أحمد شبلول غير متصل
Bookmark and Share
افتراضي مجالات دلالية وملامح أسلوبية في ديوان "بين نهرين يمشي"
مجالات دلالية وملامح أسلوبية في ديوان "بين نهرين يمشي"
بقلم: د. محمد حماسة عبد اللطيف
المجال الدلالي الذي جاء منه عنوان ديوان "بين نهرين يمشي" للشاعر أحمد فضل شبلول، هو: البحر والماء والنهر والشاطئ، وهو يشيع بشكل لافت للنظر جدا في قصائد الديوان، فلا توجد قصيدة، أو صورة في قصيدة، إلا وتجد البحر أو الماء جزءا منها، وهذا شكل يدعو للتأمل والنظر، بل إن بعض القصائد تحمل في عنوانها، مفردة من مفردات هذه المجال، مثل: صورة أخيرة للنيل، البحر والبنايات الشاهقة، ومعظم الصور الشعرية يكون الماء أو النهر أو الموجة أو البحر جزءا منها، ولو تتبعنا بعض النماذج لوجدنا أن هذا المجال الدلالي هو الأثير لدى الشاعر.
يقول في قصيدة "وردتان من الروح":
فكيف أقاوم سحر الموج المتألِّق في أوراقك ..؟؟
موجٌ .. أم شجرٌ .. يزحف نحوي
الليل كثيف عند البحر
ويقول في قصيدة "شمس سليم":
خُذْ عني
وانظر للبحر أو الوادي
ويقول في قصيدة "صورة أخيرة للنيل":
وراءك النهار والبحار والطريق
ونسمة كانت تداعب النوارس المهاجرة
وفي قصيدة "بين نهرين يمشي" يقول:
ـ رأيتُ أبي بين نهرين يمشي
ـ ولكنه كان يمضي إلى نهره
ـ وأسقيتها من مياه القلوب التي كنت تسقي
ـ فقلت أعود إلى شاطئي
لعل البحار
تجئ بوشوشة
من نداء أبي
وفي قصيدة "جواز مرور" يقول:
ـ أحب شوارعك المستقيمة عمرا
وأعشق فيها المقاهي ..
التي تفتح الطاولات ليود البحار
وأجلس فوق الصخور ..
التي شربت من رطوبة سحر المحار
وفي قصيدة "الطائر والشباك المفتوح" يقول:
كان رصيفُ البحر
وكان الفلُّ
وكان الوردُ
وشقشقةُ الفجرِ لنا
كان العصفور يحطُّ على كتفينا
ويزقزق للأسماك
فتصحو
تجري فوق الماءِ
تنادي الأعشابَ
وتدخل بيت عروس البحر
وتخرج .. الخ
وفي قصيدة "قطار من شروق":
ليس نهرا
ما أراه الآن في بيتي
بل بقايا ذكريات
وفي قصيدة "شجرة" يقول:
تحلم ..
بالنهر الجاري
في ذاكرة الشطآن
لكن ..
لا تجد البدر
ولا تجد السحر
ولا تجد الماء الأخضر والبلور
ويقول في قصيدة "جمال العروبة":
فيا أيهذا الصبي
أعد للمياه ينابيعها
للورود ابتهاجاتها
وفي قصيدة "كوني لي" يقول:
كوني في هذا الزمن الجائع
لي بحرا أو مطرا
إذن مفردات ـ هذا المجال الدلالي ـ تسيطر على الديوان بشكل لافت جدا، وهي تتشكل بطريقة معينة يمليها سياق القصيدة، فالكلمات لا تحمل معنى واحدا في كل الأحوال، بل هذه المفردة الواحدة، أو الكلمة، عندما تتشكل ويتنوع سياقها، نجد لها سياقا جديدا. وقديما قال أحد علماء الفقه: "اعطني السياق الذي توجد فيه الكلمة، اعطك معناها"، وليس معنى ذلك أن الكلمات التي ترد في قصيدة ما يكون لها الدلالة نفسها في قصيدة أخرى.
وقد لاحظت أنه عندما خلت إحدى القصائد من هذا السياق الدلالي، كانت قصيدة خشنة لأبعد الحدود، بل فظة وغليظة، ومجالها كذلك، وهي قصيدة "إبليس والأحجار"، فهذه القصيدة خلت من هذا المجال الدلالي الذي يسيطر على قصائد الديوان، وهي ترمز إلى الشيطان الأكبر في المنطقة. وهو يقول على سبيل المثال:
قال:
أنا الآنَ
الأقوى من كلِّ قوي
الأعلى من أيِّ علي
لا يعطس ـ في العالم ـ
حيوان أو إنسان
إلا بالإذن
كلمني النملُ وكنز سليمان
حدثني ملك الجان
فضحكت
.. الخ.
***
إن القصيدة بعامة تثير مشاعر عامة عند المتلقي، فكأن المتلقي أو القارئ أو المستمع، يصبح صانعا ومشاركا.
