تشظي الرائحة.. سلطة المكان.. 2-2
قراءة في رواية «فخاخ الرائحة» ليوسف المحيميد
محمد الدبيسي
لتكون «الرياض» الجامع المكاني البديل لكليهما، بوصف استعاري تشكله المخيلة الروائية، بواقعية تأتلف تفاصيلها، مشرعة اتجاهات شتى.. في قراءة صيرورة الخط السردي في لعبة الحياة..!
«الحياة» التي تجمع طراد والعم توفيق في المستوى الاجتماعي المتقارب، والوصف الوظيفي ومهنيته المذلة، المؤسس على ذلك الرصيد المتشاكل في تفاصيله، والمتشابه حد التوافق الإثني بينهما، فكلا المكانين «صحراء طراد.. وقرية العم توفيق» مرتهن للطبقية العشائرية ونظم تقاليدها وممارساتها، ومستوى القيم الفردية التي تحكمها، وهوان طبقاتها الأدنى، وانسحاقها الضمني في صراعات البقاء والتمركز في موقع القوة، مثلما هي الثقافة الاجتماعية التقليدية المهيمنة، والتوافق الجمعي على التسليم بها والانصياع لفرضياتها.
«فالرياض» تبدو مكاناً يستوعب في «بدانته المزعجة» الأطياف الإنسانية المتنافرة، والتي تتلاقى فيها ضمنا مصائر المعذبين والمطرودين، والباحثين عن المأمول والمتمنَّى..؟
على ان سواحل النيل السوداني، وبوصفها المنصوص عليها سرديا، والذي استوحاه النص بتعبئة تفصيلية، تؤكد ارتهان الإنسان «توفيق» لاشتراطات مكانه وفق بنية مفاهيمية ضاغطة، وتقاليد ثقافية في الحراك الاجتماعي، ومواراة المصنف وفقاً لثقافة بيئية، تفرز «توفيق» دالاً على مخرجات المكان، في بعدها الإنساني الصميم، ومحركاً باتجاه آخر، سياقاً اجتماعياً مهماً، يتمحور حول مسرحية «الرقيق» وجلب العبيد بتلك الممارسة المشوهة، المتخمة بعفن القوة والسلطوية، وانفلاتها من نظم التعامل الإنساني..!
مثلما جسَّدها النص الروائي في تكنيك حدثي متقن، يؤول إلى الإفضاء بمشهدية حياتية، تبرز عناصرها بشاعة سلطة القوة والتنصل من الشرط الأخلاقي، مما يفصح عن تمايز عناصر الدلالة الروائية بمؤشراتها الرمزية، إلى خلق العلاقة العضوية بين تلك السلطة التي انتجت «توفيق» وفحوى ممارسة «طراد» اللصوصية، والمعبر عنها نصيا بلفظتها المائزة، والمحتكمة لرصيدها الذهني والبيئي «الحنشل».. والتناسب الفعلي لمحركات القوة في كلا النموذجين، ينتج عن القابلية البيئية ونظامها التعاملي وحركتها الاجتماعية وتمايز طبقاتها، مما يصبغ المستوى التعاملي في تشكيلتها باللون الإنساني المهيض، الذي يمثله «طراد وتوفيق»، فما يصر الضمير السردي على الإفصاح عنه أحيانا، أو مواراته ضمناً بالوقائع المشهدية، هو تناغم القوة وتسلطها واللصوصية، ومرجعيتها في الثقافة البيئية، كدوال على تلاقي المصائر الإنسانية بالرغم من أمكنتها المتباعدة..!
الرائحة
وإن اختلفت التفاصيل المشهدية بمسبِّباتها ومعطياتها دلالياً، بين «طراد وتوفيق» فإن محصلتها الواقعية النصية، تؤول إلى النهاية كناتج دلالي وهي «الرياض» محطة الالتقاء القدري بين البطلين..
وهو ما يؤسس لنقطة الالتقاء الثانية «الرائحة»، العلاقة الرمزية لدلالة النص المركزية والمستلة من العنوان «فخاخ الرائحة».
فرائحة الشحمة لتوفيق، تترع في افضاءاتها الدلالية، إلى تماس امتزاجي لرائحة التراب المعفر بالبول لطراد..
وهو ما تبتنيه العلاقة السردية بين البطلين، ليستثمر النص نواتيهما الدلالية، فضاء تشكل منه سيميوطيقا الرائحة علاقات عدة، تحيل إلى تكثيف عنصر الرائحة، وتحويله إلى مهمز سردي، يفضي إلى استطرادات نصية تشكل الرائحة عنصرها الأهم في مسار الأحداث.
عندما تتشظَّى الرائحة في الحكاية، إلى حقول دلالية تشير إلى بعدها الإشاري في العنوان:
«وقد تضمخ شاربه الكثيف برائحة المايونيز بعد قضمتين من الشاورما» ص20
و«الهلال في الأفق مثل صاحب رقيق لامرأة نائمة، تهادت رائحة الإبل، وكأنها قطيع في الصحراء، حتى شارفت الرائحة الصخرة وغزت أنف طراد» ص68
و«أخ.. يا توفيق أنت غُرِّرت بل الرائحة رائحة الشحم المشوي فوقعت في فخ الجلابة وباعوك في سوق شندي ثم غُرِّرت بل الرائحة ثانية، بعد أن دوَّخت رأسك برائحة المخدر، فسقطت في الغيبوبة، لتستيقظ بعد أن فقدت رجولتك!! أنا أيضاً يا عم توفيق رائحة الإبل غررت بي، فوقعت في قبضة المسافرين العابرين الحجاج» ص71 «تلك الرائحة الزكية، رائحة العطر النسائي الحادة أدارت رأس أبيك يا ناصر اللقيط..» ص85
«تصاحبه أحلام وكوابيس مرعبة، وتطوف حوله رائحة الشيشة المنبعثة من المقاهي الشعبية خارج البلد» ص92
لتعطي الرائحة في تبايناتها في سياقنا القرائي هذا، وعلى هذا الوصف الاستشهادي بعداً إشارياً، تتأسس عليه الرائحة، الفكرة المدهشة في إثباتاتها السردية، وفقاً لحقيقتها الدلالية، مكونة فخاخ الحدث ومصائد صيرورته ومفارق تحوله من دلالة إلى أخرى. فهي «الرائحة» المتوالية النصية المتكررة «تسع وثلاثون» مرة، وفي انتظام موضوعي لعلاقتها العضوية بالمكان والفاعل السردي، مما يعني إمكانات تحولها جذراً ذا قيمة دلالية، وباعثاً لها، كفعل للحاسة تتحول إلى ممارسة حالية، تفترض قيمتها تلك، في الإجراء السردي، كمائن تتلاقى بمكونها الرئيسي، واتصال مفاهيمي في البنية الروائية، تآلف بين الصياغة الاسلوبية والجذر الدلالي، المحقق لإشاريتها المرتهنة للعنوان، كهوية للنص وإجمال لتفصيلاته.
إن «رائحة الشحمة المشوية ورائحة التراب المعفر بالبول»، تكونان ظلال المصير وتؤسسان أولى خطواته، مصير البطلين، بانتقالهما من مستوى فعل الحاسة «الشم» إلى فعل التحول والتغيير صوب واقع ومصير جديدين.
وهما الإشارة المؤلمة التي تنقدح تفاصيلها في الذاكرة، كلما خطا أحد البطلين على جمرة الواقع الجديد، فعلى مستوى الإجراء النصي تتكرر حكاية هاتين الرائحتين بإحالتهما إلى الحكاية الأولى، مما يحول هذه الأولية إلى نواة دلالية، تتوالد من الأحداث وتشيع الروائح الأخرى، بما انها اختزال فني يتكئ على دلالة رمزية للرائحة كناتج اطرادي للحاسة، وفعل سردي، يلوّن البنية النصية ويتقاطع معها على نحو مكثف، يتعاطى البطلان ممكناته في حدود جغرافيا النص وأماكن انوجاده.
وهو ما يجعل سيميوطيقا «الرائحة» تتخذ بعداً نسقياً يستقيم مع بنية الصياغة العامة، دون أن يفرغ محتواها من القدرة على الالتقاء العضوي، المتماس مع محركات الدلالة، الناتجة من الحوارات المتبادلة بين الشخصيات، التي تأخذ طابعاً سجالياً أحياناً تقلقه أسئلة المصير..؟
وأحياناً أخرى تتمثل ببيان التداعي المنولوجي، المندلق من «طراد» بحميمية مسكونة بوجع التفاصيل الأولى، التي تقوده إلى قصة الصحراء، وعوالمها «الحنشل» واستيهام البحث عن دور بطولي لشخصية فقدت في يقينها، القدرة على اثبات الذات..!
وهو ما يحيل إلى قدرة الكاتب على تقنين إمكانات الوظائف السردية، لفصول الرواية في شخصياتها الرئيسية، فتكثيف وغنى عناوين الفصول، يتأسس على وعي بالقيمة الدلالية للجملة في السرد الروائي، وحقنها بالإشارة الجمالية وحسها الشعري، المتناغم مع المضمون التفصيلي لكل فصل، ولعل «بطولة الذئب» الفصل الأخير يعبر عن شيء من هذا الزعم، بقدرته على اختراق فضاء الصحراء، وتوظيف تفاصيلها ودلالتها الشعورية المنعكسة على «طراد» الذي يعيد نسج تلك اللحظات المميتة من أدوار الصراع، والتي تفضي في نهايتها إلى «الرائحة» التي سار خلفها ملاذا، لتنقذه من الموت بأنياب الذئب، إلى عذابات الواقع الجديد الذي ينكأه مشهد الإحساس بأذنه المقطوعة..!
وتتشاكل «الرائحة»، وفق المجتزءات النصية التي أوردناها سابقاً، لتشير إلى مفاصل دلالية، تجعل تلك الروائح، علامة وعي البطلين على ارتكاسات الحلم بالخلاص، جاعلة من دلالتها الجزئية، تفريعاً ضمنياً يشتمل المعنى المحدد المنصوص عليه جزئياً، والتحامها عضوياً بالدلالة الكلية «للرائحة» كمحرك دلالي يستفز حديثه التداعي على الحضور المفاجئ، والمفضي إلى الصيغة الحكائية الأولى، واضماراتها النفسية وتفاصيلها المكانية المسرودة..!
لتظل الرائحة.. فضاءات زمنية، متماسة بإشاراتها الدلالية إلى النسيج الوجودي للبطلين، وإن كان «طراد» يمثل موقفاً محورياً يتفرع عنه «العم توفيق» فإن تآلفهما العضوي في صياغة السرد، والتنويع المتجانس في الحقول الدلالية الأخرى؛ يمنح الرائحة قدرة تثوير الجذر الدلالي لها، بالنظر إلى الدلالة النهائية بحسب تراتبها الحكائي في الرواية، وليس بطبيعتها النسقية التي تتوافر عليها الكتابة الروائية، وهي الاستراتيجية التي اعتمدها الكاتب كسياق نظمي للتدوين.
وفي إحالة «الرائحة» للمكان المرتكز الوجودي لتعالق اللعبة الكتابية، ما بين انوجادها كسيرة للبطل، وإمكان تجسيدها للمكان، كهوية ثقافية بخصوصياتها الاجتماعية، وتفاصيل علاماتها الفارقة، على البيئة المستقلة في اعتباراتها العامة، واستيلادها للبيئة الأخرى، التي ينجز النص تفاصيلها بالقدر المعبر عن فحواها الاعتبارية. فالمكان بالوصف الذي عبر عنه السرد، يتشكل وفق جمالية تعتمد على التكتيك الروائي، في مستواه الكتابي الظاهر، ونظام السياق الروائي كوحدات فصلية. فمن المكان الثاني «الرياض» تبدأ الحكاية وصولاً إلى المكان الأول «الصحراء» وهو ما نتج عنه علاقة اتصال لاتستبان فروقاتها بأثرها العكسي إلى الشخصية الأولى «طراد»..
ومن المكان الأول «السودان» إلى المكان الثاني «الرياض» للشخصية الثانية «العم توفيق».. وهو ما تكون الرياض معه مكان المصير والمشهد الأكثر قابلية للاحتواء.. واستيعاب المتناقضات.
فهو المكان الحاضن لتلك البانوراما من النماذج الإنسانية، في حال اشتباكها وتآلفها وبحثها عن نافذة الخلاص من عذابها الذاتي، وشعورها بالنقص الذي تستفزه أمثلة النماذج الإنسانية المكتملة الأعضاء، والتي يجبرها الواقع الاجتماعي، على الاحتكاك بها والتعامل معها.
الفاعل السردي..
يأخذ الفاعل السردي وفقاً للمخطط الدلالي المثبت في بداية هذه القراءة، تفريعه طبقا لشخصية البطلين كمحورين محفزين على توالي عناصر الحكاية وسياقاتها، وفقاً للنظام الكتابي الذي اعتمده الكاتب، بحيث لا يتوالى متسلسلاً بطابع تتابعي «كرنولوجي» بل تقويض لهذا النظام، يبرز من خلاله ما تسميه أمينة رشيد جماليات التشظي إذ «التقطيع؛ بمعنى التشذر السردي تقنية أدبية ورؤية للعالم، تبدو هذه التقنية حديثة إذ انها تمثل تمزق وحدة الرواية التي أنجزت في العقود الذهبية للرواية الواقعية والطبيعية» «2»
وهو ما تقوم عليه هذه الرواية، بجملة تقاطعات بنيتها، وانفلاتها من العلاقات النمطية المتراكمة في إنتاج الدلالة، أو تفاقم مراحل التوتر، بحيث تنقاد الأنا الرواية عبر التباساتها بالأبطال، والكاتب، إلى نظام استعادي عكسي، حيث يبدأ النص من النهاية وصولاً إلى بداياتها.. باسترجاع خطوط الحكاية وسيرة البطلين، وتشظِّي الأحداث المرتهنة لأولوية دلالية، تتمركز حقولها على المشهد الحكائي، وتتلاقى بفضاءات تشكلها الحدثي.. المازج بين بيئتين مختلفتين، يوحدهما الماضي بملابساته، مثلما توحدهما عاهة الفقد، والبحث عن الخلاص، والاستسلام لصوت القدر وإملاءات الواقع المفروض..! ليكون «المكان/ الرياض» وحدة الالتقاء، التي يتشظى منها المختزل السردي للبطلين ومقاطع حياتهما داخل إطار «الرائحة» بوصفها مستوى دلالياً لبنية العلاقة الأولى، التي تعطي العمل هويته الاعتبارية. «فطراد» الذي بدأ معركة حياته في الصحراء، التي «يحدد المجتمع الضروري من الناحية السردية وجهة نظر الشخصيات التي تعيش فيه، إنها الشخصيات موجودة على حافة الحياة دائماً، وكأنها في صراع أبدي مع الموت. لا وقت لديها للتفكير إلا بما يحفظ استمرار حياتها ويحضنها من مواجهة الفناء. كل شيء في المجتمع الصحراوي آكل أم مأكول، وكل شخص فيه قاتل أو قتيل حياة أو موت..» «3» وهي الجدلية التي عاشها «طراد» بطرفيها، فموت صديقه ونجاته في ذلك المشهد المأساوي، التي تستوحيه الرواية في فصلها الأخير.. واستبانتها لعالم الصحراء ووحشة الهواجس التي يعبر عنها «طراد» بترك فضاء الفاعلية السردية متاحاً أمام البطلين، ليقاوم طراد ذكرى الموت الماضي، وأسى الحياة الحاضر المستديم معه والذي يلح عليه دائماً كلما تحسس أذنه المقطوعة.. ليبتني ذلك الإحساس الموجع مساراته متماهياً بذلك الحاضر، وبحثاً عن ملاذ ينسيه تبعات ذلك الموقف الذي يقوده إلى الرياض «المكان الأليف»..! أو هكذا تصوره لحظة يأس.. بينما تلح حقيقته على انه مهرب من عقدة النقص ولعنة «الرائحة» التي توقعه «بالعم توفيق»..!
