره للسندباد وليالي ألف ليلة وليلة وأسطورة بدأ الخليقة قضية العربي الذي يرحل إلى الغرب. ويكشف لنا أنّ البحث عن طرق المعيشة في هذه المناطق نتائجه وخيمة وخبزه مر وما المرأة المستحضرة إلاّ مصدرا للغواية والغواية مصدرها الشيطان والشيطان يحيل في المرجعية الدينة على المرأة وفي المرجعية الحديثة على الحضارة الغربية .
المرأة
الشيطان
الحضارة الغربية
الغواية
لعل الدرغوثي لا يقصد باستحضاره لدال المرأة إلاّ الحضارة العصرية المادية المتعفنة وهو حاقد عليها، لذلك يكمل بقية الحكاية التي تداخلت مع حكاية السندباد ويقتل المرأة الخائنة" العقرب" فتكون الخاتمة النصية كالآتي :
بنية الخاتمة:
لست أدري أيّ شيطان ركبني عندما اقتربت منها آخر الليل.
تحسست جيدها وبدأت أضغط قليلا قليلا.
قالت: " لا تمزح هكذا ! إنّك تؤلمني.
إلى أن يقول :
ضغطت أكثر فأكثر ثمّ تركتها تسقط فوق الأريكة.
عندما قمت عنها رأيت عقربا يخرج (...) ويسقط فوق الزرابي...رفعت حذائي وصعقته به..
وخرجت أشمّ هواء الصباح .1
ينبغي أن نشير أن هناك تداخلا كبيرا بين السندباد والقصة المفتعلة التي تبدو وكأنها دخيلة على السفرة الثامنة. لذلك نكتشف أنّ الراوي هو السندباد أو كأنه حقق رغبة السندباد في قتل المرأة . فسندباد العربي لم يقتل المرأة العربية ولكن السارد قتل امرأة أخرى. فمن عساها تكون؟
لعله يتمنى أن يقتل شهوة المادة في كلّ حضارة تعتمد على ذلك.
نخلص في النهاية وبعد هذه الرحلة السندبادية والمغامرة في فكر وعالم الدرغوثي إلى بعض الملاحظات التي فلتت منّا أثناء التحليل.
1- يتداخل السرد في هذه القصة ويتناوبه شخصية شهريار الذي كان آمرا فبات مأمورا، وشخصية السندباد المقهور، وشخصية الراوي المأمور والمنتصر في الأخير.
2- المرأة التي استحضرها القاص تتمظهر في عدة شخصيات فمرة شهرزاد ومرة ليدا ومرة المرأة/ العقرب. ويبدو أنّ الراوي قد قتل شهرزاد وهو بذلك لم يقتل سلطان الكلمة وإنما قتل سلطان المادة، وانتصر للكلمة انتصر لشهرزاد الأسطورة ، شهرزاد التي تسمو بالمعاني والقيم الإنسانية فتلبّس القاص بلبوسها ودخل في محرابها. واتخذ من الكلمة وسيلة للحكي لإنقاذ البشر، كما أنقذت شهرزاد بنات جنسها من الموت بالكلمة.
3- لماذا وظّف القاص شخصية سندباد بالذّات؟
لعلّه وظّفها ليبيّن لنا الفرق بين المغامرة صوب البحر بحثا عن المعرفة والمغامرة بحثا عن المادة- عن الخبز المر فإذا كانت شهرزاد قد استحضرت شخصية سندباد الخرافية في "ألف ليلية وليلة" فلأنّها تتباهى به أمام شهريار لتحدث تحولا في معنى رجولته فكانت بذلك المرأة الذكية المتوددة المغيّرة بالكلمة . واستطاع أن ينعم بدفئها في نهاية المطاف ويعدل عن قتلها وقتل بنات جنسها.
في المقابل نجد أن سندباد الدرغوثي رجل مغامر يبحث عن الثروة المادية فرحلته لم تكن للاكتشاف. وبذلك وقع في الأسر والشقاء. لأنه انصاع إلى غواية المرأة .
4- استحضر القاص هذا الرمز الأسطوري وجعله متعالقا مع نصه إذ طوعه وفقا لقناعاته لينتج من خلاله نصّا جديدا متفرّدا له خصوصيته وجماليته.
5- أراد القاص أن يبيّن لنا أنّ هناك انشطارا بين الحاضر والماضي. ويبدو هذا الانشطار على مستوى السرد ومستوى الفضاء النصّي. إذ قسّم حكاية السندباد: السفرة الثامنة إلى ثمان مقاطع، كلّ مقطع منفصل عن الآخر من حيث الشكل. وهذا ما جعلنا نتساءل ، لقد كانت كيفية القصّ في ألف ليلة وليلة مترابطة بعملية الاستهلال " بلغني أيها الملك السعيد ..." ثمّ تكمل القصة من حيث انهتها. فيبدو السرد متسلسلا ، في حين نجد عند الدرغوثي الطريقة مغايرة، فنستخلص أنّ هذا التقطيع ليس تشويها في مسار السرد. إنّما ساد في شعريته ليجعل القارئ يتشظّى في المجال التخييلي. فشهرزاد تسكت عند سماع صوت الديك الآذن بالصباح عن الكلام المباح. في حين لا يسكت الدرغوثي إطلاقا وإنما يحكي لنا ألف عام وعام. هذا ما صرّح به في خاتمة الليلة الثانية بعد الألف وكأنه بذلك يصرخ أنّ عهد الكلمة لم يولّي وإنّما ينبغي أن يعود بلا انقطاع، فالقصة إذن قصة فرد يصارع الغواية ويجسّد تراجيديّا تعارض الفرد بالتاريخ والرغبة الفردية بحركة المجتمع. فالمرأة التي يتمناها الدرغوثي هي شهرزاد الأصلية . فهو يحنّ إلى حضارة الدفء المتدثرة.
6- سكتت شهرزاد وتكلم إبراهيم ، سرق فنّ الكلام منها وأكمل حكاية السندباد والليلة الثانية بعد الالف وقتل شهريار وحلّ محله ليدعو "الكلمة " التي أصبحت شهرزاده لتحكي له ألف عام وعام، هكذا تصبح أداة شهريار الجديد هي الكلمة ، لأنّ الكلمة حياة . وهي بدورها تعلّم البشر وتوسع من آفاق مداركهم كما وعت شهرزاد من مدارك شهريار ويبقى الإنسان على مرّ السنين والأعوام والليالي مرتبطا بالحكايا .
والقص فيعرف من خلاله تاريخ الذين لا تاريخ لهم ويستمدّ المواعظ والعبر ليبني ويؤسس لمستقبل جديد.
وهذه الترسيمة تلخص التضاد بين النّصين فالتناص الأسطوري تناص التخالف والتضاد.
نص الدرغوثي
نص ألف ليلة وليلة
المرأة العجوز( الحضارة الغربية)
ا لمرأة الخبيثة ( العقرب)
وسيلتها الجسد والمادة
شهرزاد الشابة ( الحضارة العربية)
شهرزاد الطيبة ( الحضارة العربية)
وسيلتها الكلام والإقناع(الحضارة العربية)
الحضارة المتعفنة
المرأة الشيطان
التدني والهبوط
معاشرتها تجعل المعيشة مرة- السجن: " الخبز المر"
الحضارة النيرة
المرأة الملاك
التعالي والسمو
معاشرتها تجعل المعيشة حلوة – التحرر: " الخبز الحلو "
النتيجة
الوظيفة
الرجل
المرأة
القصة والأسطورة
صعود وتحرر وارتقاء
غواية معنوية/ وسيلتها الكلام
شهريار
شهرزاد
ألف ليلة وليلة
هبوط/ سجن وشقاء
غواية مادية
(جنس)
( شهوة جسدية)
شهريار
السائق
سندباد
العقرب
ليدا
شهرزاد
حكاية السندباد السفرة الثامنة
هبوط/تعب وشقاء
غواية مادية
(جنس)
شهوة جسدية
الابن / الخليل / الرجل
الزوجة / الأم/ المرأة
تفاح الجنة
هبوط من الفردوس إلى الأرض
(تعب وشقاء)
غواية مادية أكل التفاحة ( شهوة الأكل)
آدم
حواء
أسطورة بدء الخليقة
· ابراهيم درغوثي: الخبز المر ( قصص) دار صامد صفاقس 1990
1 G.Genette : Palimpsestes .Ed.Seuil 1983 P.P (7.9)
1 نجيب انزار : الشعر والكينونة ، مجلة التبيين العدد 6 الجزائر 1993 ص 67
2 نفس المصدر السابق ص 67
1 الخبز المر ص 67
1 الدرغوثي: الخبز المر ص 52 -53
الخبز المــرّ * لابراهيم درغوثي
شادية شقروش /جامعة تبسة / الجزائر
يخلق النّص الإبداعي في مناخ سوسيولغوي إذ يتفاعل معه الأديب بوصفه منظومة لغات جماعية ايديولوجية وأدبية فيستوعبها ويتمثلها ويعيد انتاجها وفقا لرؤاه وفلسفته الخاصة فيخلق قيما جمالية تتفاعل مع الموروث الحضاري وتستحدث تقنيات جديدة تخترق الفضاء وتختزل الزمن وتنفتح على طاقات من التخيّيل يصعب الإمساك بتلابيها.
لعل الكتابة القصصية الحديثة والمعاصرة تروم اختزال اللغة والفكر والوجود من أجل بناء الوجود الإنساني ، ولا شك في أن تجربة "ابراهيم درغوثي" القصصية لا تخرج عن هذا الإطار فهي نصوص مشاكسة ، تحمل في طياتها استراتيجية مضادة للقارئ تنفتح على آفاق القراءة والتأويل.
يبدو أنّ القراءة المتمعّنة لكتابات هذا القاص تجعلنا نكتشف أنه يقرأ المجتمع والتاريخ والأيديولوجيا بعين البصيرة ويندّس في داخلها ويمتصها ثمّ يجري عليها دالة في داخلها، ويكتبها بما يحدّد خصوصية بنية نصّه.
إن الدخول إلى حرم النص يتطلب رؤية ثاقبة ، لذلك ينبغي مخاتلته ومحاورته، من هذا المنطلق لم أربدا من الاستعانة بآليات النقد الأسطوري كمنظومة تقنية أتحاور من خلالها معنص الدرغوثي " الخبز المرّ" من أجل استجلاء الأساطير المبثوثة فيه والإمساك بخيط يقودنا إلى النقطة المضيئة اللائذة في اصقاع النّص. التي من خلالها تتمّ عملية التأويل على اعتبار أن الأسطورة نص لاحق يضاف إلى النص الجديد ويتمطط وفقا للأبعاد الرؤيوية للأديب ليشكل نصا جديدا متفرّدا.
كما تجدر الإشارة أن النقد الأسطوري يصبّ في المتتاليات النصـية ( la transcensdence textuel )1 غير أنّ هدفة محصور في الكشف عن الأساطير المتناصة مع النّص الأوّل.
لقد استطاع (بيير برونيل) ( Pierre Brunel ) في كتابه "النقد الأسطوري" أن يصوغ طريقة في البحث عن الأسطورة داخل النّص من خلال قوانيــنه الثلاثـة المتمثـلة فـي ( التجلـّي)
( Emergence ) والمطاوعة (Flexibilité ) والإشعـاع
( Irradiation )
أ- التجلّي: ويتمثلفي حضور العنصر الأسطوري في العمل الأدبي أي تلك الإشارات الأسطورية الموظفة في النّص الإبداعي والتي تكون إمّا صريحة وإمّا خافتة.
ب- المطاوعة: وتتمثل في قابلية العنصر الأسطوري للتشكّل وفقا لرؤية المبدع، وخلفياته المعرفية، ومن خلال ذلك يستطيع الناقد تحديد ثوابت ومتغيرات العنصر الأسطوري من خلال مواجهة النص الأصلي للأسطورة بالنص الجديد.
ج- الإشعاع: ويتمثل في الخصائص الذاتية التي يمتلكها العنصر الأسطوري للقدرة على الإشعاع ، والتي من خلالها يستطيع المبدع أن يستغلها كي تشعّ الأسطورة في العمل الأدبي، من خلال العنوان أو الفاتحة أو اللازمة...إلخ.
لقد أصبحت الأسطورة معينا لا ينضب استغلها الكتاب للتعبير عن آفاقهم وآمالهم، فدخلت الأدب من بابه الواسع، وأصبحت تجربة وجودية ترمز إلى واقع مقدّس يدرك به الإنسان عالم الغيب.
- ما هي الأساطير التي استحضرها "ابراهيم درغوثي" في المجموعة القصصية " الخبز المر"؟ وكيف وظّفها ؟ ولماذ؟ أي كيف تجلّت الأسطورة في هذا العمل القصصي؟ وما هي الخصائص التي تمتلكها. حتى تمكّنت من الإشعاع. وكيف استطاع الأديب أن يطوّعها ويشكّلها؟
يتشكّل هذا العمل القصصي من العناوين التالية. 1( الخبز المـر) ، 2( الباب الكبير)، 3( القطط تسرق الأرانب ليلا) ، 4 (تفاح الجنّة)، 5 ( حكاية السندباد "السفرة الثامنة")، 6 (للّيلة الثانية بعــد الألف)، 7 (وقائع من حياة رجــل قال : لا)، 8 ( تصبحون على خيــر)، 9( حكاية الصياد الذي مازال يبحث عن حوت يونس).
تستوقفنا آليات النقد الأسطوري عند عدد من العناوين لعــلّ أبرزها ( تفاح الجنة)، ( حكاية السندباد "السفرة الثامنة")، (الليلة الثانية بعد الألف)
I- التناص الأسطوري على مستوى العناوين : ( التجّلي)
أ- تفاح الجنة: تحيلنا كلمة تفاح الجنة إلى أسطورة آدام وحواء. وينبغي أن لا يفهم المتلقي من أنّ كلمة أسطورة تعني خرافة. وإنّما الأسطورة هي حقائق عند معتقديها. كما أشار إلى ذلك (ميرسيا إلياد) (Mercea Eliad ) في كتابــه (Les apects du mythe ) فتبدو المرأة في الأسطورة الأصلية مصدر الغواية والشقاء. فهي السبب في الشقاء والهبوط من الفردوس، وعند تمطيط العنوان على جسد القصة نجد أنّ الدرغوثي لم يقصد تفاح الجنة بالذّات أو عرضا من أجل الاستعارة فقط ، بل هو تفاح يعبق برائحة الغريزة والجنس، ولا شكّ في أنّ المحور الرابط بين النص الأصلي والنّص الجديد هو عنصر الشهوة. والنّصان تحكمهما ثنائية الرجولة / والأنوثة إلاّ أنّ الاختلاف يكمن في الشهوة على الرغم من أنّ النتيجة واحدة . فالأولى شهوة الأكل. والثانية شهوة الجنس. ويمكن تجسيد ذلك من خلال هذه الترسيمة :
الإنسانية
تفاح الجنة
المرأة الرجل
الغواية
البهيميّة خروج عن
الإطار الانساني
الفردوس
تفاح الجنة
حواء آدام
الغواية
الأرض الإنسانية
النصّ الأصلي ( النّص السابق ) نصّ الدرغوثي ( النّص اللاّحق )
فيكون عنصر الهبوط والتدنّي هو النتيجة الجامعة بين أسطورة بدء الخليقة والأسطورة الأدبية للدرغوثي.
لعل القاص يرمز من خلال هذا العنوان إلى النتائج التي نجمت عن التفاحة الأولى. لقد بقي الإنسان في شقاء مستمر مادام يبحث عن مصدر عيشة ومصدر حياته. إنه البحث عن الخبز، ولكن الخبز في تفاح جنة الدرغوثي مرّ.
ب- حكاية السندباد " السفرة الثامنة": قبل تحليل هذا العنوان تجدر الإشارة إلى أنه يحيل إلى ألف ليلة وليلة وأسطورة شهرزاد الأدبية والتي أصبحت عند معظم المؤلفين الشخصية المفتاح لبعض المشاكل الراهنة وصورة حية لآلامنا وآمالنا.
يحيلنا الشطر الأول من العنوان إلى حكاية السندباد في ألف ليلة وليلة، ولكنّ الشطر الثاني ( السفرة الثامنة) تحدث انزياحا على المستوى المضموني، وخرقا لأفق توقعنا، إذ لا نعلم أنّ للسندباد سفرة ثامنة، فالعنوان يتمتع بالوظيفة الإغرائية، إذ يحدث في نفس المتلقي نوعا من التشويق. إنها دعوة ايجابية إلى مأدبة النّص ، فهل سنعيش ليالي شهرزاد ، وشهريار مرّة أخرى أم ماذا؟ .
ج – الليلة الثانية بعد الألف: يحدث هذا العنوان انزياحا آخر، إذ لا نعلم أنّ شهرزاد قد زادت ليلة على لياليها، فما الذي أضافه القاص في الليل الثانية بعد الألف، يبدو أنّ هذا العنوان يشكّل تكاملا مع العنوان السابق، فربّما رويت سفرة السندباد الثامنة في الليلة الثانية بعد الألف فهل يحيل المتن إلى ذلك ؟
سنكشف من خلال متن القصة كيف وظّف الدرغوثي أسطورة شهرزاد والسندباد؟ ولماذا هذه الشخصيات بالذات؟ هل تحمل هذه الشخصيات الأسطورية في طياتها طاقة كاملة تمكنها من الإشعاع داخل النّص الأدبي وتمكن المبدع من تطويعها، أم أنّه مجرّد تناص؟ وسنقف مطولا عند هذه الأقصوصة لأنها شاملة للمعاني المندسة في الأقاصيص الأخرى .
من هنا نستتنتج أن العنوان الرئيسي للمجموعة القصصية – والذي هو بدوره عنوان أقصوصة داخل المجموعة – مرتبط ارتباط الجذع بالفروع إذا تصب مضامينها في الخبز المرّ وتكون الترسيمة كالآتي:
السفرة الثامنة
حكاية السندباد
تفاح الجنة
الليلة الثانية بعد الألف
وجه الكتابة
العنوان الرئيس
الشجـــرة الدّلالـــية
التناص الأسطوري على مستوى المتن: ( المطاوعة والإشعاع)
بنيت حكاية السندباد "السفرة الثامنة" على المشابهة والاختلاف سواء كان ذلك من خلال بوح العنوان أم على مستوى الإشارات الأسلوبية أي ملفوظات الحالة وملفوظات الإنجاز.
ولا شك في أنّ هذه الأقصوصة وغيرها من المجموعة "تخليق كون يضاف إلى كون : هي هكذا الكتابة في أوج استعارتها ورمزيتها وطقوسها، خروج من الثبات والتكرار وارتكاب لهوس الرحلة طقسها السريّ ومكابدة اللانهايات " 1 وعلى الرغم من أنّ شهرزاد وشهريار الشخصيتان المحوريتان للنّص الأصلي ( ألف ليلة وليلة )ونص الاقصوصة إلاّ أنّ النّص ليس مجموعا من شتات واقع ثابت ، وإنّما يبني القاص مسرحة المتنقل لحركته التي يساهم فيها فيتحدّى بماهيته قلقا وشهوة وانبعاثا بحثا عن الهوية الكونية من خلال الهوية الجسدية 2
انطلاقا من النص الأصلي نجد أن شهرزاد تحكي لشهريار حكاية السندباد لتخرجه من منطلق الشهوة المادية إلى منطق الشهوة المعنوية، إلى حبّ المعرفة والتطلّع والسفر والمغامرة لاكتشاف المجهول ، فتساهم هذه الشخصية الأسطورية بفكرها النيّر ووسيلتها النبيلة (الكلمة) في خلق شهريار جديد. فبعد أن كان موجودا بالقوة أصبح موجودا بالفعل . إنها الولادة الجديدة للرّجولة الحقيقية. لكن نص الأقصوصة ( النص اللاحق ) يبنى على المفارقة فلا يعرف إلاّ ضمن كيانه الخاص فتغدو سفرة سندباد الثامنة مغامرة في جسد اللغة واستلهاما لأحوالها فنلمس تناص التآلف والتخالف من خلال الفاتحة النّصية، أو بنية الاستهلال:
- احك يا شهرزاد !
- لقد تعبت من الكلام . وفرغت جعبتي يا عزيزي !
الآن جاء دورك أنت!
- لكننا لم نتفق على هذا وسآمر بالسيف والنطع!
- لن تقدر لقد رشوت الجلاد بجارية وقنّينة خمرا!
- مسرور يا مسرور !
- لا تتعب نفسك فلن يسمعك يا حبيبي !
- مسرور تعال يا ابن الكلب!
- قلت لك لن يسمعك فلا تتعب نفسك يا صاحب العظمة...1
بنيت هذه الفاتحة النصية على الاختلاف شكلا ومضمونا، فيبدو أن شهرزاد سكتت عن الكلام المباح، وجاء دور شهريار ليأمرها بالحكي! لكنها لا تستجيب. كما أن دورها الموضوعاتي (التيماتيكي) مخالف تماما لدورها الموضوعاتي في النص الرّحم ، ولعلّ ابزر دور تتمتع به هذه الفاتحة هو دور الرّاشية المعتمدة على سلطة المادة ولم يعد للكلمة دور، فإذا لم تؤثر ألف ليلة وليلة من الحكي في شهريار الدرغوثي، فإن أعواما من الحكي لن تؤثر فيه، فعمدت شهرزاده إلى استخدام المادة لعلّها إشارة عميقة من القاص إلى اندثار سلطان الكلمة. ولئن كنّا قديما نحيا بها ومن خلالها تزدهر الحضارات فإننا اليوم نخضع للمادة.
ينطوي القص على بعض التقطع في مسار الحكي بواسطة ختمات ثلاث (***) عمد الأديب وضعها ليوهمنا أن هناك انشطار في البيئة الزمكانية ، فنجد أنفسنا أمام قصة عصرية ، وراو ضمنيّ يبدأ ببنية استهلالية أخرى مفارقة للسابقة.
" لست أدري كيف تقودني خطواتي كلما خرجت إلى السّوق أو المقهى أو أي مكان آخر إلى بيتها" (...) إلى أن يقول " ولا أفيق إلا وأنا أقرع باب بيتها" ثمّ يسرد لنا حكاية امرأة استخدمته سائق سيارة وقتلت صديقه الجنائني وخانت زوجها مع مستخدميها ، فندخل مغامرة رجل قذفته الأقدار في يد امرأة متسلطة ( عقرب) كما نعتها فيتمتع دال المرأة في هذه القطعة السردية بأدوار موضوعاتية نجملها في:
فنحصل على المرأة الهادمة للذات الذكورية . الباحثة عن الشهوة الجسدية ( في الرجلالحيوان)
"امرأة متدنيّة "
السيــدة
المــرأة
القاتلــة
الخائنــة
الآمــرة
المتسلطـة
العقــرب
يقابلها دال الرجل الحامل للأدوار التالية:
على الرغم من أنّ السارد رجل إلاّ أنّه
"الرجل الجبان"
الخادم
الرجــل
الخاضع
الخائف
الجبان
المأمور
في حين نجد تحول في الأدوار الموضوعاتية إذا قابلنا بين النّص الأصلي للأسطورة وبيئة الاستهلال الأولى.
المرأة البانية للذات الذكورية الباحثة عن الرجل الإنسان
(امرأة متعالية)
السيــدة
شهرزاد ألف ليلة وليلة
الوفـية
المتعقلة
الذكـية
المستخدمة
لسلطان الكلمة
يقابلها شهريار
"الرجل الشرير "
السيد
شهريار ألف ليلة وليلة
القاتل
المتسلّط
المتهور
سلطانه الشهوة
أما بالنسبة لشهرزاد وشهريار القصة نجد هذا التقابل.
شهريار الدّرغوثي
الآمر
الرافضة
شهرزاد الدرغوثي
المتسلط
الراشية
المنفعل
سلطانها المادة
ثم ينقطع مسار السّرد مرة أخرى وتوضع الختمات الثلاث (***) لندخل محراب ليالي الدرغوثي . ويبدأ الاستهلال الثالث.
- احك يا شهريار احك حكاية لم تسمعها مني.
- سأحكي لك عن رحلة السندباد الثامنة.
فبعد أن كانت في الاستهلال الأول مأمورة تحولت إلى آمرة والعكس حدث لشهريار. فأصبح هناك تبادل على مستوى الأدوار ومستوى الغاية. فيحدث التضاد وتصبح الأنوثة ذكورة / والذكورة أنوثة.
شهرزاد مأمورة آمرة الكلمة / المادة
شهريار آمر مأمور المادة / الكلمة
وتبدأ مغامرة سندباد العربي في بلاد الثلج ويأخذ الجسد حاسة استقبال واستغراق لوهم الحاضر حيزة البيولوجي، ويصبح خلقا جديدا لتواصل الحواس وتنافرها وتصبح المرأة عذابا بعد أن كانت رحمة . فيضاد النّص الأصلي بالنص الجديد.
عـذاب
حقــد
خيانــة
االمـرأة
رحمة
محبة
وفاء
الأسطورة
سندباد ألف ليلة وليلة سندباد الدرغوثي
فالمرأة وجهان لعملة واحدة يقف الرجل في مواجهتها بين مقبل ومدبر وبين راج وخائف في النص الجديد في حين نجد أنّ في النّص الأصلي يتمتع الرجل بقوته وتسلطه على الرغم من أنّ النص برمته تتسلط عليه المرأة/ شهرزاد بمنطق الحكي لتنتصر في الأخير بالكلمة ...أما في النص الجديد يبدو النص ذكوري فالراوي رجل لكن المتسلط هو المرأة فهل ستنتصر الكلمة في نص الدرغوثي؟؟.
شاء الدرغوثي أن لا يستسلم لعبثية العلاقة كدليل أسطوري على منطق التواصل والاستمرارية وإنما أن يحوّر في ينابيع الخلق فرهن الأسطورة لصالحه فأصبحت الأسطورة أسطورته.
ويمضي بنا السارد على لسان السندباد الذي يرحل عبر البحر ويلتقي بالجمارك ويخضع لعملية التفتيش. واستحضر القاص كل مثليات الحياة العصرية ليوهمنا أن الجمارك قد تنكّرت للسندباد حتى يبدو للقارئ أن السندباد قد نزل من بوابة التاريخ ليعيش المعاصرة. ولكن يبدو أن العربي ينظر إليه الغرب نظرة استغراب وشك وريبة وبخاصّة العربي الذي يرحل إلى بلاد الثلج. الحقيقة أنها أحداث رجل عربي غامر صوب البحر فوقع في براثن عجوز متصابية ثم أصبح من المافية. ثم سلعة تباع وتشترى على أشرطة الفيديو. مكتوب عليها "مغامرات سندباد العربي في بلاد الثلج" ثم يسقط سقوط حرّ ليجد نفسه في السجن محكوم عليه عشر سنوات بعد أن كان في دار السلام ينعم بالسلام. إنه بمعنى آخر الهبوط مع أسطورة بدء الخليقة فيكون المحور المشترك الهبوط. فيتقابل الفردوس مع دار السلام والأرض مع السجن
دار السلام
المرأة / الحضارة الغربية
السجن
الفردوس
المرأة / الشيطان
الأرض
يعالج الدرغوثي من خلال استحضاره للسندباد وليالي ألف ليلة وليلة وأسطورة بدأ الخليقة قضية العربي الذي يرحل إلى الغرب. ويكشف لنا أنّ البحث عن طرق المعيشة في هذه المناطق نتائجه وخيمة وخبزه مر وما المرأة المستحضرة إلاّ مصدرا للغواية والغواية مصدرها الشيطان والشيطان يحيل في المرجعية الدينة على المرأة وفي المرجعية الحديثة على الحضارة الغربية .
المرأة
الشيطان
الحضارة الغربية
الغواية
لعل الدرغوثي لا يقصد باستحضاره لدال المرأة إلاّ الحضارة العصرية المادية المتعفنة وهو حاقد عليها، لذلك يكمل بقية الحكاية التي تداخلت مع حكاية السندباد ويقتل المرأة الخائنة" العقرب" فتكون الخاتمة النصية كالآتي :
بنية الخاتمة:
لست أدري أيّ شيطان ركبني عندما اقتربت منها آخر الليل.
تحسست جيدها وبدأت أضغط قليلا قليلا.
قالت: " لا تمزح هكذا ! إنّك تؤلمني.
إلى أن يقول :
ضغطت أكثر فأكثر ثمّ تركتها تسقط فوق الأريكة.
عندما قمت عنها رأيت عقربا يخرج (...) ويسقط فوق الزرابي...رفعت حذائي وصعقته به..
وخرجت أشمّ هواء الصباح .1
ينبغي أن نشير أن هناك تداخلا كبيرا بين السندباد والقصة المفتعلة التي تبدو وكأنها دخيلة على السفرة الثامنة. لذلك نكتشف أنّ الراوي هو السندباد أو كأنه حقق رغبة السندباد في قتل المرأة . فسندباد العربي لم يقتل المرأة العربية ولكن السارد قتل امرأة أخرى. فمن عساها تكون؟
لعله يتمنى أن يقتل شهوة المادة في كلّ حضارة تعتمد على ذلك.
نخلص في النهاية وبعد هذه الرحلة السندبادية والمغامرة في فكر وعالم الدرغوثي إلى بعض الملاحظات التي فلتت منّا أثناء التحليل.
1- يتداخل السرد في هذه القصة ويتناوبه شخصية شهريار الذي كان آمرا فبات مأمورا، وشخصية السندباد المقهور، وشخصية الراوي المأمور والمنتصر في الأخير.
2- المرأة التي استحضرها القاص تتمظهر في عدة شخصيات فمرة شهرزاد ومرة ليدا ومرة المرأة/ العقرب. ويبدو أنّ الراوي قد قتل شهرزاد وهو بذلك لم يقتل سلطان الكلمة وإنما قتل سلطان المادة، وانتصر للكلمة انتصر لشهرزاد الأسطورة ، شهرزاد التي تسمو بالمعاني والقيم الإنسانية فتلبّس القاص بلبوسها ودخل في محرابها. واتخذ من الكلمة وسيلة للحكي لإنقاذ البشر، كما أنقذت شهرزاد بنات جنسها من الموت بالكلمة.
3- لماذا وظّف القاص شخصية سندباد بالذّات؟
لعلّه وظّفها ليبيّن لنا الفرق بين المغامرة صوب البحر بحثا عن المعرفة والمغامرة بحثا عن المادة- عن الخبز المر فإذا كانت شهرزاد قد استحضرت شخصية سندباد الخرافية في "ألف ليلية وليلة" فلأنّها تتباهى به أمام شهريار لتحدث تحولا في معنى رجولته فكانت بذلك المرأة الذكية المتوددة المغيّرة بالكلمة . واستطاع أن ينعم بدفئها في نهاية المطاف ويعدل عن قتلها وقتل بنات جنسها.
في المقابل نجد أن سندباد الدرغوثي رجل مغامر يبحث عن الثروة المادية فرحلته لم تكن للاكتشاف. وبذلك وقع في الأسر والشقاء. لأنه انصاع إلى غواية المرأة .
4- استحضر القاص هذا الرمز الأسطوري وجعله متعالقا مع نصه إذ طوعه وفقا لقناعاته لينتج من خلاله نصّا جديدا متفرّدا له خصوصيته وجماليته.
5- أراد القاص أن يبيّن لنا أنّ هناك انشطارا بين الحاضر والماضي. ويبدو هذا الانشطار على مستوى السرد ومستوى الفضاء النصّي. إذ قسّم حكاية السندباد: السفرة الثامنة إلى ثمان مقاطع، كلّ مقطع منفصل عن الآخر من حيث الشكل. وهذا ما جعلنا نتساءل ، لقد كانت كيفية القصّ في ألف ليلة وليلة مترابطة بعملية الاستهلال " بلغني أيها الملك السعيد ..." ثمّ تكمل القصة من حيث انهتها. فيبدو السرد متسلسلا ، في حين نجد عند الدرغوثي الطريقة مغايرة، فنستخلص أنّ هذا التقطيع ليس تشويها في مسار السرد. إنّما ساد في شعريته ليجعل القارئ يتشظّى في المجال التخييلي. فشهرزاد تسكت عند سماع صوت الديك الآذن بالصباح عن الكلام المباح. في حين لا يسكت الدرغوثي إطلاقا وإنما يحكي لنا ألف عام وعام. هذا ما صرّح به في خاتمة الليلة الثانية بعد الألف وكأنه بذلك يصرخ أنّ عهد الكلمة لم يولّي وإنّما ينبغي أن يعود بلا انقطاع، فالقصة إذن قصة فرد يصارع الغواية ويجسّد تراجيديّا تعارض الفرد بالتاريخ والرغبة الفردية بحركة المجتمع. فالمرأة التي يتمناها الدرغوثي هي شهرزاد الأصلية . فهو يحنّ إلى حضارة الدفء المتدثرة.
6- سكتت شهرزاد وتكلم إبراهيم ، سرق فنّ الكلام منها وأكمل حكاية السندباد والليلة الثانية بعد الالف وقتل شهريار وحلّ محله ليدعو "الكلمة " التي أصبحت شهرزاده لتحكي له ألف عام وعام، هكذا تصبح أداة شهريار الجديد هي الكلمة ، لأنّ الكلمة حياة . وهي بدورها تعلّم البشر وتوسع من آفاق مداركهم كما وعت شهرزاد من مدارك شهريار ويبقى الإنسان على مرّ السنين والأعوام والليالي مرتبطا بالحكايا .
والقص فيعرف من خلاله تاريخ الذين لا تاريخ لهم ويستمدّ المواعظ والعبر ليبني ويؤسس لمستقبل جديد.
وهذه الترسيمة تلخص التضاد بين النّصين فالتناص الأسطوري تناص التخالف والتضاد.
نص الدرغوثي
نص ألف ليلة وليلة
المرأة العجوز( الحضارة الغربية)
ا لمرأة الخبيثة ( العقرب)
وسيلتها الجسد والمادة
شهرزاد الشابة ( الحضارة العربية)
شهرزاد الطيبة ( الحضارة العربية)
وسيلتها الكلام والإقناع(الحضارة العربية)
الحضارة المتعفنة
المرأة الشيطان
التدني والهبوط
معاشرتها تجعل المعيشة مرة- السجن: " الخبز المر"
الحضارة النيرة
المرأة الملاك
التعالي والسمو
معاشرتها تجعل المعيشة حلوة – التحرر: " الخبز الحلو "
النتيجة
الوظيفة
الرجل
المرأة
القصة والأسطورة
صعود وتحرر وارتقاء
غواية معنوية/ وسيلتها الكلام
شهريار
شهرزاد
ألف ليلة وليلة
هبوط/ سجن وشقاء
غواية مادية
(جنس)
( شهوة جسدية)
شهريار
السائق
سندباد
العقرب
ليدا
شهرزاد
حكاية السندباد السفرة الثامنة
هبوط/تعب وشقاء
غواية مادية
(جنس)
شهوة جسدية
الابن / الخليل / الرجل
الزوجة / الأم/ المرأة
تفاح الجنة
هبوط من الفردوس إلى الأرض
(تعب وشقاء)
غواية مادية أكل التفاحة ( شهوة الأكل)
آدم
حواء
أسطورة بدء الخليقة
· ابراهيم درغوثي: الخبز المر ( قصص) دار صامد صفاقس 1990
1 G.Genette : Palimpsestes .Ed.Seuil 1983 P.P (7.9)
1 نجيب انزار : الشعر والكينونة ، مجلة التبيين العدد 6 الجزائر 1993 ص 67
2 نفس المصدر السابق ص 67
1 الخبز المر ص 67
1 الدرغوثي: الخبز المر ص 52 -53