والقصيدة الجيدة لا تعطي معنى واحدا، فالقصيدة التي تعطي معنى واحدا أو بعدا واحدا، قصيدة رديئة، أما القصيدة الجيدة فهي التي تعطي معاني بعدد قارئيها أو سامعيها. فواحد يقول أنا وصلني كذا، والآخر يقول أن فهمت كذا، وثالث يقول أنا وجدت كذا، وكل هذا يكون صحيحا بشرط واحد هو أن يكون في بنية القصيدة ما يساعد على رؤيته الخاصة.
ومن هنا يكون الشعر الجيد، مجالا خصبا، أو حمَّال أوجه كما يقال، ومتعدد الدلالات، ومن هنا يعيش ويستمر، لأن قارئه لا يتوقف عن الإسهام في صنع دلالة القصيدة.
لذا أحب أن أتحدث دائما عن طريقة البناء أو الوسائل الفنية التي يستعملها الشاعر من أجل أن تصبح بنيته فنية.
اللغة لم توجد أصلا من أجل الفن، ولكنها وجدت من أجل الاتصال، ولكن الشاعر يصنع التحدي باستخدام هذه الأداة التي هي أصلا من أجل الاتصال. والقصيدة توجد في قلب اللغة كما يوجد التمثال في قلب الحجر، والشاعر يستطيع اقتناص هذه اللغة الجميلة، من قلب اللغة، ولذلك أحب أن أتحدث دائما عن الوسائل التي توسل بها الشاعر ليصبح الكلام فنا، وأحيانا لا نعرف سبب الإعجاب بقصيدة ما، إلا بعد قراءات متعددة لها.
إذن لن نتحدث عن معنى القصيدة، ولكن عن الوسائل التي يتوسل بها الشاعر، فالقصيدة تقدم مراوغات شعرية متعدد، أو قراءات دلالية متعددة.
ومن أهم الأساليب التي تقوم عليها القصيدة بعامة، الوزن أو الموسيقى، سواء الوزن التقليدي، أو التفعيلي، وهذا هو الخروج الأول، أو الخروج عن الشيء العادي، وهو الوزن، والشاعر أحمد فضل شبلول لم يتخلَّ عن هذا الوزن أبدا في هذه المجموعة الشعرية، ولم يترخص.
أيضا القافية عند شبلول ليست زاعقة، ولكنها تأتي عفوية جدا، وقارئ القصيدة لا يشعر أنه يحتاج إلى قافية، فالنغم يتسلسل دون الشعور بالحاجة إلى قافية، وإن كان يلجأ أحيانا إلى قواف طريفة مثل ما ورد في قصيدته "مرايا الموت والحجر" (قطط ـ فقط) في قوله:
أريد أموت
قُبيل أن يخونني الوطن
قُبيل أن أُداس في الشوارع
وتعبر الفئران فوق جثتي
وتأكل القطط
فقط
أريد أن أموت.
فهذه قافية زكية وسريعة وخاطفة.
ومعظم قصائد شبلول لا تخلو من القافية، ولكنها تأتي بتلقائية وانسجام.
***
الدعامة الثانية: هي المجاز أو الاستعارة، أي وضع اللغة في غير ما وضعت له بطريقة غير كاشفة. والمجاز عند شبلول قوي، ويخلع على الأشياء صفة الحياة، فهو يقول على سبيل المثال في قصيدة "صورة أخيرة للنيل":
علا الشحوب كلَّ هذه الحقائب
وارتجفت في صمتها ..
مقاعد الوصول والرحيل
تحدثت أختام أوراق السفر
ولم يعد هناك وقت للقمر
جفت على خدودنا المآقي
لم يبق إلا ذكريات عمرنا الطويل
وصورة أخيرة للنيل
فانطلقي يا طائرة
وأوقفي دموعك المنهمرة
يا زهرة البنفسج المكابرة
وأنتَ يا عصفوري الوحيد
اخلع رياش هذه الحدود
وانقر شبابيك الوطن
***
التكرار يعد الدعامة الثالثة في قصائد شبلول، مثل كوني التي تكررت 12 مرة في قصيدة "كوني لي": كوني لي كذا، وكوني لي كذا .. وهكذا.
وهو يقصد كوني لي الدنيا، أو كوني لي، ويصبح خبرا، فهي العالم، أي كوني لي العالم أو الدنيا.
وتتكرر عبارات مثل (أنت الأرض، أنت المطر، أنت العالم).
وتعد قصيدة "عيناك" من القصائد التي تعتمد التكرار:
عيناك سماوات سبع ..
..
عيناك تضمان البحر
أو:
أضيع كحلم ضاع وراء الفكر
أضيع كما ضاعت أوراق خريفي
أو:
عيناك تضمان الحلم
تضمان الطير
تضمان الليل
فضميني في عينيك
أنا الضائع مذ آلاف الأزمان
أنا الضائع
أو:
أصرخ في الحلم
فتدعوني الرؤيا
أًصرخ في الطير
فتدعوني الأجنحة
أصرخ في الليل
فتدعوني الأنجم
وهكذا ..
