Thumbs up بحث فيما بين العروض واللغة ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا البحث .. لشيخنا وقدوتنا النحوي العروضي الشاعر الدكتور أبو براء محمد جمال صقر ، حلية العلم ، وزينة المجالس ، عاشق لغة الضَّاد وآدابها ، العالم الضَّليع ، المُجَدِّدُ المُبْتَكِرُ ، تلميذ العلامة الإمام محمود محمد شاكر ، رحمه الله تعالى ! حفظ الله تعالى شيخنا ونفعنا بعلمه وأدبه !
بحث فيما بين العروض واللغة (1)
شِعْرُ أَبي سُرورٍ الْجامِعيِّ بَيْنَ الْمُعارَضَةِ وَالتَّخْميسِ
اكتساب الشعر
{1} الشعر نمط من اللغة فنيّ ؛ فكما نولد جميعًا مفطورين على اكتساب اللغة ، يولد بعضنا مفطورين على اكتساب فن اللغة وكما نحتاج جميعًا إلى من نكتسب منهم لغتهم لتصير لغتنا ، يحتاج بعضنا إلى من يكتسبون منهم فنهم اللغوي ليصير فنهم .
إن كل من حولنا قرباء وغرباء ، كبارا وصغارا ، ذكورا وإناثا ، يعلموننا اللغة ، ما لم يَصُدّوا عنا أو نَصُدَّ عنهم . وليس كل من حول بعضنا يعلمونهم فنّ اللغة ، ولو شدَّ بعضُهم يدَه بغَرْز بعض . إنما يعلِّمُهُمُوهُ طائفةٌ عزيزة انمازت من سائر الناس فسميت "الشعراء" ، كما انماز كلامهم من سائر الكلام فسمي "الشعر" (1) .
{2} ولأمر ما كانت أُسرالشعراء منذ أوّلية الشعر العربي ؛ فمُهَلْهِلٌ خال امرئ القيس وجَدُّ عمرو بن كلثوم لأمه ، وأكبر المرقـِّشَيْن عم الأصغر ، والأصغر عم طرفة ؛ يتعلم الولد من أبيه أو من هو بمنزلته ، كما تعلم هذا من أبيه أو من هو بمنزلته ، سُنّةً مستمرة (2).
{3} ولا يجوز الاعتراض بأنها سنة في الاكتساب سيّئة ، غير صالحة للفن، لأنها تُخرج صورًا منسوخة عن أصلها ، ليس فيها غير موات التقليد ، والفن رهين الإبداع الذي هو رهين الانقطاع من الماضي وهدم المألوف (3) ؛ ففضلاً عن أن التقليد نفسه هو المرحلة الفنية الحتمية الأولى (4) ، لا يكون حَديث إلا بعد قديم ، ولا يعرف حديث إلا بقديم ، بل قد صار معروفًا تفضيل اشتمال الفن الحديث على طرف من الفن القديم يتألّف المتلقين ويعطفهم (5) ، "ولو نحن ، في تنقيبنا عن آخر ملجأ لنا ، التقينا بجدنا الأول ، فإنا بلاشك سنرى حفرتي عينيه متوجهتين خلفًا نحو السمكة الزاحفة السعيدة التي كانت تعيش في حياة انسجام وانضباط في الوحول اللزجة التي عمرت يومًا المستنقعات المتبخرة " (6)!
بين المعارضة والسرقة
{4} وليس الأمر مقصورًا على تقليد البداءة ؛ فإنّ وحدةَ الثقافة التي هي قوام الأمة ، تُسَرِّب إلى أصحابها إطار فن اللغة ، كما تسرِّب إليهم إطار اللغة ؛ فكما يتعارفون بينهم على ما يتفاهمون به ، يتعارفون على ما يهتزّون له (7)، وما أكثر ما حفز الشاعر إلى الشعر قصيدة تعلّمها - على توسيع مفهوم التعلم ليشمل طرائق التلقي المختلفة كلها - فإما خضع لها رسالةً (مضمونًا) ، ووسائل (أدوات تعبير) ، أو رسالة فقط ، أو وسائل فقط، وإما أبى . فأما إذا ما أبى فإنه يفتش عن وسائل أخرى ملائمة يؤدي بها رسالة أخرى ممّا يشغله وعندئذ يخفى عن المتلقي عنه فضل تلك القصيدة عليه ، غير أن الشاعر يظل في نفسه أسير ذلك الفضل . وأما إذا خضع لرسالتها فقط ،أو لوسائلها فقط فإنه يعد سارقًا ، وهي دركات بعضها أخفى من بعض ، يسترها فقهاء السارقين ، ويفضحها فقهاء المتلقِّين (. وأما إذا خضع لرسالتها ولوسائلها جميعًا ، فإنه يعد معارضًا أي مجاريًا مباريا (9).
{5} إن السرقة ضعف يجتهد صاحبه أن يخفيه ، "والحاذق يخفي دبيبه إلى المعنى ، يأخذه في سُتْرة فَيَحْكُمُ له بالسبق إليه أكثر من يمُرُّ به" (10)، وإن المعارضة قوة "أما المتقدمون فكانت لهم المعارضة ونحوها مما لا يضطلع به إلا قويٌ جريء " (11) ؛ فهو لا يخشى أن يبديها ؛ هذا البارودي ينظم داليته التي مطلعها :
" رضيتُ من الدنيا بما لا أودُّهُ وأيُّ امرئ يقوى على الدهر زندهُ " (12)،
ثم يقول في خلالها :
" وما أُبْتُ بالحرمان إلا لأنني ( أودُّ من الأيام ما لا توده )" (13)،
مضمِّنًا صدر مطلع دالية المتنبي :
" أَوَدُّ من الأيام ما لا توده وأشكو إليها بيننا وهي جنده " (14)،
دالاًّ على معارضته ، وهو إمام نهضة الأدب المصري الحديث ، الذي لا يساميه فــى الخمسمائة سنة التي قبله فيه أحد(15).
{6} يفعل البارودي ذلك ، قويًّا مفاخرًا ؛ فمن القمة التي يقف عليها يرسل بصره إلى المدى ، فتتجلى له قمم الشعر الباذخة ، فيناصيها ، ويباريها ، ثقة منه بمقدرته ، وإجلالاً لما يعارضه وتعلقًا به ، وخوضًا في هذه الظاهرة الإبداعية ، وانتصاحًا بنصيحة علماء الشعر ، وإدلالاً على معاصريه وفوتًا لهم بمقدرته ، وتزييفًا للقول باستفراغ السابقين وُسْع الإبداع ، ورغبة في سبق السابقين إلى مجاهل خَفِيَتْ عليهم (16) ؛ فلذلك كان "الفضل الذي له على عصره ، أكبر من الفضل الذي لعصره عليه ، فما جاء به من عند نفسه كثير لا يقاس إليه ما يجيء من قدرة معاصريه ، وذلك وحده خليق أن يُبوِّئه زعامة جيله ويقدمه إلى طليعة معاصريه وتابعيه"(17) .
قومية المعارضة
{7} كانت المعارضة نمطًا من إبداع الشعر ، عربيًّا خالصًا(18) ، مِسَنًّا أزليًّا جلا عن صفحة العروبة حين أوشكت تعفو وتستعجم ، ثورة أدبية ، واكب بها البارودي مثلا ، ثورة أحمد عرابي الحربية ، فخابت هذه ، ونجحت تلك ؛ فاستقامت بها عروبة مصر (19) ، ومَحْفِلاً أفشى به شوقي محاسن العربية ؛ بذل حُلاها ، ونشر حُللها ، مُدِلاًّ بثرائها ، مُغريًا بالاغتراف منه والاستغناء به (20) .
