منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    أسلوبية التحول (بين التصور والتصديق)

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    أسلوبية التحول (بين التصور والتصديق) Empty أسلوبية التحول (بين التصور والتصديق)

    مُساهمة   الثلاثاء يناير 19, 2010 1:20 am

    أسلوبية التحول (بين التصور والتصديق)

    احسان التميمي

    مدخل :

    تهدف هذه الدراسة الى مقاربة المفاهيم الألسنية مع المفاهيم النقدية المعاصرة واغناء المجال التطبيقي بعد أن عانى الانحسار أمام المد النظري الذى اجتاح المتون النقدية على نحو تراكمي واخذ يبحث عما يمثله في الخطاب الادبي المعاصر بله القديم، ولعل أهم النظريات الألسنية التي هيمنت في النصف الثاني من القرن العشرين هي نظريةتشومسكي التحويلية التي انسجمت مع كثير من الوقائع اللغوية والكلامية ولاسيما الأدبية.

    ولما كان مفهوم التناص النقدي الذى أدلت به جوليا كرستيفافي عام1966م يتعدى مجاله النصي المحدود ليشمل الخطاب، توجب أن ينضوي هذا المفهوم تحت لوائها ويمتاح من انساقها، بوصفه جهازا مفاهيميا راصدا للبنى المحولة من مستواها العميق لمستواها السطحي ،وتعد النصوص المستهلكة لأنساق النص القرآني(المحفوظ)خير مثال على تلك المقاربة.

    ولهذا شرعت الدراسة بانتقاء نماذج شعرية معاصرة متميزة في تشربها له، فضلا عن امتلاكها الخصائص الأسلوبية ذات الصبغة الفنية العالية، وقد حكم الدراسة النقدية أفقان؛ أفق التصور الممثل بالجانب النظري وافق التصديق الممثل بالجانب التطبيقي الراصد للبنى المحولة.



    أولا: أفق التصور:

    زاوية النظر الأولى:مبادئ ِِْأسلوبية التحول:

    تعد أسلوبية التحول من المبادئ الألسنية المهمة التي طرحها العالم تشو مسكي والتي مفادها ((أن الأقوال مؤسسة على مجموعة صغيرة من النماذج الذهنية (المجردة)، الغريزية للجمل (الأساسية) التي يستطيع أي متحدث بأي لغة أن يستخلص منها عددا غير متناه من الجمل الصحيحة بوسيلة قواعد التحويل\' بالحذف، بالإضافة، بالتبديل، بالقلب، بالترصيع \'))(1).

    ومن هنا يكون للجانب الإبداعي في استعمال اللغة النصيب الأوفر، لأن الملفوظات الكلامية – هي في الحقيقة – تجديد لما استلهم من صيغ كلامية، وليست تكراراً محضا.ًً

    وبذا تتماهى النظرة السلوكية في علم اللغة التي تعد ا لتجديد مسألة قياس في الأغلب، وتصبح فكرتها القائلة بأن الإنسان يمتلك لائحة كلامية ينتجها آليا عندما تسنح الظروف محض خرافة لأن هذه النظرة قد تنطبق على تعابير التحية وعلى بعض التعابير المجمدة (2)، يتأسس على وفق تلك المبادئ الالسنيةمنظور نقدي راصد للبنى الشعرية المستلهمة للبنى القرآنية، ومن هنا يتعين علينا الاستناد الى القراءة التأويلية التي تفضي إلى التمييز بين البنية السطحية من البنية العميقة للنص الشعري، فضلا عن القراءة الاسترجاعية التي تقتضي استبطان النص، والغوص في طبقاته المرجعية وصولا الى تأويله واستنباط دلالاته.



    زاوية النظر الثانية: اللغة الشعرية وآفاق التناص:

    تعد اللغة المكون الذي يشغل صميم العمل الإبداعي (3) على نحو عام والشعري على نحو خاص فهي وسيلة أسلوبية يستند إليها المبدع في بناء أنساق نصه المبث ونعني بها الأنساق الفكرية (المضمونية) والتعبيرية, فاللغة بهذا المعنى اقنوم الشعر.

    ويرى جان كوهن((إن الشعر قوة ثانية للغة وطاقة سحر وافتنان )) (4) ومن هنا تتجلى في اللغة الشعرية صفة الطاقة الخلاقة التي لا تخضع للقوالب الجامدة, وهي وان خضعت للتقنين النحوي السائد لكنها كما يرى تودوروف نقيض الاستعمال الحسن وخروج على معايير اللغة(5) لكن ذلك لا يعدم بعدها اللساني القائم على وظائفها وتركيباتها المتعددة والمتشابكة كما حددها جاكبسون على وفق ارتباطها بعناصر التواصل الكلامي المتعلق بمضمون الرسالة اللغوية(6).

    لكن البنية الشعرية ليست منغلقة ومعزولة لا تتغير بل هي تركيب مفتوح, وهنا تبرز أهمية التناص بوصفة أداة قرائية تذهب الى اعتباطية الاكتمال البنائي للنص, فضلا عن انه أداة خطابية لدى المرسل, ومن ثم تتحدد أهميته على صعيد الرسالة بكونه أداة شعرية يتحقق بها النص/ الرسالة.

    وعلى الرغم من((أن التناص ينتسب الى الخطاب discource ولا ينتسب الى اللغة, ولذا فانه يقع ضمن مجال اختصاص علم عبر اللسانياتTransliguisties )) (7) كما يرى تودوروف, نحن نتفق مع الرأي القائل بوجود تصورات لدى الباختين تؤكد على تناص اللغة, ولاسيما فيما يتعلق بنظريته حول الملفوظ اللغوي (Cool المكتوبة في نهاية العشرينيات.

    إذ تقوم تلك النظرية على توجيه النقد للمدرسة السوسيرية التي تعد التلفظ(( الكلام\'نشاطا فرديا واللغة ظاهرة اجتماعية ومن هذا المبدأ اهتم باختين بإثبات اجتماعية (الكلام/التلفظ)من خلال نظرية التلفظ)) (9) التي مفادها أن ((الخطاب في الحياة والخطاب في الشعر... وهي تبدأ بملاحظة تشكل المادة اللغوية جزءا فقط من التلفظ فهناك يوجد جزءا أخر غير لفظي يتطابق مع سياق النطقenunciation )) (10).

    ولما كان النص المفتوح \'المتناص\'مع غيره هو نص الاختلاف أو نص الغابةعلى حد وصف ((هايدجر)) على صعيدي الإنتاج النصي والقرائي (11) فان أساس الإنتاجية النصية يقوم على المعرفة المسبقة للوجود الزماني والمكاني والتاريخي, وهذه المعرفة لا تختص بالمبدع فقط بل يشتمل عليها الملتقي الانموذجي الذي يأخذ على عاتقه مهمة تفكيك النص وتأويله على وفق المعايير النقدية.



    ثانيا: أفق التصديق\'المساحة التطبيقية\':



    لا يخفى إن الممارسة التطبيقية لتنظير الخطاب النقدي ليست دليلا على نجوع المنهج المراد تفكيك الرسالة عن طريقه وحسب. بل هي عملية إنماء للخطاب ذاته عبر تجسيده في النماذج المنتقاة, ومن ثم معرفة الحدود التي لايمكن تجاوزها, ومن ثم محاولة المقاربة بينهما, لا على أساس التعسف والتمحل, بل على أساس واقعي ( نصي ) غير مفتعل. وقبل الولوج في مصاديق المفاهيم التي طرحناها سلفا, لابد من الإشارة الى أن مستوى المساحة التطبيقية يرمي الى رصد فاعلية التعبير القرآني في خطاب شاعرين يمثلان ذروة الإبداع الشعري العربي المعاصر, هما خطاب بدر شاكر السياب وعبد الوهاب ألبياتي بوصفهما أنموذجين دالين على استلهام البنى القرآنية وتوظيفها في أنساق النصوص الشعرية على النحو التحويلي, ويمكن تقسيم الإجراء التحويلي على نمطين هما:



    النمط الأول: التحويل الظاهر وجدلية البناء الجزئي:





    ونقصد به استحضار البنية القرآنية واستضافتها في النص الشعري عل نحو جزئي ظاهر في مستوى البنية السطحية للنص. وقد امتلك السياب طرائق متميزة في امتصاص البنية ( الجزئية) القرآنية وتحويلها الى سياقه الشعري الذي يمتاز عن غيره في أسلوبه التعبيري والحيوي. مما يفضي الى سيرورة التواصل مع المتلقي بوصفه منتجا أخرا يسهم في بناء النص, وهذا ما يجعل الوظيفة الشعرية تبدو فاعلة على المستويين الخطي والعمودي: إذ يقول:

    اقضي نهاري بغير الأحاديث غير المنى

    وان عسعس الليل نادى صدى في الرياح

    \'أبي... أبي, طاف بي وانثنى \'

    \'أبي.... يا أبي \'

    ويجهش في قاع قلبي نواح

    \' أبي.... يا أبي \' ديوانه.645\\1





    ففي السطر الشعري الثاني امتصاص لقوله تعالى } والليل إذا عسٌعسً { ] سورة التكوير |17 [, إذ قام السياب بتحويل البنية القرآنية الى بنيته الشعرية, فتجلت تلك البنية على سطح النص على نحو مختلف عما كانت عليه من خلال التقديم والتأخير الذي تقتضيه الحالة الشعورية و ( الانفعالية) المتمثل في تقديم الحدث \'الفعل: عسعس \' على الفاعل الذي اتصف بالفعل ولم يقم به, لان الفاعل نوعان, الأول يدل على من قام بالفعل, كقولنا: قام زيد, والثاني ما اتصف به. كقولنا: مات زيد, وجملة ( عسعس الليل ) من النوع الثاني, والشاعر يقدم الحدث ( الفعل) لاستعجاله \' العسعسة\' التي تبث الى مسمعيه صوتا يغنيه عن زمن النهار الذي يشعره بالغربة لان الناس فيه مضطربون ومشغولون بهموم الحياة عن السياب الذي كان مدنفاً بجراح العلة في إحدى مستشفيات لندن, وهو يريد المهم فيقدمه. وهي الأفعال؛ عسعس, نادى. أما النص القرآني فيهتم بالفواعل المتقدمة التي جاءت في بنية القسم النحوية } والليل إذا عسعس, والصبح اذاتنفس{. وقد يعمد السياب الى استدعاء أكثر من أية في سياق شعري واحد على سبيل التداعي , حينما يستحضر أية قرآنية معينة تدعو هذه الآية الى إزاحة الغبار عن استدعاء أخر متماه في النص , لكنه يظهر على شكل إشارات لفظية توحي بأية أخرى كما هي الحال في قصيدته \' شناشيل ابنة الجلبي \' .



    وأرعَدتِ السماءُ فرنَ قاعُ النَهر وارتعشَت ذُرى السَعفِ



    وأشعلهُن ومَضُ البرق ازرق ثم اخضَر ثم تنطفيءُ



    وفُتِحتِ السماءُ لغيثها المدرارباباً بعد باب. ديوانه : .598\\1



    فالعبارة الشعرية \' فتِحت السماءُ \' تشير أول وهلة الى الآية الكريمة } وفُتحتِ السماء فكانت أبوابا{ً ] سورةالنبأ\\19 [.



    لكن العبارة الشعرية لا تقترب من مفهوم الآية القرآنية التي تدور أحداثها المستقبلية حول تصوير يوم القيامة, لقوله تعالى في أيةٍ سابقة على الآية الأنفة الذكر: } يوم يُنفخ في الصور فتأتون أفواجاً { ] سورة النبأ 18\\ [.

    و العبارة الشعرية تماثل دلالياً أية أخرى تختلف معها في الصياغة وهي قوله تعالى:} فَفَتحنا أبوابَ السمآء بماءٍ مُنهمر{ ] سورة القمر12\\ [ لكن الصياغة الشعرية اقتربت الى حد كبير من الصياغة القرآنية في سورة النبأ.

    وقد أجرى السياب تحويراً يسيراً على الفعل المتصل بتاء التأنيث الساكنة من خلال إلحاق التشديد به, لينسجم مع الحالة الشعورية المتدفقة, فضلاً عن المحافظة على سيرورة الإيقاع الشعري الخارجي المتمثل بتردد تفعيلة الوافر \' مفاعلتن \' ويعود ذلك كله الى ذاكرة السياب الخصبة التي أمدته بهذا الزخم ألاستدعائي الذي يجلب بعضه بعضا مما أدى الى ترسيخ ظاهرة التداعي في خطابه الشعري وهي ظاهرة تستدعي الوقوف والتأمل.

    إما البياتي, فقد تولدت في نفسه رغبة عارمة للامتياح من البنية الشكلية القرآنية وتحويل دلالتها من خلال وضعها في سياق شعري تقتضيه الحالة الشعورية والنفسية.

    وقد استشرت ظاهرة قلب الدلالة القرآنية في كثير من نصوصه الشعرية من خلال التحوير الشكلي, الحذف أو التوسيع أو التغيير المكاني للبنية العميقة ومحاولة مد الجسور بين النص الداخل و المستقبل, والاعتماد على عنصر المفارقة التي تمثل مجالا من مجالات الرؤيا لديه أحيانا.





    عندما ينفخ في الصور لا يستيقظ الموتى

    ولا يلمع نور

    ويصيح الديك في أطلال ( أور )

    أه ماذا للمغني سأقول ؟

    وأنا اجمع أشلائي التي بعثرها الكاهن في كل العصور

    ونذوري والبذور ديوانه.423\\2





    ففي هذا النص المقتطع استلهامٌ لمجمل الآيات القرآنية التي تناولت النفخ في الصور, نذكر منها قوله تعالى: } ونُفخ في الصور فإذا هم من الأجدَاثِ الى ربهم ينسِلون { ] سورة يس51\\ [.

    وقد اشتركت في هذا المستوى آليات تناصية, وهي \' القطع والقلب والتوسيع والتذييل\', وتخضع هذه الآليات للرؤيا العشتروتية, تلك الرؤيا التي اجتاحت المجموعة الأولى من ديوانه

    \' الكتابة على الطين \', إذ تصور بمجموع نصوصها إخفاق الانبعاث على حد وصف الدكتور محي الدين صبحي (12 ). لقد نقل ألبياتي الدلالة العميقة التي يحتويها النص القرآني من مجالها \' المسبب\' الذي يقتضي التأثير الى مجال \' السبب\' الذي لا يقتضيه, ومن هنا تتبين لنا البنية الوظائفية للعبارة القرآنية \' ينفخ في الصور \' إذ اسهمت في تشكلها مع البنية الشعرية المناقضة لها من حيث الدلالة الانهزامية, وقد جرى تحرك النص على وفق ما أطلق عليه كاظم جهاد ب\'قلب الوضع الدرامي \' إذ (( يحيل الكاتب السلب محل الإيجاب والعكس لافي تناظر آلي بل على نحو كفيل بإحلال مراتبية محل أخرى )) (13) , فضلا عن آليتي القطع والتوسع التي اشرنا إليها سلفاً .

    وقد كان للسياقات الخارجية المحيطة بعملية الإنتاج النصي ضرورة ذات علاقة مسببة في هذا الشأن, فالغربة والتشظي الروحي والإنساني, تعد من الأسس المهمة في تكوين تجربة البياتي, وقد رفد القرآن الكريم تلك التجربة واسهم في التعبير عن تلك الغربة, إذ يرى البياتي على سبيل المثال لا الحصر بعين الميثولوجيا الشعبية:

    القمر الأعمى ببطن الحوت

    وانت في الغربة لا تحيا ولا تموت. ديوانه :.222\\2

    والنص يتناص مع قوله تعالى: { إنه من يأتِ ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى } ] سورة طه\\ 74 [, وقوله تعالى { ثم لا يموت فيها ولا يحيى } ] سورة الأعلى 13\\ [.

    ويقترب الأنموذج المتناص مع البنية العميقة عن سياقها الأول لتدخل في علاقة جديدة مع النص المعاصر, وكان التقديم والتأخير السمة الأولى لهذا التحوير, مرجعه البنية النسقية الإيقاعية, فضلاً عن السمة الأخرى المتمثلة في تحويل الضمير من الحديث عن ا لغائب في السياق القرآني الى ضمير ( المخاطب | الحاضر) في السياق الشعري. وتنتمي قصيدة ألبياتي \' الجرادة الذهبية \' _المهداة الى اللاجئين_ إلى آلية القطع التناصية, والقصيدة تدور في دائرة رؤيا الانبعاث ( الجسدي | الروحي ), أو ( المادي | المعنوي ) إذ يقول:



    أزحت عن قبري أطباق الثرى وكوم الحجار



    كسا عظاميَ اللَحم

    وانتفخت بالدم

    عروقيَ الميتة الزرقاء

    مددت للشمس يدي, فاخضرت الأشجار. ديوانه.389\\2

    إذ استمد الشاعر من الأطوار التكوينية التي تم ذكرها في القران ما يثري به نواة نصه الشعري, كقوله تعلى {...... فكسونا العظم لحما}] سورة المؤمنين 14\\ [

    لكن الشاعر أجرى تحويرا قطع اتصال الدلالة القرآنية بالدلالة الشعرية, فقد اسند ( الفاعل | اللحم ) الى ( الفعل | كسا), وحذف الضمير ( نا) الذي يشير الى فعل ( الخلق) الإلهي, وبذا يكون المفعول الثاني في الجملة القرآنية, فاعلاً في الجملة الشعرية, ويعد ذا نمطاً من الأنماط التحويرية للبنية النحوية القرآنية, لا على نحو التماهي والانصهار الكلي وإنما وتحتفظ البنية المحولة بنسقها الذي يفرد خصوصيتها القبلية.













    النمط الأخر: التحويل الضمني وجدلية البناء الكلي:



    وهي الخصيصة التي تنطوي على عملية إنتاج النص الشعري الذي يدخل في علاقة \' تعالق\' مع النص ألقراني إذيتماهى النص الداخل في النص المستقبل على هيئة تعيق عملية الترابط التناصية بين المرجع والنص الشعري \' قرآنيا\'.

    وتتحدد تلك العملية بالقيمة الإجمالية للمرجعية التي يحال إليها من قبل الشفرات التي ربما تشكل صعوبة لدى الملتقي في تفكيكها (( لان الأدب في هذا التكوين يشغل شفرتين متعالقتين: شفرة اللغة وشفرة تبنينية كخطاب خاص, فان صعوبة إجرائية كبيرة تطرح أمام القارئ لفك الارتباط بين الشفرتين من جهة وللوصول بالتالي الى الحقيقة المرجعية الأساس )).(14)

    وقد انطوى غير قليل من النصوص الشعرية للشاعرين ( بدر وعبد الوهاب ) على سمة الاتكاء على النص ألقراني على نحو \' غير مباشر محور \' مفيدين من الخاصية التي يحملها النص القرآني, لأنه (( نص تذوب فيه النصوص الدينية كلها )),(15) مما يجعله بنية كلية جامعة للتجربة الإنسانية مع لحاظ أن الجانب الكمي لتلك الظاهرة النصية لم يكن على حساب الجانب الكيفي ( الفني) في خطابهما الشعري .

    يقول السياب في قصيدته المومس العمياء, على لسان المومس:



    لا تتركوني فالضحى نسبي

    من فاتح ومجاهد ونبي !

    عربية أنا: أمتي دمها

    خير الدماء.... كما يقول أبي. ديوانه.537\\1

    إن القاري الانموذجي يستطيع المشاركة مع المبدع في إنتاج النص من خلال استدعائه لقوله تعالى { كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.... } ] أل عمران [110\\ , وقد حمل السياب المومس قراءته للواقع العربي ورؤيته الواقعية على نحو إسقاطي للهم الجماعي القومي والإسلامي في الآن نفسه وفي الحقيقة ان النص \' المقتطع يبقي حمَال أوجه فعملية استنطاقه وتأويله لا تنحصر في النص نفسه , بل لابد من استحضار السياقات الخارجية التي دعت السياب الى هذا القول الشعري على لسان المومس دون غيرها , علما أنها فتاة بسيطة وساذجة لاتستطيع إن تنضح بتلك الرؤية .

    وتتردد في نفس السياب الرغبة في احتذاء الشعر الغربي المعاصر لما طرآ عليه من معالجة رؤيوية وعودة لتمثيل الحضارة الغربية واستعادة كتابتها بطريقة جديدة تعكس عمق الحياة ولا سيما خطاب الشاعر الغربي ( ت . س. إليوت ) في أرضه الخراب التي بنيت على آلية الاقتباس, فيحتذيه ولاسيما في قصيدته ( من رؤيا فوكاي ) في أقسامها الثلاثة, وبخاصة في القسم الثاني: \'تسديد الحساب \' التي يبين رؤيته الكونية من خلال, التشخيص الذي سبغه على الجبال الشامخة التي لم يصبها موت ولاهرم, على الرغم من تعاقب الليل والنهار عليها على مر العصور وهي لم تفرح بآلاف الشموس التي طلعت عليها, ولم يمتها الم من ألف نجم تردى على الارض, ولعل سر خلودها يكمن في أنها صماء, بكماء لاتخذ وتهب أي شيء:



    لـو أودع الله إياهـا أمـانـتـــه لنـا لهـن علي استيداعهـا نـــدم

    و لاقتـسمن مـع الأحـياء ما دفـعـت مـن جزيـة لا توفـي حـين تقتسـم

    عـن كل قهـقهـة من صرخـة ثمـن ومـا اسـتـجـد دم إلا وضـاع دم

    ولـم تحـمـل الأم الـمخـاض ولــم يقـرب من النور إلا الفـكر والرحـم

    إن يكـن اسـعـد الأحيـاء أكملـهــا فإنـما هـو أشـقـاهـن لا جــرم

    ديوانه.359\\1

    استجاب النص السيابي للآية الكريمة {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولاً } ] الأحزاب[72\\, ويبدو أن قصيدة \' رؤيا فوكاي \'تعج بالمبنى التناصي في عدة مستويات: \'تاريخية, أسطورية, دينية \' ويأخذ الأنموذج المقتبس من القسم الثاني:\'تسديد الحساب \' المنحى الانفصالي في البنية الشكلية عن المسار الشكلي للقصيدة الكاملة على الرغم من انضمامه الى السيرورة الدلالية التي أراد الشاعر تثبيتها في نفس متلقية. ولعل السياب أراد المناسبة بين الشكل والمضمون من ناحية جعل الشكل تابعا للمضمون. ويظهر لنا المتن القرآني في المتن الشعري على وفق قانوني: الحوار, والتوليد. يرى محمد بنيس إن الحوار مختلف عن الامتصاص الذي يدور في حلقة القبول السابق للنص القرآني وتقديسه وإعادة كتابته بطريقة لاتمس جوهره انطلاقا من قناعة راسخة لدى الشاعر من ان النص القرآني غير قابل للنقد, أي الحوار (16) . لكن المتمعن في آليات التناص في صورتها النصية( التطبيقية). يرى أن الحوار ليس إلا عملية تندرج تحت العملية الامتصاصية للنص السابق وتنصهر تلك العملية في العلاقة المنطقية بين العموم والخصوص. فكل حوار هو امتصاص وليس كل امتصاص هو حوارا. إما التوليد فيدور في حلقة الوصل بين القبول السابق للنص القرآني أو الحوار معه. وتبرز في هذا المحور الآليات الأربع: ( الاستجابة, الاقتباس, الحوار, التوليد ) في شكل يبين التعارضات بين البنية العميقة والبنية السطحية, بين العرض (بالقوة ) والإيداع (بالفعل). فالنواة النصوصية المتكونة من بنية الامتزاج بين النص القرآني والنص الشعري يلفها الزعم الافتراضي, وهو \'ندم الجبال على تحمل الاستيداع \'وكان لوجود لفضتي \' الأمانة \' و\'الرواسي\' فضل في تسهيل عملية التلمس والاستدعاء, فضلا عما يحتلانه من استراتيجية موقعية من البنية الرئيسة تمثل علائق التو اشج بين بداية النص المقتبس ومنتصفه, وتتشعب الحصيلة من قبل \' الواو\' العاطفة, وتكرر اللام الواقعة في جواب القسم, وتتجلى في اقتسام الجبال مع الأحياء تحمل أعباء الجزية التي لا تنتهي.

    أما البياتي فقد هيمنت آلية الحوار على معظم نصوصه المقتبسة للنص القرآني على نحو خفي. ولعل مشروع البحث عن المفقود والغوص في المجهول هوما حدا الشاعر على اتخاذ ذلك المنحى الذي يعززه مقدرة الشاعر الفنية في إدخال الخطاب القرآني على نحو لا يشعر القاري انه منه, وتستبد في نفس البياتي الرغبة في البحث عن \'الحب المفقود\' في لغة يعتريها النغم السريالي . فيقول في \'مجنون عائشة\':



    امشي وراء ناقتي والفجر قدامي الى بخاري

    أعود منها حاملا نذري الى دمشق

    مطاردا وجائعا للحب

    اكتب فوق سورها معلقاتي العشر

    اعقر في بوابة البستان ناقتي وامضي هائما في الفجر

    ممرغا وجهي بعطر الزهر

    مخبئا وراء قاسيون

    موتي وموت المدن الأخرى التي أصابها الطاعون

    وقمر الطفولة المجنون. ديوانه.93\\3

    يحاول البياتي الاعتماد على آلية الحوار في إنتاجه النصي وتشكل آلية الحوار سمة أسلوبية ظاهرة في خطاب رواد الشعر الحر على نحو عام, وفي شعر ألبياتي على نحو خاص, إذ يعبر الشاعر من خلال الحوار عن نضجه الفني وإمكانياته الأسلوبية المتميزة, وعند تتبع الإجراءات التعبيرية في النص, نلحظ الدوال اللغوية \' الاشارية \' التي توطد مبدأ الإحالة الى النص القرآني, في قوله \' اعقر ناقتي \' بوصفها تناصاً غير مباشر مع قوله { كذبت ثمود بطغوها, إذ انبعث أشقها, فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها, فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها } ] سورة الشمس 14-11 [, وقد عمد الشاعر في نصه لكسر الفضاء الزمني, والمكاني من خلال التغير المصاحب لحركة التنقلات الفاعلة متمثلة بأفعال المضارعة النحوية \' امشي, أعود, اكتب, اعقر....\' ويتم في جوها سحق العامل التاريخي المنضوي تحت الإطار الزمني، ولما كان الفضاء الزمني تابعا للتغير المكاني اللامحدود يكون منطق فضاء الزمن عند البياتي متمنعاً ذا صبغة تجريدية منعزلة عن السياق الواقعي.

    ومع أن البياتي شرع في تحطيم البنيات العميقة الدالة على المصدر القرآني الكريم. الاان الإشارات اللغوية الدالة والمحيلة الى النص القرآني لتفرد المعجم القرآني بها – تجذب القاري لاستدعاء البنية التحتية للنص من خلال القراءة الراسية \' المنتجة\' في محاولة لإعادة قراءة البنية الشكلية الرئيسة والمفرغة من بنيتها \' النحوية \\الدلالية \' من خلال تحوير صياغتها وإدخالها في النص الحاضر وفقا للانسيابية الشكلية للبنية الفوقية.

    وعند قراءة النص قراءة مزدوجة ( تقابلية ) بين النص المغيب والنص الظاهر يبرز لنا الأجراء التحويري على البنية التعبيرية القرآنية من خلال لفظتي \' ناقة الله\\ناقتي \', \' عقروها \\ اعقر \' وتبقى صيغة الفعل السريالي والدادائي (17) مسيطرة على رؤيا الشاعر لـ \' عائشة \' أو \' الحب المفقود \' ولا يكون عقر الناقة سوى الفعل العبثي الذي استمده البياتي من التأثيرات الدادائية بخاصة, وكناية عن الغربة والضياع اللتين أحاطتا بعالم الشاعر.

    ولابد من التنويه الىان كثيرا من البنى العميقة المحولة ذات المرجعية القرآنية في نصوص الشاعرين تعاني من هيمنة الصبغة الفنية وما تفرضه التجربة الشعرية. ولهذا لم يتعاملوا مع النص القرآني بوصفه نصا مقدسا وإنما اعجبوا بأنساقه المضمونية والشكلية من الوجهة الجمالية.

    الهوامش والمصادر:

    - القران الكريم .

    (1) مفهومات في بنية النص ( اللسانية , الشعرية , الأسلوبية ) : ت : د . وائل بركات , دار معد , دمشق , 1996 :31 .

    (2) ينظر اللغة والعقل : نعوم جو مسكي : ت : بيداء علي العلكاوي , دار الشؤون الثقافية العامة , بغداد , ,22-21:1996 والطبيعة الشكلية للغة : نعوم جو مسكي : ت : ميشال زكريا : مجلة الفكر العربي المعاصر ,-19 – 184 س .25 :1982

    (3) ينظر: الألسنية العربية: ريمون الطحان, دار الكتاب اللبناني, بيروت, .116: 1981

    (4) اللغة العليا: جان كوهن, ت: احمد درويش , المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة, 1995م , :9

    (5) ينظر : فن الشعر اللغوي البنيوي وعلم اللغة : ادوارد ستايكيفج, ت: يوئيل يوسف عزيز , مجلة الاقلام, ع .205:1989,(12,11)

    (6) مفهومات في بنية النص : .47-46

    (7) المبدأ الحواري ؛ دراسة في فكر ميخائيل باختين : تزفيتان تودوروف : ت : فخري صالح , دار الشؤون الثقافية , بغداد ,.82 : 1992

    (Cool ينظر: مثلا: شعرية النص الروائي : بشير القمري , شركة البيادر , الرباط .74 : 1991,

    (9) ينظر: المبدأ الحواري: .61, 60

    (10) المبدأ الحواري: 61.

    (11) ينظر : المشاكلة والاختلاف : د . عبد الله محمد الغذامي , المركز الثقافي العربي , بيروت 1994, م .78:

    (12) ينظر الرؤيا في شعر البياتي: محي الدين صبحي, دار الشؤون الثقافية, بغداد, 1987 م: .274-273

    (13) ادونيس منتحلا ..., يسبقها ما هو التناص : كاظم جهاد , مكتبة مدبولي .56:1993\\

    (14) مفهوم المرجعية وإشكالية التأويل: د. محمد خرماش, مجلة الموقف الثقافي, ع .38: 1997, 9

    (15) النص القرآني وأفاق الكتابة: ادونيس, دار الأدب, بيروت, 1993 م .35:

    (16) ينظر: ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب (مقاربة: بنيوية تكوينية): محمد بنيس, دارالتنوير, 1985 م .277

    (17) إن الفرق بين الاتجاهين كبير لكنهما يلتقيان في طبيعتهما النهلستية ( العدمية ) فضلا عن عد كل ما هو عبثي جوهرا – استيطيقيا . ينظر: المذاهب الأدبية: د. جميل نصيف التكريتي, دار الشؤون الثقافية, بغداد.






      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 5:07 am