وتتمظهر الفاعلية السردية في مستوى آخر عبر تلاقي طرفيها الرئيسين «طراد وتوفيق» ومنها تبدأ تشعبات السرد في إفراز شخصيات ثانوية وأمكنة هامشية، يعبران منها إلى مشهد الحكاية، بدءا من تداعيات فعل التذكر والاسترجاع واشتراطاته المكانية، بالقدر الذي يحيل فعل التذكر إلى صياغة سردية، تحتوي مشاهدها المكانية تفصيلاتها الحديثة، واستدعاءاتها للشخصيات الثانوية الحاضرة، بعنصر اشتراكها في تشكيل فضاء البطل، وهو ما يتم في الفضاء الجمالي الذي تترسمه الكتابة في نطاقاتها السردية، المحبوكة بلغة توظف عناصرها الصوتية وإمكاناتها الدلالية بعامة، لإكمال النسيج الوصفي وتعبئته بطاقة اللغة كناقل إبداعي وثوقي لسيرة البطلين، ولا سيما والمشاهد السردية تستنطق بيئتين متغايرتين، تتطلبان إلماماً بثقافتهما، والصوت الداخلي لمحركاتهما المجتمعية، والرصيد الذهني لهما في ذائقة التلقي.
وهو ما أفضى بالكاتب إلى تحويل بنية المسارات الروائية، إلى نسق كتابي متشابك في نسيجه الصياغي، مقوضاً تصاعده الأفقي إلى تشعبات في المشهد بكل اتجاهاته، وارتدادات إلى نسق يعتمد الأثر الدلالي المنفلت من التراتب الطبيعي، إلى تنويعات متشاكلة توحدها الدلالة السردية، كبنية نظمية تستوجد فضاءها الخاص، وفقاً لهوية النص الدلالية وبؤر توتراته المفصلية، التي تتقاسمها الفصول الروائية.. وتحكم الطاقة الكتابية تفاعلاتها في إطار الفضاء الدلالي.
ونلمس ثمة تنويعاً في نظام الصياغة اللغوية، ما بين جماليات الايحاء الدلالي في المقاطع الوصفية، الناصة على تأمل وتمثل المكان وترتيب موجوداته، لإنجاز علاماته الفارقة المؤسسة لهويته والممثلة لطابعه البيئي، وبين التراكيب الدلالية التي يمثلها فعل التداعي وكتابة هواجس البطل، في توالي رسم عوالمها التخيلية، واستعادة تكويناتها المتسربة من الذاكرة..!
بينما تماست لغة الحوار، في نظام يقدم التركيبة النفسية للشخصيات، ويوائم بينها وبين الدال المقصود.. وكذلك اختيار الأسماء التي تحيل إلى بيئات مختلفة، حيث يطلق الاسم الإشارة الرمزية الكاملة لبيئة المسمى وثقافته، وهي المسافات النصية التي تتكامل مع البنى السردية وتؤصل فنية دلالتها.
إن «فخاخ الرائحة».. وهي تنحو إلى قراءة النسيج الواقعي للمكان وتفتق منه سببيا علاقته بمكان آخر.. وتستجمع طاقة جمالية وصفية للمكانين، وتبحث في تفاصيلهما غير المرئية، والمنسحقة في عوالم الحراك المجتمعي، محاولة ربط فضائهما الإنساني، بشخصيته المندغمة في النسيج اليومي للمجتمعات العربية، إنما تقارب في مفاصلها الدلالية، ذلك النسغ الداخلي للمكان/ والمكان المختلف، عبر رؤية سردية تستوجد استحقاقاتها القيمية.. من سبرها لعوالم المكان وتجلياته على النموذج الإنساني.
الهوامش والإحالات
1 يوسف المحيميد، فخاخ الرائحة، رواية صادرة عن رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 2003م.
2 د. أمينة رشيد، تشظي الزمن في الرواية الحديثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى عام 1998م ص124.
3 سعيد الغانمي، ملحمة الحدود القصوى الخيال الصحراوي في أدب إبراهيم الكوني، المركز الثقافي العربي.. بيروت، الطبعة الأولى 2000م ص14.
قراءة في رواية «فخاخ الرائحة» ليوسف المحيميد
محمد الدبيسي
لتكون «الرياض» الجامع المكاني البديل لكليهما، بوصف استعاري تشكله المخيلة الروائية، بواقعية تأتلف تفاصيلها، مشرعة اتجاهات شتى.. في قراءة صيرورة الخط السردي في لعبة الحياة..!
«الحياة» التي تجمع طراد والعم توفيق في المستوى الاجتماعي المتقارب، والوصف الوظيفي ومهنيته المذلة، المؤسس على ذلك الرصيد المتشاكل في تفاصيله، والمتشابه حد التوافق الإثني بينهما، فكلا المكانين «صحراء طراد.. وقرية العم توفيق» مرتهن للطبقية العشائرية ونظم تقاليدها وممارساتها، ومستوى القيم الفردية التي تحكمها، وهوان طبقاتها الأدنى، وانسحاقها الضمني في صراعات البقاء والتمركز في موقع القوة، مثلما هي الثقافة الاجتماعية التقليدية المهيمنة، والتوافق الجمعي على التسليم بها والانصياع لفرضياتها.
«فالرياض» تبدو مكاناً يستوعب في «بدانته المزعجة» الأطياف الإنسانية المتنافرة، والتي تتلاقى فيها ضمنا مصائر المعذبين والمطرودين، والباحثين عن المأمول والمتمنَّى..؟
على ان سواحل النيل السوداني، وبوصفها المنصوص عليها سرديا، والذي استوحاه النص بتعبئة تفصيلية، تؤكد ارتهان الإنسان «توفيق» لاشتراطات مكانه وفق بنية مفاهيمية ضاغطة، وتقاليد ثقافية في الحراك الاجتماعي، ومواراة المصنف وفقاً لثقافة بيئية، تفرز «توفيق» دالاً على مخرجات المكان، في بعدها الإنساني الصميم، ومحركاً باتجاه آخر، سياقاً اجتماعياً مهماً، يتمحور حول مسرحية «الرقيق» وجلب العبيد بتلك الممارسة المشوهة، المتخمة بعفن القوة والسلطوية، وانفلاتها من نظم التعامل الإنساني..!
مثلما جسَّدها النص الروائي في تكنيك حدثي متقن، يؤول إلى الإفضاء بمشهدية حياتية، تبرز عناصرها بشاعة سلطة القوة والتنصل من الشرط الأخلاقي، مما يفصح عن تمايز عناصر الدلالة الروائية بمؤشراتها الرمزية، إلى خلق العلاقة العضوية بين تلك السلطة التي انتجت «توفيق» وفحوى ممارسة «طراد» اللصوصية، والمعبر عنها نصيا بلفظتها المائزة، والمحتكمة لرصيدها الذهني والبيئي «الحنشل».. والتناسب الفعلي لمحركات القوة في كلا النموذجين، ينتج عن القابلية البيئية ونظامها التعاملي وحركتها الاجتماعية وتمايز طبقاتها، مما يصبغ المستوى التعاملي في تشكيلتها باللون الإنساني المهيض، الذي يمثله «طراد وتوفيق»، فما يصر الضمير السردي على الإفصاح عنه أحيانا، أو مواراته ضمناً بالوقائع المشهدية، هو تناغم القوة وتسلطها واللصوصية، ومرجعيتها في الثقافة البيئية، كدوال على تلاقي المصائر الإنسانية بالرغم من أمكنتها المتباعدة..!
الرائحة
وإن اختلفت التفاصيل المشهدية بمسبِّباتها ومعطياتها دلالياً، بين «طراد وتوفيق» فإن محصلتها الواقعية النصية، تؤول إلى النهاية كناتج دلالي وهي «الرياض» محطة الالتقاء القدري بين البطلين..
وهو ما يؤسس لنقطة الالتقاء الثانية «الرائحة»، العلاقة الرمزية لدلالة النص المركزية والمستلة من العنوان «فخاخ الرائحة».
فرائحة الشحمة لتوفيق، تترع في افضاءاتها الدلالية، إلى تماس امتزاجي لرائحة التراب المعفر بالبول لطراد..
وهو ما تبتنيه العلاقة السردية بين البطلين، ليستثمر النص نواتيهما الدلالية، فضاء تشكل منه سيميوطيقا الرائحة علاقات عدة، تحيل إلى تكثيف عنصر الرائحة، وتحويله إلى مهمز سردي، يفضي إلى استطرادات نصية تشكل الرائحة عنصرها الأهم في مسار الأحداث.
عندما تتشظَّى الرائحة في الحكاية، إلى حقول دلالية تشير إلى بعدها الإشاري في العنوان:
«وقد تضمخ شاربه الكثيف برائحة المايونيز بعد قضمتين من الشاورما» ص20
و«الهلال في الأفق مثل صاحب رقيق لامرأة نائمة، تهادت رائحة الإبل، وكأنها قطيع في الصحراء، حتى شارفت الرائحة الصخرة وغزت أنف طراد» ص68
و«أخ.. يا توفيق أنت غُرِّرت بل الرائحة رائحة الشحم المشوي فوقعت في فخ الجلابة وباعوك في سوق شندي ثم غُرِّرت بل الرائحة ثانية، بعد أن دوَّخت رأسك برائحة المخدر، فسقطت في الغيبوبة، لتستيقظ بعد أن فقدت رجولتك!! أنا أيضاً يا عم توفيق رائحة الإبل غررت بي، فوقعت في قبضة المسافرين العابرين الحجاج» ص71 «تلك الرائحة الزكية، رائحة العطر النسائي الحادة أدارت رأس أبيك يا ناصر اللقيط..» ص85
«تصاحبه أحلام وكوابيس مرعبة، وتطوف حوله رائحة الشيشة المنبعثة من المقاهي الشعبية خارج البلد» ص92
لتعطي الرائحة في تبايناتها في سياقنا القرائي هذا، وعلى هذا الوصف الاستشهادي بعداً إشارياً، تتأسس عليه الرائحة، الفكرة المدهشة في إثباتاتها السردية، وفقاً لحقيقتها الدلالية، مكونة فخاخ الحدث ومصائد صيرورته ومفارق تحوله من دلالة إلى أخرى. فهي «الرائحة» المتوالية النصية المتكررة «تسع وثلاثون» مرة، وفي انتظام موضوعي لعلاقتها العضوية بالمكان والفاعل السردي، مما يعني إمكانات تحولها جذراً ذا قيمة دلالية، وباعثاً لها، كفعل للحاسة تتحول إلى ممارسة حالية، تفترض قيمتها تلك، في الإجراء السردي، كمائن تتلاقى بمكونها الرئيسي، واتصال مفاهيمي في البنية الروائية، تآلف بين الصياغة الاسلوبية والجذر الدلالي، المحقق لإشاريتها المرتهنة للعنوان، كهوية للنص وإجمال لتفصيلاته.
إن «رائحة الشحمة المشوية ورائحة التراب المعفر بالبول»، تكونان ظلال المصير وتؤسسان أولى خطواته، مصير البطلين، بانتقالهما من مستوى فعل الحاسة «الشم» إلى فعل التحول والتغيير صوب واقع ومصير جديدين.
وهما الإشارة المؤلمة التي تنقدح تفاصيلها في الذاكرة، كلما خطا أحد البطلين على جمرة الواقع الجديد، فعلى مستوى الإجراء النصي تتكرر حكاية هاتين الرائحتين بإحالتهما إلى الحكاية الأولى، مما يحول هذه الأولية إلى نواة دلالية، تتوالد من الأحداث وتشيع الروائح الأخرى، بما انها اختزال فني يتكئ على دلالة رمزية للرائحة كناتج اطرادي للحاسة، وفعل سردي، يلوّن البنية النصية ويتقاطع معها على نحو مكثف، يتعاطى البطلان ممكناته في حدود جغرافيا النص وأماكن انوجاده.
وهو ما يجعل سيميوطيقا «الرائحة» تتخذ بعداً نسقياً يستقيم مع بنية الصياغة العامة، دون أن يفرغ محتواها من القدرة على الالتقاء العضوي، المتماس مع محركات الدلالة، الناتجة من الحوارات المتبادلة بين الشخصيات، التي تأخذ طابعاً سجالياً أحياناً تقلقه أسئلة المصير..؟
وأحياناً أخرى تتمثل ببيان التداعي المنولوجي، المندلق من «طراد» بحميمية مسكونة بوجع التفاصيل الأولى، التي تقوده إلى قصة الصحراء، وعوالمها «الحنشل» واستيهام البحث عن دور بطولي لشخصية فقدت في يقينها، القدرة على اثبات الذات..!
وهو ما يحيل إلى قدرة الكاتب على تقنين إمكانات الوظائف السردية، لفصول الرواية في شخصياتها الرئيسية، فتكثيف وغنى عناوين الفصول، يتأسس على وعي بالقيمة الدلالية للجملة في السرد الروائي، وحقنها بالإشارة الجمالية وحسها الشعري، المتناغم مع المضمون التفصيلي لكل فصل، ولعل «بطولة الذئب» الفصل الأخير يعبر عن شيء من هذا الزعم، بقدرته على اختراق فضاء الصحراء، وتوظيف تفاصيلها ودلالتها الشعورية المنعكسة على «طراد» الذي يعيد نسج تلك اللحظات المميتة من أدوار الصراع، والتي تفضي في نهايتها إلى «الرائحة» التي سار خلفها ملاذا، لتنقذه من الموت بأنياب الذئب، إلى عذابات الواقع الجديد الذي ينكأه مشهد الإحساس بأذنه المقطوعة..!
وتتشاكل «الرائحة»، وفق المجتزءات النصية التي أوردناها سابقاً، لتشير إلى مفاصل دلالية، تجعل تلك الروائح، علامة وعي البطلين على ارتكاسات الحلم بالخلاص، جاعلة من دلالتها الجزئية، تفريعاً ضمنياً يشتمل المعنى المحدد المنصوص عليه جزئياً، والتحامها عضوياً بالدلالة الكلية «للرائحة» كمحرك دلالي يستفز حديثه التداعي على الحضور المفاجئ، والمفضي إلى الصيغة الحكائية الأولى، واضماراتها النفسية وتفاصيلها المكانية المسرودة..!
لتظل الرائحة.. فضاءات زمنية، متماسة بإشاراتها الدلالية إلى النسيج الوجودي للبطلين، وإن كان «طراد» يمثل موقفاً محورياً يتفرع عنه «العم توفيق» فإن تآلفهما العضوي في صياغة السرد، والتنويع المتجانس في الحقول الدلالية الأخرى؛ يمنح الرائحة قدرة تثوير الجذر الدلالي لها، بالنظر إلى الدلالة النهائية بحسب تراتبها الحكائي في الرواية، وليس بطبيعتها النسقية التي تتوافر عليها الكتابة الروائية، وهي الاستراتيجية التي اعتمدها الكاتب كسياق نظمي للتدوين.
وفي إحالة «الرائحة» للمكان المرتكز الوجودي لتعالق اللعبة الكتابية، ما بين انوجادها كسيرة للبطل، وإمكان تجسيدها للمكان، كهوية ثقافية بخصوصياتها الاجتماعية، وتفاصيل علاماتها الفارقة، على البيئة المستقلة في اعتباراتها العامة، واستيلادها للبيئة الأخرى، التي ينجز النص تفاصيلها بالقدر المعبر عن فحواها الاعتبارية. فالمكان بالوصف الذي عبر عنه السرد، يتشكل وفق جمالية تعتمد على التكتيك الروائي، في مستواه الكتابي الظاهر، ونظام السياق الروائي كوحدات فصلية. فمن المكان الثاني «الرياض» تبدأ الحكاية وصولاً إلى المكان الأول «الصحراء» وهو ما نتج عنه علاقة اتصال لاتستبان فروقاتها بأثرها العكسي إلى الشخصية الأولى «طراد»..
ومن المكان الأول «السودان» إلى المكان الثاني «الرياض» للشخصية الثانية «العم توفيق».. وهو ما تكون الرياض معه مكان المصير والمشهد الأكثر قابلية للاحتواء.. واستيعاب المتناقضات.
فهو المكان الحاضن لتلك البانوراما من النماذج الإنسانية، في حال اشتباكها وتآلفها وبحثها عن نافذة الخلاص من عذابها الذاتي، وشعورها بالنقص الذي تستفزه أمثلة النماذج الإنسانية المكتملة الأعضاء، والتي يجبرها الواقع الاجتماعي، على الاحتكاك بها والتعامل معها.
الفاعل السردي..
يأخذ الفاعل السردي وفقاً للمخطط الدلالي المثبت في بداية هذه القراءة، تفريعه طبقا لشخصية البطلين كمحورين محفزين على توالي عناصر الحكاية وسياقاتها، وفقاً للنظام الكتابي الذي اعتمده الكاتب، بحيث لا يتوالى متسلسلاً بطابع تتابعي «كرنولوجي» بل تقويض لهذا النظام، يبرز من خلاله ما تسميه أمينة رشيد جماليات التشظي إذ «التقطيع؛ بمعنى التشذر السردي تقنية أدبية ورؤية للعالم، تبدو هذه التقنية حديثة إذ انها تمثل تمزق وحدة الرواية التي أنجزت في العقود الذهبية للرواية الواقعية والطبيعية» «2»
وهو ما تقوم عليه هذه الرواية، بجملة تقاطعات بنيتها، وانفلاتها من العلاقات النمطية المتراكمة في إنتاج الدلالة، أو تفاقم مراحل التوتر، بحيث تنقاد الأنا الرواية عبر التباساتها بالأبطال، والكاتب، إلى نظام استعادي عكسي، حيث يبدأ النص من النهاية وصولاً إلى بداياتها.. باسترجاع خطوط الحكاية وسيرة البطلين، وتشظِّي الأحداث المرتهنة لأولوية دلالية، تتمركز حقولها على المشهد الحكائي، وتتلاقى بفضاءات تشكلها الحدثي.. المازج بين بيئتين مختلفتين، يوحدهما الماضي بملابساته، مثلما توحدهما عاهة الفقد، والبحث عن الخلاص، والاستسلام لصوت القدر وإملاءات الواقع المفروض..! ليكون «المكان/ الرياض» وحدة الالتقاء، التي يتشظى منها المختزل السردي للبطلين ومقاطع حياتهما داخل إطار «الرائحة» بوصفها مستوى دلالياً لبنية العلاقة الأولى، التي تعطي العمل هويته الاعتبارية. «فطراد» الذي بدأ معركة حياته في الصحراء، التي «يحدد المجتمع الضروري من الناحية السردية وجهة نظر الشخصيات التي تعيش فيه، إنها الشخصيات موجودة على حافة الحياة دائماً، وكأنها في صراع أبدي مع الموت. لا وقت لديها للتفكير إلا بما يحفظ استمرار حياتها ويحضنها من مواجهة الفناء. كل شيء في المجتمع الصحراوي آكل أم مأكول، وكل شخص فيه قاتل أو قتيل حياة أو موت..» «3» وهي الجدلية التي عاشها «طراد» بطرفيها، فموت صديقه ونجاته في ذلك المشهد المأساوي، التي تستوحيه الرواية في فصلها الأخير.. واستبانتها لعالم الصحراء ووحشة الهواجس التي يعبر عنها «طراد» بترك فضاء الفاعلية السردية متاحاً أمام البطلين، ليقاوم طراد ذكرى الموت الماضي، وأسى الحياة الحاضر المستديم معه والذي يلح عليه دائماً كلما تحسس أذنه المقطوعة.. ليبتني ذلك الإحساس الموجع مساراته متماهياً بذلك الحاضر، وبحثاً عن ملاذ ينسيه تبعات ذلك الموقف الذي يقوده إلى الرياض «المكان الأليف»..! أو هكذا تصوره لحظة يأس.. بينما تلح حقيقته على انه مهرب من عقدة النقص ولعنة «الرائحة» التي توقعه «بالعم توفيق»..!
وتتمظهر الفاعلية السردية في مستوى آخر عبر تلاقي طرفيها الرئيسين «طراد وتوفيق» ومنها تبدأ تشعبات السرد في إفراز شخصيات ثانوية وأمكنة هامشية، يعبران منها إلى مشهد الحكاية، بدءا من تداعيات فعل التذكر والاسترجاع واشتراطاته المكانية، بالقدر الذي يحيل فعل التذكر إلى صياغة سردية، تحتوي مشاهدها المكانية تفصيلاتها الحديثة، واستدعاءاتها للشخصيات الثانوية الحاضرة، بعنصر اشتراكها في تشكيل فضاء البطل، وهو ما يتم في الفضاء الجمالي الذي تترسمه الكتابة في نطاقاتها السردية، المحبوكة بلغة توظف عناصرها الصوتية وإمكاناتها الدلالية بعامة، لإكمال النسيج الوصفي وتعبئته بطاقة اللغة كناقل إبداعي وثوقي لسيرة البطلين، ولا سيما والمشاهد السردية تستنطق بيئتين متغايرتين، تتطلبان إلماماً بثقافتهما، والصوت الداخلي لمحركاتهما المجتمعية، والرصيد الذهني لهما في ذائقة التلقي.
وهو ما أفضى بالكاتب إلى تحويل بنية المسارات الروائية، إلى نسق كتابي متشابك في نسيجه الصياغي، مقوضاً تصاعده الأفقي إلى تشعبات في المشهد بكل اتجاهاته، وارتدادات إلى نسق يعتمد الأثر الدلالي المنفلت من التراتب الطبيعي، إلى تنويعات متشاكلة توحدها الدلالة السردية، كبنية نظمية تستوجد فضاءها الخاص، وفقاً لهوية النص الدلالية وبؤر توتراته المفصلية، التي تتقاسمها الفصول الروائية.. وتحكم الطاقة الكتابية تفاعلاتها في إطار الفضاء الدلالي.
ونلمس ثمة تنويعاً في نظام الصياغة اللغوية، ما بين جماليات الايحاء الدلالي في المقاطع الوصفية، الناصة على تأمل وتمثل المكان وترتيب موجوداته، لإنجاز علاماته الفارقة المؤسسة لهويته والممثلة لطابعه البيئي، وبين التراكيب الدلالية التي يمثلها فعل التداعي وكتابة هواجس البطل، في توالي رسم عوالمها التخيلية، واستعادة تكويناتها المتسربة من الذاكرة..!
بينما تماست لغة الحوار، في نظام يقدم التركيبة النفسية للشخصيات، ويوائم بينها وبين الدال المقصود.. وكذلك اختيار الأسماء التي تحيل إلى بيئات مختلفة، حيث يطلق الاسم الإشارة الرمزية الكاملة لبيئة المسمى وثقافته، وهي المسافات النصية التي تتكامل مع البنى السردية وتؤصل فنية دلالتها.
إن «فخاخ الرائحة».. وهي تنحو إلى قراءة النسيج الواقعي للمكان وتفتق منه سببيا علاقته بمكان آخر.. وتستجمع طاقة جمالية وصفية للمكانين، وتبحث في تفاصيلهما غير المرئية، والمنسحقة في عوالم الحراك المجتمعي، محاولة ربط فضائهما الإنساني، بشخصيته المندغمة في النسيج اليومي للمجتمعات العربية، إنما تقارب في مفاصلها الدلالية، ذلك النسغ الداخلي للمكان/ والمكان المختلف، عبر رؤية سردية تستوجد استحقاقاتها القيمية.. من سبرها لعوالم المكان وتجلياته على النموذج الإنساني.
الهوامش والإحالات
1 يوسف المحيميد، فخاخ الرائحة، رواية صادرة عن رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى 2003م.
2 د. أمينة رشيد، تشظي الزمن في الرواية الحديثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى عام 1998م ص124.
3 سعيد الغانمي، ملحمة الحدود القصوى الخيال الصحراوي في أدب إبراهيم الكوني، المركز الثقافي العربي.. بيروت، الطبعة الأولى 2000م ص14.