{8} وستبقى المعارضة ، إلى ذلك كله ، مِزْجرًا أبديًّا للحَقَدة الذين يدّعون مرة أن وحدة الأدب العربي كوحدة الثقافة العربية ، وَهْمٌ (21) ، ويستبشعون أخرى صلابة الثقافة العربية التي تمنع الأمة أن تقبل الفرد الحر الذي يؤمن بما يشاء ويعبر كما يشاء ، فتُثَبِّت الأشكال الشعرية العربية ، وتكسوها طابعًا دينيًّا ، وتسند إليها وظيفة الهُويّة (22) ، مِزْجرًا أبديًّا لهم بأن هذه الأمة التي تقبل الفرد الحر الذي يؤمن بما يشاء ويعبر كما يشاء ، وَهْم ! - وللجهلة الذين يساعدون الحقدة ، بالسخرية من "المخطط التقليدي للأداء" الذي يلائم "ميـة ، المواطنة السمراء في صحراء نجد" ، ولا يلائم "جانين ، المواطنة الفرنسية القاطنة في الرقم 73 بولفار سان ميشيل" ، التي إن وضعناها موضع مية معارضين مطلع دالية النابغة ، فقلنا :
يا دار (جانين) بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد
"أغْمي عليها" (23) ، مزجرًا أبديًّا لهم بأننا إنما نقول ذلك لمية السمراء ، لا لجانين الزرقاء !
{9} ولن تفسد المعارضة على الشعر العربي الحديث" طزاجة العصرية "المزعومة (24) ، كما يفسده ما في استعمالنا لمصطلحي "التجديد" ، و"الحداثة" ، من قبول لشيء من الضياع ، وما في نسياننا لما في مصطلحي "المحافظة" و"القَدامة" ، من مجاهدة لذلك الضياع (25) ، ولا كما يفسده تقليد نمط من الشعر الغربي ، غريب عن ثقافتنا ، بعيد هو نفسه عن العصرية (26) - بل تظل منجاة مِسَنًّا : يمتنع بها الشاعر من الغرق بطوفان الضياع إذا طمّ وعمّ ، ويسن بها سنان آلته إذا تَثَلّم (27) .
{10} ولاسيما أن نرى الشاعر بالمعارضة مبدعًا ُمحلّقًا فيما انْفَسَح له من آفاق : هذا البارودي رغم ترديده بعض معانى ما عارضه وتقليده لبداءته ، يتصرف في مراحل أغراضه ، ويعرض عن غير المرضي منها ؛ "فلم يتعلق قط بأذيال القصائد التي كان يعارضها ، ولم تطغ على شخصيته ، أو تخف معالم شاعريته ، وإنما استطاع أن يملك رقابها فيفيد منها ويتحكم في توجيهها" (28) ، وهذا شوقي رغم ترديده مما عارضه ، بعض كلمات القافية والتراكيب ، يتصرف في المعاني ، والصور ، وأسلوب المقابلة ، بحيث حصل له "مشهد تكميلي ، ينبني على أصل ، لكن لا يتقيد به ، ويتبنى بعض ما فيه، دون أن يقصر في مزيد إثرائه . فيصح لنا أن نعتبر المعارضة عند شوقي (قراءة جديدة) للتراث" (29) .
تخاميس
{11} ومن شجون المعارضة التَّخْميس ؛ إذ هو من مبالغة الخالف في إجلال السالف ، وفيه يأتي إلى قصيدته ، فيفكُّ أبياتها بعضها من بعض ، ويصطنع لكل بيت ثلاثة أشطر من وزن صَدْره وقافيته ، يضيفها قبله ليأتي هو بعدها ملكًا في حاشيته مُبَجَّلاً !
لقد أجلّ أبيات أبي الفرج الساوي التي منها :
هي الدنيا تقول لساكنيها (أ) حذار حذار من بطشي وفتكي (ب)
فلا يغرركم مني ابتسام (ج) فقولي مضحك والفعل مبك (ب)
فبَجَّلَها قائلا - على ركاكته - :
دع الدنيا الدنية معْ بنيها (أ)
وطلقها الثلاث وكن نبيها(أ)
ألم ينبيك ما قد قيل فيها (أ)
هي الدنيا تقول لساكنيها (أ) حذار حذار من بطشي وفتكي (ب)
فلم يسمع لها فيهم كلام (ج)
وتاهوا في محبتها وهاموا (ج)
وكم نصحت وقالت يا نيام (ج)
فلا يغرركم مني ابتسام (ج) فقولي مضحك والفعل مبك (ب) (30)
{12} هو نمط من النظم متأخر الزمان والمكانة . فأما أنه متأخر الزمان ، فمن أنه تحويل لنوع من التخميس قديم نَحَلَ الرواةُ امرأ القيس شيئًا منه لم يُصَحَّحْ له ، ورُوي أن بشارًا المُرَعَّثَ كان يصنعه عبثاً واستهانة بالشعر (31) ، فيه "يؤتى بخمسة أقسام على قافية ، ثم بخمسة أخرى في وزنها على قافية غيرها كذلك ، إلى أن يفرغ من القصيدة ، هذا هو الأصل" (32) ، هكذا :
ـــــــ أ ــــــــ أ
ـــــــ أ ــــــــ أ
ـــــــ أ
ــــــ ب ـــــــ ب
ــــــ ب ـــــــ ب
ـــــــ ب
ثم حُوِّل إلى جعل قافية الشطر الخامس من الخَمَسات التالية للأولى ، مثل قافية خامس الخمسة الأولى ، هكذا :
ـــــــ أ ــــــــ أ
ـــــــ أ ــــــــ أ
ـــــــ أ
ــــــ ب ـــــــ ب
ــــــ ب ـــــــ ب
ـــــــ أ
ثم حُوِّل إلى تغيير قافية خامس الخمسة الأولى نفسه ، هكذا :
ـــــــ أ ــــــــ أ
ـــــــ أ ــــــــ أ
ـــــــ ب
ــــــ ج ـــــــ ج
ــــــ ج ـــــــ ج
ـــــــ ب
وسّميت هذه القافية الموحَّدة "عمود القصيدة" (33) ، وعندئذ التفت الشعراء إلى تخميس قصائد السالفين .
{13} وأما أنه متأخر المكانة ، فمن أنه ذِلَّةُ الجادّ الذي يكبر السالف فيضع من نفسه له ، ولعبة الهازل الذي ربما قلب للسالف معناه ولسان حاله يقول: انظـر كيف ألعـب بك !
"وما لذلك قصد الذين وضعوا هذه الأنواع ، ولا هو شيء في أصل الفطرة الشعرية … تلك الأنواع في الشعر الجيد أشبه بالزيادة في تراب الميت : لا يجدِّد موته ولكنه وَسْواسٌ وعَيْث" (34).
في الشعر العماني وشعر أبي سرور
{14} لقد جَرَتْ على الشعر العماني ، سنة المعارضة العربية بما تعلق بذيلها من التخميس ، غير أن بعض الباحثين حمل على الشعر العماني مراحل الركود ثم البعث ثم التجديد والابتكار التي تناول بها النقاد الشعر في سائر بلاد العرب ، فصنـع فصـلا في "المعارضات الأدبية : قيمتها ودورها في بعث الشعر العماني" ذكر فيه أنها مثلت "جانبا له أهميته في حركة إحياء الشعر" (35) ، وأن من شعرائها أبا سرور (36) وفي خلال ذلك عرض للتخميس ، فرآه محاولة " لمجاراة أسلوب فحول الشعراء" (37) ، ثم رآه "لا يصلح دليلاً في مجال بعث الشعر العربي ونهضته ، بقدر ما كان معوقًا ومضعفًا لهذه الحركة" (38).
أما إكراه الشعر العماني على قبول تلك المراحل ، فمسألة فرغتُ مـن نقدهـا مـن قبل (39) ، وأما نسبة أبي سرور إلى "الإحيائيين" - على تكلف المرحلة والمذهب - فعجيبة الحصول له وهو ابن سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف ، العائش بيننا فتيًّا ، وأدق منها نسبته إلى "المحافظين" مثلا ، وأما قوله الأول في التخميس فمنقوض بقوله الآخر الذي كاد يسلم لولا شوبه بزعم المرحلة . وربما كان من مساوئ هذه الفَعْلة تضليلُ بعض الباحثين ؛ إذ نسب أبا سرور إلى الإحيائيين مرة (40) ، ثم أخلاه منها أخرى (41)!
{15} وخلال حديث الدكتور أحمد درويش عن مظاهر معاصرة الجيلين القديم والحديث في شعر الخليلي العماني ، يرد ذكر "جانب آخر من الأغراض التي طرقها الشيخ الخليلي يندرج في ترويض القول وإثبات العلاقة الدائمة المتجددة بالتراث وإثبات المقدرة الشعرية … في هذه الظاهرة كثير من شعر المعارضات والتخميس ، والموشحات ، وجانب كبير من شعر الحكمة" (42) ، ورغم ما في ضم الحكمة إلى ما قبلها من خلط لرسالة الشعر بوسائله ، أستحسن نسبة المعارضة والتخميس إلى "تَرْويض القَوْل" (43) الذي يلائم فهمنا السابق في الفقرة السابعة .
{16} وفى ختام دراسته لأبي سرور قال أبو همام : "سبق أن ذكرنا رأينا في التخميس أثناء حديثنا عن الخليلي ، وما قلناه هنالك يقال هنا" (44) ، وكان قال هنالك "هو أيضًا يضاف إلى الأبواب الأخرى المثبتة قدرة الشاعر إلى أقرانه من القدامى ، وينبئ كذلك عن مدى إعجاب شاعر بما يخمسه ، وإلا ما كان أغناه عن طرق هذا الموضوع جملة ، والقدامى عندنا عرفوا هذا الطريقة ... فالتخميس والتشطير مثل المعارضة ، جوادان يتسابقان ، ولكن الثاني ينسج على منوال الأول ، ويحاول أن يبزه ويسبقه" (45) ، ثم يقول في أبي سرور : "في الديوان معارضة لنونية ابن زيدون ... وحسنًا فعل الجيل اللاحق أن لم يحصر نفسه في آصار الجيل السابق عليه فامتاحوا من ذواتهم ، ووسعوا قراءتهم لولا أن بعضهم فر إلى الفوضى والتسيب" (46) .
وفيما قاله نظر أغراني بذكر كلامه على طوله ، أعرضه فيما يأتى :
أولاً - أما أن التخميس كالمعارضة ، علامة إعجاب الخالف بالسالف ، فمما لا ريب فيه ، وقد سبق في الفقرة الحادية عشرة بيانه .
ثانيًا - أما أن التخميس كالمعارضة ، باب الخالف إلى إثبات قدرة كالتي للسالف ، فمما فيه ريب ؛ إذ أين ذلة المخمِّس ولعبته من مجاراة المعارض ومباراته ؟!
ثالثًا - أما أن القدامى عرفوا التخميس ، فغير صحيح إذا عنى تخميس قصائد السالفين - وهو دون غيره مجال كلامه - إذ الذي عرفوه حتى نحلوا امرأ القيس شيئًا منه، طريقة في إخراج القصيدة على أشطر منظمة بالقافية ، سبق في الفقرة الثانية عشرة بيانها.
رابعًا - إطلاق الحكم على أبي سرور وغيره ، منهج أبي همام المطرد في كثير مما كتب ، يقتحمه بفضل خبرته ، واعتماد تطبيق المقارنة التمثيلي التفصيلي أسدى وأولى ، ويكفي دليلاً أن علّة ما رآه من أن نونية أبي سرور "ليس فيها ما ننتظره من التنفس من رئتي ابن زيدون" (47) ، أنها لا تعارضها أصلاً بل تعارض نونية شوقي !
لقد كتب ابن زيدون وهو مكروب نونيته في الأسف للفراق ، والشوق للقاء ، والغزل بالمحاسن وأرسلها إلى ولادة (48) ، وكتب شوقي وهو مكروب منفي إلى بلد كان لابن زيدون وولادة فصار لخوليو وكرستين ، نونيته في الأسف لتبدل الحال ، وتمجيد الوطن ، والشوق إليه ، والفخر بنفسه وبرفاق أَزْمته ، وأرسلها إلى مصر (49) ، وكتب أبو سرور متمثلاً حال شوقي ، نونيته في الشوق إلى الماضي العزيز ، والأسف لتبدل الحال ، والتهديد بالعودة ، والفخر بالمسلمين عامة والعمانيين خاصة ، وألقاها في المؤتمر الذي أقيم لذكرى ابن زيدون بالمغرب (50)
وربما كان من مساوئ فعلة أبي همام اتباعُها ؛ إذ أطلق بعض الباحثين الحكم على أبي سرور قائلاً : "قارئ شعره يلحظ مدى تأثره بالشعراء السابقين في مجاراتهم في كثير من قصائده ومعارضتهم والاقتباس من شعرهم ، والاستفادة من طرائقهم ، وهذا ما سوف تكشفه لنا هذه الدراسة" (51) ، ثم لم يف بما وعد !
خامسًا - رؤية المعارضة قيدًا تقيد به جيل أبي سرور ، واستحسان انفكاك الجيل التالي له منه ، مما لم نقبله وقدمنا تفنيده في الفقرة الثالثة ، ويكفي دليلاً اعترافه بخروج بعض هذا الجيل التالي ، إلى الفوضى والتسيب ، ولو تعلم المعارضة ما أخرجته إليهما .
{17} ليطلق الباحثون في الشعر العماني بعامة وشعر أبي سرور بخاصة ، القول في المعارضة والتخميس ما شاؤوا ، دون أن يشفع واحد منهم ذلك بتطبيق المقارنة التمثيلي التفصيلي ، رغم أنه وحده الفيصل (52) .
وليقل أبو سرور نفسه : "لم أقرأ ديوان شعر كاملاً عن شاعر ولكني كنت أكثر من مطالعتي من ديوان البارودي حتى عزمت أن أجعله شاعري الوحيد ، لما فيه من شهامة ورجولة وبطولة ، حتى وصلت إلى قصيدة يمدح فيها ويتزلف ، فثنيت عناني عنه ، ولم أكمله ، ولم أعد إليه ، وأتصفح أحيانًا من شعر عنتر وشعر المتنبي" (53) .
فلن يثنينا شيء عن تطبيق المقارنة التمثيلي التفصيلي المبني على مقدمة مُجَدْوَلةٍ مِنْ إحصاء العناصر الدالة ، ولا عن اعتماد نتائجه وحدها .
مادة البحث
{18} في أولية باب السرقات الشعرية قال ابن الأثير: "من المعلوم أن السرقات الشعرية لا يمكن الوقوف عليها إلا بحفظ الأشعار الكثيرة التي لا يحصرها عدد ، فمن رام الأخذ بنواصيها والاشتمال على قواصيها بأن يتصفح الأشعار تصفحًا ويقتنع بتأملها ناظرًا، فإنه لا يظفر منها إلا بالحواشى والأطراف" (54) .
وحال دارس المعارضات قريبة من حال دارس السرقات ، ومن ثم يوشك أن يوئسه العجز عما وصف ابن الأثير ، غير أن اختلاف حال المعارض وحال السارق ، ينشط به إلى عمله ؛ فبينما يتطرف السارق بسرقته فيطلبها من بنيات الطريق ليُنسب إليه الإبداع دون صاحبه ، يعمد المعارض بمعارضته إلى لَقَم الطريق فيطلب القصائد الشامخة المشهورة ليستفيد من دلالة تاريخها وحياتها في ذاكرة الأمة (55) ، وبينما يخفى السارق دبيبه ويستر حاله ، يبدى المعارض عمله ويخلع عليه من علامات ما عارضه ، كما سبق في الفقرة الخامسة .
{19} لقد بين الجدولان الأول والثانى ، معارضة أبي سرور لثمانى قصائد ، وتخميسه لقصيدتين : أما المعارضة الأولى فلميميّة المتنبي التي منها أبيات الفخر الشاردة: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبى ..." (56) ، وأما الثانية فلنونية عمرو بن كلثوم المعلقة (57) ، وأما الثالثة فلميميّة المتنبي التي منها أبيات الحكمة الشاردة: "على قدر أهل العزم تأتى العزائم ..." (58)، وأما الرابعة فلكافيـّة شوقي التي منها أبيات الأغنية الشاردة: "يا جارة الوادى طربت وعادنى …" (59) ، وأما الخامسة فلنونية جرير التي منها أبيات الغزل الشاردة: "إن العيون التي في طرفها مرض …" (60) ، وأما السادسة فلنونية شوقي التي منها أبيات الأسف الشاردة: "يا نائح الطلع أشباه عوادينا …" (61) ، وأما السابعة فلرائية المتنبي التي منها أبيات الحكمة الشاردة: "دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها …" (62) ، وأما الثامنة فلنونية شوقي التي منها أبيات الحكمة الشاردة: "دقات قلب المرء قائلـة لـه..." (63) - ولا ريب في أن المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس قديمًا وشوقى الذي ملأها وشغلهم حديثًا ، جديران بأن يتكافآ لديه ويشغلاه عن غيرهما - وأما التخميس الأول فلأبيات من دالية البارودي (64) شاعر أبي سرور الأول ، وأما الآخر فلقصيدة أبي وسيم (65) بَلَديِّه فخر سمائل .
دلالات أوّليّة
{20} لقد بين الجدولان الأول والثاني أن التخميس ربع المعارضة ، وهو دليل أنه ظاهرة ضعيفة عارضة توشك أن تمّحي ، وأن المعارضة قليلة إلى قصائد المجلدات الأربعة العديدة ، وهو حق طبيعتها ؛ فأين المِسَنّ الذي يجلو من صفحة السيف ، من السيف الذي ينتهب الرقاب انتهابا - غير أنها واردة في كل مجلد منها ، وهو حق طبيعتها كذلك ؛ فلا غنى للسيف عن المسن .
{21} كانت المعارِضات الخالفات أقصر من المعارَضات السالفات ، إلا الخالفة الثامنة الأخيرة التي كانت أطول من سالفتها. إنه فضلا عن توفر أولئك الشعراء الكبار السالفيـن ، على الشعر ، وعنايتهم به وانصرافهم إليه ، وأن قصائدهم هذه من عيون شعرهم الذي إنما صار كذلك بما ناله من تحكيكهم وصبرهم أنفسهم عليه – ظهر لي أن لقلب أجزاء الرسالة (لُبّها) أثرا في ذلك ؛ فعندما يوافق هذا القلب في الخالفة نظيره في السالفة ، يجتهد الشاعر أن يشقق الكلام ويزيد على سلفه ، وهو ما كان في الثامنتين ؛ إذ اتفق بينهما "الرثاء" ، وعندما يخالفه ينصرف الشاعر إلى ما يقيم المعارضة ، وهو ما كان في الأوليين بالمدح في الخالفة والعتب في السالفة ، والثانيتين بالمدح في الخالفة والفخر في السالفة ، والثالثتين بالحكمة في الخالفة والمدح في السالفة ، والرابعتين بالغزل في الخالفة والتمجيد في السالفة ، والخامستين بالفخر في الخالفة والهجاء في السالفة ، والسادستين بالأسف في الخالفة والشوق في السالفة ، والسابعتين بالحكمة في الخالفة والمدح في السالفة.
{22} خمّس أبو سرور قصيدة أبي وسيم كلها ، على حين اقتطع من قصيدة البارودي ما خمسه ، وقد ظهرت لذلك عندى أسباب :
أولها - أن التخميس يضيف إلى البيت السالف مقدار مثله ونصفه ، بحيث يخرج من ستة وخمسين بيتًا هي قصيدة البارودي ، مقدار مائة وأربعين بيتا ، وهو شيء ضخم ، فاقتطع أبو سرور عشرين بيتًا فقط ( من 34 إلى 53 ) ، فأخرج مقدار خمسين بيتًا ، وهو شيء وسط، كما أخرج بتخميس أربعة عشر بيتًا هي قصيدة أبي وسيم ، مقدار خمسة وثلاثين بيتًا ، وهو شيء دون الوسط .
ثانيها - مناسبة أجزاء رسالة قصيدة أبي وسيم كلها لمراد أبي سرور ، بدليل أنه لم يخرج عنها بزيادة أو نقص ، وعدم مناسبة أجزاء رسالة قصيدة البارودي كلها ، بدليل أنه خرج عليها بطرح جزء الغزل .
آخرها - عناية أبي سرور ببلديّه فخر سمائل وقصيدته المشهورة " العصماء " - كما قال في العنوان - على حين كان تخميسه للأخرى إجلالاً لشاعر "بطل" ، كما قال في العنوان كذلك .
{23} لا أستطيع أن أغفل دلالة ترتيب بحور القصائد ، الذي كان هكذا : الطويل (40%)، ثم البسيط (30%) ، ثم الكامل(20%)، ثم الوافر (10%) . ولا دلالة ترتيب قوافيها، الذي كان هكذا : المطلقة النونية (40%) ، ثم المطلقة الميميّة (20%) ، والمطلقة الرائية (20%) ، ثم المطلقة الكافية (10%) ، والمطلقة الدالية (10%) ؛ فلا ريب في أن أبا سرور تاريخي الهوى ؛ فتلك الأبحر بترتيبها نفسه ، وهذه القوافي بترتيب حروف رويها نفسه – صفة عروضية كان شعر العرب القديم – ومنه الشعر العماني – يتصــف بها (66) .
زلّة عروضية
{24} سبق في الفقرة الحادية عشرة شرح طريقة تخميس قصائد السالفين . وقد بان منها أن الشاعر الخالف يُقَفِّي الثلاثة الأشطر الأولى التي يضيفها قبل بيت الشاعر السالف ، بمثل قافية الشطر الرابع الذي هو صدر بيت الشاعر السالف ؛ فيراعيه وكأنه بيت وحده ، بعد أن مكث مكانًا ذائبًا في البيت . ومن ثم يقيس الشاعر ما يأتي به من قوافي الثلاثة الأشطر ، إلى هذا الرابع وكأنه مطلع القصيدة ، فتجري قوانين علم القافية له أو عليه .
لقد كشف النظر في تقفية أبي سرور لما أضافه في كل بيت إلى شطري السالف ، أنه تجوز في تاء التأنيث متحركة (آخر الاسم المفرد) وساكنة (آخر الفعل الماضي) ؛ فاتخذها رويًّا على رغم تحرك ما قبلها ، وهو في علم القافية ضعيف ، ولاسيما أن تسكن (67) ؛ إذ هي ضعيفة الإسماع متحركةً عديمته ساكنةً (68) :
قال أبو سرور في تخميس البارودية :
" أنامت رجال الله عن بطن مكةِ
وقد بُيّتَتْ أخلاقهم للرزيةِ
وعاثت بوادٍ من بوادي المذلّةِ
فحتام نسري في دياجير محنةِ يضيق بها عن صحبة السيف غمدُهُ
تيقظ فعين السوء في الريف سُرِّحَتْ
إلى حُرم تحت المكارم خُدِّرَتْ
فما المرء أو يلقى المنايا وقد ضَرَتْ
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطَتْ عليه فلا يأسف إذا ضاع مجدُهُ " (69).
أما البيت الأول فقد كان حق "مِحْنةٍ" في رابعه ، أن يلتزم في الثلاثة قبله ، النون قبل تاء التأنيث ، فأبدلها كافاً في الأول وياءً في الثاني ولاماً في الثالث . وأما البيت الثاني فقد كان حق "إنْ سطتْ" في رابعه ، أن يلتزم في الثلاثة قبله ، الطاء قبل تاء التأنيث ، فأبدلها حاء في الأول وراء في الثاني والثالث .
إنه إهمال لهذا الموضع الذي كان السالف يهمله إلا في مطلع قصيدته ، وكان حقه على أبي سرور ألا يهمله ، لأنه في نمط مختلف عن السالف ، تقفية الأشطر على النحو السابق في الفقرة الحادية عشرة ، شرط من شروطه .
رسالة القصيـدة
{25} ينبغي لدارس المعارضات والتخميسات أن يتفقد من الرسالة : كيف كانت في القصيدة السالفة ، ثم كيف صارت في القصيدة الخالفة ، ما يتبين به حقيقة عمل الخالف الفكري بين التقيد والتحرر ، فيضعه موضعه ويقدره قدره . ولا اعتراض هنا باستحالة تحررخالفة التخميس من ربقة رسالة سالفتها ؛ فربما وجّهتها غير وجهتها كما سبق في الفقرة الثالثة عشرة .
ولقد اطلعت بالجدولين الأول والثاني من أبي سرور في هذا الشأن ، على خمس أحوال :
الأولى - التقيد بأجزاء الرسالة في نفسها وفى ترتيبها جميعًا معًا ، وهو ما كان في المعارضة الثامنة والتخميس الأول بنسبة (20%) ، على أن ننتبه إلى أننا نقارن هذا التخميس بالأبيات العشرين السابق تحديدها من السالفة .
الثانية - التقيد بأجزاء الرسالة في نفسها دون ترتيبها ، وهو ما كان في التخميس الثاني بنسبة (10%) .
الثالثة - التحرر من أجزاء الرسالة بالزيادة عليها والنقص منها جميعًا معًا ، وهو ما كان في المعارضات الأولى والثانية والخامسة والسادسة بنسبة (40%) .
الرابعة - التحررمن أجزاء الرسالة بالزيادة عليها دون النقص منها ، وهو ما كان في المعارضة الثالثة بنسبة (10%) .
الخامسة - التحرر من أجزاء الرسالة بالنقص منها دون الزيادة عليها ، وهو ما كان في المعارضة الرابعة والسابعة بنسبة (20%) .
إن غلبة الحال الثالثة على أبي سرور تشهد لأخذه المعارضة أخذا خفيفًا جزئيًّا سماعيًّا ، ولا عجب ؛ فهو ربيب مجالس الأدب وأخو منتديات مذاكرة الإخوان (70).
وإن جمع الأحوال الثانية والرابعة والخامسة ، ليشهد بضيقه بالتقيد المحكم القاسي الذي انحصر في الحال الأولى .
وسائل القصيدة
{26} ثم ينبغي لدارس المعارضات والتخميسات كذلك ، أن يتفقد من وسائل أداء الرسالة: كيف كانت في القصيدة السالفة ، ثم كيف صارت في القصيدة الخالفة ، ما يتبين به حقيقة عمل الخالف الفني بين التقيد والتحرر ، فيضعه موضعه ويقدره قدره . ولقد اخترت للمقارنة ظواهر أسلوبية دالة مختلفة بين المعارضة والتخميس لاختلاف طبيعتيهما ؛ فإنه لما كانت الخالفة في المعارضة تجارى السالفة ، وفي التخميس تتضمنها ، جاز أن أبحث في المعارضة دون التخميس ، نوع الجملة وطولها وامتدادها ونوع كلمة القافية : كيف كانت في السالفة ثم كيف صارت في الخالفة ؟ ، وأن أبحث في التخميس دون المعارضة ، علاقة التركيب اللغوي في البيت القديم العمودي ذي الشطرين ، القبلية (بما سبق في القصيدة) والبعدية (بما لحق في القصيدة) : كيف كانت في السالفة ثم كيف صارت في الخالفة ؟
{27} أما مجال المقارنة في التخميس فكالشمس وضوحًا فحسمًا ، وأما مجالها في المعارضة فينبغي أن يكون الأبيات التي اتحد بينها جزء الرسالة في الخالفة وفي السالفة – مما وضحه الجدول الأول – على أن يراعى في اختيارها تمثيل أجزاء الرسائل المتحدة في أزواج المعارضات كلها ، وتناسبها قدر المستطاع ، لتتم للمقارنة شروطها كما تمت لها دواعيها(71) .
ولقد رأيت بالنظر الطويل أن تكون أبيات المقارنة هي أبيات المدح من الأوليين (12خ "أي من الخالفة" بنسبة 60% ، إلى 8س "أي من السالفة" بنسبة 21.62%) ، وأبيات الفخر من الثانيتين (10خ=21.27% إلى 72س=76.59%) ، وأبيات الحكمة من الثالثتين (18خ=62.06% إلى 2س=4.34%) ، وأبيات الغزل من الرابعتين (16خ=100% إلى 13س=23.63%) ، وأبيات الشوق من الخامستين (30خ=78.94% إلى 16س=21.91%) ، وأبيات الأسف من السادستين (13خ=23.21% إلى 17س=20.48%) ، وأبيات الحكمة من السابعتين (30خ=88.23% إلى 6س=14.63%) ، وأبيات الرثاء من الثامنتين (70خ=81.39% إلى 52س=81.27%) . ثم بان لي غلبة التفاوت بين نسبتي طرفي الأزواج ، الراجع لاختلاف مكانتي جزأي الرسالتين اللذين فيهما ، في قصيدتيهما ؛ فجزءٌ قَلْب كالذي في أبيات خالفة الأوليين ، وجزءٌ شَوًى (غير قلب) كالذي في أبيات سالفة الأوليين ، وهكذا ؛ فرأيت أن أصطفي من تلك الأزواج سادستيهما اللتين في الأسف ، وثامنتيهما اللتين في الرثاء ، لما بين طرفي كل منهما من تناسب تريده المقارنة ويقبلها .
نوع الجملة
{28} إن ترديد النظر في الجداول الثالث والرابع والخامس والسادس ، المبنية على أهمية دلالة نوع الجملة على الأسلوب وأن نوعها بنوع كلا ركنيها جميعًا لا أحدهما وحده ، أفضى إلى هاتين الملاحظتين :
الأولى - وافقت الخالفتان السالفتين في أول ميلهما ؛ إذْ كان في السادستين والثامنتين جميعًا "مضارع ، وضمير متكلم".
الأخرى – خالفت الخالفتان السالـفتين في ثاني ميلهمـا ؛ إذْ كان في السالفـة السادسـة "مضارع ، وضمير مخاطب" ، وفي السالفة الثامنة "ماض ، وضمير متكلم" ، و "ماض، ونكرة" ، فصار في الخالفة السادسة "معرف بأل ، واسم إشارة" ، وفي الخالفة الثامنة "أمر ، وضمير خطاب" .
أما الملاحظة الأولى فتوضح من جهة قرب الرثاء من الأسف ؛ ففي كل منهما الحزن مقيم ، وتوضح من جهة أخرى سيرورة روح القصيدة السالفة في الخالفة ، وأن الأصل الذي خضعت له الأولى لم تستطع الأخرى الانخلاع منه لطبيعيّته :
قالت السالفة السادسة :
" يا نائح الطلح أشباه عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا "
فقالت خالفتها :
" لكننا لم ندان اليأس في غرض بل الرجاءَ نؤاخي في أمانينا "
وقال السالفة الثامنة :
" أبكي صباك ولا أعاتب من جني هذا عليه كرامة للجاني "
فقالت خالفتها :
" تستقبل الإخوان مسرورًا بهم وعلى ضلوعك مرجل الأحزان "
فالآسِفُ والمتفجِّع كلاهما متعلق بالبَثّ ، ليساعده أهله وإخوانه قديمًا كان أم حديثًا ، ولكن بلسان حال الخالف قال الشاعر :
" ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم " !
وأما الملاحظة الأخرى فتوضح اجتهاد الخالف أن ينحو نحوًا خاصًّا به ويضـع
علامته :
قالت السالفة السادسة :
" تجر من فنن ساقًا إلى فنن وتسحب الذيل ترتاد المؤاسينا "
فقالت خالفتها :
" وذا هو الآخر الثاني ينادينا هذا هو القدس في الأغلال يا سينا "
وقالت السالفة الثامنة :
" شقت لمنظرك الجيوب عقائل وبكتك بالدمع الهتون غواني ...
ورأيتُ كيف تموت آساد الشرى وعرفت كيف مصارع الشجعان
ووجـدت في ذاك الخيـال عزائمًا ما للمنـون بدكهن يـدان "
فقالت خالفتها :
" أموا لزمزم حبه وتطوفوا متضـرعين له من الرحمــن
وتلمسوا حجر التوسل والمنى لا خاب راجي الله في إحسان "
فإن لكل شاعر فيما يسير فيه من بنيات الطريق دون أَمَمه ، لشأنًا ؛ فأما السالف في السادسة فراح يطرح أسفه على طائر في المكان ، وأما خالفه فراح يشير إلى مآسف أخرى، وأما السالف في الثامنة فعرض لأثر الفجيعة بالراحل العظيم في الناس وهو منهم ، وأما خالفه فقد شفعت له صداقته بالراحل العزيز ، أن يوصى أهله بما ينبغي أن يَبَرّوه به .
طول الجملة
{29} لما اتحد بين طرفى المقارنة بحراهما العروضيان ، وظهرت حدود جملهما ، صلحت التفاعيل مقياسًا لطول الجملة ، فأطْلعنا الجدول السابع على ما يلي :
أولاً - كانت الجملة في الخالفتين أقصر منها في السالفتين .
ثانيًا - كان فارق طول جملة الخالفة عن طول جملة السالفة ، في الثامنتين أيسر جدًّا منه في السادستين .
لقد كان صاحب السالفتين واحدًا عفوًا ، وصاحب الخالفتين واحدٌ قصدًا ، ولكل شاعر طريقته التي يملأ بها فضاء أبياته ، وقد تبين أنها طريقة مستمرة علـى أنحـاء
متقاربة:
قالت السالفة السادسة :
" رسم وقفنا على رسم الوفاء له نجيش بالدمع والإجلال يثنينا
لفتيـةٍ لا تنال الأرض أدمعهم ولا مفارقهـم إلا مصلينـا
لو لم يسودوا بدين فيه منبهة للناس كانت لهم أخلاقهم دينا "
فقالت خالفتها :
" أين الألى من رجال العلم واأسفا بفقدهم أصبح الإسلام محزونا
وأيـن قرطبـة مَن مثل أحمدها بها نقيم له الذكرى ميادينـا
وأين مسجدك المشهور وا ألمي قد بات في يد أهل الشرك يشكونا "
وقالت السالفة الثامنة :
" يا طاهر الغدوات والروْحات والخطرات والإسرار والإعلان
هـل قام قبلك في المـدائن فاتح غاز بغيـر مهند وسنـان
يدعـو إلى العلم الشريف وعنده أن العلوم دعائم العمران "
فقالت خالفتها :
"يـا شيخ من خلفت في حفظ الوفا ومكارم الأخلاق والإحسان
يـا شيخ من ذا يلتقي بمحمد وسعاد من شوق عليـك تعاني
من ذا لإسماعيل إن سمحت به أرض الحجاز طويلة الأغصان "
إنه إذا كان السالف في السادسة قد حذف المبتدأ ثم أقبل ينعت الخبر ، على نهج عربي قديم (72) ، نعتين أحدهما جملة فعلية والآخر شبه جملة حرفي ، ثم أقبل ينعت المجرور من شبه الجملة الحرفي نعتين جملتين فعليتين ، وفي الثامنة قد استعمل جملة النداء الفعلية بمنادى مضاف ، ثم أقبل يعطف على المضاف إليه أربعة معطوفات ، ثم ثنى بجملة فعلية علق بفعلها متعلقين وبفاعلها نعتين ، فاستطال بخبرته ومقدرته - فإن خالفه في السادسة قد اعترض الجمل الإسمية الثلاث بجملة النداء الفعلية ، مرتين ، وبجملة الاستفهام الاسمية مرة ، وفي الثامنة قد قدم جملة النداء الفعلية ، مرتين ، قبل جملتي الاستفهام الفعلية ثم الاسمية ، وقدم جملة الاستفهام القصيرة قبل جملة الشرط الفعلية ، فكان يصيب فائدة تارة ، كما في "من مثل أحمدها" الذي يزيد الأسف ويوضح الانتساب إلى قرطبة ، وفي "من ذا لإسماعيل" الذي يوغل في التفجع ، وكان يخطئها تارة ، فيخرج إلى الحشو الظاهر ، كما في "وا أسفا" ، و"وا ألمي" ، و"يا شيخ" ، فيقع بقلة حيلته بين فكّي رحًى عَروك .
امتداد الجملة
{30} إن النصوص التي قارنا أساليبها بالاطلاع على نوع الجملة ثم طولها في كل منها ، تحتاج أبدًا إلى الاطلاع على علاقة الجملة بغيرها في كل منها الذي كان القدماء يسمونه "معرفة الفصل من الوصل" ويجلونه حتى ربما قصروا عليه صفة البلاغة (73)؛ فما النَّصّ إلا جمل مترابطة (74).
وإن الجداول الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر ، لتطلعنا على ما يلي :
أولا - وافقت الخالفتان السالفتين في أول ميلهما وكان إلى استعمال الاستئناف طريقة امتداد .
ثانيًا - كانت نسبة فارق الاستئناف عن العطف في السالفة السادسة (51.86%) ، وفى خالفتها (50%)، وهما متقاربتان، غير أنها كانت في السالفة الثامنة (37.84%) ، وفى خالفتها (62.96%) ، وهما متباعدتان .
ثالثًا - خالفت الخالفتان السالفتين في ترجيح استعمال الترتب على استعمال الاعتراض ؛ فبينما استعملت السالفة السادسة الاعتراض والترتب الشرطي واستعملت السالفة الثامنة الترتب الشرطي والقسمي ، استعملت الخالفة السادسة الاعتراض والخالفة الثامنة الترتب الشرطي والاعتراض .
قالت السالفة الثامنة :
" لـــو أن أوطانًا تصور هيكلاً دفنوك بين جوانح الأوطان
أو كان يحمل في الجوارح ميت حملوك في الأسماع والأجفان
أو كـان للذكر الحكيم بقية لم تأت بعد رثيت في القرآن ...
يا صب مصر ويا شهيد غرامها هذا ثرى مصر فنم بأمان
اخلع على مصر شبابك عاليًا والبس شباب الحور والولدان "
فقالت خالفتها :
" من للعصافير الذين بجنبه من صلب إسماعيل في الوُجْدان
مـن ذا يقبل كل خد منهم وقت الصباح بنشوة الولـهان
مـن ذا إليه يهرعون بشوقهم بعد الدراسة مفعمًا بحنان "
تترابط الجملتان بعطف الإسمية منهما على نظيرتها والفعلية على نظيرتها ، وفى عطف الفعلية على الإسمية وعكسه ، خلاف ، غير أن الأرجح جوازه . ولعموم ترابطهما شروط ثلاثة :
أولها - ألا تختلفا خبرًا وإنشاءً .
ثانيها - ألا تتصلا معنىً اتصالاً كاملاً بحيث تكون الأخرى كأنها الأولى .
آخرها - ألا تنفصلا معنىً انفصالاً كاملاً بحيث تبدو الأخرى كأنها غريبة عن الأولى وإن جمعتهما رسالة النص .
إذا كانت الشروط جاز العطف ، وإذا لم تكن وجب الاستئناف (75) .
وشعراء العرب من قديم - ومنهم العمانيون - يجتهدون ألا يعلقوا الأبيات بعضها ببعض ، ويرونه عيبًا يسَمُّونَه "التَّضمين" أي جعل البيت في ضمن البيت (76) ؛ فهو يمنعهم أن يقتطعوه ليرووه في المواقف وحده . وإن إيثار نماذج المقارنة جميعًا استعمال الاستئناف طريقة لامتداد الجملة ، لبقية مما ترك القدماء ، وإنما الذي خالَفَ بينهما ميلُ السالف إلى تنسيق أجزاء البيت ، على حين مال خالفه إلى تنسيق الأبيات ، ولا سيما في الثامنتين اللتين مثلتُ منهما بما يغني عن غيرهما .
ففي حين انبنى الجزء الأول من نموذج السالفة السابق ذكره ، على أن يتحمل كل بيت جملتين شرطًا وجوابًا بحيث يستطيع من شاء أن يقدر أول الثاني والثالث "لو" محذوفة لدلالة التي في بداءة الأول عليها ، وانبنى جزؤه الآخر على أن يتحمل كلٌّ من صدر أوله وبيته الثاني ، جملتين متعاطفتين وهو نمط من التركيب سبق شبيهه في الفقرة الثامنة والعشرين - انبنى نموذج الخالفة على أن يتحمل كل بيتٍ جملة استفهام تعلق بمسندها ما أتم البيت .
وقد سبق في الفقرة التاسعة والعشرين أن أشرت إلى أمثلة من الجمل الاعتراضية بان فيها طرف من اختلاف الخالف بما استعمل من مد الجملة بالاعتراض الذي ظهر عليه الحشو غالبا .
كلمة القافية
{31} في موضع القافية (آخر ساكنين في البيت ، مع ما بينهما من متحركات متى كانت، ومع المتحرك الذي قبلهما) (77)، وموضع كلمتها (جزء الجملة الذي يؤدي القافية ، كلمة كان أو أقل أو أكثر ، مما يسمى هنا كلمة تجوّزًا) (78) - من البيت وجملته ، تتجلى مجاهدات الشاعر الناجحة والفاشلة جميعًا ، فنراه قد اختار صيغة كلمة دون أخرى ، وقدم كلمة على أخرى ، وزاد كلمة دون أخرى ، ونقص كلمة دون أخرى ، وكل ذلك لا يخرج عن أن يكون في منزلة من هذه المنازل الأربع المرتبة ترتيبًا منطقيًّا(79) :
الأولى - إكمال نقص السابق ، وفيها تكون كلمة القافية العنصر الأساس الآخر الذي يكمل العنصر الأساس الأول ، أو العكس متى قدم الشاعر وأخر . ومن هذه المنزلة في الجدول الثاني عشر النوعان (4،7) ، وفي الجدول الثالث عشر الأنواع (3،5،6) . وهي مقياس عادل لإحكام الشعراء شعرهم .
الثانية - زيادة كمال السابق أو زيادة نقصه ، وفيها تكون كلمة القافية العنصر الفرع الذي يتعلق بأساس أو فرع آخر من جملته . ومن هذه المنزلة في الجدول الثاني عشر الأنواع (1،3،5،6) ، وفي الجدول الثالث عشر الأنواع (1،2،7) . وهي مقياس عادل لمجاهدة الشعراء في شعرهم .
الثالثة - إضافة بعض اللاحق ، وفيها تكون كلمة القافية العنصر الأساس الأول في جملة جديدة ، على أن يكون العنصر الآخر منها في البيت التالي ، وهذا هو "التضمين" السابق ذكره في الفقرة الثلاثين . ولم يقع منها شيء في الجدولين كليهما . وهي مقياس عادل لإغراب الشعراء بشعرهم .
الرابعة - إضافة كل اللاحق ، وفيها تكون كلمة القافية العنصر الأساس الأول من الجملة ، على أن يكون مستغنيًا عن ذكر العنصر الأساس الآخر ، باستتاره فيه أو حذفه بعده ، أو تكون كلمة القافية فرعًا متعلقًا بالأساسين المحذوفين بعده . ومن هذه المنزلة في الجدول الثاني عشر النوع (2) ، وفي الجدول الثالث عشر النوع (4) . وهي مقياس عادل لشجاعة الشعراء في شعرهم .
ولقد أفضى استيعاب معطيات الجدولين إلى ترتيب منازل كلمة القافية في السالفتين، على النحو التالي :
الأولى - زيادة كمال السابق أو زيادة نقصه ، بمتوسط نسبة (74.75%) .
الثانية - إكمال نقص السابق ، بمتوسط نسبة (16.14%) .
الثالثة - إضافة كل اللاحق ، بمتوسط نسبة (8.76%) .
وفي خالفتيهما ، على النحو التالي :
الأولى - زيادة كمال السابق أو زيادة نقصه ، بمتوسط نسبة (68.78%) .
الثانية - إضافة كل اللاحق ، بمتوسط نسبة (16.80%) .
الثالثة - إكمال نقص السابق ، بمتوسط نسبة (12.96%) .
لقد تصدرت "زيادة كمال السابق أو زيادة نقصه" منزلة لكلمة القافية في القصائد كلها :
قالت السالفة السادسة :
" كل رمته النوى ريش الفراق لنا سهما وسل عليك البين سكينا "
فقالت خالفتها :
" وأين قرطبة مَنْ مِثْلُ أحمدِها بها نقيم له الذكرى ميادينا "
وقالت السالفة الثامنة :
" يا طاهر الغدوات والروحات والخطرات والإسرار والإعلان "
فقالت خالفتها :
" يا آل إبراهيم إن عزاءكم لعزاؤنا في السر والإعلان "
فكما بالغت السالفة السادسة في المعنى بزيادة الحال "سكينا" ، بالغت خالفتها بزيادة الحال "ميادينا" ، وكما بالغت السالفة الثامنة في المعنى بزيادة المعطوف "الإعلان" ، حذت خالفتها حذوها حتى لقد نقلت عنها ، وإن كان الذي فيهما جميعًا تعبيرًا سياقيًّا يطلب أوله (المعطوف عليه) آخره (المعطوف) .
وإن في ذلك لدليلا لغلبة المجاهدة على الشاعر العربي في كل زمان ومكان(80) .
ولقد غابت "إضافة بعض اللاحق" من منازل كلمة القافية في القصائد كلها ، فتبين سير الخالف على نهج السالف وسير السالف على نهج الشاعر العربي القديم وتمسكه بذوقه الفني .
ولقد اختلفت المنزلتان الباقيتان ، بين السالفتين وخالفتيهما ، فتقدمت في السالفتين منزلة "إكمال نقص السابق" ، وتقدمت في الخالفتين منزلة "إضافة كل اللاحق" :
قالت السالفة السادسة :
" نسقي ثرائهم ثناء كلما نثرت دموعنا نُظمت منها مراثينا "
فقالت خالفتها :
" يشكو إلينا ولكن من يناصره مات المناصر إلا من يغنّونا "
وقالت السالفة الثامنة :
" يزجون نعشك في السناء وفي السنا فكأنما في نعشك القمرانِ "
فقالت الخالفة :
" يا أم يا أماه ها ذاك الذي ذبح النفوس ولا طبيب شفاني "
فإذا كانت السالفة السادسة قد راعت كلمة القافية ومهدت لها بتقديم نائب الظرف وما أضيف إليه "كلما..." على فعله "نظم" ، وبتقديم الجار والمجرور "منها" إلى جوار فعلهما نفسه ، ليأتي نائب الفاعل المضاف إلى ضمير المتكلمين "مراثينا" كلمة القافية ، فتشتد علاقة آخر البيت بما قبله¬ - فإن خالفتها لم تراع ذلك ولم تُمَهِّدْ له ، بل مرت في البيت سادرة مجترئة ، حتى إذا ما أوشك ، أنشأت في المأزق جملة الصلة الفعلية المضارعية "يغنونا" من الفعل المشتمل على فاعله . وإذا كانت السالفة الثامنة قد راعت كلمة القافية ومهدت لها بتقديم الخبر شبه الجملة "في نعشك" ، ليأتي المبتدأ "القمران" كلمة القافية ، فتشتد علاقة آخر البيت بما قبله - فإن خالفتها لم تراع ذلك ولم تمهِّدْ له ، بل مرت في البيت سادرة مجترئة ، حتى إذا ما أوشك ، أنشأت في المأزق جملة فعلية "شفاني" من فعل مشتمل على فاعله متصل بمفعوله ضمير المتكلم ، خبرًا (للا) تصلح نعتًا (لطبيب) بتأوّل .
إن فيما صنعته الخالفتان لدليلا لإيثارهما الشجاعة على الإحكام الذي آثرته السالفتان ، وتمسكًا بنهج الشاعر العماني المعاصر(81) .
علاقات الأبيات
{32} إن مقارنة العلاقات النحوية لكل بيت من الأبيات التي خمسها أبو سرور ، تفضي - كما بين الجدول الرابع عشر الأخير - إلى الملاحظات التالية :
أولا - لم يقع أن كانت علاقة البيت القبلية والبعدية جميعًا معًا ، متصلة في السالفتين (قصيدتي البارودي وأبي وسيم) ، فانقطعت في الخالفتين (قصيدتي أبي سرور) .
ثانيًا - لم يقع أن كانت علاقة البيت القبلية والبعدية جميعًا معًا ، منقطعة في السالفتين ، فاتصلت في الخالفتين .
ثالثًا - وقع أن كانت علاقة البيت القبلية وحدها ، متصلة في السالفة ، فانقطعت في الخالفة ، في البيت السادس من الوسيمية وحده .
قال أبووسيم :
"5- فيادردم في لــج بحرك ساكنًا وأنت له يا فكر لا تبغ مـعبرا
6- فحتام أحسو الماء فيهم بعلقم ويشرب حولي الناس ماء وسكرا "
فقال أبو سرور :
"6 - فحتام أهوى عزة لغَشَمْشَمِ
وأهوى له تقدير ملك معظم
بذلت حياتي خير بَرّ مكرّمِ
فحتام أحسو الماء فيهم بعلقم ويشرب حولي الناس ماء وسكرا "
ففي حين عطف أبو وسيم جملة الطلب الاستفهامية في البيت السادس ، على جملة الطلب الأمرية في البيت الخامس - قطع أبو سرور جملة الطلب الاستفهامية ، عن جملة الخبر الفعلية قبلها ، واستأنف .
رابعًا - وقع أن كانت علاقة البيت البعدية وحدها متصلة في السالفة ، فانقطعت في الخالفة ، في الأبيات الثالث والعاشر والسادس عشر والتاسع عشر من البارودية ، وفي الأبيات الثاني والثالث والحادي عشر من الوسيمية .
قال البارودي :
"18- ولابد من يوم تَلاعب بالقنا أسود الوغى فيه وتمرح جُرْدُهُ
19 - يمزق أستار النواظر برقه ويقرع أصداف المسامع رعده
20 - تدبر أحكام الطعان كهوله وتملك تصريف الأعنة مرده "
فقال أبو سرور :
"19- ولابد من يوم يسرك شرقه
غداة يلاقي الغرب ثم يشقه
وتلقى به صهيون ما تستحقه
يمزق أستار النواظر برقه ويقرع أصداف المسامع رعده
20- فيالك من يوم تسيل سيوله
دماء الأعادي والأسنة غيله
يقوم على الأعداء بالقطع جيله
تدبر أحكام الطعان كهوله وتملك تصريف الأعنة مُرْدُهُ " .
ففي حين عدد البارودي نعوت "يوم" في البيت الثامن عشر ، فوصل بينها حتى إن من شاء عطفها كلها بعضها على بعض - قطع أبو سرور جملة الخبر الفعلية ، عن جملة التعجب الفعلية بعدها ، واستأنف ، فإن كان استعمل الفاء ، فلما توحي به من معنى السببية
خامسًا - وقع أن كانت علاقة البيت القبلية وحدها ، منقطعة في السالفة ، فاتصلت في الخالفة ، في الأبيات الأول والخامس والتاسع والثامن عشر من البارودية ، والثاني والخامس والسابع والثامن والتاسع والحادي عشر من الوسيمية .
قال أبو وسيم :
" 8- ورب صغير دون قدري قدره يرى نفسه من طور سيناء أكبرا
9- قصرت على دين الإله تواضعي وأوسعت أهل الكبر مني تكبرا "
فقال أبو سرور :
" 9- تراني صلبا في جميع المواضع
ولست لمغرور النفوس بخاضع
شموخي على العاتين أقصى