ولكن التكرار أحيانا ما يكون تكرارا مضمرا، مثل قوله:
آبي إلا أن أرتاح بعينيكِ
بعينيكِ
بعينيكِ
مع حذف "آبي إلا أن أرتاح" في السطرين الأخيرين.
ومثل هذا التكرار كثير جدا في الديوان، مرة بالتصريح، وأخرى بالإضمار.
وفكرة التكرار عند الشاعر شبلول تتخذ مسالك تخصه، وتخص قصائده، ويمكن أن نتأمل شعره من هذا المنطلق لمن يريد أن يدرس شعره دراسة أسلوبية.
***
من الملامح الأسلوبية أيضا عند الشاعر أن القصيدة تأتي في النهاية، لتبدأ البداية، إي أنها قصائد دائرية، مثل قصيدة "قطار من شروق"، التي يقول في بدايتها:
ليس نهرا ما أراه الآن في بيتي
بل بقايا ذكريات
تتهادى في وداعة
وينهي القصيدة بقوله:
ليس نهرا
ما أراه الآن في بيتي
بل بقايا ذكريات
لا تغيب.
هنا توجد حيلة أسلوبية تشعرنا أن الجملة محكمة، وأن الدائرة مغلقة.
أيضا قصيدة "جمال العروبة" تبدأ بجملة تقريرية:
جمال العروبة لا ينتهي
وتختتم بهذه الجملة التقريرية التي تفيد التأكيد:
فلم يبق إلا جمال العروبة في المعركة
أيضا قصيدة "إبليس والأحجار" تبدأ بقوله:
قال: أنا الأقوى من كل قوي
الأعلى من أي علي
ويقول الشاعر قرب النهاية:
فأنا الأقوى من كل قوي
الأعلى من أي علي
أيضا قصيدة "البحر والبنايات الشاهقة"، تبدأ بقول الشاعر:
افتحي بحرك الآن
إن المدائن تحمل أوزارها
وتختتم بقوله:
فافتحي بحرك الآن للمتعبين
وللضائعين
وللتائهين
وللهاربين من الموت
أو من بنايات تلك المدينة.
أيضا قصيدة "صوفية الإسكندرية" ـ وهنا نذكر أن الشاعر عنده وفاء نادر للإسكندرية، ومن هنا شاعت مفردات مثل: البحر، والشاطئ، والأمواج، والكورنيش، وغيرها في كل قصائد الديوان تقريبا ـ.
"صوفية الإسكندرية" تبدأ بقول الشاعر:
هذا بحرك يفتح لي قلبه
وقبل الختام يقول:
إذا هذا بحرك يفتح لي قلبه.
***
من جانب آخر يستعمل أحمد فضل شبلول لغة مأنوسة للعامة، مألوفة في حياتنا، وعندما توضع هذه اللغة المأنوسة إلى جوار المجاز تكتسب أيضا مجازا جديدا، فتصبح اللغة العادية المألوفة لغة شعرية، ونشير إلى قصيدته "الطائر والشباك المفتوح" التي يقول فيها:
وكنت الداخل بالفاكهة
وبالتعب اليومي
بالبسمة داخل أطباق الفول
وبالضحكة فوق الشفتين الصادقتين
وبالهمسة عند هبوط الليل
وبالبركة
ويقول في القصيدة نفسها:
فأنت معي مازلت
نناقش أسعار الخبر معا
نسمع نشرة أخبار الثامنة ونصف
معا
وأعد الشاي
أقلبه بدعائي لك
بقصيدة شعر
تترنم بخصالك
أنت معي مازلت
تحاول تخفيض الأسعار
وإيقاف نزيف الدم
وفي قصيدة "إسكندرية" يقول:
أحبك .. كورنيشنا ..
يسأل الآن عن حبنا
وبائع لبٍّ يجول على العاشقين
وحامل فلٍّ ينادي على الياسمين
لمن أقتني فرحة البحر والفلِّ والياسمين ..؟
وشاوي الذرة ..
يخبئ ما نضج الآن من أجلنا
ومقعد حب أقيم لنا.
وفي قصيدة "صوفية الإسكندرية" يقول:
في جنباتك يعزف "خطُّ الرمل" ..
وتبدأ في الرقص المركبة الزرقاء
ويُدار المذياع أمام المقهى النائم
في أحضان الشاطئ
يأتيني صوت الشيخ "محمد رفعت"
فأصلِّي
ماء البحر طعامي وشرابي
في هذا الصبح المتجلِّي
فليفطر معي شعاع الشمس
وعدة أخشاب من سفن غرقى
ولنتصادق منذ اللحظة
***
لقد استمتعت بقراءة ديوان "بين نهرين يمشي" للشاعر أحمد فضل شبلول، وحاولت أن أنقل للقارئ الكريم شيئا من المتعة التي أحسست بها، وأشير في الختام إلى أن المجال الدلالي الأثير لدى الشاعر نجده أيضا في عناوين بعض دواوينه السابقة، ونذكر منها: ويضيع البحر، عصفوران في البحر يحترقان، شمس أخرى بحر آخر، الماء لنا والورود.
أ. د. محمد حماسة عبد اللطيف
وكيل كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة