قراءة فى المجموعة القصصية
دراسة نقدية: لقطات نادرة من الحب و الألم و الموت
فى المجموعة القصصية " الوجوه المصبوغة " للأديب الأسوانى: أحمد الليثى الشرونى
بقلم : حسن غريب أحمد
إذا نظرنا فى الساحة الأدبية نجدها زاخرة بأسماء قصاصين من الأدباء الشبان الذين يغزون الحياة الأدبية بإنتاجهم .. فيجددون شبابها و يثيرون فيها النشاط و الحيوية .. و هؤلاء الشبان من الأقاليم أثبتوا قدراتهم الفنية التى تبشر بمستقبل زاهر للقصة ...
فيما كنت أتابع المواهب القصصية الشابة التى تظهر بكثير من الاستحياء ووسط مزيد من الصعاب التى تواجه كل من أختار الأدب وسيلة للتعبير لفتت أنتباهى مجموعة قصصية أسمها " الوجوه المصبوغة " لقاص قرأت له فى الصحف من قبل ألا و هو الأديب المبدع " أحمد الليثى الشرونى " و الصادرة عن إقليم جنوب ووسط الصعيد الثقافى فرع ثقافة أسوان – 2002 م
القاص الشاب " أحمد الليثى " يكتب القصة القصيرة بقدم ثابتة تدل على تمكنه من فن القصة .. بعيداً عن التأثر بالأخرين .. فإنتاجه يحمل سماته الفنية و تفرده و القاص " أحمد الليثى" له فكر و رؤية يوظف فنه لتوصيله إلى المتلقى دون أن يطغى هذا الفكر على الناحية الفنية لأنه يفهم جيداً تلك المعادلة و هى الجمع بين الفن و الفكر دون أن يطغى كل منهما على الأخر و هذه المعادلة تغيب عن بعض أدبائنا عندما يعترضون لقضية فكرية ، لقد استطاع " أحمد الليثى " أن يحفظ التوازن فى قصصه من الهتافية و المباشرة التى توهن العمل أدبياً و فنياً و استنقذها أيضا من الجفاف الفكرى الذى يشعر القارئ بالملل، وعندما نتأمل فى إنتاجه القصصى نجد أنه تناول العديد من الجوانب .
** أولاً : الجانب الفكرى
** ثانياً : الجانب الإجتماعى
** ثالثا : الجانب الإنسانى
و "أحمد الليثى" فى ذلك كله لا يوقف شخصياته موقف المتفرج على الأحداث ، فهى لا خارج الأحداث بل تعيش داخلها بقلبها و عقلها و شخصياته تصور الإنسان بقوته ووهنه و لذلك قد تزل و تسقط و لكن لأنها لم تفقد بعد القوام الأساسى الذى يشكل وجدانها و هو الدين ثم الموت فإنهما ما تلبث أن تعود إلى وعيها و تتخلص من ضعفها و لذلك فهى شخصيات إيجايبة تصطرع مع الحياة لتخرج من هذا الصراع أشد عوذا و أكثر إيماناً وهذه الشخصيات تنبعث تصرفاتها من داخلها نتيجة لتكوينها الثقافى و نتيجة لعاداتها وتقاليدها القروية الموروثة و نتيجة للوجدان الدينى الكامن فى أعماق كل إنسان يصحو فى أوقات الأزمات فينقذ الإنسان ويصحح له مساره الحياتى وما ينم عن ذلك بكل يقين إهداءه فى مطلع مجموعته القصصية و الذى اختص به ضمن ما أختص قريته " الشراونة " و هو يقول :
فى صفحة الإهداء :
" إلى الوجوه الناصعة التى لم تصبغها الأيام بلونها الباهت أهلى و عشيرتى بقريتى " الشراونة " إن ما يميز أعمال " أحمد الليثى " هو اختياره مادة قصصه فهو يستمد من بيئة الصعيد و قريته الشراونة بأسوان تلك البيئة التى يعيش فيها .. ويخالط قراها و لذا نجد العديد من أحداث قصصه تدور فىالقرى و تتناول عاداتها و تقاليدها .. وهو لا يهتم فحسب بتقديم القرية من حيث الشكل العام
( منازل - حقول – طبيعة جغرافية ) ولكنه يهتم بتقديم إنسانها بعقله و قلبه و سليقته المعتادة .
و أهم ما يلفت الانتباه أنه دائماً يرجع إلى الفطرة أو العادات و التقاليد ليجد فيها الخلاص و النجاة و هو لا يقع فى نطاق محلية الأحداث و لكنه ينطلق بها إلى العام الذى يهم الإنسان عامة و يتمثل هذا فى جميع القضايا التى عالجها سواء كانت فكرية أو اجتماعية أو إنسانية و هنا ينجلى إدراك ووعى
"أحمد الليثى" التام لوظيفة القصة القصيرة ومن تخاطبهم .
فإذا نظرنا إلى القصص التى تعالج القضايا الفكرية نجد أنه موقفاً إيجابياً من صناعة الوالدين و تغلغل الموروث الدينى فى أعماقه فبين رأى الإنسان فى القرية و حب الابن لأبيه و أمه و اختياره لإنسان القرية بالذات اختيار للإنسان عامة لآنه يمثل الجانب الفطرى فى الإنسان الذى يرفض الأشياء وفقاً لعادات و تقاليد و مكونات دينية و اجتماعية لعبت دوراً كبيراً فى تشكيلة فهو يقول من خلال شخصياته :
إن الإنسان على أرضنا إنسان له دين يقف حصناً مانعاً لحمايته من السقوط فهو الملجأ الوحيد الذى يلجأ إليه الإنسان عندما يغفو من سبات الانحلال الخلقى أو الفكرى .
ففى قصة " ترحال " يعاقب الوالد الذين كانوا يتلصصون على زوجة طبيب الوحدة و هى ترتدى ملابسها الضيقة من أعلى السور فلقد أصر على ضربهم و ركلهم و استخدم " الفلكة " كذلك – لأن الأدب كان فوق كل شئ .
و تأتى كلمة " كان " من القاص لتنجلى حقيقة مرة بأن هناك أشياء و عوالم تغيرت فى العادات و التقاليد و حدث خلل و عدم توازن فى الحياة الحالية .
و لهذا فبطل القصة يرفض أن يستسلم للأفكار الجديدة و يتمسك باعتقاده الراسخ و الأصيل انحدارا إليه من والده الذى أخذ على نفسه التمسك بكل عادات الآباء و الأجداد .
** التكثيف و الاقتصاد فى اللغة : -
و فى قصة " رائحة " ص 23
.. روح صلى الفجر يا ولدى ، أنا بخير و الحمد لله . نفذت أمره على مضض " الصلاة خير من النوم توضأت و خرجت إلى المسجد المجاور للبيت .
و فى قصة " صورة متأرجحة ص 52 يقول :
" ياتينى صوت المؤذن صافياً و يتداخل معه صوت المؤذن الآخر فيتحطم السكون و يزحف الجميع لأداء صلاة العشاء ، بعد الصلاة بجوار المسجد التقيت بأصدقاء عمر لى " .
تكشف لنا هاتان القصتان عن مهارة خاصته ، ينبغى أن تؤخذ بالاعتبار إنها مهارة التكثيف و الاقتصاد فى اللغة و الحدث الممزوج بالموروث الدينى و العقائدى بالالتزام بالصلاة والتعلق
بالمسجد .
هذه المهارة هى السر فى نشأة القصة القصيرة كنوع سردى فى القرن التاسع عشر و ذلك تعبيراً عن الاحتجاج الصامت تجاه الروايات الطويلة التى تقوم على إسهاب لغوى، و تفصيل ممل للأحداث ، كما هو معروف و شائع فى الرواية الفرنسية و الروسية و الإنجليزية أنذاك .
و على هذا فإننا نتصور، أن قصص الفرنسى موبسان و الامريكى أدجار ألان بو، و الروسى انطون تشبخوف هى التى – باعتمادها على تلك المهارة المشار اليها – و قد وضعت الرواية أمام تحديات جديدة لم تكن مثارة من قبل ، و قد افضى كل ذلك فيما بعد إلى ظهور تقنيات السرد الحديثة ، التى تهدف إلى تخطى مشكلات البناء التقليدى الذى يقتضى الإسهاب فى الوقائع و التصوير اللغوى المعبر عنها .
وذلك ما يمكن ملاحظته فى روايات وليم فولكنر و فرجينا وولف و جيمس جويس، وهى روايات تقوم أساساً على نقض البناء التقليدى و تستبدل به مجموعة من الأبنية الجديدة التى تقوم على تداخل الأزمنة و مستويات السرد و المنظورات و غير ذلك .
و هذه المهارة أبرز ما يمكن ملاحظته فى معظم قصص " أحمد الليثى " إلى درجة جعلتها رواية مقسمة إلى عدة أجزاء مما ينم عن دربه و حنكه القاص فى ترتيب و تبويب قصصه و كأنها قصة واحدة .
و الواقع فإن هذا النص المكثف يختزن عناصر القصة بعمومها، و هو لا يهدف إلى مخادعة المتلقى لأن الحدث ينشق بهدوء وقت الفجر و صلاتها، و سرعان ما ينساب السرد مع حسرة الحداد على الحبيب ، ليكتشف التعارض الحاصل بين زمنين :
الأول : يندفع من الماضى
الثانى : يصور الحاضر الآن
فى هذا الوقت الذى بمقدار ما يوصل بين زمنين هما الليل المنصرم و النهار القادم فإنه يربط بينهما و البطل المجهول – عن القارئ – الذى لا نعرف عنه شيئاً سوى اسمه "اسعد" ووحيد أسرته .. و لكن قدراته وبأسه الذى دفعه مرة آخرى لطلوع النخلة و التضحية بحياته دون أن تعرف عن حياته غير ذلك، وهذا فى قصته " النخلة السكوتى " ص 81
القاص هنا يفضح بتأملاته الصامته عالماً متناقضاً متصلاً بنظام مشبع بالقيم الروحية و المادية، و ليس من الغريب أن يختار القاص المسجد مكاناً لأحداث قصته "رائحة – صورة متأرجحة " ولا الفجر زمناً لتلك الأحداث فهو بذلك يريد أن يظهر التناقض بين مكانين و زمنين ، العالم خارج المسجد و العالم داخله ، و العالم فى نهاية الليل و العالم فى نهاية النهار، وتنتهى القصة بتجمع الناس على خبر مزعج و هو موت والد البطل فى القصة .
** الاتجاه فى مسار الأحداث :
فيما يمضى البطل سامعاً لحناً حزيناً من بعيد، و هذا الاتجاه لمسار الأحداث يضع كل الأشياء فى تعارض واضح فالشخصية الرئيسية التى تنفجر ذكرياتها لحظة دخول المسجد و صلاة الفجر فتستعيد فى لمحة سريعة ذكريات أخرى مؤلمة و هذا يتضح لنا فى قصته " الوجوه المصبوغة " و التى تحمل عنوان المجموعة القصصية .. ص 69 يقول :
" تعرف يا محمود كان الكبير كبير له هيبة و احترام عندنا نحن الصغار ، كان غيطى هو غيطك ، كلنا نزرع و نحصد معاً ، يا سلام كانت أياماً جميلة " .
هنا نجد القاص يتعبد فى نوع من التفرع لاستعاضة الماضى الجميل و يشرك المكان فى تاريخه و ذكرياته فالمكان و الشخصية يتصلان بعصر فى طريقة إلى الإنقضاء، و لا سبيل لسرد تلك النهاية المأساوية .
يقول القاص :
" كلنا خارجين فى التو من المسجد بعد صلاة العصر ، تمرق سيارة فارهة من أمامنا تثير الغبار فيزكم أنوفنا .. "
و هى فى إشارة إلى تغيير جلد " كمال " بعد عودته من العمل فى الخارج و تحكمه فى الناس بهداياه و عطاياه حتى من أرادها وافقوه عليها رغم بلوغه الأربعين بسبب رائحة النفط و دنانيره اللامعة و الثمينة .
** المغزى الدلالى فى القصص :
هنا يرد النص أن يبذر الإحساس بأن هنالك عالما أليفا و مشبعاً بالقيم و الذكريات لكنه مهدد بالزوال بسبب الأموال و تحكمها فى نفوس بعض البشر و مهما حاولنا أن نوقف زحف الزمن الكاسح فلابد من نهاية لكل شئ لأن النص يشعر المتلقى بأنه يأسف على النهاية التى انتهى بها حال قريتهم فذلك إنما يدل على أن عصر التماسك و التلاحم قد انتهى بما فى ذلك القيم المتصلة به، لكنه لما يزل يحن إلى المرحلة المتأصلة للآباء و الأجداد و ينشد القاص عودتها... و هذا هو المغزى الدلالى لعنوان القصة 0
يستعين القاص فى النصوص التى بالمجموعة القصصية بأساليب سردية متنوعة ، منها الوصف المشهدى المحايد الذى يختبئ فيه الراوى العليم و يعرض أوصافه و معلوماته : " بزغ القمر باهتا على هذه القرية التى تبدو كعجوز شمطاء ترتدى ثوباً بالياً، و استطاع أن يبدد ظلمه الغسق التى
حلت "من قصة " الحلم المعبق بدخان البخور " ص 87
لكن هذه الصيغة السردية التقليدية المحايدة تنتهى فجأة، و تحل مكانها صيغة أخرى تعتمد المخاطبة ، و بذلك تبدأ الأحداث بالتطور ثم سرعان ما تحل الصيغة التكرارية للسرد. "ها أنا اقتربت من النور و لكن يبدو أنه يهرب منى مبتعداً .. و لكن ذلك لم يضعف من قوة إرادتى الصلبة و لابد أن الحق به .. وها أنا اقترب من النور ... و مع اقترابه بعد سحيق .. ) قصة " الفجر الهارب " ص 96 0
** المناجاة الداخلية فى السرد :
كان " جيرار جنيت " قد وصف هذه الصيغة السردية التكرارية ، بأنها نوع من التواتر الذى يقدم فيه القاص قصة واحدة لما وقع مرات لا نهائيه ( الموت – القرية – النخيل – الترعة – الجوزة و المعسل ) .
فالموت تكرر فى معظم القصص لكن الراوى يقدم كل ذلك فى إشارة واحدة على أنه ما أن تنتهى هذه الصيغة إلا و ينتقل السرد إلى أسلوب المناجاة الداخلية ليتكشف من خلاله موقف البطل من العالم الذى هو فيه .
و اقفل القصص بالسرد الموضوعى الذى تعتبر أداته ضمير الغائب ... و الملاحظة الجديرة بالإشارة هنا أن هذه النصوص المكثفة تستعين بأساليب سردية متنوعة ، توظف بيسر بالغ فى خدمة الحدث و الشخصية و لا يمكن الانتهاء من هذه الوقفة التحليلية الموجزة لمجموعة " الوجوه المصبوغة " للقاص " أحمد الليثى الشرونى " دون الإشادة العامة بها بوصفها نصوصاً قصصية يعد صاخبة بالكثير .
و أحمد الليثى حريص على توصيل أفكاره إلى المتلقى و لذلك ابتعد عن الوقوع فى الأشكال الفنية الغامضة التى تفسد العمل الفنى و ابتعد أيضا عن استخدام الألفاظ و التراكيب المعقدة الغاضمة التى تقف حاجزاً بين المتلقى و بين فهم القصة .
و حرصاً منه على تقديم الجو العام للقصة فإنه يستخدم الألفاظ الأسوانية الدارجة التى لا تستخدم إلا فى الأرياف فنجد " السباخ - الترعة – يا شمس يا شموسة خدى سن الحمار و هاتى سن الغزال – المداس – الزير – دكته الخشبية – ما أثقلك يا ليل على العليل - راح الجنينة يملأ القدح طايب خولى الجنينة قفل على العايق – يا خاله نعيمة – ازيار – البلح طاب – الفلكة – الحصيرة – الخيمة – المصطبة".
إن القصة القصيرة كالقصيدة .. و لذا لجأ " أحمد الليثى " إلى التركيز و التكليف و البعد عن الاستطراد و لذا نجد أسلوبه كثيراً ما يصل إلى اللغة الشعرية بما يحويه من ألفاظ رقيقة و يرجع هذا إلى وضوح الرؤية لأنه قاص مؤمن بالكلمة و رسالتها و لذلك فهو لا يتسرع فى كتابة قصصه و لكن يتأنى فى كتابتها و يظل يراجعها حتى يرضى عنها تماماً .
إن الأديب " أحمد الليثى " يضع يده دائماً على نبض مجتمعه ... يعايش أحداثه و هذا من قيمة الأدباء الحقيقيين الأوفياء .
انتهت
تذكرة
1) شميث " دراسة علمية للسرد الأدبى " – النظرية و التطبيق " ضمن الكتاب الجماعى السميائيات السردية و النصية 0 بيروت – 1973 م
2) التواصل الأدبى " مجلة الفكر العربى المعاصر " بيروت – ترجمة نزار التجدينى ، عدد 46 صيف 1987 ص 51 - 61 .
3) أ 0 إبراهيم سعفان " نظريات نقدية فى القصة القصيرة و الرواية " الهيئة العامة المصرية للكتاب 1985 م .
4) د 0 صلاح فضل ، شفرات النص " بحوث سيميولوجية فى شعرية القص و القصيدة " دار الفكر القاهرة باريز 1990 ص 8
5) د . محمد الهادى الطرابلسى " جمال الكلام و الكلام على الجمال " مجلة علامات فى النقد الأدبى . الجزء الأول المجلد الأول جدة 1991 ص 51 – 59 و المقال نفسه منشور ضمن كتابه تحاليل أسلوبية ( تونس 1992 ) ص 171 – 192 .
** منشور في صحيفة "دنيا الوطن" الفلسطينية 28-6-2007
دراسة نقدية: لقطات نادرة من الحب و الألم و الموت
فى المجموعة القصصية " الوجوه المصبوغة " للأديب الأسوانى: أحمد الليثى الشرونى
بقلم : حسن غريب أحمد
إذا نظرنا فى الساحة الأدبية نجدها زاخرة بأسماء قصاصين من الأدباء الشبان الذين يغزون الحياة الأدبية بإنتاجهم .. فيجددون شبابها و يثيرون فيها النشاط و الحيوية .. و هؤلاء الشبان من الأقاليم أثبتوا قدراتهم الفنية التى تبشر بمستقبل زاهر للقصة ...
فيما كنت أتابع المواهب القصصية الشابة التى تظهر بكثير من الاستحياء ووسط مزيد من الصعاب التى تواجه كل من أختار الأدب وسيلة للتعبير لفتت أنتباهى مجموعة قصصية أسمها " الوجوه المصبوغة " لقاص قرأت له فى الصحف من قبل ألا و هو الأديب المبدع " أحمد الليثى الشرونى " و الصادرة عن إقليم جنوب ووسط الصعيد الثقافى فرع ثقافة أسوان – 2002 م
القاص الشاب " أحمد الليثى " يكتب القصة القصيرة بقدم ثابتة تدل على تمكنه من فن القصة .. بعيداً عن التأثر بالأخرين .. فإنتاجه يحمل سماته الفنية و تفرده و القاص " أحمد الليثى" له فكر و رؤية يوظف فنه لتوصيله إلى المتلقى دون أن يطغى هذا الفكر على الناحية الفنية لأنه يفهم جيداً تلك المعادلة و هى الجمع بين الفن و الفكر دون أن يطغى كل منهما على الأخر و هذه المعادلة تغيب عن بعض أدبائنا عندما يعترضون لقضية فكرية ، لقد استطاع " أحمد الليثى " أن يحفظ التوازن فى قصصه من الهتافية و المباشرة التى توهن العمل أدبياً و فنياً و استنقذها أيضا من الجفاف الفكرى الذى يشعر القارئ بالملل، وعندما نتأمل فى إنتاجه القصصى نجد أنه تناول العديد من الجوانب .
** أولاً : الجانب الفكرى
** ثانياً : الجانب الإجتماعى
** ثالثا : الجانب الإنسانى
و "أحمد الليثى" فى ذلك كله لا يوقف شخصياته موقف المتفرج على الأحداث ، فهى لا خارج الأحداث بل تعيش داخلها بقلبها و عقلها و شخصياته تصور الإنسان بقوته ووهنه و لذلك قد تزل و تسقط و لكن لأنها لم تفقد بعد القوام الأساسى الذى يشكل وجدانها و هو الدين ثم الموت فإنهما ما تلبث أن تعود إلى وعيها و تتخلص من ضعفها و لذلك فهى شخصيات إيجايبة تصطرع مع الحياة لتخرج من هذا الصراع أشد عوذا و أكثر إيماناً وهذه الشخصيات تنبعث تصرفاتها من داخلها نتيجة لتكوينها الثقافى و نتيجة لعاداتها وتقاليدها القروية الموروثة و نتيجة للوجدان الدينى الكامن فى أعماق كل إنسان يصحو فى أوقات الأزمات فينقذ الإنسان ويصحح له مساره الحياتى وما ينم عن ذلك بكل يقين إهداءه فى مطلع مجموعته القصصية و الذى اختص به ضمن ما أختص قريته " الشراونة " و هو يقول :
فى صفحة الإهداء :
" إلى الوجوه الناصعة التى لم تصبغها الأيام بلونها الباهت أهلى و عشيرتى بقريتى " الشراونة " إن ما يميز أعمال " أحمد الليثى " هو اختياره مادة قصصه فهو يستمد من بيئة الصعيد و قريته الشراونة بأسوان تلك البيئة التى يعيش فيها .. ويخالط قراها و لذا نجد العديد من أحداث قصصه تدور فىالقرى و تتناول عاداتها و تقاليدها .. وهو لا يهتم فحسب بتقديم القرية من حيث الشكل العام
( منازل - حقول – طبيعة جغرافية ) ولكنه يهتم بتقديم إنسانها بعقله و قلبه و سليقته المعتادة .
و أهم ما يلفت الانتباه أنه دائماً يرجع إلى الفطرة أو العادات و التقاليد ليجد فيها الخلاص و النجاة و هو لا يقع فى نطاق محلية الأحداث و لكنه ينطلق بها إلى العام الذى يهم الإنسان عامة و يتمثل هذا فى جميع القضايا التى عالجها سواء كانت فكرية أو اجتماعية أو إنسانية و هنا ينجلى إدراك ووعى
"أحمد الليثى" التام لوظيفة القصة القصيرة ومن تخاطبهم .
فإذا نظرنا إلى القصص التى تعالج القضايا الفكرية نجد أنه موقفاً إيجابياً من صناعة الوالدين و تغلغل الموروث الدينى فى أعماقه فبين رأى الإنسان فى القرية و حب الابن لأبيه و أمه و اختياره لإنسان القرية بالذات اختيار للإنسان عامة لآنه يمثل الجانب الفطرى فى الإنسان الذى يرفض الأشياء وفقاً لعادات و تقاليد و مكونات دينية و اجتماعية لعبت دوراً كبيراً فى تشكيلة فهو يقول من خلال شخصياته :
إن الإنسان على أرضنا إنسان له دين يقف حصناً مانعاً لحمايته من السقوط فهو الملجأ الوحيد الذى يلجأ إليه الإنسان عندما يغفو من سبات الانحلال الخلقى أو الفكرى .
ففى قصة " ترحال " يعاقب الوالد الذين كانوا يتلصصون على زوجة طبيب الوحدة و هى ترتدى ملابسها الضيقة من أعلى السور فلقد أصر على ضربهم و ركلهم و استخدم " الفلكة " كذلك – لأن الأدب كان فوق كل شئ .
و تأتى كلمة " كان " من القاص لتنجلى حقيقة مرة بأن هناك أشياء و عوالم تغيرت فى العادات و التقاليد و حدث خلل و عدم توازن فى الحياة الحالية .
و لهذا فبطل القصة يرفض أن يستسلم للأفكار الجديدة و يتمسك باعتقاده الراسخ و الأصيل انحدارا إليه من والده الذى أخذ على نفسه التمسك بكل عادات الآباء و الأجداد .
** التكثيف و الاقتصاد فى اللغة : -
و فى قصة " رائحة " ص 23
.. روح صلى الفجر يا ولدى ، أنا بخير و الحمد لله . نفذت أمره على مضض " الصلاة خير من النوم توضأت و خرجت إلى المسجد المجاور للبيت .
و فى قصة " صورة متأرجحة ص 52 يقول :
" ياتينى صوت المؤذن صافياً و يتداخل معه صوت المؤذن الآخر فيتحطم السكون و يزحف الجميع لأداء صلاة العشاء ، بعد الصلاة بجوار المسجد التقيت بأصدقاء عمر لى " .
تكشف لنا هاتان القصتان عن مهارة خاصته ، ينبغى أن تؤخذ بالاعتبار إنها مهارة التكثيف و الاقتصاد فى اللغة و الحدث الممزوج بالموروث الدينى و العقائدى بالالتزام بالصلاة والتعلق
بالمسجد .
هذه المهارة هى السر فى نشأة القصة القصيرة كنوع سردى فى القرن التاسع عشر و ذلك تعبيراً عن الاحتجاج الصامت تجاه الروايات الطويلة التى تقوم على إسهاب لغوى، و تفصيل ممل للأحداث ، كما هو معروف و شائع فى الرواية الفرنسية و الروسية و الإنجليزية أنذاك .
و على هذا فإننا نتصور، أن قصص الفرنسى موبسان و الامريكى أدجار ألان بو، و الروسى انطون تشبخوف هى التى – باعتمادها على تلك المهارة المشار اليها – و قد وضعت الرواية أمام تحديات جديدة لم تكن مثارة من قبل ، و قد افضى كل ذلك فيما بعد إلى ظهور تقنيات السرد الحديثة ، التى تهدف إلى تخطى مشكلات البناء التقليدى الذى يقتضى الإسهاب فى الوقائع و التصوير اللغوى المعبر عنها .
وذلك ما يمكن ملاحظته فى روايات وليم فولكنر و فرجينا وولف و جيمس جويس، وهى روايات تقوم أساساً على نقض البناء التقليدى و تستبدل به مجموعة من الأبنية الجديدة التى تقوم على تداخل الأزمنة و مستويات السرد و المنظورات و غير ذلك .
و هذه المهارة أبرز ما يمكن ملاحظته فى معظم قصص " أحمد الليثى " إلى درجة جعلتها رواية مقسمة إلى عدة أجزاء مما ينم عن دربه و حنكه القاص فى ترتيب و تبويب قصصه و كأنها قصة واحدة .
و الواقع فإن هذا النص المكثف يختزن عناصر القصة بعمومها، و هو لا يهدف إلى مخادعة المتلقى لأن الحدث ينشق بهدوء وقت الفجر و صلاتها، و سرعان ما ينساب السرد مع حسرة الحداد على الحبيب ، ليكتشف التعارض الحاصل بين زمنين :
الأول : يندفع من الماضى
الثانى : يصور الحاضر الآن
فى هذا الوقت الذى بمقدار ما يوصل بين زمنين هما الليل المنصرم و النهار القادم فإنه يربط بينهما و البطل المجهول – عن القارئ – الذى لا نعرف عنه شيئاً سوى اسمه "اسعد" ووحيد أسرته .. و لكن قدراته وبأسه الذى دفعه مرة آخرى لطلوع النخلة و التضحية بحياته دون أن تعرف عن حياته غير ذلك، وهذا فى قصته " النخلة السكوتى " ص 81
القاص هنا يفضح بتأملاته الصامته عالماً متناقضاً متصلاً بنظام مشبع بالقيم الروحية و المادية، و ليس من الغريب أن يختار القاص المسجد مكاناً لأحداث قصته "رائحة – صورة متأرجحة " ولا الفجر زمناً لتلك الأحداث فهو بذلك يريد أن يظهر التناقض بين مكانين و زمنين ، العالم خارج المسجد و العالم داخله ، و العالم فى نهاية الليل و العالم فى نهاية النهار، وتنتهى القصة بتجمع الناس على خبر مزعج و هو موت والد البطل فى القصة .
** الاتجاه فى مسار الأحداث :
فيما يمضى البطل سامعاً لحناً حزيناً من بعيد، و هذا الاتجاه لمسار الأحداث يضع كل الأشياء فى تعارض واضح فالشخصية الرئيسية التى تنفجر ذكرياتها لحظة دخول المسجد و صلاة الفجر فتستعيد فى لمحة سريعة ذكريات أخرى مؤلمة و هذا يتضح لنا فى قصته " الوجوه المصبوغة " و التى تحمل عنوان المجموعة القصصية .. ص 69 يقول :
" تعرف يا محمود كان الكبير كبير له هيبة و احترام عندنا نحن الصغار ، كان غيطى هو غيطك ، كلنا نزرع و نحصد معاً ، يا سلام كانت أياماً جميلة " .
هنا نجد القاص يتعبد فى نوع من التفرع لاستعاضة الماضى الجميل و يشرك المكان فى تاريخه و ذكرياته فالمكان و الشخصية يتصلان بعصر فى طريقة إلى الإنقضاء، و لا سبيل لسرد تلك النهاية المأساوية .
يقول القاص :
" كلنا خارجين فى التو من المسجد بعد صلاة العصر ، تمرق سيارة فارهة من أمامنا تثير الغبار فيزكم أنوفنا .. "
و هى فى إشارة إلى تغيير جلد " كمال " بعد عودته من العمل فى الخارج و تحكمه فى الناس بهداياه و عطاياه حتى من أرادها وافقوه عليها رغم بلوغه الأربعين بسبب رائحة النفط و دنانيره اللامعة و الثمينة .
** المغزى الدلالى فى القصص :
هنا يرد النص أن يبذر الإحساس بأن هنالك عالما أليفا و مشبعاً بالقيم و الذكريات لكنه مهدد بالزوال بسبب الأموال و تحكمها فى نفوس بعض البشر و مهما حاولنا أن نوقف زحف الزمن الكاسح فلابد من نهاية لكل شئ لأن النص يشعر المتلقى بأنه يأسف على النهاية التى انتهى بها حال قريتهم فذلك إنما يدل على أن عصر التماسك و التلاحم قد انتهى بما فى ذلك القيم المتصلة به، لكنه لما يزل يحن إلى المرحلة المتأصلة للآباء و الأجداد و ينشد القاص عودتها... و هذا هو المغزى الدلالى لعنوان القصة 0
يستعين القاص فى النصوص التى بالمجموعة القصصية بأساليب سردية متنوعة ، منها الوصف المشهدى المحايد الذى يختبئ فيه الراوى العليم و يعرض أوصافه و معلوماته : " بزغ القمر باهتا على هذه القرية التى تبدو كعجوز شمطاء ترتدى ثوباً بالياً، و استطاع أن يبدد ظلمه الغسق التى
حلت "من قصة " الحلم المعبق بدخان البخور " ص 87
لكن هذه الصيغة السردية التقليدية المحايدة تنتهى فجأة، و تحل مكانها صيغة أخرى تعتمد المخاطبة ، و بذلك تبدأ الأحداث بالتطور ثم سرعان ما تحل الصيغة التكرارية للسرد. "ها أنا اقتربت من النور و لكن يبدو أنه يهرب منى مبتعداً .. و لكن ذلك لم يضعف من قوة إرادتى الصلبة و لابد أن الحق به .. وها أنا اقترب من النور ... و مع اقترابه بعد سحيق .. ) قصة " الفجر الهارب " ص 96 0
** المناجاة الداخلية فى السرد :
كان " جيرار جنيت " قد وصف هذه الصيغة السردية التكرارية ، بأنها نوع من التواتر الذى يقدم فيه القاص قصة واحدة لما وقع مرات لا نهائيه ( الموت – القرية – النخيل – الترعة – الجوزة و المعسل ) .
فالموت تكرر فى معظم القصص لكن الراوى يقدم كل ذلك فى إشارة واحدة على أنه ما أن تنتهى هذه الصيغة إلا و ينتقل السرد إلى أسلوب المناجاة الداخلية ليتكشف من خلاله موقف البطل من العالم الذى هو فيه .
و اقفل القصص بالسرد الموضوعى الذى تعتبر أداته ضمير الغائب ... و الملاحظة الجديرة بالإشارة هنا أن هذه النصوص المكثفة تستعين بأساليب سردية متنوعة ، توظف بيسر بالغ فى خدمة الحدث و الشخصية و لا يمكن الانتهاء من هذه الوقفة التحليلية الموجزة لمجموعة " الوجوه المصبوغة " للقاص " أحمد الليثى الشرونى " دون الإشادة العامة بها بوصفها نصوصاً قصصية يعد صاخبة بالكثير .
و أحمد الليثى حريص على توصيل أفكاره إلى المتلقى و لذلك ابتعد عن الوقوع فى الأشكال الفنية الغامضة التى تفسد العمل الفنى و ابتعد أيضا عن استخدام الألفاظ و التراكيب المعقدة الغاضمة التى تقف حاجزاً بين المتلقى و بين فهم القصة .
و حرصاً منه على تقديم الجو العام للقصة فإنه يستخدم الألفاظ الأسوانية الدارجة التى لا تستخدم إلا فى الأرياف فنجد " السباخ - الترعة – يا شمس يا شموسة خدى سن الحمار و هاتى سن الغزال – المداس – الزير – دكته الخشبية – ما أثقلك يا ليل على العليل - راح الجنينة يملأ القدح طايب خولى الجنينة قفل على العايق – يا خاله نعيمة – ازيار – البلح طاب – الفلكة – الحصيرة – الخيمة – المصطبة".
إن القصة القصيرة كالقصيدة .. و لذا لجأ " أحمد الليثى " إلى التركيز و التكليف و البعد عن الاستطراد و لذا نجد أسلوبه كثيراً ما يصل إلى اللغة الشعرية بما يحويه من ألفاظ رقيقة و يرجع هذا إلى وضوح الرؤية لأنه قاص مؤمن بالكلمة و رسالتها و لذلك فهو لا يتسرع فى كتابة قصصه و لكن يتأنى فى كتابتها و يظل يراجعها حتى يرضى عنها تماماً .
إن الأديب " أحمد الليثى " يضع يده دائماً على نبض مجتمعه ... يعايش أحداثه و هذا من قيمة الأدباء الحقيقيين الأوفياء .
انتهت
تذكرة
1) شميث " دراسة علمية للسرد الأدبى " – النظرية و التطبيق " ضمن الكتاب الجماعى السميائيات السردية و النصية 0 بيروت – 1973 م
2) التواصل الأدبى " مجلة الفكر العربى المعاصر " بيروت – ترجمة نزار التجدينى ، عدد 46 صيف 1987 ص 51 - 61 .
3) أ 0 إبراهيم سعفان " نظريات نقدية فى القصة القصيرة و الرواية " الهيئة العامة المصرية للكتاب 1985 م .
4) د 0 صلاح فضل ، شفرات النص " بحوث سيميولوجية فى شعرية القص و القصيدة " دار الفكر القاهرة باريز 1990 ص 8
5) د . محمد الهادى الطرابلسى " جمال الكلام و الكلام على الجمال " مجلة علامات فى النقد الأدبى . الجزء الأول المجلد الأول جدة 1991 ص 51 – 59 و المقال نفسه منشور ضمن كتابه تحاليل أسلوبية ( تونس 1992 ) ص 171 – 192 .
** منشور في صحيفة "دنيا الوطن" الفلسطينية 28-6-2007